الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمل ابن باديس التربوي
(1)
إن شخصية ابن باديس ثرية متعددة الجوانب لا يمكن لنا أن نتناولها من جميع جوانبها في مثل هذا الوقت القصير لذا رأينا أن نتحدث عن جانب واحد من جوانبه وهو ابن باديس المربي.
أيها السادة:
يمكن القول بأن ابن باديس إتخذ التربية وسيلة للإصلاح الثقافي والإجتماعي والسياسي لأن الأهداف التربوية عنده تشمل ذلك كله وهو ما سنتحدث عنه فيما بعد.
لقد عالج المصلحون في أوروبا خلال القرن التاسع عشر مشكلة الإصلاح الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، فذهب بعضهم إلى أن السبب في التدهور يرجع إلى فقدان الحرية السياسية، وانعدام حق التصويت وهم البرلمانيون. وذهبت طائفة أخرى إلى أنه يرجع إلى العوامل الإقتصادية واستغلال الإنسان للإنسان وهم الماركسيون.
ورأى المفكرون أمثال تولستوي وبركهارت أن السبب في تدهور الرجل الغربي يعود إلى الفقر الروحي والخلقي، وفرويد كان يعتقد أن المشكلة تعود إلى المبالغة في كبت الغريزة مما ينتج عنه مظاهر شاذة. وكل هؤلاء نظروا للمشكلة من جانب واحد، لأن التعليلات الإجتماعية متشابكة متداخلة، ولا ترجع إلى عامل واحد.
(1) محاضرة ألقاها المؤلف مساء السبت 16 أفريل 1966 تحت إشراف وزير التربية الوطنية ومدير التعليم العالي في قاعة المحاضرات الجامعية بالجزائر وقد حذف من هذه المحاضرة الجزء الخاص بترجمته
إن النظرية الجزئية تكون دائماً عقبة في سبيل الإصلاح، وما يصدق على الأسباب يصدق على أنواع العلاج التي يمكن لنا أن نعالج بها أمراض الإنسان الحديث، فإذا قررنا أن سبب المرض عامل إقتصادي، أو روحي، أو نفسي، فإن العلاج ينحصر في تلك الناحية المعينة، وأما إذا نظرنا نظرة متكاملة، وقررنا أن للظواهر المرضية نواحي متعددة، وأسباباً متنوعة، فإن الإصلاح يتناول ميادين التوجيه الأخلاقي، والإقتصادي، والثقافي، والسياسي، والصناعي، أما الإنصراف إلى إصلاح حالة واحدة فإنه لا يؤدي إلى نتيجة، بل يؤدي إلى الهدم والتخريب، فالإصلاح الإقتصادي دون تكوين الضمير الديني والخلقي، يؤدي إلى كوارث، وقد ذهب إلى هذا الرأي الأستاذ "أريك فروم" في كتابه المجتمع السليم (1).
وأما فيما يتعلق بالمصلحين المسلمين المحدثين والمعاصرين، أمثال محمد بن عبد الوهاب وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده- ومحمد إقبال وابن باديس فإنهم رأوا أن التدهور الإجتماعي راجع إلى عدم تطبيق الإسلام، وإلى انفصال الإنسان المسلم عن الحقيقة القرآنية، ومعنى ذلك أن السبب ليس واحداً بل هو مجموعة عوامل وأسباب، لأن الحقيقة القرآنية، حقيقة متكاملة تشمل الحياة الأخلاقية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية أو ما يعبر عنه بالدين والدولة أو الدنيا، وليس الإسلام كالمسيحية التي اهتمت اهتماماً بالغاً بالإصلاح الروحي، وأهملت النظام الإجتماعي، وهو ما أراد بعض الناس أن يطبقه على الإسلام أيضاً.
والشيخ ابن باديس من المدرسة التي ترى أن الإصلاح الاجتماعي يقوم على أساس أن الأخلاق تنبع من الداخل، وأن الوسيلة هي تطهير
(1) ترجمة محمود محمود القاهرة 1960 ص 181
القلوب، وتغيير النفوس، وهذا يؤدي إلى تغيير المؤسسات الإجتماعية. يقول ابن باديس:(إن الذي نوجه إليه الإهتمام الأعظم في تربية أنفسنا، وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد، وتقويم الأخلاق، فالباطن أساس الظاهر)(1).
وهو يعتبر أن العناية الشرعية متوجهة كلها إلى إصلاح النفوس، وإن صلاح الإنسان وفساده إنما يقاسان بصلاح نفسه وفسادها، مستشهداً بقول الله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} وهو على خلاف المدرسة الإصلاحية التي ترى أن الإصلاح ينبغي أن يبدأ بتغيير المؤسسات الإجتماعية، باعتبار أن الإنسان صار إلى ما صار إليه، نتيجة للعوامل البيئية، المختلفة. وهو لا يتطرف في هذا، ويرى أن إصلاح المؤسسات الإجتماعية لا بدَّ أن يتساوق وإصلاح النفس وتغييرها، ولكن ينبغي البدء بالإنسان، الأمر الذي تجعله المدرسة الأخرى متأخراً عن المسائل المادية. والوسيلة إلى تغيير الذات الإنسانية وتوجيهها، وإلى تحويل الباطن البشري، الذي هو العامل الأخلاقي الأساسي في كل إصلاح عند ابن باديس، إنما هي التربية. لقد كتب مقالاً تحت عنوان:"صَلَاحُ التَّعْلِيمِ أَسَاسُ الإِصْلَاحِ" يقرر فيه هذه الحقيقة فيقول:
"لن يصلح المسلمون إلا إذا صلح علماؤهم، لأنهم بمثابة القلب للأمة، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم "فالتعليم في نظره هو الذي: يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته وما يستقبل من عمله لنفسه، ولغيره، ولن يصلح التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله، وموضوعه، في مادته وصورته، فقد صحَّ عن النبي فيما رواه مسلم:"إنما بعثت معلماً" وليس المقصود بالتغيير
(1) تفسير آية 84 - 85 من سورة الإسراء.