الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
112 - باب ما جاء في البول يصيب الأرض
ثنا ابن أبي عمر وسعيد بن عبد الرحمن؛ قالا: نا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة؛ قال: دخل أعرابي المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فصلى فلما فرغ قال: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"لقد تحجرت واسعًا". فلم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع إليه الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أهريقوا عليه سجلًا من ماء، أو دلوًا من ماء"، ثم قال:"إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".
قال سعيد: قال سفيان: وحدثني يحيى بن سعيد عن أنس بن مالك نحو هذا.
وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وواثلة بن الأسقع.
قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق.
وقد روى يونس هذا الحديث عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة (1).
* الكلام عليه:
أخرجه أبو داود (2) والنسائي (3) وأخرجه ابن (4) ماجه من حديث أبي سلمة بن
(1) الجامع (1/ 275 - 277) برقم 147.
(2)
السنن كتاب الطهارة (1/ 188 - 189) برقم 380 باب الأرض يصيبها البول.
(3)
السنن كتاب الطهارة (1/ 51 - 52) برقم 56 باب ترك التوقيت في الماء، وفي المياه (1/ 191 - 192) برقم 329 باب التوقيت في الماء وفي الكبرى (1/ 92) برقم 54.
(4)
السنن كتاب الطهارة وسننها (1/ 176) برقم 529 باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل.
عبد الرحمن، عن أبي هريرة، وأخرجه البخاري (1) من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة، وأخرجه البخاري (2) ومسلم (3) من حديث أنس بن مالك بنحوه، وفي رواية أبي (4) داود:"سجلًا من ماء أو ذنوبًا".
وروى ابن (5) صاعد في حديث أنس عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن أنس أن أعرابيًّا بال في المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذنوبًا من ماء".
قال الدارقطني (6) فيما حكاه بعض الحفاظ (7) عنه: وهم عبد الجبار على ابن عيينة لأن أصحاب ابن عيينة الحفاظ رووه (8) عن يحيى بن سعيد فلم يذكر أحد منهم الحفر، وإنما روى ابن عيينة هذا عن عمرو بن دينار، عن طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"احفروا مكانه"(9)، فاختلط على عبد الجبار المتنان، وعبد الجبار هذا قال أبو (10) حاتم: مكي صالح.
وأما حديث (11) ابن مسعود فمن رواية أبي بكر بن عياش، عن سمعان بن
(1) صحيح البخاري كتاب الوضوء (1/ 91) برقم 220 باب صب الماء على البول في المسجد.
(2)
الصحيح كتاب الوضوء (1/ 90) برقم 219 باب ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي حتى فرغ من بوله.
(3)
الصحيح كتاب الطهارة (1/ 236) برقم 284 باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا فصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها.
(4)
السنن كتاب الطهارة (1/ 189).
(5)
هذا النقل عن ابن دقيق العيد كما في الإمام (1/ 271) و (3/ 454).
(6)
نقله المصنف عن شيخه ابن دقيق العيد كما في الإمام (1/ 271 - 272) و (3/ 455) وابن دقيق العيد ينقل عن ابن الجوزي كما في التحقيق (1/ 78) والعلل المتناهية (1/ 333 - 334).
(7)
ولعل المقصود بذلك ابن الجوزي كما سبق.
(8)
صوابه رووه عنه عن يحيى بن سعيد كما في المراجع السابقة.
(9)
مصنف عبد الرزاق (1/ 424) برقم 1659.
(10)
الجرح والتعديل (6/ 32) برقم 172.
(11)
ذكره ابن دقيق العيد في الإمام (1/ 271) وهو عند الدارقطني في السنن (1/ 131 - 132) برقم 2.
مالك الأزدي، عن أبي وائل، عن عبد الله؛ قال: بال أعرابي في المسجد، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فصب عليه دلوًا من ماء، ثم أمر به فحفر مكانه.
قال أبو زرعة (1): الحديث منكر، وسمعان ليس بالقوي.
وأما حديث واثلة بن الأسقع فقرأت على أبي عبد الله محمد (2) بن علي بن ساعد أخبركم ابن (3) خليل، أنا أبو عبد الله محمد (4) بن أبي زيد الكراني وأبو جعفر
(1) علل الحديث (1/ 24) برقم 36 وعبارته فيه: "هذا حديث ليس بقوي".
