المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌93 - باب في المستحاضة - النفح الشذي شرح جامع الترمذي ط الصميعي - جـ ٣

[ابن سيد الناس]

فهرس الكتاب

- ‌84 - باب ما جاء في المذي يصيب الثوب

- ‌85 - باب ما جاء في المني يصيب الثوب

- ‌86 - باب غسل المني من الثوب

- ‌87 - باب ما جاء في الجنب ينام قبل أن يغتسل

- ‌88 - باب ما جاء في الوضوء للجنب إذا أراد أن ينام

- ‌89 - باب ما جاء في مصافحة الجنب

- ‌90 - باب ما جاء في المرأة ترى مثل ما يرى الرجل في المنام

- ‌91 - باب ما جاء في الرجل يستدفئ بالمرأة بعد الغسل

- ‌92 - باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء

- ‌93 - باب في المستحاضة

- ‌94 - باب ما جاء أن المستحاضة تتوضأ لكلّ صلاة

- ‌95 - باب ما جاء في المستحاضة أنّها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد

- ‌96 - باب ما جاء في المستحاضة أنها تغتسل عند كل صلاة

- ‌97 - باب ما جاء في الحائض أنها لا تقضي الصَّلاة

- ‌98 - باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن

- ‌99 - باب ما جاء في مباشرة الحائض

- ‌100 - باب ما جاء في مؤاكلة الحائض وسؤرها

- ‌101 - باب ما جاء في الحائض تناول الشيء من المسجد

- ‌102 - باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض

- ‌103 - باب ما جاء في الكفارة في ذلك

- ‌104 - باب ما جاء في غسل دم الحيض من الثوب

- ‌105 - باب ما جاء في كم تمكث النفساء

- ‌106 - باب ما جاء في الرجل يطوف على نسائه بغسل واحد

- ‌107 - باب ما جاء في الجنب إذا أراد أن يعود توضأ

- ‌108 - باب ما جاء إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء

- ‌109 - باب ما جاء في الوضوء من الموطئ

- ‌110 - باب ما جاء في التيمم

- ‌111 - باب ما جاء في الرجل يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنبًا

- ‌112 - باب ما جاء في البول يصيب الأرض

- ‌2 - كتاب الصلاة

- ‌1 - باب ما جاء في مواقيت الصلاة

- ‌4 - باب ما جاء في التعجيل بالظهر

- ‌5 - باب ما جاء في تأخير الظهر في شدة الحر

- ‌6 - باب ما جاء في تعجيل العصر

- ‌7 - باب ما جاء في تأخير صلاة العصر

- ‌8 - باب ما جاء في وقت المغرب

- ‌9 - باب ما جاء في وقت صلاة العشاء الآخرة

- ‌10 - باب ما جاء في تأخير صلاة العشاء الآخرة

- ‌11 - باب ما جاء في كراهية النوم قبل العشاء والسمر بعدها

- ‌12 - باب ما جاء في الرخصة في السمر بعد العشاء

- ‌13 - باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل

- ‌17 - باب ما جاء في الرجل ينسى الصلاة

- ‌18 - باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ

- ‌19 - باب ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر وقد قيل إنها الظهر

- ‌20 - باب ما جاء في كراهية الصلاة بعد العصر وبعد الفجر

- ‌21 - باب ما جاء في الصلاة بعد العصر

- ‌22 - باب ما جاء في الصلاة قبل الغرب

- ‌23 - باب ما جاء فيمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس

الفصل: ‌93 - باب في المستحاضة

‌93 - باب في المستحاضة

ثنا هناد، نا وكيع وعبدة وأبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي جبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال:"لا إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي".

قال أبو معاوية في حديثه: "وتوضئي لكل صلاة حشى يجيء ذلك الوقت".

قال: وفي الباب عن أم سلمة.

قال أبو عيسى: حديث عائشة حديث حسن صحيح، وهو قول غير واحد من أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، وبه يقول سفيان الثوري ومالك وابن المبارك والشافعي: إنّ المستحاضة إذا جاوزت أيام أقرائها اغتسلت وتوضأت لكل صلاة (1).

* الكلام عليه:

أخرجوه أجمعون (2).

(1) الجامع (1/ 217 - 220).

(2)

رواه البخاري في صحيحه كتاب الحيض (1/ 116) برقم 306 باب الاستحاضة ومسلم في صحيحه كتاب الحيض (1/ 262) برقم 333 باب المستحاضة وغسلها وصلاتها وأبو داود في سننه كتاب الطهارة (1/ 191) برقم 280 باب في المرأة تستحاض ومن قال تدع الصلاة في عدة الأيام التي كانت تحيض والنسائي في سننه كتاب الطهارة (1/ 134) برقم 217 باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة وابن ماجه في سننه كتاب الطهارة (1/ 203) برقم 621 باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها قبل أن يستمر بها الدم.

ص: 87

وقد روي من حديث عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش (1)، ومن حديثه عن عائشة عن فاطمة (2).

رواه كذلك ابن أبي عدي، عن محمد بن عمرو، عن الزهري، عن عروة (3)، قال أبو (4) عمر: وهو الصواب يعني: حديث عائشة، وقال أبو (5) محمد: رواه عروة عنهما، وقد أدركهما معًا فعائشة خالته، وفاطمة ابنة عمه، ووقع في صحيح مسلم (6): بنت أبي حبيش بن عبد المطلب وليس بشيء، من روايته عن قتيبة، عن جرير.

قال: وفي الباب عن أم سلمة.

أما حديث أم سلمة فروينا من طريق أبي العباس الثقفي السراج (7) قال: نا إسحاق بن إبراهيم: أنا روح: نا مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة: أنّ امرأة استحيضت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة رسول

(1) رواه أبو داود في سننه كتاب الطهارة (1/ 191 - 192) برقم 280 باب في المرأة تستحاض ومن قال تدع الصلاة في عدة الأيام التي كانت تحيض والنسائي في سننه كتاب الطهارة (1/ 125 - 126) برقم 201 باب ذكر الاغتسال من الحيض.

(2)

رواه أبو داود في سننه كتاب الطهارة (1/ 194 - 195) برقم 282 باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة.

(3)

رواه الدارقطني في سننه (1/ 206 - 207) برقم 3 وأبو داود في سننه كتاب الطهارة (1/ 197) برقم 286 باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة.

(4)

انظر التمهيد (16/ 62) و (16/ 65) و (16/ 67) و (22/ 103) و (22/ 105) والاستذكار (3/ 217).

(5)

المحلى (2/ 168).

(6)

صحيح مسلم كتاب الحيض (1/ 262 - 263) برقم 333 عبد المطلب كذا وقع في أصول صحيح مسلم واتفق العلماء على أنه وهم والصواب فاطمة بنت أبي حبش بن المطلب بحذف لفظة عبد.

انظر: إكمال المعلم (2/ 178) وأصله المعلم (1/ 252) وشرح صحيح مسلم للنووي (4/ 21).

(7)

ذكره ابن دقيق العيد في الإمام (3/ 299).

ص: 88

الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لتنظر قدر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيض قدرها من الشهر، فإذا خلّفت ذلك فلتغتسل وتصلي".

اختلف فيه أصحاب نافع؛ فمنهم من يرويه عنه عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة كما ذكرنا (1).

وروينا من طريق السراج (2) أيضًا: أنا إسحاق بن إبراهيم قال: قلت لأبي قرة موسى بن طارق: أَذكَر موسى بن عقبة عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة: أن امرأة استحيضت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقرأت عليه الحديث، وذكر فيه:"فإذا خلّفت ذلك وحضرت الصلاة فلتغتسل وتصلي"؟

فأقرّ به وقال: نعم.

ومنهم من يرويه عن نافع، عن سليمان بن يسار: أن رجلًا أخبره عن أم سلمة (3).

روينا من طريق الدارمي (4): أنا أحمد بن عبد الله بن يونس: نا الليث عن نافع، عن سليمان بن يسار: أن رجلًا أخبره عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعناه.

قال أبو (5) عمر: ذكر حماد بن زيد، عن أيوب في هذا الحديث أن المرأة التي

(1) أي ليس بين سليمان بن يسار وأم سلمة أحد.

(2)

انظر الإمام (3/ 299).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه كتاب الطهارة (1/ 189 - 190) برقم 275 باب في المرأة تستحاض.

(4)

السنن (1/ 221) برقم 780.

(5)

التمهيد (16/ 56) وانظر سنن أبي داود (1/ 190) برقم 278.

ص: 89

استفتت لها أم سلمة فاطمة بنت أبي حبيش، وذكره سفيان بن عيينة، عن أيوب.

وذكر أبو داود (1): عن الإمام أحمد أنه سمعه يقول في الحيض حديثان.

والآخر في النفس منه شيء.

قال أبو داود (2): يعني أن في الحيض ثلاثة أحاديث هي أصول هذا الباب، أحدها: حديث مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار. والآخر: حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، والثالث: الذي في النفس منه شيء: حديث حمنة بنت جحش الذي يرويه ابن عقيل، وهو عند الترمذي (3)[وسنذكره] في بابه بعد هذا إن شاء الله تعالى.

ولهذه الأحاديت طرق تختلف ألفاظها اختلافًا ينبني عليه من اختلاف

(1) السنن (1/ 202) وانظر الاستذكار (3/ 236).

