الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا شرع الفرنج فِي عمَارَة عسقلان وَالسُّلْطَان بالقدس.
وفيهَا: قتلت الباطنية المركيس صَاحب صور فِي زِيّ الرهبان.
عقد الْهُدْنَة مَعَ الفرنج
وَسبب ذَلِك أَن ملك الإنكلتار مرض طَويلا وَطَالَ عَلَيْهِ ذَلِك فكاتب الْعَادِل يسْأَله السَّعْي فِي الصُّلْح فَأبى السُّلْطَان ثمَّ أجَاب لضجر العساكر فتهادنوا ثامن عشر شعْبَان وتحالفوا ثَانِي وَعشْرين شعْبَان فَلم يحلف ملك الإنكلتار بل أعْطى يَده وَعَاهد وَاعْتذر بِأَن الْمُلُوك لَا يحلفُونَ وَحلف الكندهري ابْن أَخِيه وخليفته فِي السَّاحِل وَعُظَمَاء الفرنج، وَوصل ابْن الهنفري وباليان والمقدمون وَأخذُوا يَد السُّلْطَان واستحلفوا الْعَادِل أَخَاهُ، وَالْأَفْضَل وَالظَّاهِر ابنيه والمنصور والمجاهد شيركوه بن مُحَمَّد بن شيركوه صَاحب حمص، والأمجد بهْرَام شاه بن فرخ شاه صَاحب بعلبك، وَبدر الدّين دلدرم الياروقي صَاحب تل بَاشر، وَالسَّابِق عُثْمَان بن الداية صَاحب شيزر، وسيق الدّين على بن المشطوب وَغَيرهم من المقدمين الْكِبَار، وعقدت هدنة عَامَّة فِي الْبر وَالْبَحْر ثَلَاث سِنِين وَثَلَاثَة أشهر أَولهَا أيلول الْمُوَافق لحادي وَعشْرين شعْبَان على أَن يسْتَقرّ للفرنج يافا وقيسارية وحيفا وعكا وَتَكون عسقلان خراباً.
وَأدْخل السُّلْطَان بِلَاد الإسماعيلية فِي هدنته وَأدْخل الفرنج صَاحب أنطاكية وطرابلس فِي هدنتهم وتناصفوا لد والرملة.
ثمَّ تفقد السُّلْطَان الْقُدس وَأمر بتشييد أسواره، وَزَاد وقف مدرسته بالقدس، وتعرف قبل الْإِسْلَام بصند حنة قيل فِيهَا قبر حنة أم مَرْيَم، ثمَّ صَارَت فِي الْإِسْلَام دَار علم.
ثمَّ ملك الفرنج الْقُدس سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وأعادوها كَنِيسَة كَمَا كَانَت، ثمَّ أَعَادَهَا السُّلْطَان مدرسة وَولى القَاضِي بهاء الدّين بن شَدَّاد تدريسها ووقفها وعزم على الْحَج، ثمَّ خشِي غدر الفرنج عَن الْقُدس لخمس مضين من شَوَّال إِلَى نابلس، ثمَّ إِلَى بيسان، ثمَّ بَات بقلعة كَوْكَب، ثمَّ إِلَى طبرية ولقيه بهَا الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش الْأَسدي، وَقد خلص من الْأسر بعكا ثمَّ لحق بِمصْر ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى بيروت فَجَاءَهُ بيمند صَاحب أنطاكية حادي عشر شَوَّال فَأكْرمه وفارقه فِي الْغَد وَدخل السُّلْطَان دمشق لخمس بَقينَ من شَوَّال، وَفَرح بِهِ النَّاس بعد غيبَة أَربع سِنِين، وَعدل وَأحسن وَأعْطى العساكر الدستور فودعه ابْنه الظَّاهِر وداعاً لَا لِقَاء بعده فِي الدُّنْيَا، وَسَار إِلَى حلب وبقى عِنْده بِدِمَشْق ابْنه الْأَفْضَل وَالْقَاضِي والفاضل.
وَيَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين من شَوَّال مِنْهَا توفّي الْأَمِير سيف الدّين عَليّ بن المشطوب بنابلس إقطاعه فَوقف السُّلْطَان ثلث نابلس على مصَالح الْقُدس وأقطع الْبَاقِي لعماد الدّين أَحْمد بن المتوفي ولأميرين مَعَه.
