الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِرَادَةُ الدُّنْيَا وَإِرَادَةُ الْآخِرَةِ
"مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا
…
" (1)
ــ
كل الناس في هذه الحياة حارث وهمام: عامل ومريد، فسفيه ورشيد، وشقي وسعيد.
منهم من يريد بأعماله هذه الدار العاجلة والحياة الدنيا عليها قصر همه، وعلى حظوظها عقد ضميره، جعلها وجهة قصده، ونصبها غاية سعيه، لا يرجو وراءها ثواباً، ولا يخاف عقاباً، فهو مقبل عليها بقلبه وقالبه، معرض عن غيرها بكليته فلا يجيب داعي الله بترغيب ولا ترهيب، ولا يتقيد في سلوكه بشرائع العدل والإحسان.
فمن كان هذه إرادته، وهذا عمله، عجل الله له في الدنيا ما مضى في مشيئته تعالى أن يعجله له، إن كان ممن أراد التعجيل لهم، بحكم إبدال الجار والمجرور في قوله {مَنْ نُرِيدُ} من الجار والمجرور في قوله {عَجَّلْنَا لَهُ} فالتعجيل منه تعالى لمن يريد، لا لكل مريد، والشيء المعجل- في قدره وجنسه ومدته- على ما يشاء الرب المعطي لا على ما يشاء العبد المريد. فكم من مريدي الدنيا من يقصد الشيء فلا ينال إلَاّ بعضه، فيضيع عليه شطر عمله، فلا في هذه
(1) 17/ 18 - 19 الإسراء.
الدار ولا في تلك الدار، وكم منهم من سعى واجتهد وانتهى بالخيبة والحرمان، فعاد- بعد النصب- ولا ثمرة حصلها عاجلاً، ولا ثواباً ادَّخره آجلاً، وذلك هو الخسران المبين.
ثم إذا قدم على الله في الآخرة جعل له وحضر له جهنم دار العذاب، واضطره إلى دُخولها فيصلاها مذموماً: مذكوراً بقبح فعله وسوء صنيعه في قلة شكره لربه، وعدم استعماله لما كان أنعم عليه به في طاعته، وعدم نظره لعاقبة أمره. مدحوراً: مبعداً في أقصى النار مطروداً من الرحمة. حرم نفسه من استثمار رحمة الله في الدنيا بالشكر عليها، فكان عدلاً أن يحرم منها في الآخرة.
ونظير هذه الآية آية " الشورى ": {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (1).
عمل للدنيا فنال نصيبه منها، ولم يعمل للآخرة فلم يكن له نصيب فيها. والتقييد بمن في قوله تعالى {مِنْهَا} على أن ما يناله- سواءً كان كل ما أراد أو بعضه- ما هو إلا بعض من الدنيا، وإذا كانت الدنيا كلها شيئًا زهيداً بقلتها وفنائها ونغصها بالنسبة لأقل شيء من نعيم الآخرة- فما بالك بما هو بعض منها. فلقد خاب وخسر من استبدل بنعيم الآخرة هذا القليل الخسيس المنغص الزهيد.
ونظيرها أيضاً آية " هود ": {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا
(1) 42/ 20 الشورى.