الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[2 - ]
شعراء الشيعة
كان استيلاء العباسيين على مقاليد الخلافة مفاجأة لكثير من العلويين وأنصارهم من فرق الشيعة، وربما كانت الفرقة الوحيدة التى لم تجد فى ذلك غضاضة هى فرقة الكيسانية من أصحاب أبى هاشم بن محمد بن الحنفية، فإنه تنازل لهم، كما أسلفنا، عن الخلافة، ولعل ذلك ما جعل شعراءها، من أمثال السيد الحميرى، يقفون فى صفوف العباسيين مادحين مثنين. أما شعراء الفرق الأخرى فقد عمتهم الفرحة حين انتصرت الثورة العباسية، ظانين أن العباسيين سيشركون أبناء عمهم العلويين فى الحكم معهم، حتى إذا انبلجت الحقيقة نفضوا أيديهم منهم، وخاصة شعراء الزيدية. أما شعراء الإمامية فقد وجدوا أمامهم فسحة كى ينافقوا العباسيين، وكى يظهروا غير ما يبطنون، لمبدأ التقية المشهور الذى كان يأخذ به الشيعة الإمامية جميعا من اثنى عشرية وإسماعيلية، ومن ثمّ رأيناهم يمدحون خلفاء بنى العباس، يسترون بذلك حقائقهم، على نحو ما هو معروف عن منصور النّمرى. وخير من يمثل شعراء الزيدية فى أوائل هذا العصر سديف وهرون بن سعد العجلىّ. أما سديف فاشتهر بتحريضه السفّاح لأول خلافته على الثأر من بنى أمية بمثل قوله (1):
أصبح الملك ثابت الآساس
…
بالبهاليل من بنى العباس
لا تقيلنّ عبد شمس عثارا
…
واقطعن كل رقلة وغراس (2)
ومضى يستثيره على الفتك بهم حتى استشاط موجدة وحنقا، فدعاهم إلى مأدبة كبيرة، حتى إذا قدموا وتهيؤا للطعام وقف سديف ينشده (3):
لا يغرّنك ما ترى من رجال
…
إن تحت الضلوع داء دويّا
فضع السيف وارفع السّوط حتى
…
لا ترى فوق ظهرها أمويّا
(1) ابن المعتز ص 39 والأغانى (طبع دار الكتب) 4/ 345.
(2)
الرقلة: النخلة الطويلة تفوت اليد.
(3)
ابن المعتز ص 40 والأغانى 4/ 8؟ 1
ووضع أبو العباس السفاح السيف فيهم حتى أتى عليهم، ويقال: بل شدخوا بالأعمدة. وصنع صنيعه بجموعهم فى الشام والحجاز والبصرة أعمامه: عبد الله وداود وسليمان. وتوفى السفاح وخلفه المنصور فاستقر فى نفوس زعماء العلويين أن الخلافة قد أفلتت من أيديهم وأن العباسيين لن يدعوا لهم منها شيئا. وما توافى سنة 145 للهجرة حتى يثور بالمدينة محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب بالنفس الزكية. وهى-كما أسلفنا فى الفصل الأول-أول ثورة للزيدية، ونرى سديفا يقف مع أخيه إبراهيم بن عبد الله حين ثار بالبصرة، ناظما كثيرا من الأشعار ضد المنصور، مما يؤكد أنه كان يعتنق مذهب الزيدية، ومن قوله فى بعض تلك الأشعار، مخاطبا النفس الزكية (1):
إنا لنأمل أن ترتدّ ألفتنا
…
بعد التباعد والشحناء والإحن
وتنقضى دولة أحكام قادتها
…
فينا كأحكام قوم عابدى وثن
فانهض ببيعتكم ننهض بطاعتنا
…
إن الخلافة فيكم يا بنى الحسن
وطبيعى أن يذيقه المنصور وبال تحريضه على الثورة، إذ يقال إنه أمر بدفنه حيّا. ومن شعراء الزيدية وهذه الثورة هرون بن سعد العجلى، وقد ولاّه إبراهيم ابن عبد الله فى أثنائها واسطا، وبمجرد قضاء المنصور عليها توفى وهو يهم بدخول البصرة (2)، وفى عيون الأخبار له قصيدة يرد فيها على غالية الشيعة من الإمامية ردّا عنيفا، ناقضا ما زعمه رافضتهم من غلو فى تصور جعفر الصادق إمامهم، حتى ليجعله بعضهم إلها وبعضهم رسولا، مع ما ينحلونه من علم الغيب وأنه دوّن كل ما يحتاج إليه من هذا العلم فى جلد يسمونه جفرا، يقول فى تضاعيف قصيدته (3):
ألم تر أن الرّافضين تفرّقوا
…
فكلّهم فى جعفر قال منكرا
فطائفة قالوا إله ومنهم
…
طوائف سمّته النبىّ المطهّرا
فإن كان يرضى ما يقولون جعفر
…
فإنى إلى ربّى أفارق جعفرا
(1) مقاتل الطالبيين (نشر عيسى الحلبى). ص 476 والعمدة لابن رشيق 1/ 45.
(2)
انظر مقاتل الطالبيين ص 331 وما بعدها وص 359 وما بعدها.
(3)
عيون الأخبار 2/ 145.
