الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
21 - باب ما جاء في الصلاة بعد العصر
نا قتيبة نا جرير عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما بعد العصر ثم لم يَعُدْ لَهُمَا.
وفي الباب عن عائشة وأم سلمة وميمونة وأبي موسى.
قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن وقد روى غير واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعد العصر ركعتين هذا خلاف ما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس.
وحديث ابن عباس أصح حيث قال: لم يعد لهما، وقد روي عن زيد بن ثابت نحو حديث ابن عباس. وقد روي عن عائشة في هذا الباب روايات: روي عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ما دخل عليها بعد العصر إلا صلى ركعتين.
ووي عنها عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الصبح حتى تطلع الشمس.
والذي أجمع عليه أكثر أهل العلم على كراهة الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا ما استثني من ذلك مثل الصلاة بمكة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس بعد الطواف، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم رخصة في ذلك. وقد قال به قوم من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق. وقد كره قوم من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم الصلاة بمكة أيضًا بعد العصر وبعد الصبح وبه يقول سفيان الثوري ومالك بن أنس وبعض أهل الكوفة.
* الكلام عليه:
في إسناده عطاء بن السائب وكان من الحفاظ ثم اختلط بأخرة فمن روى عنه قبل الاختلاط كشعبة وسفيان فحديثه صحيح إلا ما استثني منه، ومن روى عنه بعد الاختلاط كجرير وخالد بن عبد الله وإسماعيل بن علية وعلي بن عاصم فليس حديثه كذلك، ويلتحق بهذا القسم الثاني من روى عنه قبل الاختلاط وبعده حتى يتبين، ذكر عباس الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: عطاء بن السائب اختلط فمن سمع منه قديمًا فهو صحيح. وذكر أحمد ويحيى أن جرير سمع منه أخيرًا. قال أحمد: فليس بشيء وقال يحيى: وقد سمع منه أبو عوانة في الصحة والاختلاط جميعًا ولا نحتج به. وقال وهيب: لما قدم عطاء البصرة قال: كتبت عن عبيدة ثلاثين حديثًا. ولم يسمع من عبيدة شيئًا فهذا اختلاط شديد وأما حديثه عن سعيد بن جبير فقال: قال أحمد: كان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها يعني قبل الاختلاط. وقال أبو حاتم: وفي حديث البصريين عنه تخاليط كثيرة لأنه قدم عليهم في آخر عمره، وما روى عنه ابن فضيل ففيه غلط واضطراب رفع أشياء كان يرويها عن التابعين فرفعها إلى الصحابة. فلهذا عدل الترمذي عن تصحيح حديثه هنا لكنه قد أخرج حديثه في مواضع من كتابه وصحح منها جملة وحسن بعضها وسكت عن بعضها وسيأتي الكلام عليها في مواضعها لاختلاف الحكم باختلاف الرواة عن عطاء.
والذي يورد عليه هنا حديثه عن قتيبة عن جرير عنه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا: "إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يأكل من أعلى الصحفة".
وحديث: "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن" بهذا الإسناد بعينه، وقد صححها ولم يصحح حديث الباب وإسناد الثلاثة واحد.
وتلخيص الجواب عن ذلك أن التصحيح قد يتعلق بأمور خارجة عن المسند الذي خرج به الحديث عند من أخرجه به من متابعة ثقة أو يكون مشهور المتن معروف الأصل في الجملة كما ذكر مسلم في جواب من اعتراض عليه في تخريج حديث أسباط بن نصر وأحمد بن عيسى التستري وقطن بن نسير في الصحيح بأنه ما خرج في كتابه من حديث هؤلاء وأمثالهم إلا ما عرف صحته من خارج فكذلك هنا.
أما حديث: "إذا أكل أحدكم طعامًا" فقد رواه شعبة عن عطاء، رواه أبو داود عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة عنه. وما كان من رواية شعبة وسفيان عنه فهو صحيح عندهم كما تقدم.
