الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحاضرة ستدوم إلى الأبد، فكلما تقلبت الجزائر مع التاريخ فمن الممكن أنها تزداد تقلباً مع التاريخ، وليس من العسير بل إنه من الممكن، أن يأتي يوم تبلغ فيه الجزائر درجة عالية من الرقي المادي والأدبي، وتتغير فيه السياسة الإستعمارية عامة والفرنسية خاصة
…
وتصبح البلاد الجزائرية مستقلة إستقلالاً واسعاً، تعتمد عليها فرنسا اعتماد الحرِّ على الحر" (1).
والواقع أن هذا المقال الذي عنوانه: "حول كلمتنا الصريحة" بمثابة التراجع عن موقفه إزاء من أنكر الكيان الوطني، والوجود الذاتي للشعب الجزائري، في مقال له عنوانه:"كلمة صريحة" وهذه غلطة تاريخية سياسية تعود لأسباب نفسية وشخصية معينة، ولتأثير الشيطان السياسي الذي يستغل طيبة الرجل وأخلاقه، وتسامحه، لأن المؤتمر قد قرب، وحكم الأمة سيصدر، وشهادة الشعب ستؤدى ولكن تمخضت
الأيام بمؤتمر خيب الظن، وأفسد المسعى، وتنازل عن رئاسته من أجمعت عليه الأمة، وألح عليه المؤتمرون فكان ما كان، وهذه تضاف إلى تلك والمعصوم من عصم الله.
-5 -
جوانب شخصية ابن باديس
إن شخصية الأستاذ عبد الحميد غنيَّة ومعبرة عن أزمة المجتمع الإسلامي لا تماثلها إلا شخصية جمال الدين الأفغاني في ثرائها، وشمولها، وجرأتها، وتعبيرها عن جميع جوانب المشكلات الإجتماعية، والأخلاقية، والدينية، والعلمية، والسياسية التي يتخبظ فيها العالم
(1) ش: ج 3، م 12 ص 145 - 146 ربيع الأول 1355 هـ - جوان 1936
الإسلامي. فعبد الحميد بن باديس مفسر للقرآن تفسيراً سلفياً يراعي فيه مقتضيات العصر معتمداً على بيان القرآن للقرآن، وبيان السنة له، وعلى أصول البيان العربي وسننه، والنفاذ إلى لغة العرب وآدابها، وقوانين النفس البشرية وسنن المجتمع الإنساني، وتطور التاريخ والأمم وهو محدِّث من الطراز العالي لا يستشهد إلا بالأحاديث الصحيحة المسندة إلى الصحاح الست، إلى البخاري أو مسلم أو الموطأ الذي اهتم به واعتبر منهجه في الاستدلال خير المناهج، فدرسه وختمه كما ختم القرآن في ربع قرن. والظاهرة الواضحة في الحياة العلمية التي نهض بها هي: الناحية النقدية المنهجية التي تردُّ الفروع لأصولها، والأصول لمستنداتها، فأذهب ذلك الجوَّ القاتم الساكن المستسلم الذي يسمع فيه الطالب ويسلِّم معتقداً أن "سلِّم تسلم" وأن "سلِّم للرجال على كل حال" مبدأ لا ينبغي تحديه، ولا تجاوزه، وهو ما كان سائداً قبل حركته. وهو كاتب ذو سلاسة وعذوبة وسهولة، وأسلوبه أسلوب سهل ممتنع لا يستعمل السجع، ولا يتكلفه، كيف لا، وهو الدارس لكتاب الأمالي وديوان الحماسة، وديوان المتنبي، ومقدمة ابن خلدون، والعواصم من القواصم، ودلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، ومن قبل ذلك كله، معجزة الأدب العربي، وآية روعته: القرآن، وجمال حديث صاحب جوامع الكلم، وأفصح من نطق من بني يعرب؟ وهو شاعر يفيض الشعر من قلبه، وخطيب ينسيك سحبان وقس، لا يتلعثم ولا يتردد، يستولي على النفوس ويملك العقول. وهو فقيه مطلع على مدارك المذاهب، وخاصة مذهب الإمام مالك، جامع بين الأصول والفروع، وبين المآخذ الكلية وجزئيَّاتها، يفتي ويربط الحوادث بأحكامها، وهو مصلح ديني واجتماعي يحارب التقليد والبدع، ويدعو للنهضة والحضارة، ويغرس الحب وأصول الأخلاق التي هي جوهر المدنية. يقول: "أنا زارع محبة ولكن على أساس من العدل والإنصاف
