الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن باديس
ألقينا بعض الأضواء على العناصر الأساسية للحياة العقلية والإجتماعية في الفترة السابقة لعهد ابن باديس وأشرنا إليها أيضاً في عهده، ومن ثم فإن تلك اللحظات التاريخية كانت تنتظر شخصية كشخصية ابن باديس تقوم بدور ثوري، يعبر عما يختلج في النفوس من قلق وأمل، ويضيء الطريق أمام الحائرين، ويجمع الشتات، ويوجه الطاقات، ويحيي الشخصية الإسلامية التي أتاها البلاء من كل مكان، وأصابها القرح، وتكالبت عليها ذئاب الغرب، وهكذا جاءت الأيام بالمولود الجديد، منقذ الأمة وقائدها لصنع مصيرها، وخلق تاريخها.
ترجمته:
ولد عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس في سنة 1308هـ (ديسمبر 1889)(1) فكان الولد البكر لأبويه، وأسرته أسرة قسنطينية مشهورة بالعلم والثراء والجاه، وكانت منذ القدم ذات نفوذ، ومسيرة للسياسة والحكم في المغرب الإسلامي، ونبغ من هذه الأسرة شخصيات تاريخية لامعة منها بلكين بن زيري والمعز بن باديس (2) الذي كان يفتخر به الشيخ عبد الحميد ولا عجب في ذلك فهو بمثابة خليفة له في مقاومة البدع والضلال إذ كان جده يناضل الاسماعيلية الباطنية، وبدع الشيعة في إفريقية، ومن أسلافه المتأخرين
(1) ورد في الإعلام للزركلي ج 4 ص 60 أنه ولد في سنة 1305 - 1887 وهو غير صحيح وهذا نفسه ورد في معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة ج 5 ص 105.
(2)
لقبه المعز لدين الله بأبي الفتوح، وسيف العزيز بالله وسماه يوسف توفي في 21 ذي الحجة سنة 373هـ (984 م) وكانت ولايته من سنة 362 - 373هـ (972 - 984)
قاضي قسنطينة الشهير أبو العباس أحميده بن باديس ومكي بن باديس القاضي بها أيضاً.
وأمه من أسرة مشهورة في قسنطينة كذلك هي أسرة "عبد الجليل" تدعى "زهيرة " بن جلول (لقب) بنت علي بن جلول. وأبوه عضو في المجلس الجزائري الأعلى والمجلس العام (1) كما هو عضو في المجلس
.....
منزل الشيخ عبد الحميد بن باديس، ويقع في زنقة جورج كنستن رقم 8، بنهج السادس والعشرين دولينيو- قسنطينة
.....
(1) 406 - 453 أو 454هـ واستقبل بالأمر سنة 417هـ
العمالي. وعرف دائماً بدفاعه عن مطالب السكان المسلمين بالعمالة القسنطينة (1) وأسرته كانت تنتمي إلى الطريقة القادرية.
حفظ ابن باديس القرآن على الشيخ محمد المداسي، وأتم حفظه في السنة الثالثة عشرة من عمره، ومن شدة إعجاب المؤدب بذكائه وسيرته الطيبة قدمه ليصلِّي بالناس صلاة التراويح ثلاث سنوات متتابعة في الجامع الكبير (2) وفي سنة 1903 أدخل الشاب في طور جديد من أطوار دراسته فخيره والده بين أن يسلك طريق أجداده أو طريقاً آخر، فاختار طريق سلفه وهو طريق العلم والجهاد فانتخب له أبوه أحد الشيوخ الصالحين من دوي المعارف الإسلامية والعربية وهو الشيخ أحمد أبو حمدان لونيسي الذي كان منتمياً إلى الطريقة التيجانية سالكاً منهجهاً فأخذ يعلمه بجامع سيدي محمد النجار (3) مبادىء العربية والمعارف الإسلامية ويوجهه وجهة علمية أخلاقية. وكان ابن باديس يعترف له بالفضل، وبما كان له من تأثير في نفسه، ثم هاجر حمدان لونيسي إلى المدينة المنورة متبرماً من الاستعمار الفرنسي، وسلطته، مجاوراً، بها، مدرساً للحديث إلى أن توفاه الله. وحين عزم على الهجرة تعلل لدى السلطات الإستعمارية بأنه يسافر لمعالجة بصره، رغب ابن باديس أن يسافر معه ولكن أباه منعه وصرفه عن ذلك.
وحين بلغ الخامسة عشر من عمره (1904) زوَّجه والده وأنجب ولداً اسماه عبده اسماعيل توفي وعمره سبعة عشر
(1) Conseil supérieur de l'Algérie et Conseil général، voir La Naissance du Nationalisme Algérien،، Par André Nouchi، P. 64.
(2)
ن. م. ن. ص. مجلة إفريقيا الشمالية (نشأه ابن باديس لمحمد الصالح رمضان العدد 4 السنة الأولى ماي 1949 ص43).