وأما حديث: "نزل الحجر الأسود من الجنة" فمن رواية حماد بن سلمة عن عطاء رواه من حديثه النسائي. وقد ألحق يحيى بن معين حديث حماد عن عطاء بحديث شعبة وسفيان عنه، فقال مرة: وجميع من روى عن عطاء روى عنه في الاختلاط إلا شعبة وسفيان وذكر مرة معهما حماد بن سلمة.
والمستثنى من حديث شعبة عنه ما ذكر علي بن المديني قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: ما سمعت أحدًا من الناس يقول في عطاء بن السائب شيئًا قط في حديثه القديم إلا حديثين كان شعبة يقول لسمعتهما منه بآخرة عن زاذان.
قلتُ: وليس شيء من هذا عن زاذان.
وأما حديث الباب في الركعتين بعد العصر فلم نجده من رواية أحد من متقدمي أصحاب عطاء بعد عن عطاء فلذلك لم يحكم بصحته، وأما التحسين في مثل هذا فهو جار على رسمه في الحسن لوجود الشواهد له من حديث عائشة وأم سلمة وميمونة وأبي موسى كما ذكر، وأما لو لم يكن له شواهد ففيه نظر على أن ابن
عدي قال في ترجمة عطاء: ومن سمع منه بعد الاختلاط فأحاديثه (1) فيها بعض النكرة.
وأما حديث عائشة فعند مسلم عن أبي سلمة أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما بعد العصر فقالت: كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما وكان إذا صلى صلاة أثبتها. وروى أبو دواد عن ذكوان مولى عائشة أنها حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر تعني ركعتين وينهى عنهما ويواصل وينهى عن الوصال. وحديث أم سلمة قال البخاري: وقال كريب عن أم سلمة: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد العصر ركعتين وقال: "شغلني ناس من عبد القيس عن الركعتين بعد الظهر".
وروينا من طريق الطبراني (2): نا مصعب: قال: نا أبي، نا عبد العزيز بن محمد عن موسى بن عبيدة بن نشيط عن ثابت مولى أم سلمة عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إلى بيتها فصلى به ركعتين بعد العصر، فأرسلت عائشة إلى أم سلمة، فقالت: أرى النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الظهر ركعتين فقدم عليه وفد بني المصطلق في شأن ما صنع بهم عاملهم الوليد بن عقبة، فلم يزالوا يعتذرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء المؤذن يدعوه إلى صلاة العصر، فصلى المكتوبة ثم صلى في بيتي تلك الركعتين، ما صلاهما قبل ولا بعد، الحديث، وهو طويل، وأنا اختصرته، ولعله الذي أشار إليه الترمذي.
هكذا أورده تعليقًا باللفظ الجازم عن كريب وقد أورده مسلم متصلًا.
(1) في نسخة السندي: فالأحاديث.
(2)
في "المعجم الكبير"(23/ 959)، وإسحاق بن راهويه (1886) قال الهيثمي: فيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف.
قال الحافظ في "التلخيص الحبير"(1/ 187): إسناده ضعيف جدًّا.
وحديث ميمونة: روى الطبراني من حديث حنظلة السدوسي أنه سمع عبد الله بن الحارث يقول: حدثتني ميمونة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر ركعتين (1). رواه عن محمد بن الفضل السقطي نا سعيد بن سليمان عن عباد بن العوام ح قال ونا محمود بن محمد نا زكريا بن يحيى حمويه نا صالح بن عمير عن حنظلة، هكذا رأيت هذا الحديث عند الطبراني فلا أدري أهو قطعة من الحديث وفي بقيته المعنى الذي أشار إليه الترمذي أو لميمونة حديث آخر في الباب (2) كما ذكره والله أعلم.
وحديث أبي موسى ذكر النسائي في كتاب "الأسماء والكنى" له في ترجمة أبي دراس سماعيل بن دراس من روايته عن عبد الصمد نا أبو مرداس نا أبو بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد العصر (3).
