الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت ويعجبني قَول بَعضهم فِيهِ:
(لَا مَا عجبي من لُؤْلُؤ فِي بَحر
…
لَكِن عجبي من أبحر فِي لُؤْلُؤ)
وَالله أعلم.
وفيهَا: لما كسرت البحرية عَسْكَر النَّاصِر يُوسُف سَار من دمشق بِنَفسِهِ فِي عسكره وَمَعَهُ الْمَنْصُور صَاحب حماه إِلَى جِهَة الكرك وَأقَام على بركَة زيزاً محاصراً للمغيث صَاحب الكرك لحمايته للبحرية.
وجاءته رسل المغيث والقطبية بنت الْملك الْمفضل قطب الدّين بن الْملك الْعَادِل يسترضونه عَن المغيث فَلم يجب إِلَّا بِشَرْط أَن يقبض المغيث عَليّ من عِنْده من البحرية، وَعلم بذلك ركن الدّين بيبرس البندقداري فهرب فِي جمَاعَة مِنْهُم إِلَى الْملك النَّاصِر يُوسُف فَأحْسن إِلَيْهِم وَقبض المغيث على من بَقِي عِنْده من البحرية، وَمن جُمْلَتهمْ سنقر الْأَشْقَر وشكر وبرامق وأرسلهم على الْجمال إِلَى الْملك النَّاصِر يُوسُف فَبعث بهم إِلَى حلب فاعتقلهم بهَا ثمَّ عَاد إِلَى دمشق بعد شَهْرَيْن.
وَفِي أواخرها خلع سيف الدّين قطز ابْن أستاذه الْمَنْصُور نور الدّين عَليّ بن الْمعز أيبك من السلطنة وَعلم الدّين الغتمي وَسيف الدّين بهادر من كبار المعزية غائبان فِي رمي البندق فانتهز الفرصة فِي غيبتهما وَفعل ذَلِك وَلما قدما قبض قطز عَلَيْهِمَا أَيْضا، وتملك الديار المصرية وتلقب بالمظفر.
وَكَانَ رَسُول النَّاصِر يُوسُف كَمَال الدّين بن العديم قد قدم إِلَى مصر أَيَّام الْمَنْصُور عَليّ بن أيبك مستنجداً على التتر، فاتفق خلعه وَولَايَة قطز بِحَضْرَة كَمَال الدّين فَأَعَادَ قطز جَوَاب النَّاصِر أَنه ينجده وَلَا يقْعد عَن نصرته.
وفيهَا: فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة من لَيْلَة الْأَحَد خَامِس عشر الْمحرم ثَانِي عشر كانون الثَّانِي ولد مَحْمُود بن الْملك الْمَنْصُور بن المظفر مَحْمُود بن الْمَنْصُور مُحَمَّد بن المظفر تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب، ولقب بِالْملكِ المظفر، وَأمه عَائِشَة خاتون بنت الْعَزِيز مُحَمَّد صَاحب حلب بن الظَّاهِر غَازِي بن صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وهنأ شيخ الشُّيُوخ شرف الدّين عبد الْعَزِيز الْمَنْصُور بقصيدة مِنْهَا:
(أبشر على رغم العدى والحسد
…
بِأَجل مَوْلُود وَأكْرم مولد)
(بِالنعْمَةِ الغراء بل بالدولة
…
الزهراء بل بالمخفر المتجدد)
(وافاك بَدْرًا كَامِلا فِي لَيْلَة
…
طلعت عَلَيْك نجومها بالأسعد)
(مَا بَين مَحْمُود المظفر أسفرت
…
عَنهُ مَا بَين الْعَزِيز مُحَمَّد)
قصد هولاكو الشَّام
فِيهَا قدم هولاكو إِلَى الْبِلَاد الَّتِي شَرْقي الْفُرَات ونازل حران وملكها وَاسْتولى على