والمصنف ينقل عن شيخه ابن دقيق العيد كما في الإمام (1/ 271).
(2)
أبو عبد الله محمد بن علي بن ساعد شمس الدين، المحروسي الخالدي، الرقي المشهدي.
سمع بحلب من يوسف بن خليل المعجم الكبير للطبراني، ورواه عنه ابن سيد الناس، قرأه عليه عن ابن خليل، وورد ذكره في الأجوبة لابن سيد الناس (2/ 140).
قال الحافظ ابن حجر: سمع منه ابن سيد الناس وغيره.
انظر: الدرر (4/ 182) برقم 4044.
(3)
أبو الحجاج شمس الدين يوسف بن خليل بن قراجا، شيخ المحدثين وراوية الإسلام، نزيل حلب وشيخها.
ولد منة خمس وخمسين وخمس مئة.
تفرد بأجزاء كمعجم الطبراني عن يحيى الثقفي.
توفي رحمه الله في عاشر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وست مئة. انظر السير (23/ 151) برقم 104.
(4)
مسند أصبهان أبو عبد الله محمد بن أبي زيد بن حمد الكرّاني الأصبهاني الخبّاز.
ولد سنة سبع وتسعين وأربع مئة.
سمع الحدّاد ومحمودًا الأشقر وغيرهما.
حدث عنه ابن خليل وابن ظفر وغيرهما.
توفي في ثالث شوال سنة سبع وخمسمائة.
وكرّان: بفتح الكاف وتشديد الراء المهملة وفتحها وبعد الألف نون: محلة بأصبهان.
انظر: السير (21/ 363 - 364) برقم 190.
محمد (1) بن إسماعيل الطرسوسي؛ قالا: نا أبو منصور محمود (2) بن إسماعيل بن محمد، أنا أبو الحسين أحمد (3)؛ قال: نا سليمان بن أحمد الطبراني (4)، نا ابن إسحاق، نا أبو الربيع، نا علي بن غراب ثنا عبيد الله بن أبي حميد، قال: ثنا أبو المليح عن واثلة بن الأسقع قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل أعرابي فقال: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فقالوا له: ويحك أو ويلك لقد حصرت
(1) مسند أصبهان أبو جعفر محمد بن إسماعيل بن محمد بن أبي الفتح الطرسوسي ثم الأصبهاني الحنبلي الفقيه.
ولد سنة اثنين وخمس مئة.
سمع من الحداد ومحمود الأشقر وغيرهما.
حدث عنه ابن خليل وطائفة.
توفي في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وخمسمائة.
انظر السير (21/ 245 - 246) برقم 126.
وطرسوس من بلاد الثغر بالشام، كان يضرب بيدها المثل.
انظر الأنساب (4/ 60) للسمعاني.
(2)
أبو منصور محمود بن إسماعيل بن محمد الصيرفي الأشقر، راوي كتاب المعجم الكبير للطبراني.
ولد في ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وأربع مئة.
سمع من ابن فاذشاه وابن شاذان الأعرج وغيرهما.
حدث عنه الطرسوسي والكراني والصيدلاني وغيرهم.
توفي في ذي القعدة سنة أربع عشرة وخمسمائة.
السير (19/ 428 - 430) برقم 250.
(3)
أبو الحسين أحمد بن محمد بن فاذشاه الأصبهاني، راوي المعجم الكبير للطبراني.
سمع من الطبراني وغيره.
حدث عنه محمود الأشقر والحداد وأبو القاسم الغسال وغيرهم توفي في صفر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
السير (17/ 515 - 516) برقم 339.
(4)
المعجم الكبير (22/ 77 - 78) برقم 192.
واسعًا. ثم تنحى الأعرابي فبال قائمًا فوثبوا عليه (1)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"دعوه حتى يفرغ من مباله"، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسجل من ماء فصبه على مباله. رواه ابن (2) ماجه عن محمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الله، عن عبيد الهذلي، قال محمد بن يحيى: هو عندنا ابن أبي حميد عن أبي المليح الهذلي عن واثلة به. ابن (3) أبي حميد روى له أبو داود وضعفه ابن ماجه.
وفيه عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي مع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القصة، وقال -يعني النبي صلى الله عليه وسلم:"خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماءً". رواه أبو داود (4)، وقال: هو مرسل؛ ابن معقل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم.
