الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَفْضِيلُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَتَأْكِيدُهُ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ
ــ
الأمر بالإحسان إليهما عام في جميع الأحوال، وخصصت حالة بلوغ أحدهما أو كليهما الكبر بالذكر لأنها حالة الضعف، وشدة الحاجة، ومظنة الملل والضجر منهما، وضيق الصدر من تصرفاتهما فهما في هذه الحالة قد عادا في نهايتهما إلى ما كان ولدهما عليه في يدايته. وليس عنده من فطرة المحبة مثل ما عندهما، فكان بأشد الحاجة إلى التذكير بما عليه من تمام العناية بهما، ومزيد الرعاية لهما، وشدة التوقي والتحفظ من كل ما يمس بسوء جانبهما في هاته الحال على الخصوص، وإن كان ذلك واجباً عليه في كل حال على العموم. وطول بقائهما عنده في كنفه وثقل مؤنتهما عليه، وما يكون من ضروريات الكبر والمرض مما يستقذره في بيته، كل هذا قد يؤد به إلى الضجر والتبرم فيقول ما يدل على ضجره وتبرُّمه. فنهى عن التفوُّه بأقلِّ كلمة تدل على ذلك، وهي كلمة {أُفٍّ} بقوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فأحرى وأولى ما فوقها، وهذا أمر
(1) 23/ 17 إلا سر اء.
يتحمل كل ذلك منهما ونهي عن التضجر منهما. ومن ضرورة مبايتنهما لولدهما في السنِّ وفي النشأة أنهما كثيراً ما يخالفانه في آرائه وأفكاره، وقد يتناولان ما لا يحب أن تصل يدهما إليه، وقد يسألانه للمعرفة أو للحاجة، وكل هذا قد يؤديه إلى نهرهما، أي زجرهما بصياح وإغلاظ أو إظهار للغضب في الصوت واللفظ، فنهى عن هذا بقوله تعالى:{وَلَا تَنْهَرْهُمَا} . وفي هذا أمر بالتلطف معهما في الطلب والعرض والدلالة على وجه الصواب في الأمر وأبواب الفعل والترك، وبحسن التلقي لكل ما يسألان ويطلبان، ونهى عن أي إغلاظ في اللفظ والصوت وحالة الكلام. ولما نهاه عن القول القبيح المؤذي أمره بالقول اللين السهل الحسن في لفظه وفي معناه وفي قصده وفي منشأه السالم من كل عيب ومكروه بقوله تعالى:{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} . وفي هذا أمر بأن يخاطبهما بجميل القول ويؤنسهما بطيب الحديث، ونهى عن أن يؤذيهما في قوله أو يوحشهما بطول السكوت فليس له أن يتركهما وشأنهما، بل عليه مجالستهما ومحادثتهما وجلب الأنس إليهما وإدخال السرور عليهما. ثم أن القول إنما هو عنوان ما في الضمير، ولا يكون كريماً شريفاً إلا إذا كان عنواناً صادقاً حسن مظهره ومخبره وعذب جناه وطاب مغرسه، وما ثماره إلا معانيه، وما مغرسه إلا القلب الذي صدر عنه. فيفيد هذا أن على الولد أن يكون معهما باللطف والعطف من صميم قلبه كما هو يعرب لهما عنهما بلسانه فيكون محسناً لهما حينئذ في ظاهره وباطنه وذلك هو تمام البر الذي أمر به.
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} .
مضى فيما تقدم أدب القول، وهذا أدب الفعل وبيان الحال التي يكون عليهما. فالوالدان عند ولدهما في كنفه كالفراخ الضعيفة المحتاجة للقوت والدفيء والراحة، وولدهما يقوم لهما بالسعي كما يسعى
الطائر لفراخه ويحيطهما بحنوه وعطفه كما يحيط الطائر فراخه، فشبه الولد في سعيه وحنوه وعطفه على والديه بالطائر في ذلك كله على فراخه، وحذف المشبه به وأشير إليه، يلازمه وهو خفض الجناح، لأن الطائر هو ذو الجناح، وإنما يخفض جناحه حنواً وعطفاً وحياطة لفراخه، فيكون في الكلام استعارة بالكناية. وأضيف الجناح إلى الذل- وهو الهون واللين- إضافة موصوف إلى صفة. أخفض لهما جناحك الذليل، وهذا ليفيد هونه وانكساره عند حياطتهما حتى يشعر بأنهما مخدومان للإستحقاق لا متفضل عليهما بالإحسان. وفي ذكر هذه الصورة التي تشاهد من الطير تذكير بليغ مرقق موجب للرحمة وتنبيه للولد على حالته التي كان عليها معهما في صغره، ليكون ذلك ابعث له على العمل وعدم رؤية عمله أمام ما قدما إليه. و {مِنَ} في قوله تعالى:{مِنَ الرَّحْمَةِ} للتعليل متعلقة باخفض، فتقيد مع متعلقها الأمر بأن يكون ذلك الخفض ناشئاً على الرحمة الثابتة في النفس لا عن مجرد استعمال ظاهر كما كان يكنفانه ويعطفان عليه عن رحمة قلبية صادقة، فيكون هذا مفيداً ومؤكداً لما قدمناه من لزوم أن يتطابق على الإحسان إليهما الظاهر والباطن، ليتم البرور.
{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} .
مهما اجتهد الولد في الإحسان إلى أبويه فإنه لا يجازي سابق إحسانهما، فأمر بأن يتوجه بسؤال الرحمة لهما من الله تعالى، وهي النعمة الشاملة لخير الدنيا والآخرة إظهاراً لشدة رحمته ورغبة في وصول الخير العظيم من المولى الكريم إليهما، واعترافاً بعجزه عن مجازاتهما. يدعو لهما هكذا في حياتهما وبعد مماتهما، أما في حياتهما فيدعو لهما بالرحمة سواء كانا مسلمين أم كافرين، ورحمة الكافرين بهدايتهما إلى الإسلام، وأما بعد الموت فلا يسأل الرحمة لهما إلا إذا ماتا مسلمين لقوله تعالى: