الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وطيف بِهِ حول الْكَعْبَة وَدفن بِالْمَدِينَةِ فِي رِبَاط بناه لنَفسِهِ وَبَين قَبره وقبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ -
نَحْو خَمْسَة عشر ذِرَاعا.
وجمال الدّين هَذَا هُوَ الَّذِي جدد مَسْجِد الْخيف بمنى، وَبنى الْحجر بِجَانِب الْكَعْبَة وزخرف الْكَعْبَة وبذل جملَة طائلة لصَاحب مَكَّة وللمقتفي حَتَّى مكنه من ذَلِك، وَبنى الْمَسْجِد الَّذِي على عَرَفَات وَعمل الدرج إِلَيْهِ وَعمل بِعَرَفَات مصانع المَاء، وَبنى سوراً
على الْمَدِينَة، وَبنى على دجلة جِسْرًا عِنْد جَزِيرَة ابْن عمر بِالْحجرِ المنحوت وَالْحَدِيد، والرصاص، والكلس، فَقبض قبل أَن يفرغ، وَبنى الرَّبْط وَغَيرهَا.
وفيهَا: توفّي نصر بن خلف ملك سجستان وعمره فَوق الْمِائَة وملكة ثَمَانُون سنة، وَملك بعده ابْنه أَبُو الْفَتْح أَحْمد.
وفيهَا: توفّي الإِمَام عمر الْخَوَارِزْمِيّ خطيب بَلخ ومفتيها وَالْقَاضِي أَبُو بكر المحمودي ذُو التصانيف، وَله مقامات فارسية.
ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي ربيع الأول توفّي شاه مازندران رستم بن عَليّ بن شهريار بن قَارن، وَملك بعده ابْنه عَلَاء الدّين الْحسن.
وفيهَا: ملك الْمُؤَيد آي بِهِ هراة.
وفيهَا: كَانَ بَين قلج أرسلان بن مَسْعُود صَاحب قونية وَغَيرهَا وَبَين باغي أرسلان بن الدانشمند صَاحب ملطية حروب انهزم فِيهَا قلج أرسلان وَاتفقَ موت باغي أرسلان فِي تِلْكَ الْمدَّة فَملك ملطية ابْن أَخِيه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الدانشمند وَاسْتولى ذُو النُّون بن مُحَمَّد بن الدانشمند على قيسارية.
وَملك شاهان شاه بن مَسْعُود أَخُو قلج أرسلان مَدِينَة أنكورية، واصطلحوا على ذَلِك.
وفيهَا: توفّي عون الدّين بن هُبَيْرَة الْوَزير واسْمه يحيى بن مُحَمَّد بن المظفر، وَدفن بمدرسته الحنبلية بِبَاب الْبَصْرَة، كَانَ يعظمه المقتفي، وَلما مَاتَ قبض على أَوْلَاده وَأَهله.
قلت: هَذَا مُشكل، فالمقتفي توفّي سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة، والوزير توفّي هَذِه السّنة وَإِن كَانَ الْوَزير هُوَ الَّذِي قبض على أَوْلَاد المقتفي وَأَهله فَأَيْنَ النَّقْل بِهِ وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْقَاسِم عمر بن عِكْرِمَة بن البرزي الشَّافِعِي تلميذ الكيا أوحد فِي الْفِقْه من جَزِيرَة ابْن عمر.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن هبة الله بن صاعد بن هبة الله بن التلميذ وَقد ناهز الْمِائَة، كَانَ طَبِيب الْخلَافَة حظي عِنْد المقتفي حاذقاً أديباً عَالما مُصِيب الْفِكر قسيساً لِلنَّصَارَى يتعجب مِنْهُ الْفُضَلَاء كَيفَ حرم الْإِسْلَام، وَكَانَ بَينه وَبَين أبي البركات هبة الله بن ملكان الْحَكِيم تنافس على الْعَادة، وَكَانَ أَبُو البركات يَهُودِيّا فَأسلم شَيخا وجذم فتداوى وبرأ مِنْهُ، لَكِن عمي، وَكَانَ متكبراً وَابْن التلميذ متواضع فَعمل ابْن التلميذ فِيهِ.