السَّجل (5): بفتح السين المهملة وبالجيم الساكنة: الدلو الكبيرة إذا كان فيها ماء قل أو كثر. قال الجوهري (6): وهو مذكر، ولا يقال: سجل، إذا لم يكن فيه ماء.
والذنوب (7): بفتح الذال المعجمة: الدلو إذا كانت ملأى.
(1) عند الطبراني إليه بدل عليه.
(2)
السنن كتاب الطهارة وسننها (1/ 176) برقم 530 باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم.
(3)
ابن أبي حميد هو عبيد الله بن حميد الهذلي، أبو الخطاب البصري، واسم أبي حميد غالب، روى له ابن ماجه فقط، وهو متروك.
انظر: تهذيب الكمال (19/ 29 - 31) برقم 3629 وتهذيب التهذيب (3/ 8) وإكمال تهذيب الكمال (9/ 14 - 15) برقم 3434 والمجرد في أسماء رجال سنن ابن ماجه للذهبي (256) برقم 209.
(4)
السنن كتاب الطهارة (1/ 189) برقم 381 باب الأرض يصيبها البول.
(5)
الإمام لابن دقيق العيد (3/ 454).
(6)
الصحاح (5/ 1725) بتصرف في النص مع اختصار، وهو فعل شيخه ابن دقيق كما في الإمام (3/ 454).
(7)
الإمام (3/ 454).
وقوله: "لقد تحجرت واسعًا"؛ من الحجر وهو المنع، ومعناه اعتقدت المنع فيما لا منع فيه من رحمة الله تعالى.
وفي بعض ألفاظه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تزرموه بوله": أي لا تقطعوا عليه بوله، والإزرام: القطع.
فيه (1) أن الاحتراز عن النجاسة وتجنبها أمر مقرر (2) في نفوس جملة الشرع، وفيه المبادرة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه أمر زائد على الإنكار (3) وهو المبادرة إلى ذلك، والغلظة فيه، واستعمال القوة، مستفاد ذلك من قوله: فأسرع الناس إليه أي إلى الإنكار عليه، وفيه مبادرة الصحابة إلى الإنكار بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من غير مراجعة له، وليس ذلك من باب التقدم بين يدي الله ورسوله لما تقرر (4) عندهم في الشرع من مقتضى الإنكار، فأمر الشارع (5) متقدم على ما وقع منهم في ذلك، وإن لم يكن عندهم في هذه الواقعة الخاصة إذن، فيدل على أنه لا يشترط الإذن الخاص ويكتفى بالعام.
وقد اختلف في التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص، هل هو سائغ أو لا؟ فالمحكي عن ابن سريج أنه لا يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص وعن الصيرفي في جوازه، واختيار بعض المتأخرين المنع، وزعم أنه لا يكاد يختلف فيه،
(1) هذا كلام ابن دقيق العيد مع تصرف يسير نقله عنه المصنف من كتاب الإمام في شرح الإلمام (ل / 62 - 63).
(2)
وعند ابن دقيق العيد متقرر بدل مقرر.
(3)
عند ابن دقيق العيد فيه أمر زائد على أصل الأمر بالمعروف وهو استعمال القوة والغلظة.
(4)
عند ابن دقيق العيد وذلك أنه قد تقرر عندهم من الشروع ما أوجب الإنكار.
(5)
وعند ابن دقيق العيد الشرع بدل الشارع.
والذي كان شيخنا الإمام أبو الفتح (1) محمد بن علي بن وهب القاري رحمه الله تعالى يقول: إنه إن أريد بذلك أنه لا بد للمجتهد من نظره فيما تأخر من النصوص أو ما تيسر له مراجعته مما يشعر فيه باحتمال التخصيص فذلك صحيح، وإن أريد به التوقف حتى يقع على ما لعله لم يبلغه من النصوص ولا يشعر به مع قرب المراجعة فلا يصح.
قال: والدليل عليه أن علماء الأمصار ما برحوا يفتون بما بلغهم من غير توقف على البحث في الأمصار والبلاد عما لعله أن يكون تخصيصًا. فمن ذلك حديثنا الذي نحن فيه؛ وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لا استقرت عندهم القاعدة الكلية وثبت الحكم العام في وجوب تنزيه المسجد عن النجاسة، وكانت هذه القصة (2) المعينة مخصوصة من ذلك الحكم كما تبين من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ونهيه وزجره (3)، وجرى (4) الصحابة على الحكم بالأمر العام من غير مراجعة الرسول صلى الله عليه وسلم مع احتمال التخصيص فدل ذلك على ما ذكرناه.