وكذا مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود (35) برقم 160 وكذا التمهيد (16/ 61).

قلت: لكن نقل الترمذي في سننه (1/ 226) أنه قال هو حديث حسن صحيح. وهذا يخالف ما نقله عنه أبو داود.

قال العلامة أحمد شاكر: "ولعله يريد إلى أن في نفسه شيئًا من جهة الفقه والاستنباط والجمع بينه وبين الأحاديث الأخرى لهان كان صحيحًا ثابتًا عنده من جهة الإسناد"(1/ 226).

وقال ابن رجب الحنبلي في فتح الباري (2/ 161 - 162): "المعروف عن الإمام أحمد أنه ضعفه ولم يأخذ به وقال ليس بشيء.

وقال مرة: ليس عندي بذلك وحديث فاطمة أصح منه وأقوى إسنادًا.

وقال مرة: في نفسه منه شيء، ولكن ذكر أبو بكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بحديث حمنة والأخذ به والله أعلم".

قال: "ونقل حرب عن أحمد أنه قال: نذهب إليه ما أحسنه من حديث".

ثم نقل اختلاف أهل العلم في تصحيح هذا الحديث وتضعيفه.

(2)

ولا وجود لهذا الكلام في نسخة أبي داود التي بين أيدينا ونقله عنه ابن عبد البر في التمهيد (16/ 61).

(3)

الجامع (1/ 221 - 225) برقم 128.

ص: 90

العلماء في مسائل هذا الباب ما نحن ذاكروه بعون الله ومشيئته:

فمن ذلك ما روينا من طريق البخاري (1): ثنا أحمد بن أبي رجاء: ثنا أبو أسامة: سمعت هشام بن عروة قال: أخبرني أبي، عن عائشة: أنّ فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: "لا، إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي.

وروينا من طريق السراج (2): نا محمد بن الصباح: نا سفيان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: استحيضت فاطمة بنت أبي حبيش فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا أقبلت الحيضة فلتدع الصلاة وإذا أدبرت فلتغتسل ولتصلي".

ورويناه من طريق سفيان وعبدة ووكيع وأبي معاوية ويحيى بن سليم الطائفي وأبي أسامة وزهير ومعمر وجعفر بن عون ومحمد بن إسحاق وحماد بن سلمة وغيرهم عن هشام بن عروة.

وروينا من طريق أبي داود (3): نا يوسف بن موسى نا جرير عن سهيل ابن أبي صالح عن الزهري عن عروة بن الزبير: حدثتني بنت أبي حبيش: أنها أمرت أسماء، أو أسماء فحدثتني أنها أمرتها فاطمة بنت أبي حبيش أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد ثم تغتسل.

في هذا الخبر شيئان:

الأول: أنه من رواية عروة عن فاطمة، وهو مشهور من رواية عروة عن عائشة

(1) في صحيحه كتاب الحيض (1/ 122) برقم 325 باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض وما يصدق النساء في الحيض والحمل فيما يمكن من الحيض.

(2)

انظر الإمام لابن دقيق العيد (3/ 285).

(3)

في "السنن"(281) كتاب الطهارة باب 108 في المرأة تستحاض.

ص: 91

عن فاطمة، كذلك رويناه من طريق هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة، من رواية ابن جريج وأبي أسامة وسفيان بن عيينة، ومالك وشعبة وحماد بن زيد، وزائدة بن قدامة، وزهير وأبي حنيفة والحجاج بن أرطاة ومسلمة بن قعنب، وعبد العزيز بن أبي حازم، وأيوب السختياني ويحيى بن سعيد، كلهم عن هشام.

وزعم أبو عمر أن الصواب فيه: عروة عن عائشة عن فاطمة، وأن رواية من أثبت عائشة فيه راجحة على رواية من أسقطها، وهو الذي رجحه أبو الحسن القطان.

وقال أبو محمد بن حزم: إن عروة أدرك فاطمة بنت أبي حبيش، ولم يستبعد أن يسمعه من خالته عائشة ومن ابنة عمه فاطمة.

كذا قال: (ابنة عمه) وإنما هي ابنة عم أبيه.

هي فاطمة بنت أبي حبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العزى.

وهو عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى. فهي في (قُعْدُد) أبيه.

ويشهد لما قاله أبو محمد قول عروة في هذا الخبر: حدثتني فاطمة.

الثاني: قال ابن القطان: قيل: إن هذا الحديث مما أنكر على سهيل، وعد مما ساء حفظه فيه، وظهر أنه تغير عليه، وكان قد تغير، وذلك أنه أحال فيه على الأيام، وأنه قال: أمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد.

والمعروف في قصة فاطمة الإحالة على الدم والقَرء لا على الأيام، انتهى.

والاعتراض عليه من وجهين:

الأول: أن الإحالة على الأيام في حديث فاطمة ليس مما تفرد به سهيل، فقد رويناه من طريق البخاري من حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن

ص: 92

عائشة: أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، فذكره وفيه:"ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها".

فهذه إحالة على الأيام، وكذلك هو عند شعبة عن هشام؛ "فإذا أقبلت الحيضة فدعيها قدرها".

وعند أبي حنيفة: "فدعي الصلاة أيام حيضك".

الثاني: أنه لو لم يأت كذلك إلا عن سهيل وحده لما كانت العهدة فيه على سهيل، حتى يتفق أصحابه على روايته عنه كذلك، وإن اختلفوا عليه فسهيل حينئذ بريء من عهدته، والحمل فيه على من جاء به عن سهيل من بين أصحابه كذلك، لا على سهيل.

وقد قرأت على محمَّد بن ساعد: أخبركم يوسف بن خليل ثنا محمَّد بن أبي زيد أنا محمود بن إسماعيل أنا أحمد بن محمَّد بن فاذشاه أنا سليمان بن أحمد نا محمود بن أحمد الواسطي نا وهب بن بقية نا خالد عن سهيل بن أبي صالح عن الزهريّ عن عروة عن الزبير عن أسماء بنت عميس؛ أنها قالت: قلت: يا رسول الله! إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! هذا من الشيطان، لتجلس في مركن فإذا رأت صفارة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدًا، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدًا، ثم توضأ فيما بين ذلك".

فهذه إحالة على الدم في حديث سهيل من رواية خالد الطحان وهو ثقة حافظ، فلو كان كما حكى أبو الحسن لكان العمل فيه على جرير لا على سهيل؛ لأن من روى عن سهيل ما وافق فيه سهيل الجماعة أولى بالقبول ممن روى عنه ما لم يوافق عليه.

ص: 93

والاستحاضة: جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه من عرق يقال له: العاذل، بفتح العين المهملة، وكسر الذال المعجمة.

والحيض هو خروج الدم من قعر الرحم، واختار بعضهم في قوله:(وليست الحيضة) كسر الحاء من الحيضة؛ أي: الحالة المألوفة المعتادة.

والحيضة، بفتح الحاء: المسندة من الحيض، يقال: حاضت وتحيضت تحيض حيضًا ومحاضًا ومحيضًا، إذا سأل الدم منها في نوبة معلومة، فإذا استمر قيل: استحيضت، فهي مستحاضة، وكأن هذه الزيادة في البنية، للزيادة في الفعل من باب مَرّ واستقرّ وأعشب الوادي، واعشوشب، إذا أكثر ذلك.

وروينا من طريق مسلم (1): ثنا محمَّد بن رمح وقتيبة كلاهما عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عروة، عن عائشة قالت: إن أم حبيبة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدم، قالت عائشة: رأيت مركنها ملآن دمًا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي وصلي".

ورويناه من طريق السراج (2): ثنا قتيبة، عن الليث. به.

وروينا عنه أيضًا قال: نا الحسن بن عبد العزيز الجروي: ثنا عبد الله بن يوسف: نا بكر بن مضر: نا جعفر بن ربيعة، عن عراك، عن عروة، عن عائشة قالت: إن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم الدم، فقال لها:"امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي"، قالت: فكانت تغتسل لكل صلاة (3).

(1) في صحيحه كتاب الحيض (1/ 264) باب المستحاضة وغسلها وصلاتها.

(2)

انظر الإِمام لابن دقيق العيد (3/ 302).

(3)

وهو في صحيح مسلم كتاب الحيض (1/ 264) برقم (334/ 66).

ص: 94

وروينا من طريق مسلم (1): نا قتيبة ومحمد بن رمح.

ومن طريق السراج (2): نا قتيبة: نا الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة قالت: استفتت أم حبيبة بنت جحش رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إنّي استحاض فقال: "إنما ذلك عرق فاغتسلي وصلي"، فكانت تغتسل عن كل صلاة.

زاد مسلم (3): قال الليث: لم يذكر ابن شهاب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل عند كل صلاة، ولكنه شيء فعلته هي.

ورويناه من طريق الأوزاعي وابن أبي كثير المهري، عن عروة وعمرة وعائشة، وفيه أنها مكثت كذلك سبع سنين.

ورويناه أيضًا من حديث سفيان وإبراهيم بن سعد وعمرو بن الحارث كلهم عن الزهريّ. ومن أصحاب الزهريّ من يقول: عنه، عن عروة، ومنهم من يجمع بينهما (4).

قال الدارقطني: وهو صحيح من رواية الزهريّ، عن عروة، وعمرة جميعًا عن عائشة.