الْبِلَاد الجزرية وَأرْسل ابْنه سموط إِلَى الشَّام فوصل إِلَى ظَاهر حلب فِي أَوَاخِر ذِي الْحجَّة مِنْهَا، وَالْحَاكِم فِي حلب الْملك الْمُعظم توران شاه بن السُّلْطَان صَلَاح الدّين نَائِبا عَن ابْن أَخِيه النَّاصِر يُوسُف، فَخرج الْمُعظم وعسكر حلب إِلَيْهِم وأكمن لَهُم التتر فِي بابلي وتقاتلوا عِنْد يانقوسا فَانْدفع التتر قدامهم حَتَّى خَرجُوا عَن الْبَلَد وعادوا عَلَيْهِم والتتر يقتلُون فيهم حَتَّى دخلُوا الْبَلَد واختنق فِي أَبْوَاب الْبَلَد خلق من المنهزمين ثمَّ رَحل التتر فتسلموا عزاز بالأمان.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة: وَبلغ النَّاصِر يُوسُف صَاحب الشَّام ذَلِك فبرز إِلَى بَرزَة فِي أَوَاخِر السّنة الْمَاضِيَة وجفل النَّاس من التتر وجاءه من حماه الْمَنْصُور صَاحبهَا، وَنزل مَعَه ببرزة وَمَعَ النَّاصِر بيبرس البندقداري من حِين هرب إِلَيْهِ من الكرك وَاجْتمعَ على بَرزَة أُمَم من العساكر والجفال وَلما دخلت هَذِه السّنة وَهُوَ ببرزة وبلغه أَن جمَاعَة من مماليكه عزموا على قَتله هرب النَّاصِر من الدهليز إِلَى قلعة دمشق وهرب أُولَئِكَ المماليك إِلَى جِهَة غَزَّة، وَكَذَلِكَ سَار بيبرس البندقداري إِلَى جِهَة غَزَّة، وأشاع المماليك الناصرية أَنهم لم يقصدوا قَتله، وَإِنَّمَا قصدُوا الْقَبْض عَلَيْهِ وسلطنة أَخِيه الظَّاهِر غَازِي بن الْعَزِيز مُحَمَّد بن الظَّاهِر غَازِي بن صَلَاح الدّين لشهامته، فهرب الظَّاهِر خوفًا من أَخِيه النَّاصِر وَهُوَ شقيقه، وأمهما أم ولد تركية.
وَوصل الظَّاهِر غَازِي إِلَى غَزَّة وَاجْتمعَ عَلَيْهِ من بهَا من الْعَسْكَر وَأَقَامُوا سُلْطَانا، وَكَاتب بيبرس البندقداري المظفر قطز صَاحب مصر فَأَمنهُ ووعده الْوَعْد الْجَمِيل، فَقدم بيبرس مصر فِي جمَاعَة فَأقبل عَلَيْهِ قطز وأنزله بدار الوزارة وأقطعه قليوب وأعمالها.
وفيهَا: يَوْم الْأَحَد تَاسِع صفر استولت التتر على حلب وَذَلِكَ أَن هولاكو عبر الْفُرَات ونازلها وَأرْسل إِلَى الْمُعظم توران شاه نائبها يَقُول لَهُ: إِنَّكُم تضعفون عَن لِقَاء المغول وَنحن قصدنا الْملك النَّاصِر والعساكر فاجعلوا لنا عنْدكُمْ بحلب شحنة وبالقلعة شحنة ونتوجه إِلَى الْعَسْكَر فَإِن كسرناه كَانَت الْبِلَاد لنا وتكونون قد حقنتم دِمَاء الْمُسلمين وَإِن كسرونا كُنْتُم مخيرين فِي الشحنتين طرداً وقتلاً، فَقَالَ الْمُعظم: مَا لكم عندنَا إِلَّا السَّيْف، وَكَانَ رَسُول هولاكو إِلَيْهِم صَاحب أرزن الرّوم فتعجب من هَذَا الْجَواب وتألم لما علم من هَلَاك أهل حلب بِسَبَب ذَلِك وأحاط التتر بحلب ثَانِي صفر، وهجم التتر فِي غَد ذَلِك الْيَوْم وَقتل من الْمُسلمين خلق مِنْهُم أَسد الدّين بن الزَّاهِر بن صَلَاح الدّين.
واشتدت مضايقة التتر لحلب وهجموها من عِنْد حمام حمدَان فِي ذيل قلعة الشريف فِي يَوْم الْأَحَد تَاسِع صفر، ويذلوا السَّيْف وَصعد إِلَى القلعة خلق ودام الْقَتْل والنهب من الْأَحَد إِلَى الْجُمُعَة رَابِع عشر صفر فَنَادَى هولاكو بالأمان وَلم يسلم من أهل حلب إِلَّا من التجأ إِلَى دَار شهَاب الدّين بن عمرون وَدَار نجم الدّين أخي مزدلين وَدَار البازيار وَدَار علم الدّين قَيْصر الْموصِلِي والخانقاه الَّتِي فِيهَا زين الدّين الصُّوفِي وكنيسة الْيَهُود وَذَلِكَ لفرمانات
بِأَيْدِيهِم سلم بِهن فِي هَذِه الْأَمَاكِن مَا يزِيد على خمسين ألف نفس، وحاصروا القلعة وَبهَا الْملك الْمُعظم وَمن التجأ إِلَيْهَا من الْعَسْكَر وَكَانَ مَا سَيذكرُ.
