الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من طباعهن وعاداتهن وربما بعض معتقداتهن، ونرى أحد المتكلمين وهو أحمد بن حائط الذى ذكرناه منذ قليل يزعم أن المسيح تدرّع بالجسد الجسمانى وأنه الكلمة القديمة المجسدة (1).
وكان للأناجيل تأثير-من بعض الوجوه-فقد كانوا يقرءونها ويستظهرون كثيرا من كلام المسيح وأقواله فى وعظهم، وفى كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة والبيان والتبيين للجاحظ من ذلك مادة وافرة، وقد أشرنا فى غير هذا الموضع إلى ما كان من تأثير ألرهبان المنبثين فى العالم الإسلامى من أثر عام فى زهد الزهاد حينئذ، إذ كانوا يرون تقشفهم وخلوصهم للعبادة والنسك. وأشرنا أيضا فى غير هذا الموضع إلى ما كانت تقدمه الأديرة للمجان والخلعاء من خمور معتقة. ومما لا شك فيه أن المسلمين اندمجوا فى النصارى لهذا العصر اندماجا واسعا، وهو اندماج جعلهم يحتفلون بأعيادهم الدينية ويتخذون منهم كتّاب الدواوين والأطباء والمنجمين ونقلة علوم الأوائل، كما جعلهم يملئون قلوبهم أمنا ورضا دون أى عسف أو ظلم.
2 - الحركة العلمية
أذكى الإسلام جذوة المعرفة فى نفوس العرب إذ دفعهم دفعا قويّا إلى العلم والتعلم، فلم يمض نحو قرن حتى أخذت العلوم اللغوية والدينية توضع أصولها، وحتى أخذ العرب يلمّون بما لدى الأمم المفتوحة من ثقافات متباينة، وقد مضوا فى هذا العصر يتقصونها وينقلونها بكل موادها إلى لغتهم، ونهض التعليم حينئذ نهضة واسعة، وعادة كان الناشئ يبدأ بالتعلم فى الكتاتيب حيث يتعلم مبادئ القراءة والكتابة وبعض سور القرآن الكريم وشيئا من الحساب وبعض الأشعار والأمثال (2)، وكان بعض معلمى هذه الكتاتيب يعلمون الناشئة أيضا السنن والفرائض والنحو والعروض (3). وكانوا يؤثرون فى تعليم البنات تحفيظهن القرآن الكريم وخاصة سورة
(1) الشهرستانى ص 42.
(2)
البيان والتبيين 2/ 180.
(3)
البيان والتبيين 2/ 219.
النور (1)، ويورد الجاحظ وابن قتيبة أسماء طائفة مشهورة من معلمى الكتاتيب (2) من مثل أبى البيداء الرياحى اللغوى ومحمد بن السكن المحدث وأبى عبد الرحمن السلمى المقرئ وأبى صالح الإخبارى. وخصّ الجاحظ هؤلاء المعلمين برسالة ملأها بنوادرهم (3)، مما كان سببا فى أن تدور شخصية معلم الكتّاب بين الشخصيات المضحكة فى الأدب العربى، وممن كثر التندير عليه فى هذا العصر منهم علقمة ابن أبى علقمة النحوى الذى كان يتقعّر فى كلامه مكثرا فيه من الغريب الشاذ وكان يعنى فى مكتبه بتعليم الناشئة العربية والنحو والعروض ومات فى خلافة المنصور (4) وقد ألف بعض الأدباء رسالة تجمع نوادره (5)
وكان للناشئة ألواح من الخشب العادى أو من الآبنوس يكتبون فيها دروسهم وكلما فرغوا من درس محوه منها وأثبتوا مكانه درسا آخر. وكان معلموهم يؤدبونهم بالجلد والضرب والحبس، وفى أخبار إبراهيم الموصلى أنه «أسلم إلى الكتّاب فكان لا يتعلّم شيئا، وكان لا يزال يضرب ويحبس ولا ينجع ذلك فيه، فهرب إلى الموصل وهناك تعلم الغناء» (6) ويذكر الجاحظ أنه كان لأعشى بنى سليم ابن رآه مسنّا كان يدع الكتّاب ويلعب بالكلاب، فكتب أبوه إلى معلمه (7):
ترك الصلاة لأكلب يلهو بها
…
طلب الهراش مع الغواة الرّجس
فاذا خلوت فعضّه بملامة
…
أو عظه موعظة الأديب الأكيس
وإذا هممت بضربه فبدرّة
…
وإذا ضربت بها ثلاثا فاحبس
وكان هؤلاء المعلمون يتقاضون من الناشئة أجورا زهيدة، لا تتجاوز أحيانا بعض رغفان من الخبز كانت تختلف أحجامها وأنواعها باختلاف أحوال آبائهم غنى وفقرا، حتى لقد ضربت برغفان المعلم الأمثال على شدة الاختلاف والتفاوت.