ورويناه من طريق الدارمي (5): نا يزيد بن هارون: أنا محمَّد بن إسحاق، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة:"أنَّ ابنة جحش استحيضت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغسل لكل صلاة".

(1) في صحيحه كتاب الحيض (1/ 263) برقم 334.

(2)

انظر الإِمام (3/ 302).

(3)

في صحيحه كتاب الحيض (1/ 263) برقم 334.

(4)

انظر الإِمام (3/ 302 - 304).

(5)

السنن (1/ 219) برقم 775.

ص: 95

رواه أيضًا عن أحمد بن خالد، عن ابن إسحاق (1).

وروينا من طريق الدارمي (2): أنا يزيد بن هارون، ووهب بن جرير، عن هشام صاحب الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة:"أنَّ أم حبيب بنت جحش كانت تهراق الدم، وأنَها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، وتصلي". كذا وقع في هذه الرواية، عن وهب:(أم حبيب)(3)، وكذلك كان شيخنا الإِمام الحافظ أبو محمَّد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي رحمه الله يقول: وهي أخت زينب وحمنة وعبد الله وعبيد الله (4).

وعند أبي (5) أحمد الأعمى: بني جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة.

ثم رأيت الدراقطني (6) حكى عن إبراهيم الحربي أن الصحيح قول من قال: أم حبيب -بغير هاء-، وأن اسمها حبيبة، وأن من قال: أم حبيبة بنت جحش، أو زينت بنت جحش، فقد وهم، وقد وقع زينب في "الموطأ"(7)، عن مالك. قال الدارقطني (8): وقول إبراهيم الحربي صحيح، وكان من أعلم الناس بهذا الشأن.

وذكر أبو عمر (9): أن بنات جحش الثلاث استحضن زينب وأم حبيبة وحمنة.

(1) السنن (1/ 222) برقم 783.

(2)

السنن (1/ 240) برقم 901.

(3)

قلت: الذي عند الدارمي أم حبيبة فليراجع.

(4)

انظر تهذيب الكمال (35/ 157) برقم 7821 وتهذيب التهذيب (4/ 670).

(5)

وانظر الثقات لابن حبان (3/ 237).

(6)

ونقله القرطبي في المفهم (1/ 592).

(7)

الموطأ (1/ 62) برقم 106.

(8)

نقله القرطبي في الفهم (1/ 592).

(9)

انظر الاستيعاب (4/ 482 - 483) و (4/ 374 - 375).

ص: 96

وذكر القاضي (1) يونس بن مغيث في كتابه: "الموعب شرح الموطأ" مثل هذا وزاد: وإن اسم كل واحدة منهن زينب ولقبت إحداهن بحمنة، وكنيت الأخرى بأم حبيبة.

وكان شيخنا الدمياطي رحمه الله يقول: هن زينب وحمنة وأم حبيب حبيبة، وينكر ما عدا ذلك، والذي رأيته بعد ذلك عند ابن عساكر، وقبله عند الحافظ أبي محمَّد بن حزم في كتاب "الجمهرة" له: زينب وأم حبيبة حمنة ثنتان، وأم حبيبة كنية حمنة، وكذلك ألفيته في كتاب "الجمهرة" لابن الكلبي بغير زيادة.

ومما يحتاج إليه في هذا الباب معرفة مدة الحيض أقلها وأكثرها، وأقل طهر يفصل بين الحيضتين كم مدته، لما ينبني على ذلك من الانتقال من الحيض إلى الاستحاضة، وهو مما اختلف العلماء فيه اختلافًا كثيرًا، فمنهم من لم يوقت لقليل مدة الحيض ولا لكثيرها توقيتًا.

حكى أبو عمر (2) عن مالك أنه قال: لا وقت لقليل الحيض، ولا لكثيره والدفعة عندي من الدم وإن قلت تمنع من الصلاة، وأكثر الحيض عند مالك خمسة عشر يومًا، قال: إلا أن توجد (3) في النساء أكثر من ذلك.

قال أبو عمر (4): فكأنه ترك قوله خمسة عشر يومًا ورده إلى غرف النساء في الأكثر.

(1) وذكره أيضًا القرطبي في المفهم (1/ 592).

(2)

انظر التمهيد (16/ 71 - 72).

(3)

في التمهيد يوجد.

(4)

المصدر السابق.

ص: 97

وذكر ابن شاش عن مذهب مالك: أن أقل مدّته فيما يرجع إلى العبادات غير محدود فتعتبر الدفعة الواحدة وتكون حيضًا وإن لم تكن حيضة معدودة في العدد والاستبراء، وأكثر مدته محدودة بخمسة عشر يومًا على المنصوص، وأكثر الطهر لا حدّ له. وأقله محدود.

لكن اختلف هل يعتبر في تحديث عدد الأيام أو استقراء العادة، تم إذا اعتبرنا الأيام ففي العدد المعتبر أربعة أقوال:

فعن محمَّد بن مسلمة خمسة عشر يومًا وهو المشهور.

وقال ابن حبيب: عشرة.

وقال سحنون: ثمانية.

وقال ابن الماجشون: خمسة.

وقال أبو (1) عمر: قال ابن الماجشون، عن مالك: أقل الطهر خمسة أيام، وأقل الحيض خمسة أيام.

وقال الأوزاعي (2): أقل الحيض يوم.

قال (3): وعندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية.

وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابهما: أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة، فما نقص عند هؤلاء عن الثلاثة أيام فهو استحاضة، وما زاد على عشرة أيام فهو استحاضة (4).

(1) التمهيد (16/ 663).

(2)

المصدر السابق.

(3)

أي الأوزاعي.

(4)

المصدر السابق.

ص: 98

وقال أبو (1) يوسف: تأخذ في الصلاة بالثلاثة أقل الحيض، وفي الأزواج بالعشرة (2)، ولا تقضي صومًا عليها إلا بعد العشرة، وتصوم العشر (3) من رمضان، وتقضي سبعًا (4)، وهذا احتياط للعبادة؛ لأن أقل الحيض عنده ثلاثة، وللعدد لأن أكثرها عشرة.

قال ابن (5) عبد البر: وقد احتج الطحاوي لمذهب الكوفيين بحديث أم سلمة إذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي كانت تهراق الدم (6)، فقال:"لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهنّ من الشهر"، قال: فأجابها بذكر عدد الأيام والليالي من غير مسألة لها عن مقدار حيضها قبل ذلك.

قال: وأكثر ما يتناوله أيام عشرة، وأقله ثلاثة.

وقال أحمد (7) بن المعذِّل: الذي كان عليه الجملة (8) من العلماء في القديم أنّ الحيض يكون خمس عشرة ليلة لا يجاوز ذلك وما جاوزه فهو استحاضة، على هذا كان قول أهل المدينة القديم وأهل الكوفة حتى رجع عنه أبو حنيفة لحديث بلغه عن الجلد بن أيوب، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك: أنه قال في المستحاضة تنتظر عشرًا لا تجاوزها؛ فقال أبو حنيفة: لم أزل أرى أن يكون أقل الطهر أكثر من أكثر الحيض، وكنت أكره خلافهم -يعني فقهاء الكوفة-، حتى سمعت هذا الحديث

(1) انظر التمهيد (16/ 85).

(2)

في التمهيد العشر.

(3)

في التمهيد العشرين بدل العشر.

(4)

عند هذا ينتهي كلام أبي يوسف رحمه الله.

(5)

التمهيد (16/ 81).

(6)

في التمهيد الدماء بدل الدم.

(7)

انظر التمهيد (16/ 80).

(8)

في التمهيد الجلة بدل الجملة.

ص: 99

عن أنس، فأنا آخذ به.

قلت: الجلد (1) بن أيوب ضعيف عندهم، ضعفه ابن عيينة وابن المبارك وغيرهما.

وذكر أبو عمر (2) عن يحيى بن أكثم: أن أقل الطهر تسعة عشر، واحتج بأن الله تعالى جعل عدل كل طهر وحيضة شهرًا، والحيض في العادة أقل من الطهر، فلم يجز أن يكون الحيض خمسة عشر يومًا، ووجب أن يكون عشرة حيضًا وباقي الشهر طهرًا وهو تسعة عشر؛ لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين.

وهذا الكلام وإن سلمت مقدماته من الاعتراض، فليس يقتضي تعيين العشرة للحيض ولا باقي الشهر للطهر؛ لأن الأقل قد يأتي أكثر من ذلك، والأكثر قد يأتي أقل من ذلك، وهو بتعليل ما ذكره أبو (3) محمَّد، عن سعيد بن جبير: أن أكثر الحيض عنده ثلاثة عشر يومًا أنسب.

وقال البخاري (4): قال عطاء: الحيض يوم إلى خمسة (5) عشر.

وأما مذهب الشافعي -رحمه الله تعالى-:

فقال الغزالي: أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يومًا، وأقل الطهر خمسة

(1) انظر في ترجمته: الجرح والتعديل (2/ 548 - 549) برقم 2278 وقبله التاريخ الكبير للبخاري (2/ 257) برقم 2382 والضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (1/ 173) برقم 682 وكذا التمهيد (16/ 81 - 82) والمحلى لابن حزم (2/ 197).

وحديثه هذا عند الدارقطني (1/ 209) نحوه.

(2)

التمهيد (16/ 73).

(3)

المحلى (2/ 198).

(4)

في صحيحه كتاب الحيض (1/ 122) باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض.