(لنا صديق يَهُودِيّ حماقته
…
إِذا تكلم تبدو فِيهِ من فِيهِ)
(يتيه وَالْكَلب أَعلَى مِنْهُ منزلَة
…
كَأَنَّهُ بعد لم يخرج من التيه)
وَلابْن التلميذ أَيْضا:
(يَا من رماني عَن قَوس فرقته
…
بِسَهْم هجر على تلافيه)
(ارْض لمن غَابَ عَنْك غيبته
…
فَذَاك ذَنْب عِقَابه فِيهِ)
وَله أقراباذين وحواشي كليات القانون وَشَيْخه فِي الطِّبّ أَبُو الْحسن هبة الله بن سعيد صَاحب الْمُغنِي فِي الطِّبّ وَصَاحب الْإِقْنَاع.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي ربيع الآخر توفّي الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن أبي صَالح الجيلي بِبَغْدَاد ومولده سنة سبعين وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ حنبلي الْمَذْهَب.
قلت: هُوَ الشَّيْخ محيي الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن أبي صَالح مُوسَى جنكي دوست بن أبي عبد الله بن يحيى الزَّاهِد بن مُحَمَّد بن دَاوُد بن مُوسَى بن عبد الله بن مُوسَى الجون بن عبد الله الْمَحْض المجل بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنهم سبط أبي عبد الله الصومعي ينْسب إِلَى جيل بِكَسْر الْجِيم بِلَاد مُتَفَرِّقَة وَرَاء طبرستان، وَيُقَال لَهَا أَيْضا جيلان وَكيل وكيلان والصومعي الْمَذْكُور من جلة مَشَايِخ جيلان، لَهُ الْأَحْوَال والكرامات، وَأمه أم الْخَيْر أمة الْجِيَاد فَاطِمَة بنت أبي عبد الله الصومعي، لَهَا أَحْوَال وكرامات، قَالَت غير مرّة: لما وضعت ابْني عبد الْقَادِر كَانَ لَا يرضع ثدييه فِي نَهَار رَمَضَان، وغم على النَّاس هِلَال رَمَضَان فأتوني وسألوني عَنهُ فَقلت: لم يلتقم الْيَوْم ثدياً، ثمَّ اتَّضَح أَن ذَلِك الْيَوْم كَانَ من رَمَضَان.
وَقَوله فِي النّسَب الجون: هُوَ لقب لمُوسَى، وَكَانَ آدم اللَّوْن، وَله تَقول أمة هِنْد بنت أبي عُبَيْدَة:
(إِنَّك أَن تكون جوناً انزعا
…
أَجْدَر أَن تَضُرهُمْ أَو تنفعا)
وحملت بِهِ وَهِي ابْنة سِتِّينَ سنة، وَيُقَال: لَا تحمل لستين سنة إِلَّا قرشية وَلَا لخمسين إِلَّا عَرَبِيَّة وَأم ابْنه عبد الله أم سَلمَة بنت مُحَمَّد بن طَلْحَة بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق رضي الله عنهم، والمحض لقب لعبد الله بِمَعْنى الْخَالِص لِأَن أَبَاهُ الْحسن بن الْحسن بن عَليّ وَأمه فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن بن عَليّ فنسبه من أَبَوَيْهِ خَالص لسلامته من الموَالِي وانتهائه إِلَى عَليّ كرم الله وَجهه، والمجل بِضَم الْمِيم وَفتح الْجِيم من الإجلال اسْم مفعول من أجللته.
وَفَاطِمَة: هَذِه خلف عَلَيْهَا بعد الْحسن ابْن الْحسن.
عبد الله الْمطرف: بن عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان وَولد لَهُ مُحَمَّد الديباج لقب بِهِ لحسنه، ولقب أَبوهُ بالمطرف لجماله، وَأم الْمطرف حَفْصَة بنت عبد الله بن عمر بن الْخطاب رضي الله عنهم.
