الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يدي الكتاب
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمَّد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. وبعد:
لما كان الإسناد ضرورة دينية -ولا سيما مع ظهور البدع والمحدثات المضلة- لئلا يُعتمد في النقل على أحد هؤلاء المبتدعة فينسب إلى الشرع ما ليس منه؛ كان التفتيش عن أحوال الرواة والبحث عن مراتبهم جرحًا أو تعديلًا من الأهمية بمكان عند المتقدمين والمتأخرين من أهل العلم. كما ورد عن محمَّد بن سيرين رحمه الله أنه قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم. فيُنظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم (1).
وقال أيضًا: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم (2).
وقال سفيان الثوري: الإسناد سلاح المؤمن، فمن لم يكن له سلاح فبأي شيء يقاتل (3).
وقد تضافرت أقوال الأئمة للتأكيد على هذا المعنى بين الحين والآخر، الأمر الذي أدى إلى وجود سجلات -بالمعنى المعاصر- عن هؤلاء الرواة، فما عاد من
(1) مقدمة صحيح مسلم (1/ 15).
(2)
مقدمة صحيح مسلم (1/ 14).
(3)
سير أعلام النبلاء (7/ 273).
راوٍ إلا وترجم له الأئمة في كتبهم سوى النذر اليسير، وذكروا الأحاديث التي رواها، وحاله من حيث الجرح أو التعديل.
وعلى الرغم من المكانة العلمية التي يحظى بها البيهقي بين أهل الحديث، فهو صاحب التصانيف الفريدة التي ليس لأحد مثلها، وهو أيضًا علّامة فقيه، ثبت ثقة، واحد زمانه، وفرد أقرانه، وحافظ أوانه، وقد بلغت تصانيفه الكثير حتى قيل: إنها بلغت الألف، فقد بورك له في مروياته، وحسن تصرفه فيها، بما له من حذق وخبرة بالأبواب والرجال.
وعلى الرغم أيضًا من اتجاه أنظار العلماء والباحثين للغوص والاستفادة منها، فلا يحصى كم محقق لها ومعتن ومفهرس لها ودارس
أقول: على الرغم من هذا وتلك - إلا أنه بقي فضلة لم تنلها أيدي الباحثين ألا وهي الاعتناء بتراجم شيوخ الإِمام البيهقي، وجمعها في مجلد واحد، فاستعنت بالله لحمل هذه المهمة.
ويمكن سرد أهم الدوافع التي كان لها الدور الفعال في المشروع في هذا العمل:
عدم وجود مصنف مستقل في هذا الجانب
لا يخفى على الممارس لهذا الفن ما يلاقيه المعتنون بالأسانيد من الجهد والمشقة في سبيل الوقوف على تراجم مشايخ أصحاب الكتب المتأخرة خاصة شيوخ البيهقي بسبب تفنن البيهقي في ذكر أسمائهم، فيتفنن في اسم الشيخ الواحد بأكثر من طريقة، مرة باسمه كاملا أو بجزء منه، ومرة بكنيته، وأخرى بلقبه، وأحيانا بحرفته، حتى وصل الأمر في بعض الأحيان إلى أكثر من عشر صور للاسم الواحد، مما جعل المشتغلين بهذا العلم في أحيان كثيرة يعجزون عن تحديد أصحاب هذه الأسماء، خصوصا وأن كتب التراجم لم تأت بترجمتهم على الصيغة التي أوردها البيهقي في
كتبه، مما يتطلب جهودًا مضنية من الباحثين، ومعرفة عميقة بطرق البيهقي في تسميته شيوخه حتى يتمكنوا من الوصول إلى ترجماتهم.
وقد أدى هذا في بعض الأحيان إلى الخلط بين أسماء هؤلاء الرواة (1) مما أثر على الأحاديث ودقة الحكم عليها بالصحة والضعف.
وقد تطلب هذا عناية كبيرة بالرجوع إلى أمات كتب التراجم والكتب المؤلفة في تواريخ البلدان وغيرها؛ حتى تم -بحمد الله وتوفيقه- معالجة مثل هذا اللبس.