قلت: وأثر عطاء هذا الذي ذكره البخاري معلقًا وصله الدارمي في سننه (1/ 231) برقم 842 و 845 والدارقطني في سننه (1/ 208) برقم 15.

(5)

كذا في الأصل وصوابه خمس عشرة.

ص: 100

عشر يومًا، وأكثره لا حدَّ له، وأغلب الحيض ست أو سبع، وأغلب الطهر بقية الشهر، ومستند هذه التقديرات الوجود المعلوم بالاستقراء، فلو وجدنا امرأة تحيض أقل من ذلك على الاطراد ففي اتباع ذلك خلاف لأن بحث الأولين أوفى.

وقال الرافعي (1): نص الشافعي في "المختصر"(2) على أن أقل الحيض يوم وليلة، وقال فيه في العدة: وأول (3) ما علمناه من الحيض يوم، وذكر اختلاف طرق الأصحاب في ذلك، وأن منهم من قطع بأنه يوم وليلة، وقال: حيث قال: يوم أراد بليلته، والعرب كثيرًا ما تفعل ذلك، ومنهم من قال بأنه يوم، قال: وحيث قال: أقله يوم وليلة، إنما قال ذلك لأنه لم يجد في النساء من تحيض أقل من ذلك، فلما وجد وعرف رجع إليه.

أما قوله: حيث قال: يوم أراد بليلته والعرب كثيرًا ما تفعل ذلك، ففيه نظر، لأن ذلك معروف عنهم في الأيام إذا أطلقت بصيغة الجمع أن تكون بلياليها، وأما اليوم المفرد فقد يُمنع ذلك فيه.

وكمذهب الشافعي في أقل الحيض وأكثره مذهب أحمد (4) بن حنبل وإسحاق (5) بن راهويه ومحمد (6) بن جرير الطبري.

أما أبو (7) محمَّد بن حزم فيذهب إلى أن أكثر الحيض سبعة عشر يومًا.

(1) فتح العزيز (2/ 411 المطبوع بهامش المجموع).

(2)

وانظر الحاوي الكبير (1/ 389).

(3)

كذا والصواب وأقل وهو كذلك عند الرافعي.

(4)

انظر: المغني (1/ 352) برقم 447 والإنصاف (1/ 256).

(5)

انظر: التمهيد (16/ 73).

(6)

انظر: التمهيد (16/ 86).

(7)

انظر المحلى (2/ 191).

ص: 101

قال (1): وقد روي عن عبد الرحمن بن مهدي أن الثقة أخبره أن امرأةً كانت تحيض سبعة عشر يومًا.

قال (2): ورويناه عن أحمد بن حنبل قال: أكثر ما سمعناه (3) سبعة عشر يومًا.

وعن نساء آل الماجشون أنهن كنّ يحضن سبعة عشر يومًا.

وقال ابن نافع: أكثره ثمانية عشر يومًا.

وروى الدارقطني (4) من حديث أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يكون الحيض للجارية والثيب التي قد يئست من المحيض أقل من ثلاثة أيام، ولا يكون أكثر من عشرة أيام، وإذا رأت الدم فوق عشرة أيام فهي مستحاضة، فما زاد على أيام إقرائها قضت، ودم الحيض أسود خاثر تعلوه حمرة، ودم المستحاضة أصفر رقيق، فإن غلبها فلتحتشِ كرسفًا، فإن غلبها فتغلبها (5) بأخرى، فإن غلبها في الصلاة فلا تقطع الصلاة، وإن قطر، ويأتيها زوجها وتصوم".

في إسناده عبد الملك عن العلاء بن كثير، قال الدارقطني: عبد الملك مجهول، والعلاء ضعيف الحديث (6).

وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقل الحيض ثلاثة أيام،

(1) انظر المحلى (2/ 199).

(2)

أي ابن حزم كما في المصدر السابق.

(3)

في المحلى سمعنا بدل سمعناه.

(4)

"السنن"(1/ 218).

(5)

كذا في نسخة السندي، وفي نسخة ابن العجمي: فتعليها، وفي المطبوع من "السنن": فلتعليها.

(6)

الذي في "السنن": عبد الملك والعلاء ضعيفان، ومكحول لا يثبت سماعه.

ثم قال بعد ذكره الإسناد من طريق أخرى عن عبد الملك ما ذكره وقال: مكحول لم يسمع من أبي أمامة شيئًا.

ص: 102

وأكثره عشرة أيام".

رواه الدارقطني (1) من حديث محمَّد بن أحمد بن أنس عن حماد بن منهال.

قال: وحماد مجهول، ومحمد بن أحمد ضعيف.

وأما أقل الطهر: فالمحكي عن أحمد (2) وإسحاق (2): لا تحديد في ذلك وأنكرا على من وقت في ذلك خمسة عشر يومًا، وقالا: باطل.

وذكر أبو (3) محمَّد: أن ذلك مذهب علي بن أبي طالب وابن عباس، وقال: لا يصح عن أحد من الصحابة خلاف قولهما في ذلك.

وقال سفيان الثوري (4): أقل ما بين الحيضتين من الطهر خمسة عشر يومًا.

وذكر أبو ثور: أن ذلك لا يختلفون فيه، وحكاه عن الشافعي وأبي حنيفة (2)، وأما أكثره فلا حدّ له.

قال أبو عمر (5): وأما اختلاف الفقهاء في أقل النفاس وأكثره فلا أعلمهم يختلفون -أعني فقهاء الحجاز والعراق- أن النفساء إذا رأت الطهر ولو بعد ساعة أنها تغتسل، واختلفوا في أكثر مدته؛ فقال مالك وعبيد الله بن الحسن والشافعي: أكثره ستون يومًا، ثم رجع مالك، فقال: يسأل النساء عن ذلك وأهل المعرفة.

وذكر (6) الليث أن من الناس من يقول: سبعين يومًا.

(1)"السنن"(1/ 219).

(2)

انظر: التمهيد (16/ 73).

(3)

انظر المحلى (2/ 203).

(4)

انظر: التمهيد (16/ 74).

(5)

انظر: التمهيد (16/ 74).

(6)

في التمهيد فذكر.

ص: 103

وقال الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي: أكثره أربعون يومًا. قال (1): ولا يختلفون أن ما زاد عندهم على أكثر مدة الحيض وأكثر مدة النفاس فهو استحاضة (2).

وإذ تبين ذلك فلنذكر أحوال المستحاضات وأحكامهن إذ هو الغرض المقصود من هذا الباب:

قال بعض الفقهاء (3): والمستحاضات أربع سوى المتحيرة؛ لأن التي جاوز دمها أكثر الحيض إما أن تكون:

• مبتدأة: وهي التي لم يسبق لها حيض وطهر.

• أو معتادة: وهي التي سبق لها. وعلى التقديرين فإما: أن تكون مميزة أو لا تكون.

فالأصناف إذًا أربعة: مبتدأة مميزة، مبتدأة غير مميزة، معتادة مميزة، معتادة غير مميزة.

فأما المبتدأة المميزة: وهي التي ترى الدم على نوعين:

أحدهما أقوى، أو على ثلاثة أنواع: أحدها أقوى، فترد إلى التمييز، تكون حائضًا في أيام القوي مستحاضة في أيام الضعيف عند مالك والشافعي وداود اعتبار اللون، وأخذًا بحديث فاطمة بنت أبي حبيش من طريق ابن أبي عدي: أنّ دم الحيض أسود يعرف، وسيأتي بهذا اللفظ في الباب بعد هذا.

وخالفهم أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- فقال: ترد إلى أكثر الحيض، وهو عنده عشرة أيام اعتبارًا بالأيام، ولم يُراعِ تلوُّن الدم أخذًا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث

(1) أي ابن عبد البر.

(2)

انظر: التمهيد (16/ 74).

(3)

لعل المقصود به الرافعي كما في فتح العزيز (2/ 446).

ص: 104

فاطمة بنت أبي جُبيش: "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلّي"، فقدر بالأيام لا بتلون الدم.

وقد تقدم من طريق البخاري وبقوله عليه السلام لابنة جحش: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك"، وقد تقدم من طريق مسلم وتلك إحالة على الأيام.

الثانية: المبتدأة غير المميزة: والذي صححه القاضي أبو بكر الأبهري عن مذهب مالك جلوسها خمسة عشر يومًا، ثم يحكم لها بالاستحاضة أبدًا ما بقيت ودمها يجري.

وقال الرافعي (1): ينظر في حالها؛ إن لم تعرف وقت ابتداء الدم فحكمها حكم المتحيرة، وإن عرفت ففي القدر الذي تحيض فيه قولان (2): أصحهما: يوم ليلة؛ لأن سقوط الصلاة عنها في هذا القدر مستقر (3).

والثاني: يرد (4) إلى عادات (5) غالب النساء وهو ست أو سبع؛ لأن الظاهر اندراجها في جملة الغالب.

وذكر حديث حمنة بنت جحش وقول النبي صلى الله عليه وسلم؛: "تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي".

وإلى هذا الثاني ذهب أحمد (6) بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو (7) عبيد.

(1) انظر فتح العزيز (2/ 458).

(2)

عبارة الرافعي كما في فتح العزيز: فيه قولان أصحهما أنها تحيض أقل الحيض وهو يوم وليلة، فنقل المصنف بتصرف.

(3)

في فتح العزيز مستيقن بدل مستقر وهو الصواب.