والمطرف بِضَم الْمِيم وَفتح الرَّاء من أطرفته بِكَذَا، وَكَانَ الشَّيْخ نحيف الْبدن ربع
الْقَامَة عريض الصَّدْر واللحية طويلها أسمر مقرون الحاجبين حفياً ذَا صَوت جَهورِي، كَانَ يجلس لوعظه رجلَانِ وَثَلَاثَة، ثمَّ تسامعوا وازدحموا فَجَلَسَ فِي الْمصلى بِبَاب الحلبة ثمَّ ضَاقَ بهم الوسع فَحمل الْكُرْسِيّ إِلَى خَارج الْبَلَد وَجعل فِي الْمصلى وَجَاء النَّاس على الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير وَالْجمال يقفون بمدار الْمجْلس كالسور، وَكَانَ يحضر مَجْلِسه نَحْو من سبعين ألفا، وَأَن الْأَوْلِيَاء وَالْمَلَائِكَة ليزدحمون فِي مَجْلِسه، وَمن لَا يرى فِيهِ أَكثر مِمَّن يرى.
وَعَن الشَّيْخ أبي زَكَرِيَّا يحيى بن أبي نصر بن عمر الْبَغْدَادِيّ المشاه الصحراوي قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول: استدعيت الجان مرّة بالعزائم وأبطأت عَليّ إجابتهم أَكثر من عادتي ثمَّ أَتَوْنِي وَقَالُوا لي: لَا تعد تستدعينا إِذا كَانَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر يتَكَلَّم على النَّاس، فَقلت: وَلم؟ قَالُوا بالحضرة، قلت وَأَنْتُم أَيْضا؟ قَالُوا: إِن ازدحامنا بمجلسه أَشد من ازدحام الْإِنْس، وَإِن منا طوائف كَثِيرَة أسلمت وتابت على يَدَيْهِ.
وَعَن أبي الْبَقَاء عبد الله بن الْحُسَيْن الْحَنْبَلِيّ العكبري قَالَ: سَمِعت يحيى بن نجاح الأديب يَقُول: قلت فِي نَفسِي أُرِيد أحصي كم يقص الشَّيْخ عبد الْقَادِر شعرًا من الثَّوَاب فِي مجْلِس وعظه، فَحَضَرت الْمجْلس وَمَعِي خيط فَكلما قصّ شعرًا عقدت عقدَة تَحت ثِيَابِي فِي الْخَيط وَأَنا فِي آخر النَّاس وَإِذا بِهِ يَقُول: أَنا أحل وَأَنت تعقد.
وَعَن الْخضر الْحُسَيْنِي الْموصِلِي أَن الشَّيْخ كَانَ يتَكَلَّم فِي أول مَجْلِسه بأنواع الْعُلُوم وَكَانَ إِذا صعد الْكُرْسِيّ لَا يبصق أحد وَلَا يتمخط وَلَا يَتَنَحْنَح وَلَا يتَكَلَّم وَلَا يقوم هَيْبَة لَهُ إِلَى وسط الْمجْلس فَيَقُول الشَّيْخ مضى القال وعطفاً بِالْحَال فيضطرب النَّاس اضطراباً شَدِيدا ويتداخلهم الْحَال والوجد، وَكَانَ يعد من كراماته أَن أقْصَى النَّاس فِي مَجْلِسه يسمع صَوته كَمَا يسمعهُ أَدْنَاهُم مِنْهُ على كثرتهم، وَكَانَ يتَكَلَّم على خواطر أهل الْمجْلس ويواجههم بالكشف.
وَكَانَ النَّاس يضعون أَيْديهم فِي مَجْلِسه فَتَقَع على رجال بَينهم يدركونهم باللمس وَلَا يرونهم ويسمعون وَقت كَلَامه فِي الفضاء حسا وصياحاً، وَرُبمَا سمعُوا وجبة سَاقِطَة من الجو إِلَى أَرض الْمجْلس وَذَلِكَ رجال الْغَيْب وَغَيرهم.