وقوله: وحديث ابن عباس أصح حيث قال: لم يعد لهما، ظاهره أنه يريد أنه أصح ممن روى أنه صلى الركعتين بعد العصر، وأطلق، وفي هذا نظر، فقد رويناه كذلك مطلقًا في حديث عائشة وأم سلمة وهما صحيحان وأما الروايات التي أشار إليها عن عائشة في المواظبة عليها بعد ذلك فصحيحة لا مطعن فيها منها عند مسلم
(1) رواه الطبراني في "الكبير"(24/ 69). وانظر "الأوسط"(927). قارن مع الهامش التالي.
(2)
ذكره الهيثمي في "المجمع"(2/ 223) بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته ركعتا العصر فصلاهما بعد.
قال: رواه أحمد، وفيه حنظلة، ضعفه أحمد وابن معين ووثقه ابن حبان. اهـ.
انظر "المسند"(6/ 333 - 334)، ومشاه الشيخ في "الإرواء"(2/ 188).
(3)
قال الهيثمي في "المجمع"(2/ 223): رواه الطبراني في "الأوسط" و" الكبير"، ورجاله رجال الصحيح غير أبي دارس، قال فيه ابن معين: لا بأس به.
قلت: ونقل الذهبي عن ابن معين أنه ضعفه، ولم يعرفه أبو حاتم الرازي. فانظر "الجرح والتعديل" (9/ 368) و"الميزان": الكنى.
رواية ابن طاوس عن أبيه عنها قالت: لم يَدَعْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر. وعند البخاري من حديث عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عنها أنها قالت: ركعتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعهما سرًّا ولا علانية ركعتان قبل الصبح وركعتان بعد العصر ومنها عنده أيضًا من حديث شعبة عن أبي إسحق قال: رأيت الأسود ومسروقًا شهدا على عائشة قالت: ما كان النبي في يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين.
وروى عبد الواحد بن أيمن قال حدثني أبي أنه سمع عائشة قالت: والذي ذهب به ما تركهما حتى لقي الله وما لقي الله حتى ثقل عن الصلاة وكان يصلي كثيرًا من صلاته قاعدًا -تعني الركعتين بعد العصر- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما ولا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته وكان يحب ما يخفف عنهم.
وهذه معارضة لرواية ابن عباس في قوله: ثم لم يعد لهما وهي أصح منها بيقين. وإن كان يريد أن الأصح في العمل أنه لا نافلة بعد العصر خلافًا لمن ذكر في ذلك عن أبي أيوب وزيد بن خالد وتميم الداري فصحيح لكن تنزيل عبارته عليه بعيد.
وأما الرواية عن عائشة عن أم سلمة فروينا من طريق الطبراني نا علي بن عبد العزيز نا حجاج بن المنهال نا حمَّاد عن الأزرق بن قيس عن ذكوان عن عائشة أن أم سلمة قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر فصلى ركعتين فقلت: يا رسول الله ما هاتان الركعتان؛ قال: "كنت أصليهما بعد الظهر فجاءني مال فشغلني عنهما حتى صليت العصر فصليتهما الآن".
وهذه غير ما ذكر عنها في النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر ولا مانع من أن تكون عائشة روت عن أم سلمة الخبرين معًا ولكنه لم يذكر رواية أم سلمة في
الباب [السابق] في النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر وقد ذكر فيه عن جماعة كبيرة من الصحابة يبعد أن يكون عنده [فيه] شيء عن غيرهم ولا يذكره غير أنه ذكر هناك بصيغة الجزم فقال: وفي الباب عن فلان وفلان، وهاهنا لم يجزم حيث قال: ورُوي فقد يكون عنده في ذلك شيء لم يثبت عنده ثبوت ما سبق في الباب قبله. فيه مسائل:
الأولى: المشهور في (إنما) اقتضاؤها الحصر وينشدون عليه قول الشاعر (1):
أنا الفارس الحامي الذمار وإنما
…
يقاتل عن أحسابهم أنا أو مثلي
ولفظ حديث الباب هنا: إنما صلى الركعتين بعد العصر، لأنه أتاه مال فشغله، فيقتضي حصر السببية في ذلك.