وفيه دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما (5)، فإن البول في المسجد مفسدة، وقطعه على البائل مفسدة أعظم منها فاحتملنا أيسر المفسدتين بدفع أعظمهما وتنزيه المسجد عن البول مصلحة وترك البائل على ما هو عليه إلى أن ينقضي بوله مصلحة أعظم منها فحصلنا أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.
(1) يقصد بذلك ابن دقيق العيد، وكلامه هذا والذي قبله في الإمام (ل / 62).
(2)
عند ابن دقيق العيد الواقعة بدل القصة.
(3)
عند ابن دقيق العيد ونهيه عن زجره، وهو الصواب.
(4)
عند ابن دقيق العيد وقد جرى.
(5)
عند ابن دقيق العيد أخفهما بدل أيسرهما.
وبزجر النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن منع الأعرابي وقوله عليه السلام: "لا تزرموه بوله"، علمنا حصول الرجحان من الطرفين بارتكاب أخف المفسدتين وتحصيل أعظم المصلحتين.
ونهيه عليه السلام إياهم عن الأعرابي حين أسرعوا إليه يحتمل ثلاثة معان:
الأول: مراعاة حق البائل لما قد يلحقه من الضرر من قطع البول عليه بعد تهيؤه لخروجه ودفعه.
الثاني: مراعاة حق المسجد في صونه من النجاسة خوفًا من انتشار البول عند قطعه عليه وانتقاله من موضع إلى موضع في الطريق، وذلك متوقع.
الثالث: مراعاة التيسير على الجاهل والتألف للقلوب.
ويشهد للأول قوله عليه السلام: "لا تزرموه بوله"، وللثاني: ما هو معلوم من تنزيه المساجد عن النجاسات وللثالث قوله عليه السلام: "فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".
وقد يكون كل منها جزء علة، فيكون الحكم معللًا بمجموع ذلك.
وفيه الرفق بالجاهل، واللطف في تعليمه.
وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع (1)، وقد كان المانع من تنظيف المسجد وتطهيره من البول اشتغال الأعرابي بما هو عليه من البول، فلما زال المانع بفراغ الأعرابي، قال عليه السلام:"أهريقوا عليه سجلًا من ماء أو دلوًا من ماء"، إعمالًا للمقتضى عند زوال المانع.
وفيه اعتبار الأداء باللفظ، وإن كان الجمهور على عدم اشتراطه، وأن المعنى
(1) عند ابن دقيق العيد عند زوال المانع من إزالتها.
كافٍ لقوله: "سجلًا من ماء أو دلوًا من ماء"، وتحمل "أو" ها هنا على الشك، إذ لا معنى فيه للتنويم ولا للتخيير ولا للعطف، فلو كان الراوي يرى جواز الرواية بالمعنى اقتصر على أحدهما إذ هو المقول أو الأخر الذي في معناه. فما تحرج وتردد في التفرقة بين الدلو أو السجل، وهما بمعنىً علمنا أن ذلك التحري طلبًا لموافقة اللفظ، قاله شيخنا القشيري (1). ولا يخلو من اعتراض فإنه إنما يتم له ذلك لو اتحد المعنى في السجل والدلو لغةً لكنه غير متحد، فالسجل الدلو الضخمة المملوءة، ولا يقال لها فارغة سجل لكن دلو، ذكره ابن سيده. ففي السجل زيادة الضخامة والملء عن ما في لفظ الدلو، فلو جاء بها صغيرة غير مملوءة لصدق عليها الدلو، ولا يصدق السجل حتى توجد الضخامة والملء والله أعلم.
وقد وقع في بعض ألفاظ الحديث: "أهريقوا عليه"، وفي بعضها:"صبوا عليه"، فيجوز أن يكون أحدهما تعبيرًا عن أمره عليه السلام لا حكاية للفظه، وهو حجة على المختار في علم الأصول، لأن علمه باللغة وأوضاع الكلام مع عدالته (2) مقتضٍ لمطابقة ما حكاه للواقع، وأما احتمال كونه اعتقد ما ليس بأمر أمرًا فبعيد.