وَعَن الْحَافِظ أبي زرْعَة طَاهِر بن مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي الرَّازِيّ قَالَ: حضرت مجْلِس الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلي بِبَغْدَاد سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة فَسَمعته يَقُول: إِنَّمَا كَلَامي على رجال يحْضرُون مجلسي من وَرَاء جبل قَاف أَقْدَامهم فِي الْهَوَاء وَقُلُوبهمْ فِي حَضْرَة الْقُدس، تكَاد قلانسهم وطواقيهم تحترق من شدَّة شوقهم إِلَى رَبهم عز وجل، وَكَانَ ابْنه عبد الرَّزَّاق إِذْ ذَاك جَالِسا على الْمِنْبَر تَحت رجل أَبِيه فَرفع رَأسه إِلَى الْهَوَاء فشخص سَاعَة ثمَّ غشى عَلَيْهِ واحترقت طاقيته وزيقه فَنزل الشَّيْخ وأطفأها، وَقَالَ: وَأَنت أَيْضا يَا عبد الرَّزَّاق مِنْهُم، وَقَالَ: فَسَأَلت عبد الرَّزَّاق مَا أغشاه؟ فَقَالَ: لما نظرت إِلَى الْهَوَاء رَأَيْت
رجَالًا واقفين مطرقين منصتين لكَلَامه وَقد ملأوا الْأُفق وَفِي لباسهم وثيابهم النَّار، وَمِنْهُم من يصبح ويعد فِي الْهَوَاء وَمِنْهُم من يسْقط إِلَى أَرض الْمجْلس وَمِنْهُم من يرعد فِي مَكَانَهُ وَكَانَ يكْتب مَا يَقُول فِي مَجْلِسه أَرْبَعمِائَة محبرة عَالم وَغَيره، قَالَه فِي بهجة الْأَسْرَار.
وَكَانَ رضي الله عنه كثيرا مَا يخطو فِي الْهَوَاء فِي مَجْلِسه على رُؤُوس النَّاس خطوَات ثمَّ يرجع إِلَى الْكُرْسِيّ، وَكم مَاتَ فِي مَجْلِسه من رجل، وَكَانَ يحضرهُ مثل الشَّيْخ بغابن بطو وَالشَّيْخ أبي سعد القيلوني وَالشَّيْخ عَليّ بن الهبتي وَالشَّيْخ نجيب الدّين عبد الْقَادِر السهروردي وَالشَّيْخ أبي حَكِيم بن دِينَار وَالشَّيْخ ماجد الْكرْدِي وَالشَّيْخ مطر الباذراني وَالْقَاضِي أبي يعلى مُحَمَّد بن الْفراء وَالْقَاضِي أبي الْحسن عَليّ بن الدَّامغَانِي وَالْإِمَام أبي الْفَتْح بن المنى.
وَكَانَ الشَّيْخ عدي بن مُسَافر غير مرّة يخرج من زاويته بلاكش إِلَى الْجَبَل ويدير دارة بعكازة ويدخلها وَيَقُول: من أَرَادَ أَن يسمع كَلَام الشَّيْخ عبد الْقَادِر فَلْيدْخلْ هَذِه الدارة فيدخلها أكَابِر أَصْحَابه ويسمعون كَلَامه وَرُبمَا كتب بَعضهم مَا يسمعهُ، وأرخ ذَلِك الْيَوْم وَيَأْتِي بَغْدَاد ويقابل مَا كتبه بِمَا كتبه أهل بَغْدَاد من كَلَام الشَّيْخ فِي ذَلِك الْيَوْم فيتفقان.
وَكَانَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر يَقُول: فِي الْوَقْت الَّذِي يدْخل فِيهِ الشَّيْخ عدي الدارة لأهل مَجْلِسه عبر الشَّيْخ عدي بن مُسَافر فِيكُم.
