الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إرتباط الآيات بما قبلها:
موقع هذه الآيات موقع البيان والتفصيل للسعي المشكور في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (1). ووقوعها بلصق قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} (2) إشارة إلى أن التفاضل في تلك الدرجات مرتبط بالتفاضل في السلوك والسعي المشكور المستفاد من هذه الآيات.
التوحيد:
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا}
هذا هو أساس الدين كله، وهو الأصل الذي لا تكون النجاة ولا تتقبل الأعمال إلا به. وما أرسل الله رسولاً إلا داعياً إليه ومذكراً بحججه، وقد كانت أفضل كلمة قالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي كلمة:{لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وهي كلمته الصريحة فيه. ولا تكادُ سورة من سور القرآن تخلو من ذكره والأمر به والنهي عن ضده. وأنت ترى أن هذه الآيات الجامعة قد جعلت بين آيتين صريحتين فيه.
{لَا تَجْعَلْ} الجعل يكون عملياً، كجعلت الماء مع اللبن في إناء واحد، ويكون إعتقادياً، كجعلت مع صديقي صديقاً آخر. والجعل في الآية من هذا الثاني. {مَعَ اللَّهِ} المعية هنا أيضاً هي معية إعتقادية. {إِلَهًا آخَرَ} الأله هو المعبود والعبادة نهاية الذل والخضوع مع الشعور بالضعف والإفتقار وإظهار الإنقياد والإمتثال ودوام التضرع والسؤال. {فَتَقْعُدَ} القعود ضد القيام والعرب تكنى بالقيام عن الجد في الأمر
(1) 19/ 17 الإسراء.
(2)
17/ 22 الإسراء.
والعمل فيه سواء أكان العامل قائماً أو جالساً، فتقول: قام بحاجتي، إذا جد وعمل فيها، ولو كان لم يمش فيها خطوة، وإنما قضاها بكلمة قالها أو خطاب أرسله. وتكني كذلك بالقعود عن الترك للعمل وانحلال العزيمة وبطلان الهمة سواء كان الشخص واقفاً أو جالساً، فتقول: قعد زيد عن نصرة قومه، إذا لم يعمل في ذلك عملاً، ولم تكن له فيه همة ولا عزيمة، ولو كان قائماً يمشي على رجليه، فالقعود في الآية بمعنى المكث كناية عن بطلان العمل وخيبة السعي وخور القلب وفراغ اليد من كل خير. {مَذْمُومًا} مذكوراً بالقبيح موصوفاً به. {مَخْذُولًا} متروكاً بلا نصير مع حاجتك إليه.
فنهى الله الخلق كلهم عن أن يعتقدوا معه شريكاً في ألوهيته فيعبدوه معه، ليعتقدوا أنه الإله وحده فيعبدوه وحده. وبين لهم أنهم إن اعتقدوا معه شريكاً وعبدوه معه فإن عبادتهم تكون باطلة وعملهم يكون مردوداً عليهم وأنهم يكونون مذمومين من خالقهم ومن كل ذي عقل سليم من الخلق، ويكونون مخذولين لا ناصر لهم. فأما الله فإنه يتركهم وما عبدوا معه، وأما معبوداتهم فإنها لا تنفعهم لأنها عاجزة مملوكة مثلهم، فما لهم- قطعاً من نصير.
والخطاب وإن كان موجهاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه عام للمكلفين، وسر مثل هذا الخطاب تنبيه الخلق إلى أن شرائع الله وتكاليفه عامة للرسول والمرسل إليهم، وإن كان هو قد عصم من المخالفة فلا يبقى بعد ذلك وجه لدعوى مدع خروج فرد من أفراد الأمة المكلفين عن دائرة التكليف.
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) القضاء يكون بمعنى الإرادة، وهذا هو القضاء الكوني التقديري
(1) 23/ 17 الإسراء.
الذي لا يتخلف متعلقه، فما قضاه الله لا بد من كونه. ويكون القضاء بمعنى الأمر والحكم، وهذا هو القضاء الشرعي الذي يمتثله الموفقون ويخالفه المخذولون، والذي في الآية من هذا الثاني. {رَبُّكَ} الرب هو الخالق المدبر المنعم المتفضل. ((أن)) مصدرية والتقدير بألا تعبدوا إلَاّ إياه، أي بعدم عبادتكم سواه بأن تكون عبادتكم مقصورة عليه. فالعبادة بجميع أنواعها لا تكون إلَاّ له. فذل القلب وخضوعه والشعور بالضعف والإفتقار والطاعة والإنقياد والتضرع والسؤال هذه كلها لا تكون إلا لله. فمن خضع قلبه لمخلوق على أنه يملك ضره أو نفعه فقد عبده. ومن شعر بضعفه وافتقاره أمام مخلوق على أنه يملك إعطاءه أو منعه فقد عبده، ومن ألقى قياده بيد مخلوق يتبعه فيما يأمره وينهاه غير ملتفت إلى أنه من عنده أو من عند الله فقد عبده. ومن توجه لمخلوق فدعاه ليكشف عنه السوء أو يدفع عنه الضر فقد عبده. فالله تعالى يعلم الخلق كلهم في هذه الآية بأنه أمر أمراً عاماً وحكم حكماً جازماً بأن العبادة لا تكون إلا له.
وجيء باسم الرب في مقام الأمر بقصر العبادة عليه تنبيهاً على أن الذي يستحق العبادة هو من له الربوبية بالخلق والتدبير والملك والإنعام، وليس ذلك إلَاّ له، فلا يستحق العبادة بأنواعها سواه. فهو تنبيه بوحدانية الربوبية التي من مقتضاها إنفراده بالخلق، والأمر الكوني والشرعي على وحدانية الألوهية التي من مقتضاها استحقاقه وحده عبادة جميع مخلوقاته. وكما انتظمت هذه الجملة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهببة كذلك انتظمت مع الآية السابقة التوحيد العلمي والتوحيد العملي. فالأولى نهي عن أن تعتقد الألوهية لسواه وهو يتضمن النهي عن اعتقاد ربوبية سواه، وهذا من باب العلم. والثانية: أمر بأن تكون عبادتك مقصورة عليه، لأنه هو ربك وحده وهذا من باب العمل. فمن وحَّد الله جل جلاله في ربوبيته وألوهيته