والإحترام مع كل أحد من أي جنس كان، ومن أي دين كان، فاعملوا للأخوَّة ولكن مع كل من يعمل للأخوَّة، فبذلك تكون الأخوَّة صادقة" (1). وهو صحفي قدير يقضي ليله في إعداد المقالات وقراءة الجرائد والمجلات العربية الآتية من جميع البلاد العربية والإسلامية، والأجنبية المكتوبة باللغة الفرنسية (2) ويعلق عليها ويرد، ويناقش ويكتب في أصول السياسة الإسلامية. وهو مؤرخ يحلل الحضارة، وينقد مقدمة ابن خلدون، ويدرس آيات القرآن وما تنطوي عليه من الدعوة إلى النظر في تجارب الأمم وتطورات الأحداث، وما تخضع له من سنن وقوانين لا تبديل لها ولا تحويل، وهو صوفي زاهد لا كمتصوفة أهل زمانه وزهادهم، متأثر بالغزالي ويسمى كتابه "إحياء علوم الدين" بكتاب الفقه النفسي وبأبي بكر بن العربي الذي نبهه إلى كتابه "العواصم من القواصم" شيخه اللامع محمد النخلي القيرواني فاستنسخه وحققه وطبعه. ويظهر تأثير أبي بكر بن العربي في كتابه "العقائد الإسلامية" الذي لم يسلك فيه مسلك الفلاسفة ولا منهج المتكلمين وإنما نهج طريق القرآن في الإستدلال، وأساليبه في الرد والحجاج، ذلك المنهج الذي يتلاءم مع الفطرة الإنسانية فتستجيب له وتطمئن إليه وتميل نحوه وتركن. يعتقد أن المدارك الإنسانية التي تمتاز بقوة التحليل والتركيب هي التي تجعلها تتغلب على الطبيعة
(1) كلمات قالها في حفل اختتام تفسير القرآن للشباب الفتي ولكشافة الرجاء ولجماعة التربية والتعليم الإسلامية في كلية الشعب بقسنطينة مساء الثلاثاء13 ربيع الثاني 1357هـ 1938م أنظر ج7 م 15، ص 346.
(2)
كان يطالع الصحافة الفرنسية روى الأستاذ محمد الصالح رمضان أنه كان يشتري جريدة لاديبيش دي قسطنطين وقيدت عنه هذا في محاضرة ألقاها في نادي اتحاد الطلبة الجزائريين إحياء لذكراه بتاريخ 24 ذي الحجة 1385 - 16 أفريل 1966 ومع ذلك فإنه لا يتحدث بها
قبره مع صورتي السيدين مرازقة وعمار الطالبي، وهو يقع في حي الشهداء في الروضة الخاصة بأسرته، قرب مقبرة قسنطينة.
ــ
وتسخرها، وأن الظواهر الإجتماعية تخضع لمبدأ الأسباب والمسببات، وأنه لا ينبغي الوقوف عند مجرد المحسوسات، قال: "وعلَّمنا (الله) ألا ننظر إلى ظواهر الأمور دون بواطنها، وإلى الجسمانيات الحسية دون ما وراءها من معان عقلية، بل نعبر من الظواهر إلى البواطن وننظر من المحسوس إلى المعقول، ونجعل من حواسنا خادمة لعقولنا، ونجعل
عقولنا هي المتصرفة الحاكمة بالنظر والتفكير (1) والجمع بين المشاهدة والعقل هو المنهج العلمي التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الحديثة.
إنه شخصية عجيبة، مجدد للنفوس البالية وباعث للضمائر الخامدة، والقلوب الهامدة، باث للعلم، محرك للعقول، مرجع الثقة للناس، زارع بذور الثورة، مشيع فكرة الحرية، مبين المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، فاتكشفت به الغياهب الدكناء وانجابت الغيوم الكثيفة، والضباب العاتم من سماء الجزائر. واستمر يواصل النضال العلمي والإجتماعي والسياسي يعلم، ويرشد ويعظ ويحرر ويتنقل ويتعبد ويتأمل ويحقِّق، لا يهدأ له بال لا بالليل ولا بالنهار، لم يشفق على
.....
- صورة -
منظر لروضة أسرة الشيخ عبد الحميد بن باديس، وهي واقعة في حي الشهداء (قسنطينة)
(1) أنظر تفسير آية 7/ 25 (الفرقان) أنظر مجلة "التهذيب الإسلامى" الصادرة بالجزائر محرم 1385هـ ماي 1965م السنة الأولى العددان 3 و 4 مقال للمؤلف ص 11 - 14 والعددان 9 و 10 ص 75 - 81.
نفسه ولا على جسمه، ولم يبال بصحته في سبيل مبدأ أعظم، وأمة يسوءه حالها، ويدمي نفسه إحتلالها ويدفعه للبذل والسهر مآلها، وآماله وآمالها، أفنى ذاته في سبيل عقيدة، وقضى من أجل رسالة، فجاءه الأجل المحتوم وانتقل للرفيق الأعلى في مساء الثلاثاء 8 ربيع الأول 1359هـ 16 افريل 1940م فتحركت قسنطينة بأكملها لتشييع جنازته، وكان يوماً مشهوداً في ظروف قاسية وأزمة عالمية تمثلها
حرب طاحنة ودفن (1) في روضة أسرته بحي الشهداء قرب مقبرة قسنطينة.
(1) كتب على قبره ما يلي:
س 1 الله اكبر.
س 2 هنا يرقد العلامة الجليل الأستاذ الإمام الشيخ عبد الحميد.