وكذا جاء عند ابن ماجه (2) وعن غيره أنه بعث ساعيًا، وكان يهمه أمر المهاجرين إذ ضرب الباب فخرج فصلى الظهر، ثم جاء فقسم ما جاء به، فلم يزل كذلك حتى صلى العصر، ثم دخل منزله فصلى ركعتين، ثم قال:"شغلني أمر الساعي أن أصليهما بعد الظهر، فصليتهما بعد العصر"، لفظ الطبراني.
والذي ثبت في الصحيح أن أم سلمة أرسلت الجارية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصليهما بعد العصر، فقالت: قومي بجنبه فقولي له: تقول أم سلمة: يا رسول الله إني سمعتك تنهى عن هاتين الركعتين وأراك تصليهما فإن أشار بيده فاستأخري عنه قال: ففعلت الجارية فأشار بيده فاستأخرت عنه فلما انصرف قال: "يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر، إنه أتاني ناس من عبد القيس
(1) هو الفرزدق.
(2)
"السنن"(1159) واستنكره الشيخ، وخالف في ذلك البوصيري الذي حسنه في "المصباح"، وإنما استنكر زيادة ليس عند ابن ماجه، فتنبه، وقارن مع "الإرواء"(2/ 188). وانظر "المعجم الكبير"(23/ 929) للطبراني.
بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر وهما هاتان"، وهذا غير الأول وما ذكرناه من طريق الطبراني في اشتغاله ببني المصطلق حين اعتذروا إليه من قول الوليد بن عقبة سبب ثالث.
الثانية: قال بعض المتأخرين فيه قبول خبر الواحد وخبر المرأة وقد يمنع لأن صلاته عليه السلام كانت في بيت أم سلمة وهي تشاهده وإنما أرسلت الجارية تسأله لشغلها بمن كان عندها من نساء الأنصار. وأما جوابه عليه السلام فواصل إليها من غير واسطة الجارية وكذلك وقع وخاطبها عليه السلام بالجواب بقوله: "يا بنت أبي أمية" ولو كانت الجارية هي المخاطبة بالجواب لما كان ذلك مانعًا من سماع أم سلمة منه عليه السلام لاجتماعهم في مجلس واحد.
الثالثة: فيه قضاء النوافل الفائتة وقد تقدم في (باب الرجل ينسى الصلاة) ما في ذلك من الخلاف بين العلماء.
الرابعة: دل الحديث على جواز قضائها في وقت الكراهة وكذلك صلاة قيس بن قهد ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح وإقراره عليه السلام إياه على ذلك فإذا ثبت لها الجواز في وقت الكراهة فلأن يجوز في غيره من باب أولى، وقال المالكيون في النوافل: لا تقضى المرتبة معها ولا غيرها وقالوا: من ضاق عليه الوقت فصلى الصبح وترك ركعتي الفجر فإنه يصليهما بعد طلوع الشمس إن شاء وقيل لا يصليهما حينئذ ثم إذا قلنا يصليهما فهل ما يفعله قضاء أو ركعتان ينوب له ثوابهما عن ثواب ركعتي الفجر؟ قال الشيخ أبو بكر: وهذا الجاري على أصل المذهب، وذكر القضاء تَجوّز.
الخامسة: اختلفت الروايات في النافلة المقضية في بيت أم سلمة هل هي الركعتان بعد الظهر المتعلقة به أو هي سنة العصر الركعتان قبله، وينبني عليه:
السادسة: إن قلنا إنها سنة الظهر ففيه التنفل بعد الظهر راتبًا كما ذهب إليه
كثير من العلماء خلافًا لمالك وفي الكتاب: قلت: هل كان مالك يوقت قبل الظهر من النافلة ركعات معلومات، أو بعد الظهر أو قبل العصر، أو بعد المغرب فيما بين المغرب والعشاء، أو بعد العشاء؟ قال: لا وإنما يوقت في هذا أهل العراق.
السابعة: وعلى رواية من قال هما الركعتان قبل العصر فيه التنفل قبل العصر وقد اختلف الناس هل للعصر سنة راتبة قبلها أو لا؟ وعند الأكثر من أصحاب الشافعي أن رواتب الصلوات من النوافل عشر سوى الوتر وهي ركعتان قبل الصبح وركعتان قبل الظهر وركعتان بعده وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء.