وَأما حماه: فَكَانَ الطواشي مرشد قد تَأَخّر بهَا فَلَمَّا فتحت حلب توجه إِلَى الْملك الْمَنْصُور صَاحب حماه بِدِمَشْق وَوصل كبراء حماه إِلَى حلب بمفاتيح حماه وَحملُوهَا إِلَى هولاكو فَأَمنَهُمْ وَأرْسل إِلَيْهِم شحنة أعجمياً ذكر أَنه من ذُرِّيَّة خَالِد بن الْوَلِيد اسْمه خسروشاه، وَكَانَ بقلعة حماه مُجَاهِد الدّين قيماز أَمِير جندار فَسلم إِلَيْهِ القلعة وَدخل فِي طَاعَة التتر وَبلغ النَّاصِر بِدِمَشْق أَخذ حلب فَرَحل بِمن بَقِي مَعَه من العساكر إِلَى الديار المصرية وَمَعَهُ الْمَنْصُور صَاحب حماه.
وَفِي غَزَّة انْضَمَّ إِلَى النَّاصِر مماليكه الَّذين أَرَادوا قَتله وَأَخُوهُ الظَّاهِر غَازِي وَبعد مسير النَّاصِر عَن نابلس وَصلهَا التتر وكبسوا الْأَمِير مجير الدّين بن أبي زَكَرِيَّاء والأمير عَليّ بن شُجَاع فِي جمَاعَة من الْعَسْكَر وَقتلُوا الأميرين الْمَذْكُورين، وَبلغ ذَلِك النَّاصِر فَرَحل إِلَى الْعَريش وَأرْسل القَاضِي برهَان الدّين بن الْخضر إِلَى المظفر قطز صَاحب مصر يطْلب مِنْهُ المعاضدة، وَوصل النَّاصِر والمنصور قطية فجرت بهَا فتْنَة بَين التركمان والأكراد الشهرزورية، وَنهب الجفال، ورحلت العساكر والمنصور صَاحب حماه إِلَى مصر، وَتَأَخر الْملك النَّاصِر فِي جمَاعَة يسيرَة فِي قطية مِنْهُم أَخُوهُ الظَّاهِر والصالح بن شيركوه صَاحب حمص وشهاب الدّين القيمري لخوف النَّاصِر أَن يقبض عَلَيْهِ قطز.
ثمَّ سَار النَّاصِر بِمن تَأَخّر مَعَه من قطية إِلَى تيه بني إِسْرَائِيل، وَلما وصلت العساكر إِلَى مصر تلقاهم قطز بالصالحية وَطيب قُلُوبهم وَأرْسل إِلَى الْمَنْصُور صَاحب حماه صنجقاً وَدخل الْقَاهِرَة، واستولت التتر على دمشق وَسَائِر الشَّام إِلَى غَزَّة وشحنوا فِي الْبِلَاد.
وَأما قلعة حلب: فَوَثَبَ جمَاعَة من أَهلهَا فِي مُدَّة الْحصار على صفي الدّين بن طزر رَئِيس حلب وعَلى نجم الدّين أَحْمد بن عبد الْعَزِيز بن القَاضِي نجم الدّين بن أبي عصرون فَقَتَلُوهُمَا اتهاماً بمواطأة التتر، ودام الْحصار شهرا، ثمَّ سلمت بالأمان يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشر ربيع الأول، وَسلم هولاكو البحرية الَّذين حَبسهم النَّاصِر بهَا، وَمِنْهُم شكر وسنقر الْأَشْقَر إِلَى سُلْطَان جق بن أكَابِر القفجاق هرب من التتر لما غلبت على القفجاق، وَقدم إِلَى حلب فَأحْسن إِلَيْهِ الْملك النَّاصِر فَلم تطب لَهُ فَعَاد إِلَى التتر.