(3)
واقع بجنب جامع سيدي عبد المؤمن بقسطنطينة.
عاماً (1) وهذا الإسم له دلاله، لأن هذا الإبن ولد تقريباً في السنة التي توفي فيها محمد عبده، أو في التي بعدها، والشيخ محمد عبده زار الجزائر العاصمة ومدينة قسنطينة سنة 1903 وعمر ابن باديس أربعة عشر عاماً فمن الممكن أن يكون قد اتصل به أو سمع عنه، ولا سيما إذا أخذنا في الاعتبار تردد ابن باديس الشاب على الجامع الكبير، وإمامته بالناس في صلاة التراويح، وهو المسجد الذي زاره محمد عبده في قسنطينة.
ثم جاء دور الرحلة في حياة الشاب فسافر إلى مدينة تونس في سنة 1908 وسنه إذ ذاك تسعة عشر عاماً وانتسب إلى جامع الزيتونة، وعرف في دراسته بالجد والنشاط، فأخذ يتلقى الثقافة الإسلامية العربية، ويأخذ عن جماعة من أكابر علماء الزيتونة أمثال العلامة المفكر الصدر محمد النخلي القيرواني المتوفى في رجب سنة 1342هـ (1924م) وكان قد قرظ الرسالة التي ألفها عبد الحميد بن باديس في الرد على بن عليوة الصوفي (2) والشيخ محمد الطاهر بن عاشور (3) الذي كان له تأثير
(1) مدفون بجوار أبيه توفي في 15رمضان 1337هـ كما هو مكتوب على قبره.
(2)
إسم الرسالة: جواب سؤال عن سوء مقال أتم تأليفها في 27 ذي الحجة عام 1340 بها 20ص طبعت بالمطبعة الإسلامية الجزائرية بقسنطينة دون تاريخ. تقريظ النخلي يوجد في ص21 وهو أول تقريظ ورد إليه مؤرخ ب 5 صفر سنة 1334هـ.
(3)
ولد بتونس سنة 1296 هـ (1879) تولى منصب قاضي القضاة سنة 1351هـ (1931م) ومشيخة الجامع الأعظم فرفع من شأن الجامعة الزيتونية وأقام بها نهضة علمية استفادت منها كثير من البلدان الإفريقية وهو عضو بمجمع اللغة العربية بالقاهرة وبالمجمع العلمي بدمشق أنظر كتابه: "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية سنة 1964 طي الغلاف الداخلي له كثير من المؤلفات والدراسات العربية والإسلامية.
كبير في تكوين عبد الحميد بن باديس اللغوي وفي الشغف بالأدب العربي والإعتزاز به.
وقرظ بدوره رسالته المذكورة (1) ومن أساتذته الشيخ الخضر بن الحسين الجزائري الأصل (2) الذي درس بجامع الزيتونة وحضر عليه عبد الحميد دروساً في المنطق من كتاب "التهذيب" للسعد بجامع الزيتونة، كما أخذ عنه دروساً في التفسير في أوائل كتاب البيضاوي بدار الأستاذ: شارع باب منارة تونس (3) ومنهم أبو محمد بلحسن إبن الشيخ المفتي محمد النجار الذي تولى الإفتاء سنة 1342هـ (4) وهو من بين الذين قرظوا رسالته أيضاً، ومنهم محمد الصادق النيفر وسعد العياض السطايفي المصلح المجدد، ومحمد بن القاضي، والبشير صفر المؤرخ المجدد، وغيرهم كثير. وتخرج بشهادة التطويع في سنة 1911 - 1912 وعمره ثلاث وعشرون سنة وعلم سنة واحدة في جامع الزيتونة على عادة المتخرجين في ذلك الوقت. ولا شك فإن البيئة الثقافية والإجتماعية التي احتك بها، والعلاقات التي كانت له مع بعض العلماء أثرت في تكوينه وشخصيته، واتجاهه العقلي، وأكثر ما كان اتصاله قوياً وعميقاً ومؤثراً إنما كان بالشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ محمد النخلي، اللذين يعتبران زعيمي النهضة الفكرية والعلمية والإصلاحية في الحاضرة التونسية لأنهما كانا من أنصار أفكار جمال الدين ومحمد عبده الإصلاحية، ويذكر لنا الشيخ عبد الحميد بن باديس، أن الشيوخ الجامدين كانوا ينفرونه من الاتصال بهما، وبقي
(1) أنظر الرسالة ص 23 وهي ضمن الجزء الثاني من هذا الكتاب في قسم "الإصلاح والثورة ضد البدع".
(2)
أصله من طولقة جنوب الجزائر بعد مدينة بسكرة.
(3)
أنظر مقال "أولو الأمر" لعبد الحميد ج 8 م 15 ص 2.
(4)
شجرة النور الزكية ص 429.