ومنهم من زاد أربعًا قبل العصر ومنهم من زاد ركعتين قبل الظهر فجعلها أربعًا ولا خلاف في أصل الاستحباب عندنا في الكل وإنما الخلاف في أن المؤكد الراتب، ما هو وسيأتي تفصيل هذه المذاهب في صلاة التطوع إن شاء الله.
الثامنة: فإن قلنا إنها سنة العصر التي قبلها فهل يكون قضاء أو أداء؟ [اختلف الناس في ذلك] والمعروف من مذهب الشافعي أن الرواتب التي تسبق الفرائض يبقى وقت جوازها ما بقي وقت الفريضة ووقت اختيارها ما قبل الفريضة.
قال الغزالي: وركعتا الصبح بعد فرض الصبح أداء وليس بقضاء وقال غيره وتقديمهما يعني على الصبح مستحب لا مستحق.
التاسعة: وإن قلنا إنهما بعد الظهر اختلف أصحابنا القائلون بقضاء النوافل ونقلوا فيه قولين أصحهما -وهو اختيار المزني-: تقضى أبدًا، والثاني أنها لا تقضى أبدًا، وعلى هذا إلى متى تقضى؟ أما السق الرواتب ففيها قولان:
أنه لا يقضى الوتر بعد صلاة الصبح ولا ركعتا الفجر بعد صلاة الظهر.
قال إمام الحرمين: وعلى هذا النسق سائر التوابع لأنه إذا استفتح فريضة أخرى انقطع حكم التبعية عن الصلاة السابقة.
وحُكي على هذا القول وجه آخر أن الاعتبار بدخول وقت الصلاة المستقبلة لا بفعلها فعلى هذا تقضى ركعتا الفجر ما لم تزل الشمس فإذا زالت فلا، والقول الثاني نقله المسعودي عن القديم أن ما كان من صلاة النهار يقضى ما لم تغرب الشمس وما كان من صلاة الليل يقضى ما لم يطلع الفجر، وفي الحديث دليل لما اختاره المزني ولما حكاه المسعودي عن القديم من قولي الشافعي.
العاشرة: في جوابه عليه السلام وقد سئل عن هاتين الركعتين بأنهما الركعتان بعد الظهر أو قبل العصر ما يدل على أنَّه لا سنة بعد العصر كما ذهب إليه الجمهور، وقد كان قوم من الصحابة رضي الله عنهم يصلونها وممن بعدهم أيضًا وقد سأل طاوس ابن عباس عنهما فنهاه ابن عباس فقال طاوس: لا أدعهما، فقال ابن عباس:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ولم يأخذوا ذلك والله أعلم إلا من مواظبته عليه السلام عليهما، فالسنية لا تثبت بالمرة الواحدة.
الحادية عشرة: من فاتته سنة راتبة فقضاها في وقت النهي فهل له أن يدوم على صلاة مثلها في ذلك الوقت أولًا؟ فيه وجهان حكاهما المتولي وغيره:
أحدهما: القول به كما فعل عليه السلام.
والثاني: وهو الأصح الأشهر ليس له ذلك وأن ذلك من خصائصه عليه السلام، وقد تقدم ما يدل على ذلك قول عائشة: وكان إذا صلى صلاة أثبتها، وقولها أيضًا: إنه عليه السلام كان يصليهما وينهى عنهما.
وللأول منع اختصاصه عليه السلام بهما لأن الأصل عدم الخصوصية وسيأتي لهذا مزيد بيان.
الثانية عشرة: قال جماعة من السلف إن النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد
العصر إنما هو إعلام منه عليه السلام بأنهما لا يُتطوع بعدهما ولم يُقصد الوقت بالنهي كما قُصِدَ وقت الطلوع ووقت الغروب وذكروا ما روى عاصم بن ضمرة عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلي في إثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلا الفجر والعصر. وقد تقدم.