وَقَالَ الشَّيْخ عَليّ الفرنتي: رَأَيْت أَرْبَعَة من الْمَشَايِخ يتصرفون فِي قُبُورهم كتصرف الْأَحْيَاء: الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَالشَّيْخ مَعْرُوف الْكَرْخِي وَالشَّيْخ عقيل المنبجي وَالشَّيْخ حَيَاة بن قيس رضي الله عنهم.
وَقدم رضى الله عَنهُ بَغْدَاد سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة، وَقَرَأَ الْقُرْآن وأتقنه، وتفقه على كثيرين مذهبا وَخِلَافًا وأصولاً، وَسمع الحَدِيث من خلق أكَابِر، وَقَرَأَ الْأَدَب على أبي زَكَرِيَّا يحيى بن عَليّ التبريزي تلميذ أبي الْعَلَاء المعري وَصَحب الشَّيْخ الْعَارِف أَبَا الْخَيْر قدوة الْمُحَقِّقين حماداً الدياس وَأخذ عَنهُ علم الطَّرِيقَة وَأخذ الْخِرْقَة الشَّرِيفَة من يَد القَاضِي أبي سعد المخرمي، وَلَقي جمَاعَة من أَعْيَان زهاد الزَّمَان وَعُظَمَاء العارفين بالعجم وَالْعراق.
وَلَقَد كَانَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية الْحَنْبَلِيّ رحمه الله يَقُول: كرامات الشَّيْخ عِنْد الْقَادِر ثَابِتَة بالتواتر، والمؤلف رحمه الله قصر فِي تَرْجَمته وَأطَال القَوْل فِي ذكر من قد لَا يعبأ الله بِهِ وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا عَاد شيركوه بألفي فَارس إِلَى الديار المصرية من عِنْد نور الدّين فاستولى على الجيزة فاستنجد شاور بالفرنج والتقوا عَليّ الإيوان فَهَزَمَهُمْ شيركوه.
ثمَّ ملك الْإسْكَنْدَريَّة وَجعل فِيهَا ابْن أَخِيه صَلَاح الدّين يُوسُف وَاجْتمعَ عَسْكَر مصر والفرنج وحصروا صَلَاح الدّين بالإسكندرية ثَلَاثَة أشهر، فَسَار شيركوه إِلَيْهِم فَصَالحهُمْ على
تَسْلِيم الْإسْكَنْدَريَّة إِلَيْهِم ويحملون لَهُ مَالا فَعَاد عَنْهُم واصطلح الفرنج والمصريون على شحنة للفرنج بِالْقَاهِرَةِ، وَتَكون أَبْوَابهَا بيد فرسانهم، وَلَهُم من دخل مصر كل سنة مائَة ألف دِينَار.
وفيهَا: فتح نور الدّين صافيتا والعريمة.
وفيهَا: عصى غَازِي بن حسان صَاحب منبج على نور الدّين فسير إِلَيْهِ عسكراً فحصروه وَأخذ مِنْهُ منبج وأقطعها لقطب الدّين نيال أخي غَازِي الْمَذْكُور، إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُ صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: توفّي فَخر الدّين قرا أرسلان بن دَاوُد بن سقمان بن أرتق صَاحب حصن كيفا، وَملك بعده ابْنه نور الدّين مَحْمُود.
قلت: وفيهَا تَقْرِيبًا توفّي الشَّيْخ ماجد الْكرْدِي بجبل حمرين من الْعرَاق، وَكَانَت لَهُ كرامات ظَاهِرَة وأحوال فاخرة، تخرج بِصُحْبَتِهِ أَعْيَان، وَقصد من كل أفق وَمَكَان.
