الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على قدر الْخِيَار وَفِي طعمه فجوجة وَأَشْيَاء أخر من النَّبَات غَرِيبَة الشكل وَمَا يُحْصى مَا خرب من الْجَانِبَيْنِ إِلَّا الله تَعَالَى.
وفيهَا: أفتى قَاضِي الْقُضَاة كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن الزملكاني بِتَحْرِيم الِاجْتِمَاع بمشهد روحين ودير الزربة وأشباههما، وَمَعَ من شدّ الرّحال إِلَيْهِ وَنُودِيَ بذلك فِي المملكة الحلبية فَإِنَّهُ كَانَ يشْتَمل على مُنكرَات وبدع وعملت فِي تَحْرِيم ذَلِك المقامة المشهدية وَهِي طَوِيلَة ومشهورة.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة فتح السُّلْطَان الْملك النَّاصِر الخانقاه الَّتِي أَنْشَأَهَا جوَار الْقصر الَّذِي انشأه بسرياقوس وحضره الصُّوفِيَّة والقضاة ومشايخ الْبَلَد، وَسمع السُّلْطَان هُنَاكَ على القَاضِي بدر الدّين بن جمَاعَة عشْرين حَدِيثا من تساعياته بِقِرَاءَة وَلَده عز الدّين عبد الْعَزِيز وخلع عَلَيْهِ خلعة سنية وأكرمه وَعمل السُّلْطَان فِي الخانقاه الْمَذْكُورَة وَلِيمَة عَظِيمَة ورتب فِيهَا الشَّيْخ مجد الدّين الأقصراوي وصوفية وخلع على قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين وعَلى جمَاعَة من الشُّيُوخ وَفرق من الذَّهَب وَالْفِضَّة على الْمَشَايِخ نَحْو ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم.
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي بحلب الشَّيْخ علم الدّين طَلْحَة بن يُوسُف كَانَ رحمه الله فَاضلا فِي النَّحْو والتصريف والقراءات، حسن الْوَجْه والخلق وَالصَّوْت مشاركاً فِي عُلُوم، وَكَانَ إِلَيْهِ تدريس الْمدرسَة الرواحية بحلب.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِي ربيع الأول مِنْهَا ضربت رَقَبَة نَاصِر بن الهيتي بسوق الْخَيل ظَاهر دمشق بِحكم القَاضِي الْمَالِكِي بِكُفْرِهِ وزندقته وتلاعبه بدين الْإِسْلَام صحب النَّجْم بن خلكان المحلول عَن دين الْإِسْلَام الْمُفطر فِي رَمَضَان الشَّارِب الْخمر عِنْد أهل الْكتاب حفظ ابْن الهيتي فِي أول أمره التَّنْبِيه وَالْقُرْآن، فانسلخ من ذَلِك وهرب من الدماشقة سِنِين، ثمَّ حضر إِلَى حلب وَبهَا القَاضِي كَمَال الدّين بن الزملكاني رَحمَه الله تَعَالَى.
وَكَانَ القَاضِي الْمَذْكُور قد رأى تِلْكَ اللَّيْلَة فِي نَومه كَأَن عقرباً رَأسه أسود ولون جسده عسلياً يدب على كم النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ -
فجَاء نقيب الحكم بدر الدّين مُحَمَّد بن نجم الدّين إِسْحَاق وأزاح الْعَقْرَب عَن كم النَّبِي
صلى الله عليه وسلم َ - فَأصْبح القَاضِي كَمَال الدّين متحيراً متخوفاً من ذَلِك، ثمَّ أَن ابْن الهيتمي فِي الْيَقَظَة جَاءَ إِلَى بَاب القَاضِي وَاسْتَأْذَنَ فِي الدُّخُول فَأذن لَهُ فَلَمَّا وَقع نظر القَاضِي عَلَيْهِ وعرفه وَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بك إِلَيّ يَا كَافِر وَنظر إِلَى لِبَاسه فَإِذا على رَأسه مئزر صوف أسود وَهُوَ لابس دلفاً عسلياً فَلَمَّا سمع النَّقِيب الْمَذْكُور قَول القَاضِي لَهُ يَا كَافِر أَخَذته زَمعَة وَوجد وَحمل ابْن الهيتي بِلَا أَمر من القَاضِي وأودعه السجْن بالخندق الَّذِي للقلعة وَهَذَا الْمَنَام من الْآيَات العجيبة، ثمَّ أَن القَاضِي جهزه إِلَى دمشق محترزاً عَلَيْهِ فَضربت عُنُقه وَالْحَمْد لله على إعزاز الدّين.
وَفِيه: توفّي جمال الدّين حسن بن المطهر الْحلَبِي بالحلة من شُيُوخ الشِّيعَة وَلما
ترفض خربنده أحضر إِلَيْهِ وَأكْرم وَجعل لَهُ أرزاقاً كَثِيرَة بلغت مصنفاته فِي الْأُصُول وَفقه الإمامية والمنطق مائَة وَعشْرين مجلداً.
وَفِيه: شاع بِدِمَشْق أَن الشَّمْس تكسف بعد الظّهْر فِي السَّاعَة السَّابِعَة من يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الآخر، وَذكروا أَن ذَلِك فِي جَمِيع التقاويم، وَأَن هَذَا حِسَاب لَا يخرم فتهيأ النَّاس للصَّلَاة فَلم تكسف فانكسف المنجمون لذَلِك وَللَّه الْحَمد.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى قتل الراهب توماً وَكَانَ أسلم وَصَارَ عِنْده حرص على الدّين وَلكنه ارْتَدَّ إِلَى النَّصْرَانِيَّة وَسبق عَلَيْهِ الشَّقَاء فِي أم الْكتاب، نسْأَل الله الْوَفَاة على الْإِسْلَام.