(4)

في فتح العزيز ترد بدل يرد.

(5)

في فتح العزيز غالب عادات.

(6)

انظر: المغني (1/ 407 - 408).

(7)

هذا ابتداء ما نقله الرافعي عن بعض فقهاء الشافعية كما في فتح العزيز (2/ 458).

ص: 105

ومنشأ الخلاف تردد الشافعي في أن حمنة هل كانت معتادة أو مبتدأة؛ إن قلنا: كانت معتادة رددنا المبتدأة إلى الأقل أخذًا باليقين، ومن قال بهذا قال: لعله عرف من عادتها أنها أحد العددين الغالبين الست أو السبع، لكن لم يعرف عينه، فلذلك قال:"تحيضي ستًّا أو سبعًا".

وإن قلنا: كانت مبتدأة رددنا المبتدأة إلى الغالب، وقوله:"في علم الله": أي فيما علم الله من عادتك إن كانت معتادة، ومن غالب عادات النساء إن كانت مبتدأة. فإن فرعنا على القول الثاني: فهل الرد إلى الست أو السبع على سبيل التخيير بينهما أم لا فيه وجهان:

• أحدهما: أنه على التخيير لظاهر الخبر فتتحيض إن شاءت ستًّا وإن شاءت سبعًا، ويحكى هذا عن ابن سريج وأبي إسحاق المروزي، وزعم الحناطي أنه أصح الوجهين.

• والثاني: وهو الصحيح عند الجمهور، أنه ليس على التخيير، ولكن ينظر في عادات النساء أهن يحضن ستًّا أو سبعًا فتنحوهن (1) كيف ما بن من ذلك، ومَن النسوة المنظور إليهن؟

فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أن الاعتبار بنسوة عشيرتها من الأبوين جميعًا؛ لأن طبائعها (2) إلى طبائعهن أقرب، فإن لم يكن لها عشيرة فالاعتبار بنساء بلدها (3) وناحيتها، ولا تحيض بنساء العصبة ولا نساء العشيرة.

(1) هذه العبارة وهي قوله: فتنحوهن كيف ما بن من ذلك ليست في فتح العزيز ولعلها زيادة توضيح من الشارح رحمه الله.

(2)

في فتح العزيز لأن طبعها.

(3)

ثم قال الرافعي والثاني أن الاعتبار بنساء العصبات خاصة والثالث يعتبر نساء بلدها وناحيتها ولا تخصص بنساء العصبة ولا نساء العشيرة.

ص: 106

وحكى أبو (1) محمَّد عن الأوزاعي: تجعل لنفسها مقدار حيض أمها وخالتها وعمتها، وتكون فيما زاد في حكم المستحاضة، فإن لم تعرف جعلت حيضتها سبعة أيام من كل شهر، وتكون في باقي الشهر مستحاضة.

وقال سفيان الثوري (2). تجعل لنفسها قدر حيض نسائها.

وقال أبو حنيفة: تحيض (3) عشرة أيام من كل شهر، ثم تكون باقيه مستحاضة.

وقال أبو محمَّد (4): فإن رأت الجارية الدم أول ما تراه أسود فهو دم حيض، فإن تلوّن (5) وانقطع إلى سبع (6) عشرة ليلة فأقل فهو طهر صحيح تغتسل وتصوم وتصلي ويأتيها زوجها، وإن تمادى أسود تمادت على أنها حائض إلى سبع عشرة ليلة، فإن تمادى بعد ذلك أسود فإنَّها تغتسل ثم تصوم وتصلي ويأتيها زوجها، وهي طاهر أبدًا لا ترجع إلى حكم الحائض إلا أن ينقطع أو يتلون كما ذكرنا (7).

وهذا نحو مما حكيناه عن الأبهري من مذهب مالك؛ لأن البناء هنا على أكثر الحيض عند كل منهما، وقد كان ينبغي لأبي محمَّد أن يحيّض هذه ستة أيام أو سبعة أيام أخذًا بحديث حمنة بنت جحش، غير أنه معلول عنده بما ليس بعلة في

(1) انظر المحلى (2/ 210).

(2)

في المحلى زيادة وعطاء.

(3)

في المحلى تقعد بدل تحيض وعبارته فيه: "تقعد عشرة أيام من كل شهر حائضًا وباقي الشهر مستحاضة تصلي وتصوم".

(4)

المحلى (2/ 207 - 208).

(5)

في المحلى: أو بدل الواو، وكذلك هو في نسخة السندي وابن العجمي.

(6)

في المحلى: سبعة عشر يومًا، وكذلك هو في نسخة ابن العجمي.

(7)

المحلى (2/ 207 - 208).

ص: 107

نفس الأمر، وسيأتي الكلام عليه، وذكر ما أعلّه به أبو محمَّد، والجواب عنه في بابه.

وأما احتياطه في ذلك للصلاة المأمور بها الثابتة في الذمة بيقين فمعارض بأن الحائض منتهية عن الصلاة في حال حيضها بيقين، فليس لنا أن نأمرها بإتيان منهي عنه، إلا عن يقين من انتفاء الموانع.

وأما تجويزه أن تكون ضهياء (1) وهي التي لا تحيض فمعارض بأن تكون ممن تحيض ولون دم حيضها واستحاضتها واحدًا.

الثالثة: المعتادة المميزة.

قال ابن شاس: المذهب -يعني مذهب مالك- أنها تعتبر التمييز لحديث فاطمة بنت أبي حبيش، ولأن العادة قد تختلف، والتمييز لا يختلف، ولأن النظر إلى اللون اجتهاد والنظر إلى العادة تقليد؛ والاجتهاد أولى من التقليد.

وقال الغزالي: المعتادة المميزة إن رأت السواد مطابقًا لأيام العادة فهو المراد، وإن أخلفت فإن كانت عادتها خمسة فرأت عشرًا سوادًا ففي وجه الحكم للعادة، وفي وجه الحكم للتمييز، فتُحيّض في عشرة السواد، وفي وجه يجمع بينهما إلا أن يزيد المجموع على خمسة عشر، فتعيّن الاقتصار على العادة أو على التمييز.

الرابعة: المعتادة من غير تمييز، فللمالكيين فيها ثلاثة أقوال:

قول بأنها تقتصر على عادتها كما ذهب إليه الشافعي، وتثبت العادة عندهم بمرة، وهذا القول محكي عن المغيرة وأبي مصعب من أصحاب مالك.

(1) قال الخليل في كتاب العين: "والضهياء من النساء التي لم تحض قط. وقد ضَهِيَتْ تَضْهَى ضَهَى". انظر العين (4/ 70) مادة ضهي.

ص: 108

وذكر إسماعيل (1) بن إسحاق القاضي قال: نا أبو مصعب قال: سمعت المغيرة بن عبد الرحمن -وكان من أعلى أصحاب مالك- يقول: قولنا في المستحاضة إذا استمر بها الدم بعد انقضاء أيام حيضتها ولا تدري هل ذلك انتقال دم حيضتها إلى أيام أكثر من ذلك أو ذلك دم استحاضة، فنأمرها أن تغتسل إذا مضت أيام حيضتها وتصلي وتصوم ولا يغشاها زوجها احتياطًا، حتى ننظر إلى ما يصير إليه حالها بعد ذلك؛ فإن كانت حيضة انتقلت من أيام إلى أكثر منها عملت فيما يستقبل على الأيام التي انتقلت إليها، ولم يضرها ما كانت احتاطت له من الصلاة والصيام، وإن كان ذلك الدم الذي استمر بها استحاضة كانت قد احتاطت للصلاة والصيام.

قال أبو مصعب: وهذا قولنا وبه نفتي (2).

فرَّق في هذا القول: بين الصلاة والصيام في حق المستحاضة وبين الجماع، وسيأتي ما للناس في ذلك من خلاف.

القول الثاني: أنها تبلغ خمسة عشر يومًا، قاله مطرف.

القول الثالث: القول بالاستظهار على العادة؟ لكن اختلف القائلون به، هل تتجاوز به الخمسة عشر يومًا أم لا؟

فالمشهور أنه لا تتجاوز، وفي كتاب محمَّد: أنها تستظهر على الخمسة عشر يومًا أو يومين، وقال ابن نافع في كتاب سحنون أنها تستظهر عليها بثلاثة أيام وأنكره سحنون.

(1) انظر التمهيد (16/ 69).

(2)

التمهيد (16/ 69).

ص: 109

قال أبو عمر (1): وحكى عبد (2) الرزاق عن معمر قال: تستظهر يومًا واحدًا على عادتها (3)، ثم هي مستحاضة، وذكر مثله عن ابن جريج، عن عطاء وعمرو بن دينار (4).

قال: واحتجّ بعض أصحابنا في الاستظهار بحديث رواه حرام بن عثمان عن ابني (5) جابر، عن جابر، عن النبي عليه السلام، ولا يصح، وحرام (6) بن عثمان ضعيف متروك.

وقولنا فيما حكيناه عن الأصحاب تثبت العادة بمرّة.

قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: ولو كانت تحيض خمسًا وتطهر خمسًا وعشرين فجاءها دور فحاضت ستًّا ثم استحيضت بعد ذلك في الشهر الآخر رددناها إلى الست؛ لأن الصحيح ثبوت العادة بمرة واحدة.

وأما المتحيرة فلها ثلاثة أحوال:

أما أن تكون ناسية لعدد الحيض ووقته جميعًا، أو للعدد دون الوقت أو العكس.