الثالثة عشرة: وحمل آخرون النهي عن الصلاة في هذين الوقتين على إنه إنما أريد به النهي عن تأخير الفرائض لغير عذر حتَّى تقع مقارنة الطلوع والغروب، روى وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن عائشة أنها قالت: أوهم عمر إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة أن يتحرى بها طلوع الشمس وغروبها.
وممن قال لا بأس بالتطوع بعد الصبح وبعد العصر ما لم تقارن حالة طلوع الشمس وغروبها عائشة وابن عمر وابن مسعود وزيد بن خالد وتميم الداري وعطاء وطاوس وعمرو بن دينار وابن جريج. ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع أنَّه سمع ابن عمر يقول: أما أنا فلا أنهى أحدًا يصلي من ليل أو نهار أي ساعة شاء غير أن لا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها. ومن حجة هؤلاء حديث علي عن النبي عليه السلام أنَّه قال: "لا تصلوا بعد الصبح ولا بعد العصر إلا تكون الشمس بيضاء نقية" رواه النسائي وأبو داود ولفظه: نهى عن الصلاة بعد العصر إلا والشمس مرتفعة.
الرابعة عشرة (1):
الخامسة عشرة: وفرق قوم بين الصبح والعصر فجوزوا صلاة التطوع بعد العصر ومنعوا من ذلك بعد الصبح، قالوا قد صح حديث عائشة: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ركعتين بعد العصر في بيتي قط. وأما التطوع بعد الصبح فلا لأن الآثار غير ثابتة في
(1) الرابعة عشرة، لا وجود لمسألة تحتها، في نسخة السندي، وترك بياض، أما في النسخة الأخرى فجعلت: الخامسة عشرة، ولم تذكر الرابعة عشرة.
ذلك والصلاة بر والأصل أن لا يمنع من عمل البر إلا بدليل لا معارض له وهو قول داود بن علي.
السادسة عشرة: عند مسلم قال ابن عباس: وكنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عليهما، وفي بعض ألفاظه: أصرف الناس عنهما وقد يكون ذلك كله واقعًا وليس تغييرًا (1) من الرواة إذ من الجائز أن يضرب عليهما في وقت ويصرف في وقت بحسب اختلاف الأوقات في تفاوت الكراهة كما سبق فليست الكراهة حالة مقارنة الطلوع والغروب كالكراهة فيما قبل ذينك الوقتين من بعد الصبح وبعد العصر عند من يفرق بينهما أو لعله يضرب من بلغه النهي ويصرف من لم يبلغه وفي ضرب عمر على هاتين الركعتين فوائد أولاها وهي:
السابعة عشرة: ما يجب على الإمام من الاحتياط لرعيته ومنعهم من المحدثات والبدع وارتكاب ما نهى الشارع عنه.
الثامنة عشرة: جواز التعزير في ارتكاب البدع، والبدعة عندهم ما أحدث شعارًا في الدين، وعمر رضي الله عنه يعلم أنَّه ليس للعصر سنة بعدها، فكان يخشى أن يستمر الناس على هاتين الركعتين فتستقر سنة ولا أصل لها.
التاسعة عشرة: سد الذرائع وهي قاعدة أكثر الفقهاء من استعمالها واشتهر بها أصحاب مالك رحمهم الله وقد روى يحيى بن بكير قال حدثني الليث بن سعد عن أبي الأسود عن عروة أخبرني تميم الداري أو أخبرت أن تميمًا الداري ركع ركعتين بعد العصر من بعد نهي عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فأتاه فضربه بالدرة فأشار إليه تميم أن اجلس وهو في صلاته فجلس عمر حتَّى فرغ تميم، فقال: يا عمر لم ضربتني؟ قال: لأنك ركعت هاتين الركعتين وقد نهيت عنهما، قال: فإني صليتهما
(1) ولعلها تقرأ: تعبيرًا، والمثبت أقوى.