وفيهَا: فِي شعْبَان اعتقل الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية بقلعة دمشق مكرماً رَاكِبًا وَفِي خدمته مشد الْأَوْقَاف والحاجب ابْن الخطير وأخليت لَهُ قاعة ورتب لَهُ مَا يقوم بكفايته، ورسم السُّلْطَان بِمَنْعه من الْفتيا وَسبب ذَلِك فتيا وجدت بِخَطِّهِ فِي الْمَنْع من السّفر وَمن أَعمال الْمطِي إِلَى زِيَارَة قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ وَحبس جمَاعَة من أَصْحَابه وعزر جمَاعَة ثمَّ أطْلقُوا سوى شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر إِمَام الجوزية فَإِنَّهُ حبس بالقلعة أَيْضا.
وَفِيه: وَردت الْأَخْبَار إِلَى الشَّام أَنه أجريت عين باران إِلَى مَكَّة شرفها الله تَعَالَى كَانَ الْعِرَاقِيُّونَ قد شرعوا فِيهَا من أول السّنة وَالْمَاء الْيَوْم بِمَكَّة مثل الْمَدِينَة الضَّعِيف وَالْقَوِي فِيهِ سَوَاء بِحَمْد الله تَعَالَى.
قلت:
(هَل لي إِلَى مَكَّة من عودة
…
فأبلغ السؤل وأقضي الدُّيُون)
(غير عَجِيب جري عين بهَا
…
فقد جرت شوقاً إِلَيْهَا الْعُيُون)
وَفِيه: أبطل السَّيِّد عطيفة مقَام الزيدية، وَأخرج إِمَام الزيدية إخراجاً عنيفاً، ونادى بِالْعَدْلِ فِي الْبِلَاد بمرسوم السُّلْطَان، فسر الْمُسلمُونَ بذلك عَظِيما.
وفيهَا: ورد كتاب من بَغْدَاد إِلَى شمس الدّين بن منتاب بِدِمَشْق يتَضَمَّن أَن خياطاً مضى إِلَى الرِّبَاط الَّذِي عمره مُحَمَّد أغا وَقَالَ للصوفية اربطوا سراويلي واختموا وارصدوني فَإِنِّي أُرِيد أعمل أربعينية لَا أَذُوق فِيهَا شَيْئا وَلَا أبول وَلَا أتغوط، فختم سراويله بعض نواب مُحَمَّد أغا وَغَيره عدَّة ختوم وَأقَام بَينهم أحد وَأَرْبَعين يَوْمًا.
ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ سعد الدّين وَقَالَ لَهُ: أما أحملك إِلَيّ بَيْتِي وأقم عِنْدِي عشرَة أَيَّام أخر، فَقَالَ لَهُ الْخياط: وَإِن شِئْت صبرت أَرْبَعِينَ أُخْرَى فَحَمله سعد الدّين الْمَذْكُور إِلَى دَاره وقفل عَلَيْهِ الْبَاب وَأخذ الْمِفْتَاح وَدخل عَلَيْهِ بعد سِتَّة أَيَّام فَإِذا الْخياط جَالس شبعان رَيَّان كَأَنَّهُ أَسد فتعجب من ذَلِك، وَكَانَ مَعَ سعد الدّين جمَاعَة من الْعلمَاء تكلمُوا مَعَ الْخياط فوجدوه خَالِيا من الْعُلُوم، وَقَالَ: أَنا لَا أحفظ الْقُرْآن وَلَكِن فِي هَذِه السَّاعَة إنشق الْحَائِط وَخرج لي مِنْهُ
رجلَانِ ومعهما أَربع رمانات فَأَكَلتهَا، فَقيل لَهُ: فالغائط كَيفَ تفعل بِهِ فاختلط فِي الْجَواب فَتَرَكُوهُ.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُسلم الْحَنْبَلِيّ الصَّالِحِي بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة وَدفن بِالبَقِيعِ جوَار قبَّة عقيل رضي الله عنه مرض وَخَافَ أَن يَمُوت دون الْمَدِينَة فَأعْطَاهُ الله مناه حج ثَلَاث مَرَّات قبل ذَلِك، وَمُدَّة ولَايَته إِحْدَى عشرَة سنة عمر الْأَوْقَاف، وَقدم الْمُسْتَحقّين وَلم يغر لبسه وَلَا هَيئته وَلَا اتخذ مركوباً، كَانَ يدْخل من الصالحية إِلَى دمشق مَاشِيا، وَلم يضف إِلَى نَفسه مدرسة وَلَا نظرا بِمَعْلُوم ومناقبه كَثِيرَة رَحمَه الله تَعَالَى.
قلت:
(بَاشر بِالْعَدْلِ والسكينة
…
والسيرة الْبرة الأمينة)
(وَمن يَعش مثل عَيْش هَذَا
…
يستأهل الْمَوْت بِالْمَدِينَةِ)
وفيهَا: توفّي كَمَال الدّين عبد الْوَهَّاب بن قَاضِي شُهْبَة الْفَقِيه النَّحْوِيّ، كَانَ متقللاً وانتفع النَّاس بالاشتغال عَلَيْهِ، وَكَانَ يعْتَكف شهر رَمَضَان بِكَمَالِهِ فِي الْجَامِع رحمه الله.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِي آخر الْمحرم مِنْهَا طلب ملك الْأُمَرَاء عَلَاء الدّين الطنبغا الصَّالِحِي النَّائِب بحلب إِلَى الديار المصرية.