وَأما الْعَوام والغرباء فنزلوا إِلَى أَمَاكِن الْحمى الْمَذْكُورَة، وَأمر هولاكو أَن يمْضِي كل من سلم إِلَى دَاره وَملكه وَلَا يُعَارض، وَجعل النَّائِب بحلب عماد الدّين الْقزْوِينِي وَوصل إِلَى هولاكو على حلب الْأَشْرَف مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن شيركوه صَاحب حمص.
وَكَانَ قد انْفَرد عَن النَّاصِر لما توجه إِلَى جِهَة مصر فَأكْرمه وَأعَاد هولاكو عَلَيْهِ حمص، وَكَانَ قد أَخذهَا مِنْهُ النَّاصِر صَاحب حلب سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وعوضه تل بَاشر وَوصل إِلَى هولاكو أَيْضا بحلب مجير الدّين يحيى بن قَاضِي الْقُضَاة محيي الدّين
مُحَمَّد بن أبي الْمَعَالِي مُحَمَّد بن الزكي من دمشق، فَأقبل عَلَيْهِ هولاكو وولاه قَضَاء الشَّام، وخلع عَلَيْهِ خلعة مذهبَة، وَكتب تَقْلِيده، وَاسْتقر فِي الْقَضَاء.
قلت: فعتب عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَغرب عَن وَطنه إِلَى الصَّعِيد، ثمَّ توفّي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَالله أعلم.
ثمَّ رَحل هولاكو إِلَى حارم فامتنعوا أَن يسلموها لغير فَخر الدّين وَالِي قلعة حلب فأحضر وسلمت إِلَيْهِ، فَغَضب هولاكو بهم فَقتلُوا عَن آخِرهم وسبى النِّسَاء، ثمَّ عَاد هولاكو إِلَى الشرق وَأمر عماد الدّين الْقزْوِينِي بالرحيل إِلَى بَغْدَاد وَجعل مَكَانَهُ بحلب أعجمياً، وَأمر هولاكو بخراب أسوار قلعة حلب وسور الْمَدِينَة فخربت، وَخرب الْأَشْرَف مُوسَى سور قلعة حماه بِأَمْر هولاكو وأحرق زرد خانتها وبيعت الْكتب الَّتِي بدار السلطنة بقلعة حماه بأبخس الْأَثْمَان وَلم يخرب سور مَدِينَة حماه لِأَن إِبْرَاهِيم بن الإفرنجية ضَامِن الْجِهَة المفردة بحماه بذل لخسروشاه شحنتها جملَة كَثِيرَة، وَقَالَ الفرنج: قريب منا بحصن الأكراد، فأعفى سور الْمَدِينَة.
قلت: وَأَخْبرنِي وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى أَنه رأى شحنة التتر على قلعة المعرة وَقد سخر الْعَوام فِي تخريب سورها، وَفِي ذَلِك يَقُول بعض العريين تضميناً لبَعض قصيدة المتنبي:
(رفقا عَلَيْهَا قلعة مَنْعَة
…
يَهْدِمهَا من هُوَ حزبها)
(فغاية المفرط فِي سلمهَا
…
كغاية المفرط فِي حربها)
(تحثنا فِي هدمها أعجم
…
وَنحن مكروبون من كربها)
(تبخل أَيْدِينَا بأرواحنا
…
وتشتكي منا إِلَى رَبهَا)
(فَهَذِهِ الْأَرْوَاح من جوها
…
وَهَذِه الْأَجْسَام من تربها)
(لما رأوها أسرفت فِي العلى
…
كَانَ علاها مُنْتَهى ذنبها)
وَالله أعلم.
وَأمر هولاكو الْأَشْرَف بخراب قلعة حمص فخرب مِنْهَا الْيَسِير لكَونهَا لَهُ، وَأما دمشق فملكوا الْمَدِينَة بالأمان فَمَا نهبوا وَلَا قتلوا، وعصت قلعتها فنصبوا عَلَيْهَا المجانيق، ثمَّ تسلموها بالأمان منتصف جُمَادَى الأولى مِنْهَا ونهبوا مَا فِيهَا وخربوا سور القلعة وأحرقوا آلاتها وزرد خانتها ثمَّ نازلوا قلعة بعلبك.