فأمّا الأول: قال الرافعي (7): والنسيان المطلق قد يعرض لغفلة وعلة عارضة،

(1) التمهيد (16/ 82).

(2)

انظر المصنف (1/ 300) ح 1154.

(3)

في المصنف حيضتها بدل عادتها وهو كذلك في التمهيد.

(4)

انظر المصنف (1/ 301) برقم 1156 و 1157.

(5)

في التمهيد أبي بدل ابني والصواب الثاني كما في التاريخ الكبير (3/ 101).

(6)

انظر ترجمته في التاريخ الكبير (3/ 101) والجرح والتعديل (3/ 282).

(7)

فتح العزيز (2/ 491 - 492).

ص: 110

وقد تكون (1) مجنونة صغيرة، وتستمر لها عادة في الحيض ثم تفيق وهي مستحاضة، فلا تعرف كما (2) سبق شيئًا. وفي حكمها في هذه الحالة قولان أحدهما أنها مردودة إلى المبتدأة لأن العادة المنسية لا يمكن استفادة الحكم منها فيكون كالمعدوم (3).

الثاني: وهو أصحّهما أنها مأمورة بالاحتياط غير مردودة إلى المبتدأة؛ إذ ما من زمانٍ مرّ (4) عليها إلا ويحتمل الحيض والطهر والانقطاع، فبحث الأخذ بالاختيار (5)، وقد نقل أنّ سهلة بنت سهيل استحيضت فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة (6). فحملها حاملون على أنها كانت ناسية فأمرها به احتياطًا.

الحالة الثانية: حالة الناسية لقدر الحيض دون وقته كما لو حفظت أن ابتداء الدم كان أول شهر، فيوم وليلة من أول كل شهر حيض بيقين، وبعده يحتمل الانقطاع إلى انقضاء الخامس عشر، فتغتسل لكل صلاة، وتعده إلى آخر الشهر طهر بيقين، فتتوضأ لكل صلاة، فلو حفظت أن الدم كان ينقطع عند آخر كل شهر، فأول الشهر إلى المنتصف طهر بيقين، ثم بعده يتعارض الاحتمال، ولا يحتمل الانقطاع، لأن في آخره حيضًا بيقين، فتتوضأ وتصلي إلى انقضاء التاسع والعشرين، واليوم الأخير بليلته حيض بيقين.

الحالة الثالثة: حالة الناسية لوقته دون قدره.

(1) في فتح العزيز وقد تجن صغيرة.

(2)

في فتح العزيز مما بدل كما وهو الذي يقتضيه السياق.

(3)

في فتح العزيز فتكون كالمعدومة.

(4)

في فتح العزيز يمر.

(5)

كذا وصوابه الاحتياط كما في فتح العزيز.

(6)

حديث سهلة رواه أبو داود في سننه كتاب الطهارة (1/ 207) برقم 295 باب من قال تجمع بين الصلاتين وتغتسل لهما غسلًا.

وقال الحافظ ابن حجر كما في التلخيص (1/ 181) وقد قيل إن ابن إسحاق وهم فيه.

ص: 111

قال الغزالي: إذا كانت أضللت عشرة في عشرين من أول الشهر فالعشرة الأخيرة طهر بيقين، وجمع العشرين من أول الشهر تحتمل الحيض والطهر، نعم لا يحتمل الانقطاع في العشر الأول، فتتوضأ لكل صلاة، ويحتمل في الشر الثاني، فتغتسل لكل صلاة، ولو قالت: أضللت خمسة عشر في عشرين من أول الشهر، فالخمسة الثانية والثالثة من أول الشهر حيض بيقين لأنها تندرج تحت تقدير التقديم والتأخير.

قال الرافعي: الحافظة لقدر الحيض إنما تخرج عن التحير المطلق إذا حفظت مع ذلك قدر الدور وابتداؤه، وهو ظاهر.

قال: كما لو قالت: كان حيضي خمسة أضللته في دوري، ولا أعرف سوى ذلك، فلا فائدة فيما ذكرت لاحتمال الحيض والطهر والانقطاع في كل زمان.

وإذ قد ذكرنا أحوال المستحاضات فلنذكر ما الذي يباح لهن بالانتقال عن الحيض إلى الاستحاضة ممّا منعهن منه الحيض، وما عليهنّ من غسل أو وضوء، وما حكم المستحاضة إذا انقطع عنها دم الاستحاضة هل عليها غسل لانقطاعه أم لا، وما عن السلف في ذلك من خلاف.

فأما ما يباح لهنّ فإن ابن سيرين (1) روى عن ابن عباس في المستحاضة قال: إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل ولتصل.

(1) المصنف لابن أبي شيبة (1/ 128) وهو من في سنن أبي داود كتاب الطهارة (1/ 197 - 198) باب من قال إذا أدبرت الحيضة تدع الصلاة وانظر السنن الكبرى للبيهقي (1/ 340) وقد أخرجه من طريق أبي داود.

ص: 112

وقال مكحول (1): إن النساء لا تخفى عليهن الحيضة، إن دمها أسود غليظ، فإذا ذهب ذلك وصارت صفرة رقيقة فإنها مستحاضة، فلتغتسل وتصلي.

وعن سعيد (2) بن المسيب: إذا أقبلت الحيضة تركت الصلاة، وإذا أدبرت اغتسلت وصلّت، وروي عنه: تجلس أيام أقرائها.

وروى يونس (3) عن الحسن قال: الحائض إذا مرّ بها الدم تمسك بعد حيضها يومًا أو يومين وهي مستحاضة.

وقال التيمي (4) عن قتادة: إذا زادت على حيضها خمسة أيام فلتصل.

قال التيمي (5): فجعلت أنقص حتى إذا بلغت يومين، فقال: إذا كان يومين فهو من حيضها.

وسئل ابن (6) سيرين فقال: النساء أعلم.

قال أبو عمر (7): ودم الاستحاضة لا يمنع من صلاة ولا صوم بإجماع من العلماء واتفاق من الآثار المرفوعة، وأما وطء الزوج أو السيد للمرأة التي هذه حالها، فذكر المنع من إبراهيم النخعي وسليمان بن يسار والحكم وعامر الشعبي وابن سيرين والزهري، ولم يختلف فيه عن الحسن (8).

(1) انظر سنن أبي داود (1/ 198).

(2)

السنن الكبرى للبيهقي (1/ 330) وكذا سنن أبي داود (1/ 198).

(3)

سنن أبي داود (1/ 198).

(4)

سنن أبي داود (1/ 198).

(5)

المصدر السابق.

(6)

سنن أبي داود (1/ 199).

(7)

انظر التمهيد (16/ 71) والاستذكار (3/ 248).

(8)

انظر التمهيد (16/ 69 - 71) والاستذكار (3/ 247) ونقل فيه الاختلاف على الحسن فيه لا كما توهمه عبارة المصنف وانظر التمهيد (16/ 68).

ص: 113

وروي عن عائشة في المستحاضة أنه لا يأتيها زوجها، وبه قال ابن عليّة (1).

وذكر عبد (2) الرزاق، عن الثوري، عن منصور قال: تصوم ولا يأتيها زوجها ولا تمسّ المصحف.

وعن معمر، عن أيوب، قال: سئل سليمان بن يسار: أيصيب المستحاضة زوجها؟ قال: إنما سمعنا بالرخصة لها في الصلاة (3).

قال معمر: وسألت الزهريّ: أيصيب المستحاضة زوجها؟

قال: إنما سمعنا بالصلاة.

وقد تقدّم فيما حكيناه عن المغيرة وأبي مصعب: تصلي وتصوم ولا يغشاها زوجها.

وأما غسل المستحاضة ووضوءها فإن أبا (4) عمر قال: أجمعوا على أن عليها إذا كانت ممّن تميَّز دم حيضها من دم استحاضتها أن تغتسل عند إدبار حيضها، وكذلك إذا لم تعرف ذلك، وفقدت ما أمرت به من عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر اغتسلت عند انقضاء ذلك، ثم اختلفوا فيما عليها بعد ذلك من غسل أو وضوء فذهبت طائفة إلى أنّها تغتسل لكلّ صلاة، وحكِيَ ذلك عن أم حبيبة وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير، وذكره الحافظ أبو (5) محمَّد عن سعيد بن المسيب.

(1) انظر الاستذكار (3/ 246).

(2)

المصنف (1/ 311) برقم 1193.

(3)

المصنف (1/ 311) برقم 1191.

(4)

التمهيد (16/ 97 - 98) و (16/ 67) و (16/ 76).

(5)

المحلى (2/ 214).

ص: 114

وقال آخرون: يجب عليها أن تغتسل للظهر والعصر غُسلا واحدًا تصلي به الظهر في آخر وقته، والعصر في أول وقتها، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدًا، وسيأتي الأحاديث في ذلك في بابه بعد هذا وتمسك هؤلاء بحديث سهلة بنت سهيل أيضًا، وسنذكره بسنده وفيه كان يأمرنا بالغسل لكي صلاة، فلما جهدها ذلك أمر أن يجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد

الحديث.

فرأوا أن الناسخ من الحكم في ذلك الجمع بين الصلاتين بغسل واحد كما سبق، فصار القول بهذا أولى من القول بإيجاب الغسل لكل صلاة. ورُويَ ذلك عن علي وابن عباس وإبراهيم النخعي وعبد الله بن شداد وعطاء بن أبي رباحَ (1).