وفيهَا: فِي صفر وصل الْأَمِير سيف الدّين أرغون الناصري إِلَى حلب نَائِبا بهَا وَكَانَ حج من الديار المصرية هُوَ وَأَتْبَاعه وَزَوْجَة ابْنه بنت السُّلْطَان فحين وصل إِلَى الْقَاهِرَة رسم لَهُ بنيابة حلب.
وفيهَا: فِي ربيع الأول بَاشر الحكم بِدِمَشْق قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين الْحَنْبَلِيّ عوضا عَن ابْن مُسلم، وباشر التدريس بِالْمَدْرَسَةِ الجوزبة.
وَفِيه: حاصر الْأَمِير ودي بن جماز الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة سَبْعَة أَيَّام ودخلوها وأحرقوا بَاب السويقة.
وفيهَا: فِي ربيع الْآخِرَة قدم نَائِب الشَّام من مصر إِلَى دمشق وصحبته الْأَمِير سيف الدّين قطلوبغا الفخري أَمِيرا بِدِمَشْق.
وَفِيه: توفّي الشَّيْخ بدر الدّين مُحَمَّد بن أبي الْفَتْح الأطغاني بحلب أفتى زَمَانا وناب القَاضِي كَمَال الدّين مُحَمَّد بن الحلكاني بحلب، وَكَانَ متواضعاً حسن الِاعْتِقَاد مشاركاً فِي عُلُوم جمة رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى بَاشر القَاضِي برهَان الدّين الزرعي الْحَنْبَلِيّ الحكم نِيَابَة عَن قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين الْحَنْبَلِيّ.
وفيهَا: فِي رَابِع عشر جُمَادَى الأولى توفّي الشَّيْخ الإِمَام شرف الدّين أَبُو مُحَمَّد
عبد الله بن عبد الْحَلِيم بن تَيْمِية الْحَرَّانِي الْحَنْبَلِيّ أَخُو الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَحضر جنَازَته عَالم عَظِيم، ومولده فِي حادي عشر الْمحرم سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة بحران، ومناقبه جمة وعلومه كَثِيرَة، بارع فِي فنون عديدة من الْفِقْه والنحو وَالْأُصُول حسن الْعبارَة قوي فِي دينه مليح الْبَحْث صَحِيح الذِّهْن مستحضر لتراجم السّلف عَالم بالتواريخ ملازم لأنواع الْخَيْر وَتَعْلِيم الْعلم عَارِف بِالْحِسَابِ زاهد شرِيف النَّفس قَانِع بِالْقَلِيلِ شُجَاع مِقْدَام مُجَاهِد، كَانَ يخرج من بَيته لَيْلًا، ويأوي إِلَى بَيته لَيْلًا، ويأوي إِلَى المسجاد المهجورة، وَلَا يجلس فِي مَكَان معِين.
وَفِيه: انتزاع القَاضِي كَمَال الدّين بن الزملكاني كَنِيسَة الْيَهُود الْمُجَاورَة للمدرسة العصرونية بحلب وبنيت بهَا مأذنة وَسميت الناصرية وَكتب بذلك مكاتيب وشق على الْيَهُود ذَلِك فِي أقطار الأَرْض وَللَّه الْحَمد.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة توجه إِلَى مصر قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْحَاكِم والخطيب بِدِمَشْق وباشر الحكم بالديار المصرية مَعَ تدريس الصالحية والناصرية وَدَار الحَدِيث الكاملية عوضا عَن قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة الْحَمَوِيّ فَإِنَّهُ استعفى من الْقَضَاء لكبر سنة وَضَعفه فَأُجِيب إِلَى ذَلِك ورتب لَهُ كل شهر ألف دِرْهَم وَعشرَة أرادب قَمح.
وَفِيه: رسم بقتل الْكلاب بالديار المصرية.
وفيهَا: فِي رَجَب وصل الْخَطِيب بدر الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين من الْقَاهِرَة إِلَى دمشق مُتَوَلِّيًا الخطابة بالجامع الْأمَوِي بِدِمَشْق، وتدريس الْمدرسَة الشامية الجوانية.
وَفِيه: عمل عرس الْأَمِير سيف الدّين قوصون على بنت السُّلْطَان وَيطول شرح ذَلِك.
وَفِيه: بالإسنكدرية جرت مخاصمة بَين مُسلم وإفرنجي فَضَربهُ بالمداس فعظمت الْفِتْنَة وَركب النَّائِب بهَا وأغلق بَاب الْبَلَد من الْعَصْر إِلَى بعض اللَّيْل وحصلت مقتلة وزحم النَّائِب وأحرق بَاب السُّلْطَان وَيُسمى بَاب الْيَهُود، وَوَقع بعض نهب فِي دور يلوذ أَهلهَا بالنائب فَكتب إِلَى السُّلْطَان بِمَا وَقع فَغَضب السُّلْطَان وَأمر بِالسَّيْفِ فِي الْإسْكَنْدَريَّة وهدها إِلَى الْبَحْر وَأخذ من التُّجَّار أَمْوَالًا عَظِيمَة ووسط نَحْو ثَلَاثِينَ رجلا وَقت صَلَاة الْجُمُعَة، ثمَّ عزل النَّائِب بعد ضربه وإهانته، وَقتل نَاس من الْفُقَهَاء والمدرسين الصَّالِحين لِأَن بَعضهم خرج وَقت الْفِتْنَة يستغيثون فِي الشوارع إنكاراً لذَلِك.
