الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
هذا الجزء من تاريخ الأدب العربى خاصّ ب
العصر العباسى الأول
، وكان طبيعيّا أن أبدأ فيه بدراسة الحياة العباسية التى فرضت نفسها على الأدباء العباسيين فرضا، سواء الحياة السياسية وما كان يجرى فيها من نظم وظروف وأحداث مختلفة، أو الحياة الاجتماعيّة وما كان يشيع فيها من تحضر وترف وشغف بالغناء وإغراق فى المجون وزندقة وزهد ونسك، أو الحياة العقلية وما التحم بها من ترجمة الثقافات الأجنبية ونشاط الحركة العلمية ونقل علوم الشعوب المستعربة ووضع العلوم اللغوية والتاريخ والعلوم الدينية والكلامية.
وقد بسطت القول فى ازدهار الشعر العربى حينئذ ازدهارا رائعا، إذ أكبّ الشعراء على العربية يتقنونها ويتمثلون ملكتها وسليقتها تمثلا دقيقا، نافذين بذوقهم المتحضّر إلى أسلوب مصفّى يجمع حينا بين الجزالة والرصانة، وحينا يجمع بين الرقة والعذوبة. وكان تأثرهم عميقا بالثقافات المترجمة وبما كانوا يستمعون إليه من محاورات المعتزلة مما أثار فى عقولهم ونفوسهم كثيرا من المعانى والخواطر التى لا تكاد تحصى، ودفعهم إلى التطور بموضوعات الشعر الموروثة تطورا نلمس فيه روح العصر وخصب الفكر ورهافة الشعور، وأضافوا إليها موضوعات جديدة بما نفذوا إليه من تحليل المعانى والملاءمة بين أشعارهم وبيئاتهم المتحضرة وحياتهم اليومية.
وفتحوا صفحة لم تكن تخطر لأسلافهم على بال، هى صفحة الشعر التعليمى الذى صاغوا فيه من المعارف والتاريخ والأمثال والقصص الحيوانى منظومات طريفة.
واكتشفوا للشعر أوزانا لم تكن معروفة وأنماطا من القوافى كانت مجهولة.
ودرست دراسة نقدية تاريخية أعلام الشعر فى العصر، وهم بشار وأبو نواس وأبو العتاهية ومسلم بن الوليد وأبو تمام، وحاولت أن أرسم شخصياتهم الأدبية وأثرهم فى تطور الشعر العربى وتجديده، فأما بشار فسنّ للشعراء أن يزاوجوا مزاوجة
دقيقة بين عناصر الشعر التقليدية وعناصره التجديدية، بحيث يتدافع فيه نياز القديم الموروث دون تعويق لتيار الجديد المستحدث وسيوله الحضارية والاجتماعية والعقلية. وكان تأثير هذه السيول فى أبى نواس أشد عمقا وأكثر حدّة، فتعمّق مذاهب المتكلمين وأسرف على نفسه فى اللهو والمجون. وعكف أبو العتاهية على الحكمة الفارسية والهندية واليونانية عكوفا أفضى به إلى تنويع واسع فى أشعار الزهد والمواعظ والأمثال. وجذب مسلم بن الوليد الشعراء إلى أبنية الشعر المحكمة الشامخة مع التدقيق الشديد فى المعانى والإكثار من ألوان البديع. أما أبو تمام فامتزج الشعر عنده بالفلسفة امتزاجا رائعا، بحيث أصبح معرضا باهرا لطرائف البديع وطرائف المعانى والأخيلة البارعة.
ووراء هؤلاء الأعلام كثيرون كان لكل منهم دور فى تطور الشعر فى العصر تطورا يتفاوت قوة وضعفا، مما دفعنى إلى رسم موجز لشخصياتهم وخصائصهم، ووضعهم فى فصائل متقابلة، والتمست لكل فصيلة صفوة من يمثّلونها، فللسياسة ممثلوها، وكذلك للمديح والهجاء والغزل والمجون والزندقة والزهد والنسك والاعتزال والنزعات الشعبية.
وانتقلت أدرس النثر وما حدث من تطوره وكثرة فنونه بتأثير ما ثقفه الوعّاظ والمتكلمون والكتّاب من كنوز الثقافات والآداب الأجنبية. وقد نشطت الخطابة الدينية وما اتصل بها من وعظ ووعّاظ وقصص وقصّاص. ونفذ المتكلمون إلى فن نثرى مستحدث هو فن المناظرات، ونموّه ورقوا به رقيّا بعيدا. وازدهر النثر الديوانى وكلّ ما اتصل به من رسائل سياسية ومن عهود ووصايا وتوقيعات، وحبّر الكتّاب كثيرا من الرسائل الإخوانية البديعة متناولين فيها الأغراض التى كان ينظم فيها الشعراء والتى تصور عواطف الأفراد ومشاعرهم، ودبّج نفر منهم رسائل أدبية خالصة حلّلوا فيها النفس الإنسانية وأهواءها وسلوكها حينا، وحينا حاكوا قصص كليلة ودمنة قاصدين بمحاكاتهم إلى التربية السياسية والاجتماعية.
وعنيت برسم شخصيات أعلام الكتّاب فى العصر وآثارهم الأدبية، وهم ابن المقفع وسهل بن هرون وأحمد بن يوسف وعمرو بن مسعدة وابن الزيات، فأما ابن المقفع فنقل إلى العربية أروع ما تحمل لغته من ذخائر فارسية وغير فارسية،
وكتب رسائل إخوانية وأدبية بديعة. وافتنّ سهل بن هرون فى كتابة رسائل قصصية وأخرى أدبية وإخوانية مع العناية بالازدواج وجمال الجرس والأداء.
وبرع أحمد بن يوسف فى كتابة الرسائل الديوانية والإخوانية مضفيا على أساليبه كل ما يستطيع من صور التنميق. وحرص عمرو بن مسعدة على التأنق والاقتصاد المسرف فى التعبير. ولم يكن ابن الزيات يتأنّق فى كتاباته، غير أنه كان يعنى بحسن القول وجزالة اللفظ ورصانته. والله أسأل أن يلهمنى السّداد والإخلاص فى الفكر والقول والعمل، وهو حسبى ونعم الوكيل.
شوقى ضيف
القاهرة فى أول ديسمبر سنة 1966 م