وفيهَا: فِي منتصف شعْبَان توفّي السُّلْطَان قلج أرسلان بن مَسْعُود السلجوقي صَاحب الرّوم، وَملك سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة، كَانَ مهيباً عادلاً عَارِفًا، وَولي كل وَاحِد من بَينه الْعشْرَة قطراً من الرّوم وأكبرهم قطب الدّين ملك شاه، وَتُوفِّي بعد أَبِيه، فاستقر كيسخرو بن قلج أرسلان فِي ملك قونيه وَأثبت أَنه ولي عهد أَبِيه.
ثمَّ أَن ركن الدّين سُلَيْمَان أَخا كيخسرو قوي فَأخذ مِنْهُ قونية فهرب كيخسرو إِلَى الشَّام مستنجداً بِالْملكِ الظَّاهِر صَاحب حلب.
ثمَّ مَاتَ ركن الدّين سُلَيْمَان سنة سِتّمائَة، وَملك بعده ابْنه قلج أرسلان، فَرجع كيخسرو وَملك الرّوم جَمِيعًا إِلَى أَن قتل.
وَملك بعده: ابْنه عز الدّين كيكاوس ثمَّ توفّي كيكاوس وَملك بعده السُّلْطَان عَلَاء الدّين كيقباد بن كيخسرو.
وَتُوفِّي عَلَاء الدّين سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة، وَملك بعده ابْنه غياث الدّين كيخسرو بن عَلَاء الدّين وكسره التتر سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وسِتمِائَة، وتضعضع حِينَئِذٍ ملك السلاطين السلجوقية بالروم.
ثمَّ مَاتَ غياث الدّين كيخسرو بن عَلَاء الدّين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن مَسْعُود بن قلج أرسلان بن سُلَيْمَان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق، وانقرض بِمَوْتِهِ ملكهم فِي الْحَقِيقَة إِذْ لم يكن لمن بعدهمْ مِنْهُم سوى الِاسْم، وَخلف كيخسرو ابْنَيْنِ هما ركن الدّين وَعز الدّين فملكا مَعًا مديدة، ثمَّ انْفَرد ركن الدّين بالسلطنة، وهرب عز الدّين إِلَى قسطنطينية، وتغلب على ركن الدّين معِين الدّين البرواتاه، والبلاد فِي الْحَقِيقَة للتتر ثمَّ قتل البرواتاه ركن الدّين وَأقَام ابْنا لركن الدّين يخْطب لَهُ صُورَة:
وفيهَا: غزا شهَاب الدّين الغوري الْهِنْد فغنم وَقتل مَا لَا يُحْصى.
وفيهَا: خرج السُّلْطَان طغرل بك بن أرسلان من الْحَبْس بعد قتل قزل أرسلان بن إيلدكز.
وفيهَا: توفّي رَاشد الدّين سِنَان بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد أَبُو الْحسن صَاحب دَعْوَة الإسماعيلية بقلاع الشَّام وَأَصله من الْبَصْرَة.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا لَيْلَة الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من صفر توفّي السُّلْطَان صَلَاح الدّين وَحضر وَفَاته القَاضِي الْفَاضِل، وَوصل القَاضِي بهاء الدّين بن شَدَّاد بعد وَفَاته، وغسله الدولعي خطيب دمشق، وَأخرج بعد ظهر الْأَرْبَعَاء فِي تَابُوت مسجى بِثَوْب وكفنه الْفَاضِل من جِهَة حل، وَصلى عَلَيْهِ النَّاس وَغشيَ النَّاس لمَوْته حزن لَا يُوصف وبكاء لَا تمكن حكايته، وَدفن بقلعة دمشق فِي الدَّار الَّتِي مرض بهَا، وَكَانَ الْأَفْضَل عَليّ قد حلف لَهُ قبل وَفَاة وَالِده عِنْد شده مَرضه وَجلسَ للعزاء فِي القلعة، وَكتب
بوفاته إِلَى أَخِيه الْعَزِيز بِمصْر وَإِلَى عَمه الْعَادِل أبي بكر بالكرك وَإِلَى أَخِيه الظَّاهِر غَازِي بحلب.