وفيهَا: استولت التتر على ميافارقين بعد الْحصار سنتَيْن حَتَّى فنى أَهلهَا وَزَادَهُمْ وصاحبها الْكَامِل مُحَمَّد بن المظفر غَازِي بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب مصابر ثَابت حَتَّى ضعف من عِنْده عَن الْقِتَال فاستولوا عَلَيْهَا وقتلوه وطافوا بِرَأْسِهِ فِي الْبِلَاد بالمغاني والطبول، وعلق رَأسه فِي شبكة بسور بَاب الفراديس إِلَى أَن عَادَتْ دمشق إِلَى الْمُسلمين فَدفن بمشهد الْحُسَيْن رضي الله عنه دَاخل بَاب الفراديس، وَفِيه يَقُول شهَاب الدّين بن أبي شامة:
(ابْن غَازِي غزى وجاهد قوما
…
اثخنوا فِي الْعرَاق والمشرقين)
(ظَاهرا عَالِيا وَمَات شَهِيدا
…
بعد صَبر عَلَيْهِم عَاميْنِ)
(لم يشنه إِذْ طيف بِالرَّأْسِ مِنْهُ
…
وَله أُسْوَة بِرَأْس الْحُسَيْن)
ثمَّ واروا فِي مشْهد الرَّأْس ذَاك الرَّأْس فاستعجبوا من الْحَالين.
وَأما الْملك النَّاصِر يُوسُف: فَلَمَّا انْفَرد عَن الْعَسْكَر بقطية وَسَار إِلَى التيه حَار وعزم على التَّوَجُّه إِلَى الْحجاز فَحسن لَهُ طبر دَاره حُسَيْن الْكرْدِي قصد هولاكو فاغتر بقوله وَترك بركَة زيزا وَسَار حُسَيْن الْكرْدِي إِلَى كتبغا نَائِب هولاكو وعرفه بِموضع الْملك النَّاصِر فَأرْسل إِلَيْهِ وَقبض عَلَيْهِ وأحضره إِلَى عجلون وَكَانَت عاصية بعد فَأمر الْملك النَّاصِر فسلموها إِلَيْهِم فهدموها، وَكُنَّا ذكرنَا حِصَار بعلبك فتسلموها قبيل عجلون وخربوا قلعتها.
وَكَانَ بالصبيبة صَاحبهَا الْملك السعيد بن الْعَزِيز بن الْعَادِل فَسلم الصبيبة إِلَيْهِم وَصَارَ الْملك السعيد مَعَهم وأعلن بِالْفِسْقِ والفجور وَسَفك دِمَاء الْمُسلمين، وَأما الْملك النَّاصِر فَبعث بِهِ كتبغا إِلَى هولاكو فوصل إِلَى دمشق ثمَّ إِلَى حماه وَبهَا الْأَشْرَف صَاحب حمص فَخرج إِلَى لِقَائِه هُوَ وخسروشاه النَّائِب بحماه ثمَّ سَار إِلَى حلب فَلَمَّا عاينها وَمَا حل بهَا وبأهلها تضَاعف تألمه وَأنْشد:
(يعز علينا أَن نرى ربعكم يبْلى
…
وَكَانَت بِهِ آيَات حسنكم تتلى)
ثمَّ وصل الأردو فَأقبل عَلَيْهِ هولاكو ووعده برده إِلَى مَمْلَكَته وَكَانَ مِنْهُ مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي نصف شعْبَان أخرج التتر من الاعتقال نقيب قلعة دمشق وواليها، وضربوا أعناقهما بداريا.
واشتهر بِدِمَشْق خُرُوج العساكر من مصر فأوقعوا بالنصارى وَكَانُوا قد استطالوا بدق النواقيس وَإِدْخَال الْخمر إِلَى الْجَامِع، ونهبهم الْمُسلمُونَ فِي سَابِع عشر رَمَضَان مِنْهَا، وخربوا كَنِيسَة مَرْيَم، وَكَانَت عَظِيمَة فِي جَانب دمشق الَّذِي فَتحه خَالِد رضي الله عنه بِالسَّيْفِ فَبَقيت بيد الْمُسلمين.
وَكَانَ ملاصق الْجَامِع كَنِيسَة من الْجَانِب الَّذِي فَتحه أَبُو عُبَيْدَة رضي الله عنه بالأمان فَبَقيت بيد النَّصَارَى، فَلَمَّا ولي الْوَلِيد بن عبد الْملك خرب الْكَنِيسَة الملاصقة للجامع وأضافها إِلَيْهِ وَلم يعوض النَّصَارَى عَنْهَا، فَلَمَّا ولى عمر بن عبد الْعَزِيز رضي الله عنه عوضهم عَنْهَا بكنيسة مَرْيَم فعمروها عَظِيما حَتَّى كَانَ مِنْهَا مَا ذكرنَا.