وَلم يزل الْأَمر كَذَلِك حَتَّى قدم تَاج الدّين أَبُو إِسْحَاق وَكيل السُّلْطَان فسكن الْبَلَد، وَكَانُوا ممنوعين من الْخُرُوج وَالدُّخُول وَكَانَ سَبَب غضب السُّلْطَان أَنه ظن أَن الْبَاب الَّذِي أحرق هُوَ بَاب الْحَبْس الَّذِي فِيهِ جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَلم يكن الْأَمر كَذَلِك، وَمن يَوْمئِذٍ صَار لَا يُولى بهَا إِلَّا قَاض شَافِعِيّ، وَكتب أَبُو يحيى زَكَرِيَّا الطرابلسي كتابا من الْإسْكَنْدَريَّة يَقُول
فِيهِ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فِيمَا أصَاب الْمُسلمين بثغر الْإسْكَنْدَريَّة من الإحراق وَالضَّرْب وَأخذ الْأَمْوَال وَسَفك الدِّمَاء، فَالله يعظم لنا وَلكم الْأجر.
قلت:
(تبَارك الله ذُو الْجلَال لقد
…
أدهش عَقْلِي زَمَاننَا الْفَاسِد)
(مصادرات جرت وَسَفك دَمًا
…
وَأَصلهَا ضرب كَافِر وَاحِد)
وفيهَا: فِي شعْبَان توفّي قَاضِي الْقُضَاة صدر الدّين عَليّ بن الْوَكِيل الْحَنَفِيّ بِدِمَشْق، كَانَ كَبِير الْقدر صَاحب أَمْلَاك وثروة مكثراً من الْفِقْه وَمن ملح الْأَخْبَار ونكت الْأَشْعَار.
وَفِيه: طلب من حلب القَاضِي كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن الزملكاني على الْبَرِيد إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان ليولى الْقَضَاء بِالشَّام، فَتوفي بِمَدِينَة بلبيس وَحمل إِلَى الْقَاهِرَة فَدفن بالقرافة.
كَانَ رحمه الله غزير الْعلم كثير الْفُنُون مُسَدّد الفتاوي دَقِيق الذِّهْن صَحِيح الْبَحْث حسن الْخلق جميل الْوَجْه طيب الصَّوْت بعيد الصيت جيد الْخط سخي النَّفس صَحِيح الِاعْتِقَاد بليغ النّظم والنثر.
وَلَقَد رَأَيْت كبار مَشَايِخنَا لَا يعدلُونَ بِهِ عَالما فِي زَمَانه وَلَا يُشبههُ عِنْدهم أحد من أقرانه:
(أَفِي الرَّأْي يشبه أم فِي السخاء
…
أم فِي الشجَاعَة أم فِي الْأَدَب)
(فلسنا نرى بعده مثله
…
فيا ليته مَا تولى حلب)
سُئِلَ رَحمَه الله تَعَالَى مَا الدَّلِيل على أَن الْمَرْأَة لَا يجوز أَن تكون قَاضِيا فَأجَاب الدَّلِيل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {أَو من ينشأ فِي الْحِلْية وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين} لِأَن من هُوَ فِي الْخِصَام لنَفسِهِ غير مُبين لَا يصلح لفصل خصومات غَيره بطرِيق الأولى، ووقفت لَهُ على مُكَاتبَة إِلَى شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين هبة الله بن الْبَارِزِيّ الْحَمَوِيّ يطْلب مِنْهُ التَّيْسِير الَّذِي وَضعه على الْحَاوِي، أَولهَا:
(يَا وَاحِد الْعَصْر ثَانِي الشَّمْس فِي شرف
…
وثالث العمرين السالفين هدى)
(تيسيرك الشَّامِل الْحَاوِي الْبَسِيط لَهُ
…
نِهَايَة لم تنلها غَايَة أبدا)
(مُحَرر خص بِالْفَتْح الْعَزِيز فَفِي
…
تهذيبه الْمَقْصد الْأَسْنَى لمن رشدا)
(وَقد سمت همتي أَن اصطفيه لَهَا
…
وَإِن أعلمهُ الأهلين والولدا)
(فانعم بِهِ نُسْخَة صحت مُقَابلَة
…
ولاح نورك فِي أَثْنَائِهَا وبدا)
وَلما وقف شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين الْمَذْكُور على هَذِه الْمُكَاتبَة سر بهَا، وجهز لَهُ نُسْخَة بالتيسير الْمَطْلُوب، وَقَالَ سُبْحَانَ الله لقد كَانَ الشَّيْخ كَمَال الدّين أكبر المنكرين عَليّ فِي الاعتناء بالحاوي الصَّغِير ثمَّ لم ينتبه لقدوه إِلَّا وَقد صرت فِيهِ إِمَامًا.