قلت: وَكتب القَاضِي الْفَاضِل إِلَى الْملك الظَّاهِر غَازِي (بطاقة) بديعة فِي تِلْكَ الْحَال الَّتِي يذهل فِيهَا الْإِنْسَان عَن نَفسه مضمونها لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة إِن زَلْزَلَة السَّاعَة شَيْء عَظِيم.
كتبت إِلَى مَوْلَانَا السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه، وَجعل فِي الْخلف فِي السَّاعَة الْمَذْكُورَة، وَقد زلزل الْمُسلمُونَ زلزالاً شَدِيدا وَقد حفرت الدُّمُوع المحاجر، وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر، وَقد ودعت أَبَاك ومخدومي وداعاً لَا يلاقي بعده، وَقبلت وَجهه عني وعنك وأسلمته إِلَى الله تَعَالَى مغلوب الْحِيلَة ضَعِيف الْقُوَّة رَاضِيا عَن الله وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وبالباب من الْجنُود المجندة والأسلحة المغمدة مَا لم يدْفع الْبلَاء وَلَا ملك يرد الْقَضَاء وتدمع الْعين، ويخشع الْقلب، وَلَا نقُول إِلَّا مَا يرضى الرب وَإِنَّا عَلَيْك لَمَحْزُونُونَ.
يَا يُوسُف: وَأما الْوَصَايَا فَمَا نحتاج إِلَيْهَا، والآراء فقد شغلني الْمُصَاب عَنْهَا، وَأما لائح الْأَمر فَإِنَّهُ إِن وَقع الِاتِّفَاق فَمَا عدمتم إِلَّا شخصه الْكَرِيم وَإِن كَانَ غَيره، فالمصائب الْمُسْتَقْبلَة أهونها مَوته وَهُوَ الهول الْعَظِيم وَالسَّلَام، وَالله أعلم.
ثمَّ أَن الْملك الْأَفْضَل عمل تربة قرب الْجَامِع كَانَت دَارا لرجل صَالح وَنقل إِلَيْهَا السُّلْطَان يَوْم عَاشُورَاء سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة، وَمَشى الْأَفْضَل بَين يَدي تابوته وَأخرج من بَاب القلعة على دَار الحَدِيث إِلَى بَاب الْبَرِيد وَأدْخل الْجَامِع وَوضع قُدَّام النسْر وَصلى عَلَيْهِ القَاضِي محيي الدّين بن الزكي، ثمَّ دفن وَجلسَ الْأَفْضَل فِي الْجَامِع ثَلَاثَة أَيَّام للعزاء، وأنفقت سِتّ الشَّام بنت أَيُّوب أُخْت السُّلْطَان فِي هَذِه التَّوْبَة أَمْوَالًا عَظِيمَة.
ومولد صَلَاح الدّين بتكريت سنة اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فعمره تَقْرِيبًا سبع وَخَمْسُونَ، وَملكه للديار المصرية نَحْو أَربع وَعشْرين سنة، وَملكه للشام نَحْو تسع عشرَة سنة، وَخلف سَبْعَة عشر ابْنا وبنتاً وَاحِدَة وأكبرهم الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ ولد بِمصْر سنة خمس وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة، والعزيز عُثْمَان أَصْغَر مِنْهُ بِنَحْوِ سنتَيْن، وَالظَّاهِر أَصْغَر مِنْهُمَا، وَبقيت الْبِنْت حَتَّى تزَوجهَا ابْن عَمها الْكَامِل صَاحب مصر، وَلم يخلف السُّلْطَان فِي خزانته غير سَبْعَة وَأَرْبَعين درهما، وجرم وَاحِد صوري وَلم يتْرك دَارا وَلَا عقارا أطلق فِي مقَامه بمرج عكا من خيل عراب وأكاديش اثْنَي عشر ألف رَأس غير ثمن مَا أُصِيب فِي الْقِتَال، وَلم يُؤَخر صَلَاة عَن وَقتهَا وَلَا صلى إِلَّا فِي جمَاعَة.
وَكَانَ متوكلاً على الله لَا يفضل فِي عزمه يَوْمًا على يَوْم، كثير سَماع الحَدِيث قَرَأَ فِي الْفِقْه مُخْتَصر سليم الرَّازِيّ.
وَكَانَ صبوراً كثير التغافل عَن ذنُوب أَصْحَابه، يسمع مَا يكره وَلَا يعلم بِهِ أحدا رمى
بعض مماليكه بَعْضًا بسر موزة فأخطأته وأخطأت السُّلْطَان، وَوَقعت قَرِيبا مِنْهُ فَالْتَفت إِلَى الْجِهَة الْأُخْرَى تغافلاً عَنْهَا.