وفيهَا: كَانَت هزيمَة التتر يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان على عين جالوت، وَذَلِكَ أَن العساكر الإسلامية لما اجْتمعت بِمصْر سَار بهم الْملك المظفر قطز مَمْلُوك الْمعز أيبك لقِتَال التتر وَمَعَهُ الْمَنْصُور وَالْأَفْضَل أَخُوهُ فِي أَوَائِل رَمَضَان، وَبلغ ذَلِك كتبغا نَائِب هولاكو على الشَّام فَجمع من بِالشَّام من التتر وَسَار إِلَى قتال الْمُسلمين وَمَعَهُ
صَاحب الصبيبة السعيد بن الْعَزِيز بن الْعَادِل بن أَيُّوب والتقوا فِي الْغَوْر يَوْم الْجُمُعَة فانهزمت التتر هزيمَة قبيحة وأخذتهم سيوف الْمُسلمين وَقتل مقدمهم كتبغا واستؤسر ابْنه، وَتعلق من سلم مِنْهُم برؤوس الْجبَال وتبعهم الْمُسلمُونَ فأفنوهم وهرب من سلم إِلَى الشرق، وجرد قطز بيبرس البندقداري فِي أَثَرهم فَتَبِعهُمْ إِلَى أَطْرَاف الْبِلَاد.
وَكَانَ أَيْضا صُحْبَة التتر الْأَشْرَف مُوسَى صَاحب حمص ففارقهم وأمنه قطز وَأقرهُ على حمص ومضافاتها.
وَأما صَاحب الصبيبة فأحضر أَسِيرًا بَين يَدي قطز فَضربت عُنُقه لما اعْتمد من السفك وَالْفِسْق، وَأحسن قطز إِلَى الْمَنْصُور صَاحب حماه، وزاده على حماه وبارين المعرة وَكَانَت بيد الحلبيين من سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَأخذ سلمية مِنْهُ وَأَعْطَاهَا أَمِير الْعَرَب.
وَأتم المظفر قطز السّير بالعساكر وصحبته الْمَنْصُور صَاحب حماه إِلَى دمشق وتضاعف شكر الْعَالم لله تَعَالَى على هَذَا النَّصْر الْعَظِيم من بعد الْيَأْس من النُّصْرَة على التتر لاستيلائهم على مُعظم بِلَاد الْإِسْلَام وَلِأَنَّهُم مَا قصدُوا إقليماً إِلَّا فتحوه وَلَا عسكراً إِلَّا هزموه، وَيَوْم دُخُوله دمشق شنق جمَاعَة من المنتسبين إِلَى التتر مِنْهُم حُسَيْن الطبردار موقع الْملك النَّاصِر فِي أَيدي التتر، وَفِي هَذَا النَّصْر وقدوم قطز إِلَى الشَّام يَقُول بَعضهم:
(هلك الْكفْر فِي الشَّام جَمِيعًا
…
واستجد الْإِسْلَام بعد دحوضه)
(بالمليك المظفر الْملك الأورع
…
سيف الْإِسْلَام عِنْد نهوضه)
(ملك جَاءَنَا بعزم وحزم
…
فاعتززنا بسمره وببيضه)
(أوجب الله شكر ذَاك علينا
…
دَائِما مثل واجباب فروضه)
وَوصل الْمَنْصُور وَالْأَفْضَل إِلَى حماه وَقبض الْمَنْصُور على جمَاعَة بحماه كَانُوا مَعَ التتر وهنأه شيخ الشُّيُوخ شرف الدّين بذلك فَقَالَ:
(رعت العدا فضمنت تل عروشها
…
ولقيتها فَأخذت تل جيوشها)
(فقت الْمُلُوك ببذل مَا تحويه إِذْ
…
ختمت خزائنها على منقوشها)
(فطويت عَن مصر فسيح مراحل
…
مَا بَين بركتها وَبَين عريشها)
(حَتَّى حفظت على الْعباد بلادها
…
من رومها الْأَقْصَى إِلَى أحبوشها)
(فرشت حماه لوطء نعلك خدها