مع من هو خير منك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: إنه ليس بي إياكم هذا الرهط ولكني أخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلون ما بين العصر إلى الغروب حتَّى يمروا بالساعة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيها كما تصلون بين الظهر والعصر ثم يقولون قد رأينا فلانًا يصلون بعد العصر، وكذلك أنكر عمر على زيد بن خالد هذه الصلاة وضربه عليه بالدرة فقال زيد: يا أمير المؤمنين اضرب أو لا تضرب فوالله لا أدعهما بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما. فقال له عمر: يا زيد لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سلمًا إلى الصلاة حتَّى الليل لم أضرب فيهما. فقال المعتذرون عن هذا النهي: إنما خرج هذا النهي على سبيل قطع الذريعة لأنه لو أبيحت النافلة بعد الصبح وبعد العصر لم يؤمن التمادي فيها إلى طلوع الشمس وغروبها.
الموفية عشرين: فيما تقدمت حكايته عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: إن رواتب الفرائض من النوافل إن كانت وحدها لم تقض وإن كانت مع الصلاة التي هي راتبة لها قضيت وفي الحديث رد على هذا لأن فريضة الظهر قد كان النبي صلى الله عليه وسلم: صلاها وإنما قضى النافلة بعد العصر مجردة عن الفريضة التي هي من رواتبها.
الحادية والعشرون: قول ابن عباس: أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر، يريد فشغله قسمته وتفرقته على مستحقيه وذوي الحاجة إليه وإلا لم يكن المال ليشغله صلى الله عليه وسلم على غير هذا الوجه وقد رويناه مبينًا من طريق ابن ماجة أنَّه بعث ساعيًا وكان يهمه أمر المهاجرين إذ ضرب الباب فخرج فصلى الظهر ثم جاء فقسم ما جاء به فلم يزل كذلك حتَّى صلى العصر
…
الحديث.
الثانية والعشرون: فيه تقديم أرجح المصلحتين على أخفهما ولما كانت صلاة النافلة من المصالح الدينية والاشتغال بتعليم النفر من عبد القيس شرائع الإسلام أو قسمة المال في فقراء المهاجرين ليسدّ خلتهم، أو جلوسه عليه السلام مع بني
المصطلق ليستبين عذرهم؛ مصلحة أهم من الأول لتعدي منفعتها واختصاصه عليه السلام بما فيها من التبيلغ والمصالح المنوطة به قدم النبي صلى الله عليه وسلم هذه مبادرة إلى تحصيل أعظم المصلحتين وإن أدى تأخير الصلاة التي كانت قرة عينه فيها وكان بالمؤمنين رحيمًا.
الثالثة والعشرون: قول عائشة رضي الله عنها عن هاتين الركعتين: ما تركهما في بيتها قط تعني من الوقت الَّذي شغل عنهما فيه عند الظهر فقضاهما بعد العصر لا أنَّه لم يزل يصليهما قبل ذلك.
الرابعة والعشرون: في صلاته عليه السلام إياهما في بيته عند عائشة أو أم سلمة ما كان عليه السلام من الرأفة بأمته فإنه إنما فعل ذلك خشية أن يتكرر منه فعلها في المسجد فيفعلها الناس فيشق عليهم، كما فعل في قيام رمضان، وفي هذا ما يشعر بعدم الخصوصية فإنها لو كانت من خصائصه لأداها في المسجد وغيره وكان يعلم خصائصه فلا يلزم ....... (1) غيره منها ما يلزمه.
الخامسة والعشرون: في حديث أم سلمة أنها أرسلت الجارية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقالت: قومي بجنبه فقولي له: تقول أم سلمة: يا رسول الله إني أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين وأراك تصليهما فإن أشار بيده فاستأخري، قالت: ففعلت الجارية فأشار بيده فاستأخرت
…
الحديث، فيه أن العمل اليسير في الصلاة كهذه الإشارة لا يبطلها.
السادسة والعشرون: في قولها عن نفسها: (تقول أم سلمة)، ولم تقل: تقول هند، وعدلت عن اسمها إلى كنيتها في مخاطبة من هو أكبر منها دليل على أنَّه لا ينكر مثله لا سيما في حق من لا يعرف إلا بالكنية أو من اشتهر بها وهي هند بنت
(1) كلمة أو كلمتين غير واضحتين.
أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أم سلمة وهو ابن أبي سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عمر بن مخزوم.