ومن عجب لم أقضه جلد جفرهم
…
برئت إلى الرحمن ممن تجفّرا
وكانت البصرة بيئة هذه النحلة، ولعل ذلك ما جعل بعض المعتزلة يعتنقها، من مثل بشر بن المعتمر، وربما كان أكبر دليل على زيديته أننا نراه يهاجم غالية الإمامية على نحو ما هاجمهم هرون بن سعد العجلى (1). ومن شعراء الزيدية غالب ابن عثمان الهمدانى، وله مراث فى النفس الزكية وأخيه إبراهيم تقطر أسى وحزنا عميقا (2). وثار، كما مر بنا فى الفصل الأول، لعهد الهادى الحسين بن على الحسنى فى مكة ونازله جيش عباسى فى «فخ» فقتل هو وكثيرون من أهله وتركوا فى العراء للسباع والعقبان، مما جعل الشعراء من الزيدية يندبونهم آحرّ ندب وأشجاه (3). ويتحول نشاط هذه النحلة إلى خراسان والطالقان (4)، ويتكاثر الثائرون والمقتولون من أئمتها فى تلك البلاد النائية. ومن أهم ثورات الزيدية ثورة (5) ابن طباطبا بالكوفة لأول خلافة المأمون، ويقضى عليها قضاء مبرما وطبيعى أن يكثر شعراء الزيدية من رثاء المقتولين فى هذه الثورات والتفجع عليهم، مما نقرؤه فى كتاب مقاتل الطالبين لأبى الفرج الأصبهانى مفصلا أوسع تفصيل.
ولم يكن الإمامية بفرقهم المختلفة يشهرون السيوف فى وجوه بنى العباس، فقد جعلوا جميعا التقية مبدأ أساسيّا فى نحلهم المختلفة، واتخذوا الدعوة السرية وسيلتهم فى جمع الناس من حولهم بالكوفة، واجتمع حولهم فعلا خلق كثير يبطنون غير ما يظهرون ويسرون غير ما يعلنون، وكأنهم كانوا يؤمنون جميعا بأن الثورة على العباسيين لم يحن موعدها. وقد تفرقوا شيعا كثيرة، ومرّ بنا فى الفصل السابق أن لمعدان الأعمى قصيدة صنف فيها طوائف الإمامية الرافضة والغالية وطوائف الزيدية وعقائدهم جميعا، مقدما عليها نحلة فرقته الشّميطية الغالية، ونراه ياوم زيد بن على زين العابدين لعدم أخذه بمبدأ التقية، إذ سنّ لأصحابه من بعده إعلان ثورتهم وامتشاقهم للحسام فى وجه الحكام مما جعل الخلفاء العباسيين يوالون فيهم قتلهم
(1) الحيوان 6/ 284.
(2)
مقاتل الطالبيين ص 304، 384 وما بعدها.
(3)
نفس المصدر ص 458 وما بعدها.
(4)
الملل والنحل الشهرستانى (طبع لندن) ص 117.
(5)
انظر فى هذه الثورة وأنها زيدية مقاتل الطالبيين ص 518 وما بعدها.
وسفك دمائهم، يقول فى قصيدته (1):
سنّ ظلم الإمام فى القوم زيد
…
إن ظلم الإمام ذو عقّال (2)
والمهم أن مبدأ التقية أتاح لكثيرين من شعراء الإمامية أن لا يجاهروا الناس فضلا عن الخلفاء بحقيقة نحلهم، وقد مضى كثير منهم يعلنون موالاتهم لبنى العباس، مادحين لهم، بل إن منهم من سخّر شعره للدفاع عن حقهم فى الخلافة مبالغة فى الستر والتقية على نحو ما سنرى عند منصور النمرى. وربما كان الشاعر الإمامىّ الوحيد الذى جاهر بنحلته دعبلا، إن صح أنه كان متشيعا حقّا فضلا عن إماميته. ومن شعرائهم القاسم بن يوسف أخو أحمد بن يوسف، وقد مرّ بنا فى الفصل السابق أنه سخّر كثيرا من شعره فى رثاء الحيوان والطير، وقد عمل فى خلافة المأمون فكانت إليه جباية السواد، ونرى الصولى يروى له فى كتاب الأوراق أشعارا شيعية مختلفة فى مديح بنى هاشم وبيان فضائل على بن أبى طالب وفى رثاء الحسين وندبه ندبا حارّا، ملوحا بيده فى وجه أبى بكر وعمر وفى وجوه خصوم الإمامية، مشيرا إلى مهدّيهم الذى سيأخذ بثأرهم، يقول (3):
إنى لأرجو أن تنالهم
…
منى يد تشفى جوى الصّدر
بالقائم المهدى إن عاجلا
…
أو آجلا إن مدّ فى عمرى
ومثله محمد بن وهيب كان يفد على وزراء بنى العباس وخلفائهم، وهو غال فى تشيعه وإماميته، ويروى الرواة، أنه تردّد على مجالس تذكر فيها فضائل أبى بكر وعمر وعثمان، ولا يذكر فيها شئ من فضائل على، فتولّى حنقا، وهو يقول (4):
أغدو إلى عصبة صمّت مسامعهم
…
عن الهدى بين زنديق ومأفون
لا يذكرون عليّا فى مشاهدهم
…
ولا بنيه بنى البيض الميامين
لو يستطيعون من ذكرى أبا حسن
…
وفضله قطّعونى بالسّكاكين
(1) مقاتل الطالبيين ص 419 والبيان والتبيين 3/ 357.
(2)
عقال: من العقل وهو مغرم الجناية.
(3)
كتاب الأوراق للصولى (أخبار الشعراء) ص 182.
(4)
أغانى (طبعة الساسى) 17/ 146.