وفيه تعيين الماء بإزالة النجاسة، وقد تقدم الكلام فيه في حديث أسماء بنت أبي بكر:"ثم اقرصيه بالماء"، في باب ما جاء في غسل دم الحيض من الثوب، وهناك ذكرنا أن للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:
فمنهم من ذهب إلى أن غير الماء من المائعات الطاهرة مستعمل في رفع الحدث وإزالة النجس كالماء.
(1) الإمام (ل / 63).
(2)
عند ابن دقيق العيد مع ديانته بدل عدالته.
ومنهم من رأى تعين الماء لذلك، وهم الجمهور.
ومن من فرق بين الحدث والخبث، وهو مذهب أبي حنيفة في استعمال المائعات الطاهرة في إزالة النجس دون رفع الحدث.
لنا أنه عليه السلام عين الماء للإزالة، ولا يقع الإمساك بغير المعين لأن الذي يأتي بغيره لم يأت بما أمر به فيبقى في العهدة، وقد تقدم الكلام في ذلك.
وقد اختلف العلماء في الأرض تصيبها النجاسة كيف تطهيرها؟
قال الرافعي (1): إذا أصاب الأرض بول فصب عليها من الماء ما يغمره ويستهلك فيه النجاسة طهرت بعد نضوب الماء، وقبله فيه وجهان: إن قلنا إن الغسالة طاهرة والعصر لا يجب فنعم، وإن قلنا إنها نجسة والعصر واجب فلا، وعلى هذا فلا يتوقف الحكم بالطهارة على الجفاف، بل يكفي أن يغاض الماء كالثوب المعصور لا يشترط فيه الجفاف والنضوب كالعصر، وفيه وجه أن يكون الماء المصبوب سبعة أضعاف البول، ووجه آخر يجب أن يصب على بول الواحد ذنوب وعلى بول الاثنين ذنوبان، وعلى هذا أبدًا. ثم الخمر وسائر النجاسات كالبول تطهر الأرض عنها بالمكاثرة بالماء.
وقال أبو حنيفة: لا تطهر الأرض حتى تحفر إلى الموضع الذي وصلت إليه النداوة وينقل التراب. كذا حكاه أصحابنا عن مذهب أبي حنيفة من غير تفصيل، وتمسكوا بالحديث في الرد عليهم.
والذي ذكره أبو جعفر الطحاوي (2) في "مختصره"، قال: ومن بال على
(1) فتح العزيز (1/ 246).
(2)
الإمام (ل / 64).
الأرض فطهارة ذلك المكان إذا صب عليه الماء نزل إلى ما هو أسفل من الأرض صب الماء عليه حتى يغسل وجه الأرض وينخفض إلى ما تحتها، وإن كان حجرًا فحتى يغسلها غسلًا يطهرها، وإن كانت غير ذلك من الأرض الصلبة فأن يحفر مكان البول منها حتى تعود طاهرة منه.
وهذا التفصيل الذي ذكره يتأتى لهم معه الجواب عن الحديث إما بما قيل إنها كانت رملًا نزل فيه الماء، أو بأنه يحتمل ذلك إن لم يكن نقل، وإن لم تبطله المشاهدة في الأرض المذكورة أعني أرض المسجد.
وعلى كل حال فكان القياس يقتضي ما أطلق من القول عن أبي حنيفة لأن ذلك غسالة نجاسة، فهو ماء قليل حلته نجاسة فتنجس على مذهب من يقول ذلك، إلا أن النص يدل على التطهير مع بقاء البلل فلا اعتبار بالقياس إن لم يصح النقل (1) بنقل التراب، وقد ورد الأمر بالحفر في مرسل طاوس ومرفوع ابن مسعود، والاعتراض على الأول بالإرسال وعلى الثاني بضعف سمعان بن مالك راويه، وقول أبي زرعة إن الحديث منكر، وقد تقدم.
وقد اختلف العلماء في الماء المستعمل في إزالة النجاسة إذا كان قليلًا غير متغير على مذاهب ثلاثة قد قدمنا حكايتها في أحدها أنه طاهر طهور وفي الحديث دليل عليه (2).
