الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عُمُومُ النَّوَالِ مِنَ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ
{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا
…
} (1).
ــ
إن هذه الموجودات كلها، علويها وسفليها، مشمولة برحمة الله، مغمورة بنعمته. وأول تلك النعم هو وجودها، وذلك الوجود من مقتضى الرحمة. ثم تتنوع تلك النعم الرحمانية بتنوع أجناس الموجودات وأنواعها وأصنافها وأفرادها، وتتفاوت أيضاً حسب ذلك. وينال كلٌ حظه منها بتقدير الحكيم العليم. ومن مظاهر هذه الرحمة العامة أن كلَّ موجود قد أعطي من التكوين ما يناسب وجوده وما يتوقف عليه بقاؤه أو ارتقاؤه، سواء أكان من عالم الجماد أو عالم النبات أو عالم الحيوان.
وقد مضى قبل هذه الآية ذكر مريدي العاجلة الذين لا يعملون إلَاّ لها، وما أعد لهم من عذاب النار. وذكر مريدي الآخرة بأعمالهم في الدنيا وما أُعِدَّ لهم من حسن الجزاء. فحالتهم في الآخرة متباينة: هؤلاء في النعيم المقيم، وأولئك في العذاب الأليم، هذا في الآخرة، وأما في الدنيا فإنهم قد أُعْطُوا من نعم الحياة ومكنوا من أسبابها فقد تساووا في الخلقة البشرية، وفي العقل المميز المفكر، وفي الإرادة الحرة. وقد أظلتهم السماء، وأصابتم نعمة الشمس والقمر والكواكب وما ينزل من السماء، وقد أقلتهم الأرض، وشملتهم
(1) 20/ 17، 21، سورة الإسراء.
نعمة الهواء والماء والغذاء والدواء من النبات والحيوان والجماد وكل ما يخرج من الأرض. وشاهدوا كلهم آيات الله الكونية الدالة عليه، وجاءتهم كلهم رسل الله بآياته السمعية داعية إليه. فاختار كل بعقله - وهو حر في إرادته حرية لا يمكن لأحد أن يكابر فيها- ما اختار لنفسه. وحجة الله بما تقدم قائمة عليه. وبقوا بعد ذلك الإختيار الذي اختلفت به منازلهم عند الله فيما أعد لهم يوم لقائه- سواء، في تلك النعم الدنيوية والتمكن من أسباب بقائها والتقدم فيها. لا فرق في ذلك بين بر وفاجر، ومؤمن وكافر، وهذا معنى قوله تعالى:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} وليس الله تعالى مانعا ًكافراً لكفره أو عاصياً لعصيانه من هذه الحياة وأسبابها، وليس أحد على منع ما لم يمنعه الله بقادر. وهذا معنى قوله تعالى:{وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} والحظر المنع والمحظور الممنوع، وتركيب الآية يفيد أن عطاء الربِّ لا يمنع ولا يجوز أن يمنع، لأن من مقتضى ربوبيته دوام عطائه ومدده لعموم خلقه بعلمه وحكمته.
وقدم المفعول وهو {كُلًّا} رداً على من يعتقد أن الله تعالى يمد بعضاً دون بعض. وفيه إيجاز بالحذف، والأصل كلا الفريقين، يعني فريق مريدي العاجلة ومريدي الآخرة، و {نُمِدُّ} من الإمداد وهو المواصلة بالشيء، وذلك الشيء يسمى مدداً. وأصل المد البسط للشيء، فيستطيل ويتسع، ومنه مد يده ومدَّ شبكته، ومنه مد الله لك أسباب السعادة، أي بسطها ووسعها، والإمداد بالشيء والمواصلة به يكون به دوام فائدته وامتداد النفع به. والخلق كلهم في حاجة دائمة وفاقة مستمرة إلى مدد الله وعطائه وأنواع بره وإحسانه. وهو تبارك وتعالى لا يزال يواصلهم في كل لحظة من وجودهم بما يحتاجون إليه من فيض عطائه. وأضاف العطاء للرب
لأنه من مقتضى ربوبيته بتكوينه للخلق وتطويرهم وإعطائهم ما يحفظهم في تلك الأطوار، وأضاف الرب إلى ضمير المخاطب، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتشريفه بهذه الإضافة. ولما تشرف بهذه الإضافة الربانية. والرب جل جلاله قد مضى من وصفه في الآية أنه عام الرحمة والنعمة والنوال- فمن شكر نعمة هذا الشرف أن يتخلق العبد وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما هو من مقتضى وصف ربه. هذا من فوائد هذه الإضافة في هذا المقام. وقد كان- صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، شديد الشفقة على الخلق أجمعين، حريصاً على هدايتهم إلى الصراط المستقيم. حتى خاطبه ربه بقوله:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (1) أي قاتل نفسك غماً لعدم إيمانهم. وكان أساس شرعه على العدل، والإحسان العدل مع كل واحد، والإحسان إلى كل شيء فقال تعالى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} أي لا يحملنكم بغض قوم على عدم العدل فيهم وقال- صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)) ولما كان هو عليه الصلاة والسلام قدوتنا فنحن مخاطبون بأن نكون مثله في عموم رحمته وشفقته وعدله وبره وإحسانه. نفعل الخير عاماًّ، كما تعم خيرات الله تعالى العباد، نفعله لأنه خيرٌ نستطعم لذته، غير منتظرين جزاء، إلا من الله. لأن من انتظر الجزاء من الناس وفي هذه الحياة لا بد أن يميل بخيره عن جهة إلى جهة، وربما يكون في ميله قد أخطأ وجه الصواب، ولا بد أيضاً أن ييأس فيفتر في العمل أو ينقطع عنه عندما يرى عدم المكافاة
11) 2/ 26 الشعراء.