وَمن كَلَامه: الصمت عبَادَة من غير عناء، وزينة من غير حلي وهيبة من غير سُلْطَان وحصن من غير سور، وراحة الْكَاتِبين، وغنية من الِاعْتِذَار وَكفى بِالْمَرْءِ علما أَن يخْشَى الله تَعَالَى، وَكفى بِهِ جهلا أَن يعجب بِنَفسِهِ، وَالْعجب فضل حمق يُغطي بِهِ صَاحبه عُيُوب نَفسه، فَلم يدر أَيْن يذهب بِهِ فَصَرفهُ إِلَى الْكبر وَمَا خلق الله سُبْحَانَهُ من عَجِيبَة إِلَّا ونقشها فِي صُورَة الْآدَمِيّ، وَلَا أوجد أمرا غَرِيبا إِلَّا وسلكه فِيهَا، وَلَا أبرز سرا إِلَّا وَجعل فِيهِ مِفْتَاح علمه، فَهُوَ نُسْخَة مختصرة من الْعَالم.
وَعَن الشَّيْخ ذِي الكرامات مَكَارِم القوساني ذِي الشُّهْرَة الْعَظِيمَة بقوسان، قَالَ: جَاءَ رجل من أَصْحَابنَا إِلَى الشَّيْخ ماجد الْكرْدِي مودعاً حَاجا فِي غير أشهر الْحَج على قدم التَّجْرِيد بِلَا زَاد وَلَا رَفِيق، فَأخْرج لَهُ الشَّيْخ ماجد ركوته وَقَالَ: هَذَا مَاء إِن أردْت الْوضُوء وَلبن إِن عطشت وَسَوِيق إِن جعت، فَوجدَ مِنْهَا الرجل كل مَا قَالَه الشَّيْخ سفرا وَإِقَامَة بالحجاز ورجوعاً إِلَى الْعرَاق، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فَارق زين الدّين عَليّ كجك بن بكتكين نَائِب مودود بن زنكي مخدومه، وَاسْتقر فِي أربل إقطاعه وَاقْتصر عَلَيْهَا لعماه وطرشه.
وفيهَا: توفّي عبد الْكَرِيم أَبُو سعد مُحَمَّد بن الْمَنْصُور بن أبي بكر المظفر السَّمْعَانِيّ الْفَقِيه الْمروزِي الشَّافِعِي مكثر من سَماع الحَدِيث، سَافر فِي طلبه إِلَى بِلَاد يطول ذكرهَا، تزيد شُيُوخه على أَرْبَعَة آلَاف، وَله كتاب الْأَنْسَاب ثَمَانِيَة مجلدات، وذيل تَارِيخ مرو.
وَكَانَ ابْن الْجَوْزِيّ يَقُول: إِنَّه كَانَ يَأْخُذ الشَّيْخ بِبَغْدَاد ويغربه إِلَى مَا فَوق نهر عِيسَى، وَيَقُول: حَدثنِي فلَان بِمَا وَرَاء النَّهر وَهَذَا بَارِد فَأَي حَاجَة للسمعاني إِلَى هَذَا التَّدْلِيس، وَقد سَافر إِلَى مَا وَرَاء النَّهر وذنبه عِنْد ابْن الْجَوْزِيّ أَنه شَافِعِيّ، فَابْن الْجَوْزِيّ لم يبْق على أحد غير الْحَنَابِلَة.
ومولده السَّمْعَانِيّ فِي شعْبَان سنة سِتّ وَخَمْسمِائة، وَهُوَ إِمَام ابْن إِمَام ابْن إِمَام أَبُو إِمَام، فَإِن ابْنه أَبَا المظفر عبد الرَّحِيم كَانَ رحْلَة أَيْضا، ونسبته أَيْضا إِلَى سمْعَان بطن من تَمِيم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا ملك نور الدّين قلعة جعبر من صَاحبهَا شهَاب الدّين مَالك بن عَليّ بن مَالك بن سَالم بن مَالك بن بدران بن الْمُقَلّد بن الْمسيب الْعقيلِيّ، كَانَت بِأَيْدِيهِم من أَيَّام السُّلْطَان ملك شاه وَلم يقدر نور الدّين عَلَيْهَا إِلَّا بعد أَن أسرت بَنو كلاب صَاحبهَا فَاسْتَحْضرهُ واجتهد بِهِ على تَسْلِيمهَا فَأبى فَأرْسل عَسْكَر مقدمه فَخر الدّين مَسْعُود بن أبي عَليّ الزَّعْفَرَانِي وَردفهُ بعسكر مقدمه مجد الدّين أبي بكر بن الداية رَضِيع نور الدّين وحصروها فَمَا نالوها وَفِي الآخر عوضه عَنْهَا سروج وأعمالها والملوحة وَعشْرين ألف دِينَار مُعجلَة، وناب فِي بزاعة وتسلمها.