وقال آخرون: تغتسل في كل يوم مرة في أي وقت شاءت، رواه معقل (2)

الخثعمي عن علي، قال: المستحاضة إذا انقضى حيضها اغتسلت كل يوم مرة.

وقال آخرون: تغتسل من ظهر إلى ظهر، روي ذلك عن ابن عمر (3) وأنس (3)

(1) المصدر السابق.

(2)

انظر سنن أبي داود كتاب الطهارة (1/ 212 - 213) برقم 302 باب من قال تغتسل كل يوم مرة ولم يقل عند الظهر.

(3)

سنن أبي داود كتاب الطهارة (1/ 211) باب من قال المستحاضة تغتسل من ظهر إلى ظهر.

قلت: وأشار محمَّد عوامة في تحقيقه للسنن إلى أن في بعض النسخ: "طهر إلى طهر"(1/ 299).

ونقل أبو داود كلام الإِمام مالك حيث قال كما في السنن (1/ 212): قال مالك: إني لأظن حديث ابن المسيب: "من ظهر إلى ظهر" إنما هو "من طُهر إلى طهر" ولكن الوهم دخل فيه فقلبها الناس فقالوا: "من ظهر إلى ظهر".

وقال الخطابي: ما أحسن ما قال مالك، وما أشبهه بما ظنه من ذلك لأنه لا معنى للاغتسال من وقت صلاة الظهر إلى مثلها من الغد ولا أعلمه قولا لأحد من الفقهاء، وإنما هو من طهر إلى طهر وهو وقت انقطاع دم الحيض.

انظر: معالم السنن (1/ 193).

ص: 115

ابن مالك، وهي رواية عن عائشة، وروي أيضًا عن سعيد (1) بن المسيب، وهو قول سالم (1) وعطاء (1) والحسن (1).

وروينا عن الدارمي (2) قال: وهو قول إلَّا وزاعي.

وقال آخرون: لا تتوضأ إلا عند الحدث، وهو قول عكرمة ومالك، إلا أن مالكًا يستحب لها الوضوء عند كل صلاة (3).

وقال آخرون: تدع المستحاضة الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري ومالك والأ وزاعي والليث والشافعي، وعامة فقهاء الأمصار، إلا أن مالكًا يستحبّ للمستحاضة الوضوء لكل صلاة كما يوجبه على صاحب سلس البول، غير أن أبا حنيفة قال: إذا توضأت من الوقت لصلاتها لا يمكنها أن تصلي تلك الصلاة بذلك الوضوء لأن دخول وقت كل صلاة يكون بخروج التي قبلها، وخروج الوقت مبطل إلا صلاة الظهر فإنها إذا توضأت قبل الزوال ثم زالت الشمس لها أن تصلي الظهر نظرًا إلى أن الوضوء لوقت الصلاة وغيره يراه للصلاة. وقد يحتج له بقوله عليه السلام في حديث ابنة أبي حبيش:"توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت"، فغيّا بالوقت، فكأنه يرى أن وضوءها للصلاة قبل وقتها وضوء للصلاة التي لم ينفصل وقتها بعد، ولما كان بين الصبح والظهر مسافة خرج فيها وقت الصبح، ولم يدخل وقت الظهر، كان الوضوء بعد انفصال وقت الصبح ليس لها، فسلم للظهر، فليس المعتبر على هذا دخول وقت الصلاة، وأن لا يكون وضوء للصلاة قبل وقتها، كما ذهب إليه بعضهم في مطلق

(1) انظر السنن (1/ 211 - 212).

(2)

انظر السنن (1/ 227) برقم 815.

(3)

انظر التمهيد (16/ 94).

ص: 116

الوضوء لكل صلاة، وإنما المعتبر أن لا يكون الوضوء لصلاة في وقت غيرها، فليتأمل.

هذا قول أبي (1) عمر عن مذهب الإِمام أبي حنيفة، وسنذكر من مذهبه ما يأتي في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى.

وقد قال عكرمة (2) وأيوب وغيرهما: سواء دم الاستحاضة أو دم جرح، لا يوجب شيء من ذلك وضوءًا.

وممن قال بذلك ربيعة.

قال القرطبي (3): واختلف في المستحاضة هل عليها غسل إذا انقطع دمها، واختلف فيه قول مالك.

قال (4): وقوله عليه السلام: "إنما ذلك عرق"؛ دليل على العراقيين في أن الدم السائل من الجسد لا ينقض الوضوء، فإنه قال بعد هذا:"فاغسلي عنك الدم وصلّي"؛ وهذا أصح من رواية من روى: "فتوضئي وصلي" باتفاق أهل الصحيح، وهو قول عامة الفقهاء، وقد بقي عليه أن يقول: وجه لمالك على الشافعي وغيره في عدم إيجاري الوضوء لكل صلاة على المستحاضة، ولا يصلح الحديث أن يكون حجة على العراقيين ولا على الشافعي، ومن قال بقوله في الوضوء لما سنذكره.

قال أبو عمر (5): وأما الأحاديث المرفوعة في إيجاب الغسل لكلّ صلاة وفي

(1) انظر الاستذكار (3/ 226) وكذا التمهيد (16/ 70).

(2)

انظر الاستذكار (3/ 225 - 226).

(3)

المفهم (1/ 594).

(4)

أي القرطبي كما في الفهم (1/ 590 - 591).

(5)

التمهيد (16/ 99).

ص: 117

الجمع بين الصلاتين بغسل واحد وفي (1) الوضوء لكل صلاة على المستحاضة فكلها مضطرب (2) لا يجب بمثلها حجة.

قلت: دعوى الاضطراب في هذه الأحاديث تحوجنا إلى ذكر قاعدة توضح لنا المضطرب من الحديث من غيره سوى ما تقدم، وبذلك يتبيّن هل هي مضطربة كما زعم أم لا؟

فنقول: الحديث الواحد المتحد المخرج إما أن تتفق ألفاظ رواته أو تختلف، فإن اتفقت فالمعنى واحد بيقين، فلا كلام فيه لاتحاد اللفظ والمعنى، وإن اختلفت فإما أن يتحد المعنى أو لا، فإن اتحد المعنى حملنا الأمر في ذلك على أن بعض الرواة وقف عند اللفظ، وبعضهم حدّث بالمعنى ولم يعتبر اللفظ، وكلّهم روى بالمعنى واللفظ غير ما جاءوا به، والأمر في ذلك كله واسع عند الجمهور، وإن اختلف المعنى، فإما أن يكون المخالف أتى بأمر زائد على ما أتى به غيره، أو مباين له من غير زيادة، فإن أتى بأمر زائد فلا تنافي، ثم هذه الزيادة هل تقبل الوصف بالصحة والضعف والحسن بحسب حال رواتها أو يسقط منها قسم الحسن ويكون ملحقا بالضعف، فلا يقبل إلا عن معروف الثقة فيه نظر، وليس الثاني ببعيد؛ لأن المتفرد عن الموثوق بحفظهم وثقتهم بين الرواة يحتاج إلى مزيد من الثقة عما يحتاج إليه الراوي حيث لا خلف ولا انفراد.

وأقرب من هذا أن يعتبر حاله بحال من انفرد عنه من رواة هذا الخبر فيقبل حيث ساواه في العدالة والستر أو الضعف فتجري فيه على ذلك الأحوال الثلاثة، ولا فرق في هذه الزيادة اللفظية بين أن يقتضي إثبات معنىً لم يكن في الأول

(1) في التمهيد والوضوء بدل وفي الوضوء وهو الأنسب لسياق الكلام، والله أعلم.

(2)

في التمهيد مضطربة لا تجب بمثلها حجة.

ص: 118

كاقتضائها إنشاء حكم لم يكن فيه أو إسقاط بعض ما تضمنه اللفظ أول من حيث المعنى بأن يكون مخصصة لعمومه أو مقيدة لإطلاقه أو ما أشبه ذلك، فلسنا نعتدّها إلا زيادة وإن تضمنت نقصًا للوقوف في ذلك عند اللفظ. وإن أتى الاختلاف بلفظ مباين لغيره من الرواة من غير زيادة فإما أن تستوي أحوال الرواة عند هذا الاختلاف أو تتفاوت، فإن تفاوتت فالترجيح، وله وجوه، وإن تعذر تساوي الترجيح فالحديث حينئذٍ مضطرب لا يقوم له حجة. هذا إذا تبين أو غلب على الظنّ أن الواقعة التي ورد فيها ذلك الحكم واحدة، وإن لم يظهر ذلك، ولا مانع من أن يجعلهما واقعتين تفاوتا، واختلف الجواب عن حكمهما، وكان السائل عنهما واحدًا، أو كان الخبر بحكمهما عند واحد، ثم نقل الرواة عنه أو عمّن نقل عنه الحكمين مختلفين، فأوقع ذلك في النفس أنه اختلاف في واقعة واحدة وليس كذلك، وقد نحتاج إلى النظر في مدلول الألفاظ، وما تقتضيه من الجمع والتفريق.

إذا تبيّن ذلك فنقول:

أما أحاديث الوضوء فإن كان كلام أبي (1) عمر وأبي العباس (2) يقتضي ردًّا، وقد اختلف مأخذهما؛ فأبو عمر عللها بالاضطراب، وأبو العباس يدعي الترجيح، ويأخذ على زعمه بالراجح، ومما حكاه أبو العباس (3) عن النسائي (4) أنه قال: ولا نعلم أحدًا قال في حديث هشام: "وتوضئي". غير حماد (5). انتهى.