فَائِدَة: رَأَيْت بعض النَّاس اعْترض على الشَّيْخ كَمَال الدّين فِي هَذَا النّظم فِي قَوْله:
ثَانِي الشَّمْس بِكَوْن الْيَاء من ثَانِي وَهُوَ مُنَادِي مُضَاف من حَقه النصب وَفِي قَوْله: أَن اصطفيه لَهَا بِسُكُون الْيَاء أَيْضا، وَمن حَقه النصب بِأَن وَفِي قَوْله فانعم بِهِ نُسْخَة بوصل الْهمزَة وَمن حَقّهَا الْقطع لِأَنَّهُ فعل رباعي، وَهَذَا لقلَّة اطلَاع هَذَا الْمُعْتَرض على غَرِيب الْعَرَبيَّة فَإِن مثل ذَلِك كُله جَائِز فِي ضَرُورَة الشّعْر شَاهد الأول قَول الشَّاعِر:
(يَا دَار هِنْد عفت إِلَّا أَنا فِيهَا
(وَقَول الْعَرَب أعْط الْقوس باريها))
وَشَاهد الثَّانِي قَول الشَّاعِر:
(حَتَّى لقد عفت أَن أرويه فِي الْكتب
…
)
وَشَاهد الثَّالِث (قَول) الشَّاعِر:
(أَلا ابلغ حاتماً وَأَبا عَليّ
…
بِأَن عوَانَة الضبعِي فرا)
وفيهَا: وصل فَخر الدّين عُثْمَان بن الْبَارِزِيّ الْحَمَوِيّ إِلَى حلب مُتَوَلِّيًا قَضَاء الْقُضَاة بهَا بعد الْعَلامَة كَمَال الدّين بن الزملكاني رحمه الله وَكَانَ وُصُوله إِلَيْهَا يَوْم الْإِثْنَيْنِ فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة.
وفيهَا: فِي رَمَضَان وصل إِلَى دمشق مائَة وَأَرْبَعُونَ أَسِيرًا من بِلَاد الفرنج وَذَلِكَ أَن قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين أشهد عَلَيْهِ أَنه جعل لكل من يحضر أَسِيرًا مبلغا عينه، وَكتب بذلك مَكْتُوبًا وَعرف الفرنج ذَلِك فَجعلُوا الأسرى من تجاراتهم وأحضروهم فأعطوا من وقف الأسرى سِتِّينَ ألف دِرْهَم وأطلقوا الأسرى بِحَمْد الله تَعَالَى.
وفيهَا: وَفِي ذِي الْقعدَة تولى الشَّيْخ عَلَاء الدّين عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن يُوسُف القونوي الشَّافِعِي قَضَاء الْقُضَاة بِدِمَشْق المحروسة.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة قرئَ مرسوم سلطاني بِجَامِع دمشق بالتوصية بالأوقاف وإيصالها إِلَى مستحقيها وعمارتها، وَاتِّبَاع شُرُوط واقفيها والتأكيد فِي ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِيهَا بني فِي وسط الْمَسْعَى طَهَارَة فِيهَا بركَة وَبنى الجوبان نَائِب ملك التتر بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة حَماما حسنا.
وفيهَا: فِي صفر وصل إِلَى الشَّام نَائِب الرّوم تمرتاش بن الجوبان، وَتَلَقَّتْهُ النواب وَهُوَ شَاب حسن، وَذَلِكَ أَن أَبَا سعيد لما قتل أَخَاهُ دمشق خواجه فِي شَوَّال من الْعَام الْمَاضِي أَرَادَ والدهما الجوبان محاربة أبي سعيد فَلم يتَّفق لَهُ ذَلِك فهرب تمرتاش بحشمه وأمواله وَلما وصل إِلَى الديار المصرية أَمر السُّلْطَان بإكرامه واحترامه.
وَفِيه: وصل المَاء إِلَى الْقُدس بعد عمل طَرِيقه فِي سِتَّة أشهر.
وفيهَا: فِي ربيع الأول جدد سطح الْكَعْبَة الشَّرِيفَة وأبوابها وبنيت طَهَارَة مِمَّا يَلِي بَاب بني شيبَة، وأجريت عين مَاء أُخْرَى تعرف بِعَين جبل بَقِيَّة مِمَّا يَلِي حراء على مجْرى الْعين الجوبانية، ووصلت إِلَى مَكَّة أنْفق عَلَيْهَا قدر يسير نَحْو خَمْسَة آلَاف دِرْهَم.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى كَانَ حريق عَظِيم بِدِمَشْق فِي سوق الفرانين والقيسارية الجديدة وَالْمَسْجِد وَذهب للنَّاس أَمْوَال عَظِيمَة.
وفيهَا: فِي خَامِس جُمَادَى الْآخِرَة توفّي قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين بن الحريري الْحَنَفِيّ بالسكتة، ولي قَضَاء دمشق سِنِين ثمَّ صرف ثمَّ طلب إِلَى مصر فولي الْقَضَاء بهَا، وَكَانَت لَهُ همة عالية وناموس وهيبة وسطوة على الْأُمَرَاء والمتجوهين وأوراد رَحمَه الله تَعَالَى، وَولي مَكَانَهُ الشَّيْخ برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن قَاضِي حصن الأكراد وأكرمه السُّلْطَان وسر بِهِ.
وَفِيه: توفّي بالقدس شَيخنَا الْعَلامَة شهَاب الدّين أَحْمد بن جبارَة المرداوي الْحَنْبَلِيّ الزَّاهِد الْفَقِيه الأصولي الْمقري النَّحْوِيّ أَقَامَ رحمه الله بِمصْر دهراً وجاور بِمَكَّة، ثمَّ قدم دمشق واشتغل النَّاس عَلَيْهِ بهَا مُدَّة، ثمَّ أَقَامَ بحلب وَاشْتَغَلْنَا عَلَيْهِ ثمَّ بالقدس. وَكَانَ صَالحا صَادِقا زاهداً قانعاً، وَله مصنفات مِنْهَا شرح الشاطبية أَربع مجلدات.
وفيهَا: فِي شعْبَان قبض على تمرتاش بن جوبان ثمَّ مَاتَ فِي شَوَّال.