قلت: وفيهَا توفّي الشَّيْخ عَليّ بن الهيتي ببلدة زريدان من أَعمال نهر الْملك وَقد زَاد على مائَة وَعشْرين سنة وقبره بهَا يزار.
وَكَانَت لَهُ كرامات ظَاهِرَة وأفعال خارقة، وَهُوَ أحد من تذكر عَنهُ القطبية وَأحد الْأَرْبَعَة الَّذين تسميهم مَشَايِخ الْعرَاق البروة على معنى أَنهم يبرؤن الأكمة والأبرص وهم الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلي، وَالشَّيْخ عَليّ بن الهيتي، وَالشَّيْخ بَقَاء بن بطو، وَالشَّيْخ أَبُو سعد القليوبي.
وَكَانَ قد اعترى الصمم الشَّيْخ مُحَمَّد الْخياط الْوَاعِظ الْبَغْدَادِيّ وَجرى ذكر البروة فَقَالَ: اللَّهُمَّ بحرمتهم عاف سَمْعِي فَزَالَ صممه فِي الْحَال، قَالَ أَبُو الْفرج الصرصري وَأَنا رَأَيْته أَصمّ، ورأيته يسمع التناجي، وألبس أَبُو بكر الصّديق رضي الله عنه أَبَا بكر بن هوار فِي الْيَوْم خرقتين ثوبا وطاقية، فَاسْتَيْقَظَ فوجدهما عَلَيْهِ وأعطاهما لمريده الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الشنبكي وأعطاهما الشنبكي لمريده تَاج العارفين أبي الْوَفَاء وأعطاهما تَاج العارفين لمريده الشَّيْخ عَليّ بن الهيتي وأعطاهما ابْن الهيتي لمريده الشَّيْخ عَليّ بن إِدْرِيس، ثمَّ فقدتا من بعده، وَابْن الهيتي الَّذِي أَتَاهُ الْخطاب يَا ملكي تصرف فِي ملكي.
وَقَالَ عبد الْقَادِر: كل من دخل بَغْدَاد من الْأَوْلِيَاء من عَالم الْغَيْب، أَو الشَّهَادَة، فَهُوَ فِي ضيافتنا وَنحن فِي ضِيَافَة الشَّيْخ عَليّ بن الهيتي، وَكَانَ يتَمَثَّل بِهَذِهِ الأبيات:
(إِن رحت أطلبه لَا يَنْقَضِي سَفَرِي
…
أَو جِئْت أحضرهُ أوحشت فِي الْحَضَر)
(فَمَا أرَاهُ وَلَا يَنْفَكّ عَن نَظَرِي
…
وَفِي ضميري وَلَا أَلْقَاهُ فِي عمري)
(فليتني غبت عَن جسمي بِرُؤْيَتِهِ
…
وَعَن فُؤَادِي وَعَن سَمْعِي وَعَن بَصرِي)
وَفِي بهجة الْأَسْرَار أَنه قَالَ: لَو دنت نملة دهماء فِي لَيْلَة ظلماء على صَخْرَة سَوْدَاء من جبل قَاف وَلم يعلمني بهَا رَبِّي مِنْهُ إِلَيّ بِلَا وَاسِطَة، ويطلعني عَلَيْهَا عيَانًا لتفطرت مرارتي.
وَركب مرّة دَابَّته وأتى بَلْدَة من أَعمال نهر الْملك وَنزل عِنْد رجل فاحتفل بِهِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ: إذبح هَذِه الدَّجَاجَة وَهَذِه وَهَذِه فَفعل فَخرج من بطونها حبات ذهب، وَكَانَت أُخْته