ومعنى قولها أسمعك [.... قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} أي قد رأينا.
والذي حسن هذا هنا تساوي الجملتين في المضارع: (أسمعك، أراك)؛ فإن الرؤية فيه من أسماء المضارع فلو كانت سمعتك وأراك لا ..... اختلاف الحكم ..... لاختلاف الرؤية] (1).
السابعة والعشرون: قال: [بعض العلماء](2) إلا ما استثني من ذلك مثل الصلاة بمكة وذكر ركعتي الطواف وقد اختلف الناس فيهما في وقت الكراهة، فالمروي عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير والحسن والحسين وعطاء وطاوس ومجاهد والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير أنهم كانوا يطوفون بعد العصر وبعضهم بعد الصبح أيضًا ويصلون بإثر فراغهم من طوافهم ركعتين في ذلك الوقت وبه قال الشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور وداود. وقال مالك: من طاف بالبيت بعد العصر أخّر ركعتي الطواف حتَّى تغرب الشمس وكذلك من طاف بعد الصبح لم يركعهما حتَّى تطلع الشمس، وقال أبو حنيفة: يركعهما إلا عند طلوع الشمس وغروبها واستوائها، وقال بعض أصحاب مالك: يركعهما بعد الصبح ولا يركعهما بعد العصر.
قال أبو عمر: وهذا لا وجه له في النظر ولا يصح به أثر.
الثامنة والعشرون: من أصحاب الشافعي من قال مكة كسائر البلاد في أوقات الكراهة والاستثناء لركعتي الطواف فإن للطائف أن يطوف متى شاء ومتى
(1) من نسخة السندي فقط، ومكان النقط بياض في المخطوط.
(2)
ما بين معقوفتين استدركته من الحاشية.
طاف صلى ركعتي الطواف لأنها صلاة لها سبب ومنهم من قال وهو الأصح عندهم أن مكة تخالف سائر البلاد لشرف البقعة وزيادة فضيلة الصلاة فلا تمنع فيها الصلاة بحال ثم ليس المراد من مكة نفس البلد بل جميع الحرم للاستواء في الفضيلة، وفي وجه: يختص بالاستثناء المسجد الحرام وما عداه كسائر البلاد والمشهور الصحيح الأول، ولهم في ذلك حديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت فصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار"، وصححه الترمذي وسيأتي، وأخرجه الحاكم في "مستدركه".
وحديث مجاهد عن أبي ذر: أنَّه قام فأخذ بحلقة باب الكعبة ثم قال: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بعد العصر حتَّى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتَّى تطلع الشمس إلا بمكة إلا بمكة إلا بمكة" رواه الشافعي عن عبد الله بن المؤمل عن حميد مولى عفراء عن قيس بن سعد عن مجاهد.
عبد الله بن المؤمل وحميد مولى عفراء ضعيفان ومجاهد لم يسمع من أبي ذر.
التاسعة والعشرون: في الجمع بين ما وقع الاختلاف فيه من ألفاظ هذا الحديث، وهو في موضعين:
الأول: السبب الَّذي حصل به الشغل عن الصلاة المقضية وهو ثلاثة، كما سبق، ليس في كل خبر إلا سبب منها.
الثاني: الصلاة المقضية؛ هل هي سنة الظهر بعدها أو سنة الظهر قبلها.
فأما الأول فلا مانع من اجتماع الأسباب الثلاثة، وأن يكون عليه السلام أخبر كل سائل عن سبب.
الثاني: قال القاضي عياض: ينبغي أن يحمل على سنة الظهر، وسنة العصر تسميتها إنها قبل العصر.
قال: وليس بشيء لأنه ينعكس ملخصه أن تقول: ينبغي أن يحمل على سنة العصر، فسنة العصر تصح تسميتها أنها بعد الظهر.
الموفية ثلاثين: يؤخذ من استحباب أداء النوافل الرواتب في المساجد، وهو مما اختلف الناس فيه، وسيأتي عدو له عليه السلام عن صلاة هاتين الركعتين في المسجد كان لعلة، وحيث تنتفي العلة ينتفي المعلول.
* * *