وفيهَا: فِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة توفّي شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمُفْتِي شهَاب الدّين عبد الْحَلِيم بن شيخ الْإِسْلَام مجد الدّين أبي البركات عبد السَّلَام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن تَيْمِية الْحَرَّانِي الْحَنْبَلِيّ معتقلاً بقلعة دمشق وَغسل وكفن وَأخرج وَصلى عَلَيْهِ أَولا بالقلعة الشَّيْخ مُحَمَّد بن تَمام، ثمَّ بِجَامِع دمشق بعد الظّهْر وَأخرج من بَاب الْفرج وَاشْتَدَّ الزحام فِي سوق الْخَيل، وَتقدم عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة هُنَاكَ أَخُوهُ، وَألقى النَّاس عَلَيْهِم مناديلهم وعمائمهم للتبرك، وتراص النَّاس تَحت نعشه، وحزرت النِّسَاء بِخَمْسَة عشر ألفا، وَأما الرِّجَال فَقيل: كَانُوا مِائَتي ألف وَكثر الْبكاء عَلَيْهِ وختمت لَهُ عدَّة ختم وَتردد النَّاس إِلَى زِيَارَة قَبره أَيَّامًا، ورؤيت لَهُ منامات صَالِحَة ورثاء جمَاعَة.
قلت: ورثيته أَنا بمرثية على حرف الطَّاء فشاعت واشتهرت وطلبها مني الْفُضَلَاء وَالْعُلَمَاء من الْبِلَاد وَهِي:
(عثا فِي عرضه قوم سلاط
…
لَهُم من نثر جوهره الْتِقَاط)
(تَقِيّ الدّين أَحْمد خير حبر
…
خروف المعضلات بِهِ تخاط)
(توفّي وَهُوَ مَحْبُوس فريد
…
وَلَيْسَ لَهُ إِلَى الدُّنْيَا انبساط)
(وَلَو حَضَرُوهُ حِين قضى لألفوا
…
مَلَائِكَة النَّعيم بِهِ أحاطوا)
(قضى نحباً وَلَيْسَ لَهُ قرين
…
وَلَا لنظيره لف القماط)
(فَتى فِي علمه أضحى فريداً
…
وَحل المشكلات بِهِ يناط)
(وَكَانَ إِلَى النقى يَدْعُو البرايا
…
وَيُنْهِي فرقة فسقوا ولاطوا)
(وَكَانَ الْجِنّ تفرق من سطاء
…
بوعظ للقلوب هُوَ السِّيَاط)
(فيا لله مَا قد ضم لحد
…
وَيَا لله مَا غطى البلاط)
(هم حسدوه لما لم ينالوا
…
مناقبه فقد مكروا وشاطوا)
(وَكَانُوا عَن طرائفه كسَالَى
…
وَلَكِن فِي أَذَاهُ لَهُم نشاط)
(وَحبس الدّرّ فِي الأصداف فَخر
…
وَعند الشَّيْخ بالسجن اغتباط)
(بآل الْهَاشِمِي لَهُ اقْتِدَاء
…
فقد ذاقوا الْمنون وَلم يواطوا)
(بَنو تَيْمِية كَانُوا فبانوا
…
نُجُوم الْعلم أدْركهَا انهباط)
(وَلَكِن يَا ندامة حابسيه
…
فَشك الشّرك كَانَ بِهِ يماط)
(وَيَا فَرح الْيَهُود بِمَا فَعلْتُمْ
…
فَإِن الضِّدّ يُعجبهُ الخباط)
(ألم يَك فِيكُم رجل رشيد
…
يرى سجن الإِمَام فيستشاط)
(إِمَام لَا ولَايَة كَانَ يَرْجُو
…
وَلَا وقف عَلَيْهِ وَلَا رِبَاط)
(وَلَا جاراكم فِي كسب مَال
…
وَلم يعْهَد لَهُ بكم اخْتِلَاط)
(فَفِيمَ سجنتموه وغظتموه
…
أما لجزا أذيته اشْتِرَاط)
(وسجن الشَّيْخ لَا يرضاه مثلي
…
فَفِيهِ لقدر مثلكُمْ انحطاط)
(أما وَالله لَوْلَا كتم سري
…
وَخَوف الشَّرّ لانحل الرِّبَاط)
(وَكنت أَقُول مَا عِنْد وَلَكِن
…
بِأَهْل الْعلم مَا حسن اشتطاط)
(فَمَا أحد إِلَى الْإِنْصَاف يَدْعُو
…
وكل فِي هَوَاهُ لَهُ انخراط)
(سَيظْهر قصدكم يَا حابسيه
…
وننبئكم إِذا نصب الصِّرَاط)
(فها هُوَ مَاتَ عَنْكُم وَاسْتَرَحْتُمْ
…
فعاطوا مَا أردتم أَن أتعاطوا)
(وحلوا واعقدوا من غير رد
…
عَلَيْكُم وانطوى ذَاك الْبسَاط)
وَكنت اجْتمعت بِهِ رَحمَه الله تَعَالَى بِدِمَشْق سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة بمسجده بالقصاعين وبحثت بَين يَدَيْهِ فِي فقه وَتَفْسِير وَنَحْو فأعجبه كَلَامي وَقبل وَجْهي واني لأرجو بركَة ذَلِك، وَحكى لي عَن واقعته الْمَشْهُورَة فِي جبل كسروان وسهرت عِنْده لَيْلَة فَرَأَيْت من فتوته ومروءته ومحبته لأهل الْعلم وَلَا سِيمَا الغرباء مِنْهُم أمرا كثيرا، وَصليت خَلفه التَّرَاوِيح فِي رَمَضَان فَرَأَيْت على قِرَاءَته خشوعا وَرَأَيْت على صلَاته رقة حَاشِيَة تَأْخُذ بِمَجَامِع الْقُلُوب.