وَكَانَ طَاهِر الْمجْلس طَاهِر اللِّسَان، وَقَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب: مَاتَ بِمَوْت الرِّجَال وَفَاتَ بفواته الأفضال، وغاضت الأيادي، وفاضت الأعادي وانقطعت الأرزاق وادلهمت الْآفَاق وفجع الزَّمَان بواحده وسلطانه، ورزء الْإِسْلَام بمشيد أَرْكَانه وَاسْتقر فِي ملك دمشق ومضافاتها ابْنه الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ، وبمصر الْملك الْعَزِيز عماد الدّين عُثْمَان، وبحلب الْملك الظَّاهِر غَازِي، وبالكرك والشوبك والبلاد الشرقية الْملك الْعَادِل سيف الدّين أَبُو بكر بن أَيُّوب، وبحماه والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم الْملك الْمَنْصُور نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن المظفر تَقِيّ الدّين عمر، وببعلبك الأمجد مجد الدّين بهْرَام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب، وبحمص والرحبة وتدمر شيركوه بن مُحَمَّد بن شيركوه بن شادي، وببصرى الْملك الظافر بن صَلَاح الدّين وَهُوَ فِي خدمَة أَخِيه الْأَفْضَل.
وَأما أُمَرَاء الدولة فشيزر وَأَبُو قبيس بيد سَابق الدّين عُثْمَان بن الداية، وصهيون وبرزبه بيد نَاصِر الدّين منكورس بن حمَار تكين، وتل بَاشر بيد بدر الدّين دلدرم بن بهاء الدّين ياروق، وعجلون وكوكب بيد عز الدّين أُسَامَة، بارين وكفرطاب وأفامية بيد عز الدّين إِبْرَاهِيم بن شمس الدّين الْمُقدم.
وَالْأَفْضَل هُوَ أكبر أَوْلَاد السُّلْطَان وَهُوَ الْمَعْهُود إِلَيْهِ بالسلطنة، واستوزر ضِيَاء الدّين نصر الله بن مُحَمَّد بن الْأَثِير مُصَنف الْمثل السائر، وَهُوَ أَخُو عز الدّين بن الْأَثِير مؤلف الْكَامِل فِي التَّارِيخ فَحسن للأفضل طرد أُمَرَاء أَبِيه ففارقوه إِلَى أَخَوَيْهِ الْعَزِيز، وَالظَّاهِر قَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب: وَتفرد الْوَزير بوزره، وَمد الْجَزرِي فِي جزره، وَحسنت الْأُمَرَاء للعزيز. الِانْفِرَاد بالسلطنة، ووقعوا فِي أَخِيه الْأَفْضَل، فَمَال إِلَى ذَلِك، وحصلت الوحشة بَين الْأَخَوَيْنِ.
وفيهَا: بعد موت السُّلْطَان قدم الْعَادِل من الكرك وَأقَام بِدِمَشْق وَظِيفَة العزاء على أَخِيه ثمَّ توجه إِلَى بِلَاده الَّتِي وَرَاء الْفُرَات.
وفيهَا: بعد موت السُّلْطَان كَاتب مَسْعُود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر صَاحب الْموصل جِيرَانه الْمُلُوك يستنجدهم، وَاتفقَ مَعَ أَخِيه زنكي صَاحب سنجار وَسَار إِلَى جِهَة حران وَغَيرهَا فَلحقه إسهال فَترك الْعَسْكَر مَعَ أَخِيه زنكي وَعَاد إِلَى الْموصل وَصَحبه قيماز فخلف مَسْعُود الْعَسْكَر لِابْنِهِ أرسلان شاه، وَزَاد بِهِ الْمَرَض فَتوفي فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من شعْبَان من هَذِه السّنة، فَبين وَفَاته ووفاة السُّلْطَان نصف سنة، وَمُدَّة ملكه الْموصل ثَلَاث عشرَة سنة وَنصفا.
وَكَانَ خيرا محسناً أسمر مليح الْوَجْه خَفِيف العارضين يشبه جده عماد الدّين زنكي وَاسْتقر ابْنه فِي ملك الْموصل بتدبير قيماز.