…
فوطئت عين الشَّمْس من مفروشها)
(وَضربت سكتها الَّتِي أخلصتها
…
عَمَّا يشوب النَّقْد من مغشوشها)
(وَكَذَا المعرة إِذْ ملكت قيادها
…
دهشت سُرُورًا سَار فِي مدهوشها)
(طربت برجعتها إِلَيْك كَأَنَّمَا
…
سكرت بخمرة حاسها أَو حيشها)
قلت: وَهَذَا الْبَيْت يُشِير بِهِ ناظمه إِلَى قَول الْأَمِير أبي الْفَتْح بن أبي حَصِينَة المعري:
(من خندريس حناكها أَو حاسها
…
)
وَهُوَ من قصيدة هائلة مَشْهُورَة مدح بهَا ثَابت بن ثمال بن صَالح بن مرداس، أَولهَا:
(لَو أَن دَارا أخْبرت عَن ناسها
…
لسألت رامة عَن ظباء كناسها)
(بل كَيفَ تخبر دمنة مَا عِنْدهَا
…
علم بوحشتها وَلَا إيناسها)
(ممحوة العرصات يشغلها البلى
…
عَن ساحبات الريط فَوق دهاسها)
وَمِنْهَا:
(وزمان لَهو بالمعرة مونق
…
بشياتها وبجانبي هرماسها)
(أَيَّام قلت لذِي الْمَوَدَّة اسْقِنِي
…
من خندريس حناكها أَو حاسها)
(حَمْرَاء تغنينا بساطع لَوْنهَا
…
فِي اللَّيْلَة الظلماء عَن نبراسها)
(وكأنما حبب المزاج إِذا طفا
…
در ترصع فِي جَوَانِب طاسها)
(رقت فَمَا أَدْرِي أكأس زجاجها
…
فِي جسمها أم جسمها فِي كاسها)
(وكأنما زرحونة جَاءَت بهَا
…
سقيت مذاب التبر عِنْد غراسها)
(فَأَتَت مشعشعة كجذوة قابس
…
راعت أكف الْقَوْم عِنْد مساسها)
(لله أَيَّام الصِّبَا وَنَعِيمهَا
…
وزمان جدَّتهَا ولين مراسها)
(مَا لي تعيب الْبيض بيض مفارقي
…
وسبيلها تصبو إِلَى أجناسها)
(نور الصَّباح إِذا الدجنة أظلمت
…
أبهى وَأحسن من دجى أغلاسها)
(إِن الْهوى دنس النُّفُوس فليتني
…
طهرت هذي النَّفس من أدناسها)
(ومطامع الدُّنْيَا تذل وَلَا أرى
…
شَيْئا أعز لمهجة من باسها)
(من عف لم يذمم وَمن تبع الْخَنَا
…
لم تخله التَّبعَات من أوكاسها)
(زين خصالك بالسماح وَلَا ترد
…
دنيا تراك وَأَنت بعض خساسها)
(وَإِذا بنيت من الْأُمُور بنية
…
فَاجْعَلْ فعال الْخَيْر بَدو أساسها)
(وَمَتى رَأَيْت يَد أمرئ ممدودة
…
تبغي مواساة الْجَمِيل فواسها)
(خير الأكف الفاخرات بجودها
…
كف تجود وَلَو على إفلاسها)
(تلقى المذمة مِثْلَمَا تقلى العدى
…
فَيكون بذل المَال خير تراسها)
وَمِنْهَا:
(أما نزار كلهَا فكريمة
…
لَكِن أكرمها بَنو مرداسها)
وَالله أعلم. وَكَانَ خسروشاه قد سَافر من حماه لما بلغه كَسره التتر، ثمَّ جهز المظفر قطز عسكراً لحفظ حلب.
ورتب شمس الدّين أقوش البرلي العزيزي أَمِيرا بالسواحل وغزة، ورتب مَعَه جمَاعَة من العزيزية، والبرلي كَانَ مَمْلُوك الْعَزِيز صَاحب حلب، وَسَار فِي جملَة العزيزية مَعَ ابْنه لملك النَّاصِر يُوسُف إِلَى قتال المصريين، وخامر البرلي وَجَمَاعَة من العزيزية على ابْن استاذهم النَّاصِر إِلَى أيبك التركماني صَاحب مصر.