مولده رحمه الله ورحمنا بِهِ بحران يَوْم الْإِثْنَيْنِ عَاشر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة، هَاجر وَالِده بِهِ وبأخوته إِلَى الشَّام من جور التتر، وعنى الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بِالْحَدِيثِ، وَنسخ جملَة وَتعلم الْخط والحساب فِي الْمكتب وَحفظ الْقُرْآن ثمَّ أقبل على الْفِقْه وَقَرَأَ أَيَّامًا فِي الْعَرَبيَّة على ابْن عبد القوى، ثمَّ فهمها وَأخذ يتَأَمَّل كتاب سِيبَوَيْهٍ حَتَّى فهمه، وبرع فِي النَّحْو وَأَقْبل على التَّفْسِير إقبالاً كلياً حَتَّى سبق فِيهِ، وَأحكم أصُول الْفِقْه كل هَذَا وَهُوَ ابْن بضع عشرَة سنة فانبهر الْفُضَلَاء من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وَقُوَّة حافظته وإدراكه، وَنَشَأ فِي تصون تَامّ وعفاف وَتعبد واقتصاد فِي الملبس والمأكل.
وَكَانَ يحضر الْمدَارِس والمحافل فِي صغره فيناظر ويفحم الْكِبَار وَيَأْتِي بِمَا يتحيرون
مِنْهُ، وَأفْتى وَله أقل من تسع عشرَة سنة، وَشرع فِي الْجمع والتأليف وَمَات وَالِده وَله إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة وَبعد صيته فِي الْعَالم فطبق ذكره الْآفَاق وَأخذ فِي تَفْسِير الْكتاب الْعَزِيز أَيَّام الْجمع على كرْسِي من حفظه فَكَانَ يُورد الْمجْلس وَلَا يتلعثم، وَكَذَلِكَ الدَّرْس بتؤدة وَصَوت جَهورِي فصيح يَقُول فِي الْمجْلس أَزِيد من كراسين، وَيكْتب على الْفَتْوَى فِي الْحَال عدَّة أوصال بِخَط سريع فِي غَايَة التَّعْلِيق والإغلاق.
قَالَ الشَّيْخ الْعَلامَة كَمَال الدّين بن الزملكاني علم الشَّافِعِيَّة فِي خطّ كتبه فِي حق ابْن تَيْمِية كَانَ إِذا سُئِلَ عَن فن من الْعلم ظن الرَّائِي وَالسَّامِع أَنه لَا يغْرف غير ذَلِك الْفَنّ، وَحكم بِأَن لَا يعرفهُ أحد مثله، وَكَانَت الْفُقَهَاء من سَائِر الطوائف إِذا جالسوه استفادوا فِي مذاهبهم مِنْهُ أَشْيَاء، قَالَ: وَلَا يعرف أَنه نَاظر أحدا فَانْقَطع مَعَه وَلَا تكلم فِي علم من الْعُلُوم سَوَاء كَانَ عُلُوم الشَّرْع أَو غَيرهَا إِلَّا فاق فِيهِ أَهله، وَاجْتمعت فِيهِ شُرُوط الِاجْتِهَاد على وَجههَا، انْتهى كَلَامه.
وَكَانَت لَهُ خبْرَة تَامَّة بِالرِّجَالِ وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم وَمَعْرِفَة بفنون الحَدِيث وبالعالي والنازل وَالصَّحِيح والسقيم مَعَ حفظه لمتونه الَّذِي انْفَرد بِهِ وَهُوَ عَجِيب فِي استحضاره واستخراج الْحجَج مِنْهُ وَإِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي عزوه إِلَى الْكتب السِّتَّة والمسند بِحَيْثُ تصدق عَلَيْهِ أَن يُقَال كل حَدِيث لَا يعرفهُ ابْن تَيْمِية فَلَيْسَ بِحَدِيث وَلَكِن الْإِحَاطَة لله غير أَنه يغترف فِيهِ من بَحر وَغَيره من الْأَئِمَّة يَغْتَرِفُونَ من السواقي.
وَأما التَّفْسِير فَسلم إِلَيْهِ، وَله فِي استحضار الْآيَات للإستدلال قُوَّة عَجِيبَة ولفرط إِمَامَته فِي التَّفْسِير وعظمة اطِّلَاعه بَين خطأ كثيرا من أَقْوَال الْمُفَسّرين، وَيكْتب فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة من التَّفْسِير أَو من الْفِقْه أَو من الْأَصْلَيْنِ أَو من الرَّد على الفلاسفة والأوائل نَحوا من أَرْبَعَة كراريس، قَالَ وَمَا يبعد أَن تصانيفه إِلَى الْآن تبلغ خَمْسمِائَة مُجَلد.
وَله فِي غير مَسْأَلَة مُصَنف مُفْرد كَمَسْأَلَة التَّحْلِيل وَغَيرهَا، وَله مُصَنف فِي الرَّد على ابْن مطهر الْعَالم الْحلِيّ فِي ثَلَاث مجلدات كبار وتصنيف فِي الرَّد على تأسيس التَّقْدِيس للرازي فِي سبع مجلدات، وَكتاب فِي الرَّد على الْمنطق وَكتاب فِي الْمُوَافقَة بَين المقعول وَالْمَنْقُول فِي مجلدين وَقد جمع أَصْحَابه من فَتَاوِيهِ سِتّ مجلدات كبار.
وَله بَاعَ طَوِيل فِي معرفَة مَذَاهِب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ قل أَن يتَكَلَّم فِي مَسْأَلَة إِلَّا وَيذكر فِيهَا الْمذَاهب الْأَرْبَعَة، وَقد خَالف الْأَرْبَعَة فِي مسَائِل مَعْرُوفَة، وصنف فِيهَا وَاحْتج لَهَا بِالْكتاب وَالسّنة.