أهمية كتب البيهقي في ذكر نصوص كثير من المصادر المفقودة والتي لم تطبع بعد
فقد حفظ لنا البيهقي رحمه الله تعالى الكثير من المصادر المفقودة المتنوعة التي لم يصل إلينا منها شيء، إما بطريق الإجازة أو المكاتبة أو الوجادة، فأحسن النقل، حتى أصبحنا نأخذ النص وكأننا نرى المصدر الذي استُقِي منه، فمثلا الجامع الكبير لسفيان الثوري، رواية عبد الله بن الوليد العدني، يعد هذا الجامع من الكتب المفقودة التي لم يصلنا منها سوى اسمه، فقد اعتمد البيهقي عليه، وروى منه الكثير في كتبه من طريق شيخه أبي بكر الفارسي، وكذلك روى لنا مسند أحمد بن عبيد الصفار عن شيخه علي بن أحمد بن عبدان عن الصفار، وكذلك صحيح الإسماعيلي
(1) حتى إن الإمام الذهبي رحمه الله عندما ترجم لبشر بن أحمد بن بشر بن محمود أبي سهل الإسفراييني المهرجاني الدهقان قال: حدث عنه: الحاكم، والعلاء بن محمَّد بن أبي سعيد، ومحمَّد بن حم الفقيه، ومحمَّد بن محمَّد بن أبي المعروف، وشريك بن عبد الملك المهرجاني، وهم من شيوخ البيهقي. انتهى. سير أعلام النبلاء (16/ 229)، تاريخ الإِسلام (8/ 319) رضي الله عن الذهبي ورحمه فإن محمَّد بن حم الفقيه، ومحمد بن محمد بن أبي المعروف واحد، والذي أوقع الذهبي رحمه الله في ذلك هو تفنن البيهقي رحمه الله في تسمية شيوخه. وقد أشرنا إلى غير ذلك من الأمثلة في ثنايا الكتاب.
الذي يرويه عن شيخه أبي عمرو الأديب عن الإسماعيلي، وسنن يوسف بن يعقوب القاضي، وأمالي أبي عبد الله الحافظ صاحب المستدرك، وتاريخ نيسابور له، وغير ذلك من الكتب التي نبهنا عليها في سياق الكتاب.
أهمية كتب البيهقي في ضبط نصوص كثير من المصادر المطبوعة
إلى جانب ما سبق فقد حفظ لنا الكثير من المصادر المطبوعة التي أعانت على ضبط كثير من النصوص، مثل: الكامل لابن عدي الذي يرويه البيهقي عن شيخه أبي سعد الماليني عن ابن عدي، وسنن الدارقطني الذي يرويه عن شيخه أبي بكر الحارثي عن الدارقطني، فرواية البيهقي لهما تعد نسخة ثانوية لضبط الكثير من نصوصهما، وهذا مثل لكثير من الكتب التي رواها البيهقي في كتبه، ككتاب مسند أبي داود الطيالسي؛ يرويه البيهقي عن شيخه ابن فورك، وكتاب سنن أبي داود السجستاني رواية اللؤلؤي؛ يرويه البيهقي من طريق شيخه أبي بكر محمَّد بن محمَّد الطوسي، وغيرها كثير.
اعتماد العلماء على البيهقي في أحكامه على الرواة
تعد كتب البيهقي غزيرة بالمادة النقدية على الرواة جرحًا وتعديلا وسماع بعضهم من بعض، فلا نكاد نجد صفحة من صفحات كتبه خالية من كلامه على رواة أحاديثه جرحًا وتعديلا وسماعا، حتى إن الحافظين الذهبي وابن حجر عندما ترجما لمحمد بن عبد الله الفلسطيني؛ الراوي عن جويبر وعنه أحمد بن عبد الله الجويباري، ذكرا كلام البيهقي فيه، وحاصله: أما محمَّد بن عبد الله الفلسطيني هذا فلست أعرفه ولست أجد اسمه في التواريخ التي عندي، وإنما هو شيخ مجهول، والجهالة عين الجرح عند أهل الحديث (1)
…
وأما أحمد بن عبد الله الجويباري
(1) وهذه فائدة جليلة حيث اشتهر في الآونة الأخيرة بين طلبة الحديث سؤال وهو: هل الجهالة جرح أم لا؟.
فإني أعرفه حق المعرفة بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وضع عليه أكثر من ألف حديث
…
انتهى (1).