س 3 ابن باديس باعث النهضة العربية في الجزائر وزعيمها المقدام توفي.
س 4 مساء الثلاثاء8 ربيع الأول، 16 أفريل سنة 1359هـ/1940م رحمه الله ورضي عنه.
شعر
يا قبر طبت وطاب فيك عبير
…
هل أنت بالضيف العزيز خبير
هذا ابن باديسى الإمام المرتضى
…
عبد الحميد إلى حماك يصير
العالم الفذ الذي لعلومه
…
صيت بأطراف البلاد كبير
بعث الجزائر بعد طول سباتها
…
فالشعب فيها بالحياة بصير
وقضى بها خمسين عاما كلها
…
خير لكل المسلمين وخير
ومضى إليك تحضه بثنائها
…
وإليه من بين الرجال تشير
عبد الحميد لعل ذكرك خالد
…
ولعل نزلك الجنة حرير
ولعل غرسك في القرائح
…
مثمر ولعل وريك للعقول منير
لا ينقضي حزن عليك مجدد
…
وأسن له بين الضلوع سعير
نم هادئا فالشعب بك راشد
…
يختط لهجك في الهدى ويسير
لا تخش ضيعة ما تركت لنا سدى
…
فالوارثون لما تركت كثير
نفحتك من نفحات ربك نفحة
…
وسقاك غيث من رضاه عزيز
1959هـ.
مشهد جنازته
ــ
وبعد:
فإني قضيت ما يزيد على ثلاث سنوات في جمع وترتيب آثار ابن باديس مما جعلني أسافر إلى بعض البلاد العربية للعثور على ما لا يوجد في الجزائر مما أتى عليه تخريب القوات الاستعمارية واحراقها لكنوز الفكر الإنساني.
حاولت أن أصنِّف هذه الآثار إلى أقسام حسب موضوعاتها، وأغراضها، وإن كان هذا التصنيف غير دقيق لتداخل الموضوعات، والأغراض ومن ثم جاء تصنيفاً تقريبياً.
كما أني لا أزعم أنه قد أتيح لي أن أعثر على جميع آثار ابن باديس، لأنه قد أملى إملاءات كثيرة على طلابه، وما تزال مخطوطة أو مبعثرة أو مفقودة وحتى المطبوع من آثاره لم أجمعه كله فإن أغلب أعداد جريدة المنتقد لم أعثر عليها ما عدا ثلاثة أعداد (1، 2، 7)
والظاهرة التي ينبغي التنبيه عليها هي أن الشيخ لا يمضي جميع ما يكتب، ولهذا فإن الباحث يضطر للإجتهاد إعتماداً على أسلوب المؤلف وروحه. وقد أتيح لي أن أطلع على جميع أعداد جريدة "السنة" و "الشريعة" و "الصراط" و "البصائر" وجميع أعداد مجلة "الشهاب" إبتداء من سنة 1929 وعلى أغلب أعداد جريدة الشهاب قبل تحويلها إلى مجلة وكان لا يكتب فيها إلا نادراً.
.....
-صورة-
من اليسار إلى اليمين: الأستاذ الإبراهيمي، الأستاذ ابن باديس، الأستاذ العقبي
.....
وفيما يتعلق بمجلة الشهاب فإني لم أترك في أغلب الظن إلا بعض ما يكتبه في السياسة والتعليق على الأحداث اليومية لصعوبة الإهتداء إلى التفريق بين مقالاته، وبين مقالات غيره، وقد تعرضت لهذا حفاظاً على الأمانة العلمية، كما أني قد تعمدت نقل بعض المقالات التي ليست
لابن باديس وإنما نقلها هو واختارها للنشر، وعلق عليها، فنظراً لتعليقه عليها اخترت ضمها إلى تعليقه ذاك.
وتصنيف آثاره وضعناه كما يلي:
الجزء الأول يشتمل على قسمين:
1 -
تفسير القرآن.
2 -
شرح الحديث.
والجزء الثاني يشتمل على خمسة عشر قسماً:
1 -
إصلاح وثورة ضد البدع.
2 -
تربية وتعليم.
3 -
سياسة.
4 -
إحتجاجات وبرقيات.
5 -
إجتماعيات.
6 -
خطب.
7 -
شعر.
8 -
تاريخ.
9 -
العرب في القرآن.
10 -
تراجم.
11 -
القصص الديني والتاريخي.
12 -
رحلات.
13 -
تطور الشهاب.
14 -
الصلاة على النبي.
15 -
فقه وفتاوى.
وفي الختام نوجه شكرنا لجميع الذين وفروا لنا بعض المصادر، ولم يبخلوا علينا بما لديهم من الوثائق وخاصة فضيلة الشيخ خياري الدراجي والشيخ الفاضل علي شنتير وأخاه فضيلة الشيخ محمد الطاهر شنتير، والله الموفق.
الجزائر في يوم الخميس: 9 ربيع الثاني 1386هـ 28 جويلية 1966م
عمار الطالبي
الأستاذ المساعد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة الجزائر