وفي الحديث دليل على طهارة غسالة النجاسة الواقعة على الأرض، ووجهه أمران:
أحدهما: ما تقدم من أمر البلة الباقية على الأرض، فإنها غسالة النجاسة،
(1) عند ابن دقيق العيد إن لم يصح نقل بالنقل أعني بنقل التراب.
(2)
الإمام (ل / 64).
فإذا لم يثبت أن التراب نقل، وثبت تيقننا أن المقصود التطهير وجب الحكم بطهارة تلك البلة.
وثانيهما: أن الماء المصبوب لا بد أن يتدافع عند وقوعه على الأرض، ويصل إلى محل لم يصبه البول مما يجاوره، فلولا أن الغسالة طاهرة لكان الصب ناشرًا للنجاسة، وذلك خلاف مقصود التطهير، وقد كان يمكن أن يستدل على طهارة مطلق الغسالة سواءً كانت على الأرض أو غيرها بناءً على أنه لا فارق، وأن غير الأرض في معنى الأرض التي هي محل النص، لكن الحنابلة فرقوا بين الأرض وغيرها، فالمنفصل غير متغير من الغسلة التي طهرت الأرض بها طاهر، وذكر بعضهم أنه رواية واحدة، وإن كان غير الأرض فوجهان.
وقد ذكرنا مأخذ الجمهور، وإلحاق ما هو في معنى الأرض به، ولعل سبب التفرقة عند من يراها اتباع القياس في تنجس الغسالة بحلول النجاسة بها مع قلتها، ويخرج الأرض بالنص، فتبقى فيما عداه على القياس.
وذكر بعض (1) الحنابلة أنه إنما يحكم بطهارة المنفصل من الأرض إذا كانت قد نشفت أعيان البول، فإن كانت الأعيان قائمة وجرى الماء عليها طهرها، وفي المنفصل روايتان كالمنفصل عن غير الأرض، وكونه نجسًا أصح في كلامه، وقال غيره منهم: والأولى الحكم بطهارته لأن النبي عليه السلام أمر بغسل بول الأعرابي عقيب بوله، ولم يشترط النشوفة.
وقد اختلف (2) أصحابنا في طهارة الأرض قبل نضوب الماء عنها في مثل هذه الصورة، ويمكن أن يستدل على عدم اشتراط النضب (3) بالحديث، وطريقه أن يحصل
(1) الإمام (ل / 64).
(2)
الإمام (ل / 65).
(3)
عند ابن دقيق العيد نضوب بدل نضب.
امتثال الأمر بصب ماء الذنوب على الأرض لحصول مسمى ما تعلق به الأمر وفعل المأمور به يقتضي الإجزاء، وهذا ضعيف؛ لأن فعل المأمور به يقتضي الإجزاء بالنسبة إلى ما تعلق به الأمر، والذي تعلق به الأمر الصب، وهذا الفعل يقتضي الإجزاء في الأمر بالصب لا في تطهير الأرض، إلا أن يدعي (1) مدعٍ أن الأمر وإن كان بالصب إلا أنه لمقصود التطهير فيحصل التطهير على هذا التقدير، أعني على تقدير اعتبار معنى التطهير في هذا الأمر، والذين اشترطوا النضوب بنوه على نجاسة الغسالة واشتراط العصر، وأن عصر كل شيء على حسبه. وبهذه الطريق أيضًا يوجد عدم اشتراط الجفاف، وفيه من البحث ما تقدم، وقد توجه منه أن العصر في الثوب المغسول من النجاسة لا يجب، وطريقه أن يقال: لو وجب العصر في الثوب لتوقفت طهارة الأرض على النضوب، ولا تتوقف لما ذكرناه فلا يجب العصر، بيان الملازمة أن النضوب في الأرض قائم مقام العصر في الثوب كما ذكرنا لأن عصر كل شيء على حسبه، فلو وجب النضوب الذي هو في الأرض بمنزلة العصر في الثوب لوجب العصر في الثوب (2).
وقد اختلف الناس في الأرض إذا أصابتها النجاسة هل تطهر بالجفاف وشروق الشمس عليها أو لا تطهر إلا بالماء؟
والأول: محكي عن أبي قلابة وأصحاب الرأي أنه إذا أشرقت عليها الشمس حتى ذهب أثر النجاسة تطهر، وقد يستدل به من قال: لا تطهر إلا بالماء ووجهه أن الأمر بصب الماء على الأرض والمقصود به التطهير فلا يحصل الامتثال إلا به، والاعتراض عليه أن ذكر الماء لوجوب المبادرة إلى تطهير المسجد وتركه إلى
(1) وفي الإمام إلا أن يقال بدل أن يدعي مدع.