وَله مُصَنف سَمَّاهُ السياسة الشَّرْعِيَّة فِي إصْلَاح الرَّاعِي والرعية، وَكتاب رفع الملام عَن الْأَئِمَّة الْأَعْلَام وَبَقِي عدَّة سِنِين لَا يُفْتِي بِمذهب معِين بل بِمَا قَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ عِنْده، وَلَقَد نصر السّنة الْمَحْضَة والطريقة السلفية، وَاحْتج لَهَا ببراهين ومقدمات وَأُمُور لم يسْبق إِلَيْهَا، وأطبق عِبَارَات أحجم عَنْهَا الْأَولونَ وَالْآخرُونَ وهابوا وجسر هُوَ عَلَيْهَا حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ خلق
من عُلَمَاء مصر وَالشَّام قيَاما لَا مزِيد عَلَيْهِ وبدعوه وناظروه وكابروه وَهُوَ ثَابت لَا يداهن وَلَا يحابي بل يَقُول الْحق المر الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده وحدة ذهنه وسعة دائرته فِي السّنَن والأقوال وَجرى بَينه وَبينهمْ حملات حربية ووقعات شامية ومصرية، كَانَ مُعظما لحرمات الله دَائِم الابتهال كثير الِاسْتِعَانَة قوي التَّوَكُّل ثَابت الجأش، لَهُ أوراد وأذكار يديمها، وَله من الطّرف الآخر محبون من الْعلمَاء والصلحاء والجند والأمراء والتجار والكبراء وَسَائِر الْعَامَّة تحبه بشجاعته تضرب الْأَمْثَال وببعضها يتشبه أكَابِر الْأَبْطَال وَلَقَد أَقَامَهُ الله فِي نوبَة غازان والتقى أعباء الْأَمر بِنَفسِهِ وَاجْتمعَ بِالْملكِ مرَّتَيْنِ وبخطلو شاه وبولان، وَكَانَ قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول.
قَالَ القَاضِي المنشى شهَاب الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن فضل الله فِي تَرْجَمته: جلس الشَّيْخ إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود غازان حَيْثُ تجم الْأسد فِي آجامها وَتسقط الْقُلُوب دواخل أجسامها وتجد النَّار فتوراً فِي ضرمها وَالسُّيُوف فرقا فِي قرمها خوفًا من ذَلِك السَّبع المغتال والنمرود الْمُحْتَال وَالْأَجَل الَّذِي لَا يدْفع بحيلة محتال فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى صَدره وواجهه وَدَرَأَ فِي نَحره وَطلب مِنْهُ الدُّعَاء فَرفع يَدَيْهِ ودعا دُعَاء منصف أَكْثَره عَلَيْهِ وغازان يُؤمن على دُعَائِهِ، وَكتب ابْن الزملكاني على بعض تصانيف ابْن تَيْمِية هَذِه الأبيات
(مَاذَا يَقُول الواصفون لَهُ
…
وَصِفَاته جلت عَن الْحصْر)
(هُوَ حجَّة لله قاهرة
…
هُوَ بَيْننَا أعجوبة الْعَصْر)
(هُوَ آيَة فِي الْخلق ظَاهِرَة
…
أنوارها أربت على الْفجْر)
وَلما سَافر ابْن تَيْمِية على الْبَرِيد إِلَى الْقَاهِرَة سنة سَبْعمِائة وحض على الْجِهَاد رتب لَهُ مُرَتّب فِي كل يَوْم وَهُوَ دِينَار وتحفه وجاءته بقجة قماش فَلم يقبل من ذَلِك شَيْئا.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الْفَتْح ابْن دَقِيق الْعِيد: لما أجتمعت بِابْن تَيْمِية رَأَيْت رجلا كل الْعُلُوم بَين عَيْنَيْهِ يَأْخُذ مَا يُرِيد ويدع مَا يُرِيد وَحضر عِنْده شيخ النُّحَاة أَبُو حَيَّان وَقَالَ مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مثله.
وَقَالَ فِيهِ على البديهة أبياتاً مِنْهَا:
(قَامَ ابْن تَيْمِية فِي نصر شرعتنا
…
مقَام سيد تيم إِذْ عَصَتْ مُضر)
(فأظهر الْحق إِذْ آثاره درست
…
وأخمد الشَّرّ إِذْ طارت لَهُ الشرر)
(كُنَّا نُحدث عَن حبر يَجِيء فها
…
أَنْت الإِمَام الَّذِي قد كَانَ ينْتَظر)
وَلما جَاءَ السُّلْطَان إِلَى شقحب والخليفة لأقاهما إِلَى قرن الْحرَّة وَجعل يثبتهما فَلَمَّا رأى السُّلْطَان كَثْرَة التتر قَالَ: يَا خَالِد بن الْوَلِيد، قَالَ: قل يَا مَالك يَوْم الدّين إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين، وَقَالَ للسُّلْطَان: اثْبتْ فَأَنت مَنْصُور فَقَالَ لَهُ بعض الْأُمَرَاء: قل إِن شَاءَ الله فَقَالَ: إِن شَاءَ الله تَحْقِيقا لَا تَعْلِيقا، فَكَانَ كَمَا قَالَ، انْتهى مُلَخصا.
وَهُوَ أكبر من أَن يُنَبه مثلي على نعوته فَلَو حَلَفت بَين الرُّكْن وَالْمقَام لحلفت إِنِّي مَا