ثمَّ قصدُوا اغتيال أيبك التركماني فَعلم وَقبض على بَعضهم، وهرب بَعضهم وَكَانَ البرلي من جملَة من سلم وهرب إِلَى الشَّام، فَلَمَّا وصل إِلَى النَّاصِر اعتقله بقلعة عجلون، فَلَمَّا توجه الْملك النَّاصِر بالعساكر إِلَى الْغَوْر مندفعاً من بَين يَدي التتر أخرج البرلي من حبس عجلون وَطيب قلبه، فَلَمَّا هرب النَّاصِر من قطية دخل البرلي مَعَ العساكر إِلَى مصر فَأكْرمه قطز، وولاه السواحل وغزة.
وَلما اسْتَقر بِدِمَشْق على مَا ذَكرْنَاهُ وَكَانَ مقرّ البرلي لما تولى هَذِه الْأَعْمَال بنابلس تَارَة وببيت حبرون أُخْرَى. ثمَّ أَن قطز استناب بِدِمَشْق علم الدّين سنجر الْحلَبِي أتابك عَليّ بن الْمعز أيبك واستناب بحلب الْملك السعيد بن بدر الدّين لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل كَانَ وصل إِلَى النَّاصِر يُوسُف صَاحب الشَّام، وَدخل مَعَ العساكر مصر ففوض إِلَيْهِ قطز حلب وَسَببه أَن أَخَاهُ الصَّالح بن لُؤْلُؤ صَار صَاحب الْموصل حِينَئِذٍ فقصد معاضدتهما على أجناد التتر، وَسَار السعيد بحلب سيرة رَدِيئَة، وتحيل على أَخذ أَمْوَال النَّاس وَلما قرر قطز أَمر الشَّام سَار من دمشق إِلَى جِهَة مصر.
وَكَانَ قد اتّفق بيبرس البندقداري الصَّالِحِي مَعَ أنص مَمْلُوك نجم الدّين الرُّومِي الصَّالِحِي والهاروني وَعلم الدّين طغان أوغلي على قتل المظفر قطز وَسَارُوا مَعَه يتوقعون الفرصة.
فَلَمَّا وصل إِلَى القطية بِطرف الرمل وَبَينه وَبَين الصالحية مرحلة، وَقد سبق الدهليز، والعسكر إِلَى الصالحية قَامَت أرنب بَين يَدَيْهِ فساق وَسَاقُوا عَلَيْهَا وأبعدوا فَتقدم إِلَيْهِ أنص، وشفع عِنْد قطز فِي إِنْسَان فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك فَأَهوى ليقبل يَده وَقبض عَلَيْهَا، فَحمل عَلَيْهِ بيبرس البندقداري وضربه بِالسَّيْفِ واجتمعوا عَلَيْهِ ورموه عَن فرسه، ثمَّ قَتَلُوهُ بالنشاب فِي سَابِع عشر ذِي الْقعدَة مِنْهَا، فمدة ملكه أحد عشر شهرا وَثَلَاثَة عشر يَوْمًا.
ثمَّ سَار بيبرس وَأُولَئِكَ حَتَّى وصلوا الدهليز بالصالحية، وَعند الدهليز نَائِب السلطنة فَارس الدّين أقطاي المستعرب الَّذِي كَانَ أتابك عَليّ بن الْمعز أيبك وَأقرهُ قطز على نِيَابَة السلطنة فَسَأَلَهُمْ أقطاي المستعرب وَقَالَ: من قَتله مِنْكُم؟ فَقَالَ لَهُ بيبرس: أَنا، فَقَالَ أقطاي: ياخوندا جلس فِي مرتبَة السلطنة فَجَلَسَ واستدعيت العساكر للتحليف فَحَلَفُوا لَهُ يَوْم قتل قطز سَابِع عشر ذِي الْقعدَة مِنْهَا، وتلقب بِالْملكِ الْقَاهِرَة، ثمَّ غَيره إِلَى الظَّاهِر، بلغه أَن القاهر لقب غير مبارك لم تطل مُدَّة من تلقب بِهِ.
وَكَانَ الظَّاهِر قد سَأَلَ قطز نِيَابَة حلب فَلم يجبهُ إِلَيْهَا ليَكُون مَا قدره الله تَعَالَى، وَبعد التَّحْلِيف سَاق الظَّاهِر فِي جمَاعَة وَسبق الْعَسْكَر إِلَى قلعة الْجَبَل ففتحت لَهُ ودخلها وَاسْتقر ملكه.
وَكَانَ قد زينت مصر والقاهرة لقدوم قطز، فاستمرت الزِّينَة لسلطنة الظَّاهِر.