يتميز كتب البيهقي بذكر الأحكام المتعلقة بدرجة الأحاديث
تتميز كتب البيهقي بالعناية الفائقة بنقد الأسانيد والمتون، والعمل على فحصها وتمحيصها، فالناظر في كتب البيهقي يقف على خبايا العلل والأوهام ودقائق الأخطاء التي يشير البيهقي إليها في سائر مصنفاته، كما قال شيخ الإِسلام: "
…
البيهقي ينقي الآثار ويميز بين صحيحها وسقيمها
…
" (2)
الإفادة من كتب البيهقي في معرفة بلدان الرواة وأماكنهم وأزمنة التحديث
فالناظر في كتب البيهقي يجد أثناء استعراض البيهقي للأسانيد أنه يذكر بلد الرجل، كأن يقول: حدثنا فلان القاضي بالكوفة، أو القاضي بالري. ويذكر كذلك أماكن سماعه منهم، مثل عبارات: حدثنا فلان قدما علينا نيسابور أو بيهق حاجًّا. أو: حدثنا فلان وهو في طريقه إلى بغداد. أو: حدثنا فلان على شط الفرات.
وكذلك في أزمنة السماع وهو يحدث عن شيخه ثم يضبط سنة السماع منه، ويراعي البيهقي ذلك في شيوخ شيوخه، ولا يخفى على ممارس هذا العلم أهمية ذلك في سرعة الترجمة للشيخ، فمثلا: لو قال البيهقي: حدثنا فلان ببيهق. فعلى الباحث أن يعمد إلى الكتب المؤلفة في مدينة بيهق ويطلب هذا الراوي، وكذلك في ذكر أماكن السماع والأزمنة، كل ذلك يفيد في رفع جهالة العين والحال عن الراوي، وهذه فوائد قلّ من يتنبه لها.
(1) جزء الجُويباري (2/ 215) للبيهقي.
(2)
مجموع الفتاوى 24/ 154.
يتميز كتب البيهقي بذكر بعض الكنى والأنساب لكثير من الرواة التي خلت كتب التراجم منها
تتميز كتب البيهقي بذكر كنى وأنساب الرواة التي لم يقف المترجمون لهم عليها، وهو أمر ملاحظ في كثير من الرواة خاصة في طبقة شيوخه، فإن دل ذلك فإنما يدل على سعة علم البيهقي بمعرفة أنساب الرواة وكناهم، ولا يخفى على الباحثين فائدة ذلك.
التعيين لكثير من الرواة المبهمين والمهملين في الأسانيد
كما تتميز كتب البيهقي بالكشف عما أبهم في الإسناد، وكما هو معلوم أن هذا الأمر ليس من الأمور الهينة الميسورة؛ فهذا يتطلب اطلاعا واسعا واستحضارًا جيدًا، ومعرفة بالرواة وشيوخهم وتلاميذهم وطبقاتهم، ومن الأمثلة العويصة لبعض المبهمات التي كشف البيهقي عنها ما أخرجه في السنن الكبرى (1) عن رجل من بني عقيل عن عمه، قال البيهقي معلقا عليه: هو إبراهيم العقيلي، وعمه ثور بن قدامة، رواه الثوري عنه. انتهى.
وكذلك مما تتميز به كتب البيهقي في تعيين بعض الرواة المهملين الذين يأتون بكناهم فقط، أو يأتون بأسمائهم مع اشتراكهم مع كثير من رواة هذه الطبقة في هذا الاسم أو تلك الكنية، ولهذا العمل فوائد جليلة، منها: دفع توهم من لا خبرة له بهذا الشأن من الخلط بينه وبين راوٍ آخر في نفس الطبقة أو يشترك معه في الشيوخ والتلاميذ، وهذا العمل يتطلب جهدا كبيرا ومعرفة واسمعة بالرجال حتى يتمكن من القيام به على الوجه الأتم.
(1)(4/ 269).
كذلك من الدوافع التي تدفع الباحثين إلى القيام على خدمة كتب البيهقي تنوعها واشتمالها على أكثر من فن
حيث تعد كتب البيهقي من الكتب المتنوعة في سائر العلوم، فمنها ما هو في الفقه والعقائد والتربية والسلوك والرقائق والزهد والسيرة واللغة، وغير ذلك، كما هو ظاهر جلي لمن يطالعها.
يضاف إلى ذلك تميزها من ناحية إتقانها وكثرة فوائدها مع تفردها بأشياء كثيرة نافعة لم يسبق إليها، كما كان لهذه المؤلفات أكبر الأثر في إثراء المذهب الشافعي.
كل ذلك كان داعيا لتأليف هذا الكتاب والذي سميته إتحاف المرتقي بتراجم شيوخ البيهقي، وأرجو أن يجعله الله تحفة للباحثين وطلاب العلم إذا أرادوا الارتقاء في هذا الميدان لأسباب كثيرة، منها ما ذكرته في هذه المقدمة، ومنها ما سيلمسه الباحث عمليًّا عند مطالعة الكتاب.