(2)
الإمام (ل / 65).
الجفاف تأخير لهذا الواجب، وإذا تردد الحال بين الأمرين لا يكون دليلًا على أحدهما بعينه (1).
وفيه (2) صيانة المساجد وتنزيهها عن الأقذار والنجاسات، ففي حديث أنس الذي قدمنا أن البخاري ومسلم أخرجا قول أنس: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان كذلك لنذكر (3) طرفًا مما يباح في المسجد، ومما ينبغي أن يصان عنه:
وقد أجمع الناس على جواز الجلوس في المسجد للمحدث، فإن كان جلوسه لعبادة من اعتكاف أو قراءة علم أو سماع موعظة أو انتظار صلاة أو نحو ذلك كان مستحبًا، وإن لم يكن لشيء من ذلك كان مباحًا، وقال بعض أصحابنا: إنه مكروه، وهو ضعيف.
وكذلك النوم في المسجد جائز، نص عليه الشافعي في الأم. قال ابن المنذر (4): رخص في النوم في المسجد ابن المسيب والحسن وعطاء والشافعي، وقال ابن عباس: لا تتخذوه مرقدًا، وروي عنه أنه قال: إن كنت تنام فيه لصلاة فلا بأس. وقال الأوزاعي: يكره النوم في المسجد. وقال مالك: لا بأس بذلك للغرباء، ولا أرى ذلك للحاضر. وقال أحمد: إن كان مسافرًا أو شبهه فلا بأس، وإن اتخذه مقيلًا ومبيتًا فلا. وهو قول إسحاق.
(1) الإمام (ل / 66).
(2)
هذا كلام النووي كما في شرحه على صحيح مسلم (3/ 191).
(3)
والذاكر لهذه المسائل النووي رحمه الله واستفادها منه المصنف دون عزو!!
(4)
زاد النووي في الإشراف ووقع في شرح صحيح مسلم الأشراف وهو خطأ مطبعي.
وحجة من أجازه نوم علي بن أبي طالب وابن عمر وأهل الصفة والمرأة صاحبة الوشاح والعرنيين (1) وثمامة بن أثال وصفوان بن أمية وغيرهم، وهي أخبار صحاح مشهورة.
واختلف في جواز دخول الكافر المسجد فمنعه قوم، وأباحه آخرون مطلقًا، وأباحه آخرون بشرط الإذن له في ذلك.
وأما الوضوء في المسجد، فقال ابن المنذر: أباح كل من يحفظ عنه العلم الوضوء في المسجد إلا أن يتوضأ في مكان يبله أو يتأذى الناس به، فإنه مكروه.
وقال أبو الحسن علي بن خلف بن بطال: هذا منقول عن ابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والنخعي وابن القاسم صاحب مالك، وذكر عن ابن سيرين ومالك وسحنون أنهم كرهوه تنزيهًا للمسجد.
وقال جماعة من أصحابنا: يكره إدخال البهائم والمجانين والصبيان الذي لا يميزون المسجد لغير حاجة مقصودة، لأنه لا يؤمن تنجيسهم المسجد، ولا يحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير، وقد يقال إن ذلك لبيان الجواز، أو ليظهر عليه السلام مرتفعًا على البعير لضرورة تعليم المناسك والاقتداء به في الحج.
وأما من على بدنه نجاسة فإن خاف تنجيس المسجد لم يجز له الدخول، وإن (2) أمن ذلك جاز.
وأما من افتصد في المسجد فإن كان في غير إناء فحرام وإن قطر دمه في إناء فمكروه.
(1) ووقع عند مسلم الغريبين وهو خطأ مطبعي.
(2)
عند النووي فإن بدل وإن.
وإن بال في المسجد في إناء فوجهان: أصحهما أنه حرام، والثاني أنه مكروه.
ويجوز الاستلقاء في المسجد وهز الرجل وتشبيك الأصابع للأحاديث الثابتة في ذلك.
ويستحب استحبابًا متأكدًا كنس المسجد وتنظيفه للأحاديث الصحيحة المشهورة في ذلك، والله أعلم.
آخر كتاب الوضوء
* * *