(1) كما في التمهيد (16/ 99).

(2)

المفهم (1/ 591 - 594).

(3)

المفهم (1/ 594).

(4)

وهو في سننه كتاب الطهارة (1/ 134) برقم 217 باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة.

(5)

وتتمة عبارة النسائي في سننه (1/ 134): "وقد روى غير واحد عن هشام ولم يذكر فيه: وتوضئي".

ص: 119

وليس الحديث في ذلك مضطربًا ولا مختلفًا اختلافًا يحتاج معه إلى الترجيح، وإنما ذكر الوضوء فيه عند من ذكره زيادة فيه على من لم يذكره فقط، فينظر إن جاءت عن ثقة ثبت ولا تعارض.

وقول أبي (1) العباس عن النسائي: لم يأت بهذه الزيادة عن هشام إلا حماد، صحيح عن النسائي وهو حماد بن زيد، ولو سلمنا ذلك في نفس الأمر لكان كافيًا لثقة حماد بن زيد وحفظه لا سيما في هشام بن عروة، فكيف وقد ثبتت هذه الزيادة عن هشام عند أبي معاوية الضرير وعبده ووكيع وأبي حنيفة الفقيه ويحيى بن هاشم ويحيى بن سليم الطائفي وحماد بن سلمة، وليس في هؤلاء مردود غير يحيى (2) بن هاشم، أما طريق أبي معاوية وعباس ووكيع فرواها الترمذي (3) وصححها ورواتها عنده متفق عليهم في الصحيحين.

وأما رواية أبي حنيفة فذكرها أبو (4) عمر بطرقها ولم يسندها (5) فإن صحّت الطريق إليه فهي جيدة (6).

(1) كما في المفهم (1/ 594).

(2)

انظر ترجمته في: الجرح والتعديل (9/ 195)، الكامل لابن عدي (7/ 251 - 253) برقم 2153 والضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/ 204) برقم 3759 وميزان الاعتدال (6/ 86) ولسانه (6/ 361 - 363) برقم 9295 والضعفاء الكبير (4/ 432).

(3)

انظر الجامع (1/ 217) برقم 125 وقال حسن صحيح.

(4)

انظر التمهيد (22/ 103).

(5)

هذا القول فيه نظر، إذ إن الحافظ ابن عبد البر ذكرها مسندة كما في التمهيد (22/ 103) إلا أن يكون المصنف وقف على هذه الطريق في موطن غير موطننا، والله أعلم.

(6)

في السند أبو حنيفة وغيره من الرواة الذين يحتاج إلى الكشف عن حالهم انظر التمهيد (22/ 103).

قلت: وطريق أبي حنيفة هذه ذكرها البيهقي في السنن الكبرى (1/ 344). وقال البيهقي: "والصحيح أن هذه الكلمة من قول عروة بن الزبير".

وانظر الإِمام لابن دقيق العيد (3/ 287 - 288) فقد توسع في ذلك.

ص: 120

وأما طريق يحيى بن سُليم وهو ممن خرج له في الصحيحين (1)، فقد روينا من طريق السراج ثنا القاسم بن بشر بن معروف، ثنا يحيى بن سليم الطائفي، نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المستحاضة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك عرق، لتنظر قدر أقرائها، ثم لتكفّ عن الصلاة، فإذا ذهب أقراؤها فلتغتسل ولتتوضأ لكل صلاة".

فلا انفراد ولا تعارض واضطراب، ثم يقال لأبي عمر: لو أخذتم بالاحتياط هنا فأوجبتم الوضوء لكل صلاة، لكان أولى من قولكم بالاستظهار على أكثر مدّة الحيض احتياطًا للعبادة لأمرين:

أحدهما: أن دعوى الاحتياط هناك متجاذبة بينكم وبين من يمنع الاستظهار، بل الاحتياط هناك لإتيان الصلاة المأمور بها بيقين راجح على احتياط المحرك حتى يرتفع ما يشك فيه من الدم الخارج هل هو مانع أم لا؟

الثاني: أن الحديث الذي ثبت فيه الأمر بالوضوء من بعض الطرق، ولم يثبت من بعضها ثابت الأصل والزيادة فيه عن حماد (2) لو انفرد ثابتة أيضًا لاعترافكم بثقة حماد.

والحديث المقتضي للاستظهار من حديث حرام بن عثمان شبه لا شيء لسقوط حرام عندهم.

(1) انظر: تهذيب الكمال (31/ 365 - 369) برقم 6841.

(2)

قلت: ولم يتفرد بها حماد كما زعمه النسائي في سننه (1/ 134) برقم 217 وإليه يشير صنيع الإِمام مسلم كما في صحيحه (1/ 262 - 263) برقم 333 حيث قال: وفي حديث حمّاد بن زيد زيادة حرف تركنا ذكره.

وهذا التعليل منهما ليس بجيد لأن أبا معاوية تاج حماد بن زيد عليها كما عند الترمذي (1/ 217 و 218).

ص: 121

وأما أحاديث الاغتسال لكل صلاة أو صلاتين وقول أبي عمر إنها مضطربة لا تقوم بها حجة فنقول:

المأمورة بذلك من المستحاضات فاطمة بنت أبي حبيش كما جاء في حديث سهيل بن أبي صالح وأم حبيبة بنت جحش كما جاء في خبر الزهريّ من طريق ابن إسحاق، وفي حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، وحمنة بنت جحش كما جاء في حديث ابن عقيل، وهذه الأحاديث الثلاثة هي أصول هذا الباب كما تقدم عن أحمد، وما عداها فليس بشيء، وثبت الاغتسال الذي بعض طرقها كما ذكرناه، ولم يثبت في البعض، فمن رأى ذلك فيها اضطرابًا يقتضي الترك وردها به فمن أين يأخذ أحكام هذا الباب؟

لكنّا نقول: ليست مضطربة، ثم لنا في الجواب عن ما وقع من اختلاف هذه الألفاظ طريقان:

الأول: أن نقول لعلّ الأمر بذلك الغسل حيث جاء ليس على الوجوب لثبوته في بعض الأحيان وسقوطه في بعضها، ولو كان واجبًا لثبت في كل حين، ويعضد هذا التأويل قوله عليه السلام في حديث حمنة:"سآمرك بأمرين أيهما صنعت أجزأ عنك؛ فإن قويت عليهما فأنت أعلم"، وذكر الاغتسال لكل صلاتين، ثم قال عند تمامه:"وكذلك فافعلي وصومي إن قويت على ذلك"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو أعجب الأمرين إليّ"، ولا يخلو الحديث من محذوف، وهو قولها: إنها قويت، وبذلك يتوجه أن يكون قوله عليه السلام:"هو أعجب إلي"؛ جوابًا عن قولها: إنها قويت، ولو كان الاغتسال واجبًا لما حصل فيه تخيير ولتوجه الأمر به على الجزم، وفي كون الاغتسال هو المقدم في الذكر والأعجب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى أن الثاني من الأمرين وإن لم يذكر هو عدم ذلك الاغتسال، والاقتصار على الوضوء، والله أعلم.

ص: 122

الطريق الثاني: وهو الأظهر، أن يحمل الأمر في ذلك حيث جاء على الوجوب، غير أنا نقول: لعلّ أحوال هؤلاء المستحاضات اختلفت، فحيث أمرن بالاغتسال لإدبار الحيض فقط كن ذوات تمييز أو اعتياد، فانقطع اللبس بالردّ إلى ذلك. وحيث أمرن بالاغتسال لكلّ صلاة أو صلاتين كانت حلة الحيض من الاستحاضة مجهولة عندهنّ ولم تتبيّن إما لنسيان مدة الحيض أو قدره أو غير ذلك، فيكون السؤال قد وقع منهن حيث يمكن الردَ إلى التمييز أو العادة فرددن إلى ذلك، ووقع منهنّ حيث لم يمكن فأُمرن بذلك الاغتسال وروي لنا ما وقع من ذلك في أوقات مختلفة في وقت واحد بألفاظ مختلفة، ويعضد هذا التأويل من حيث النقل أن ما سقناه من خبري فاطمة وأم حبيبة من طريقي ابن إسحاق وسُهيل بن أبي صالح تضمّن الأمر بالغسل لكل صلاة أو صلاتين، ولم يتضمَّن الرد إلى عادة ولا إلى تمييزٍ، وما أوردناه من غير هذين الطريقين مما يقتضي الرد إلى تمييزٍ أو عادة، ولم نر فيه للأمر بالاغتسال للصلوات ذكرًا فتبيّن لنا بذلك اختلاف الحال، وحتى لو اجتمع لنا ذلك كله في خبر واحد ولم نر ذلك بعد لحملناه على أنه تخليط من الراوي وإدخال منه للفظ حديث في لفظ حديث آخر يشبهه لما ذكرناه من التفصيل.

ويعضده من حيث المعنى أن هذا الاغتسال إنما ينبغي أن يؤمر به حيث يجهل الحال في الدم الخارج، هل هو دم حيض أو استحاضة، فمتى علمنا أنّه دم استحاضة كان حكمها بالطهارة بيقين، ولا غسل على طاهر، والله أعلم.

* * *

ص: 123