وكان بجانب معلمى أولاد العامة فى الكتاتيب معلمون لأبناء الخاصة، كان منهم اللغوى والإخبارى والفقيه والمحدث والمقرئ، وكانوا أحسن حالا من معلمى
(1) البيان والتبيين 1/ 181.
(2)
انظر البيان والتبيين 1/ 251 والمعارف لابن قتيبة (طبعة وستنفلد) ص 271.
(3)
انظر قطعا من هذه الرسالة بين رسائل الجاحظ المطبوعة على هامش الكامل للمبرد.
(4)
المعارف ص 272.
(5)
الفهرست لابن النديم ص 435.
(6)
أغانى (طبعة دار الكتب) 5/ 157.
(7)
الحيوان 2/ 84 وانظر عيون الأخبار 2/ 167.
أبناء العامة، على أن الجاحظ يقول فى جمهورهم:«يكون الرجل نحويّا عروضيّا وقسّاما فرضيّا وحسن الكتاب جيد الحساب حافظا للقرآن راوية للشعر وهو يرضى أن يعلم أولادنا بستين درهما» (1). وهذا إنما يصدق على من كان منهم يعلم أبناء الطبقة الوسطى، أما من كان يعلم أبناء الخلفاء والوزراء والبيت العباسى والقواد والسّراة فقد كانت تفرض لهم رواتب كبيرة، جعلتهم يعيشون فى خفض من العيش وسعة من الرزق، نذكر من بينهم المفضل الضبى معلم المهدى وله اختار مجموعته الشعرية الملقبة بالمفضليات، والكسائى معلم الرشيد وابنيه الأمين والمأمون، وقطرب مؤدب الأمين وأبناء أبى دلف العجلى قائد المأمون المشهور، وعلى بن المبارك الأحمر أحد مؤدبى الأمين ويقال إنه أعطاه يوما ثلاثمائة ألف درهم (2)، ومنهم اليزيدى يحيى بن المبارك مؤدب أبناء يزيد بن المنصور الحميرى خال المهدى ومن أجل ذلك لقب باليزيدى، ومنهم الفراء معلم أبناء المأمون، وأبو عبيد القاسم بن سلام مؤدب أبناء هرثمة قائد الرشيد والمأمون.
وامتازت فى هذا العصر البصرة بسوق باديتها المعروف باسم المربد، وكان منهلا لشباب البصرة يغدون عليه ويروحون للقاء الفصحاء من الأعراب والتحدث إليهم تمرينا لألسنتهم وتربية لأذواقهم ومحاولة لاكتساب السليقة العربية المصفّاة من شوائب العجمة. وكانوا يكتبون ما يسمعونه منهم من طرائف الشعر، على نحو ما يحدثنا الرواة عن أبى نواس وأنه كان يغدو على المربد بألواحه للقاء الأعراب (3).
وكان من شباب الشعراء من يرحل إلى البادية ليأخذ اللغة والشعر من ينابيعهما الأصيلة على نحو ما هو معروف عن بشار (4).
وكانت المساجد ساحات العلم الكبرى، فلم تكن بيوتا للعبادة فحسب، بل كانت أيضا معاهد لتعليم الشباب حيث يتحلّقون حول الأساتذة، يكتبون ما يلقونه أو يملونه، وكان الأستاذ يستند عادة إلى أسطوانة فى المسجد، ثم يأخذ فى إلقاء محاضرته أو إملائها، وفى الحلقات الكبيرة كان يردّد مستمل كلامه حتى يسمعه ويكتبه البعيدون عنه فى الحلقة. وكان لكل فرع من المعرفة حلقته أو حلقاته
(1) البيان والتبيين 1/ 403.
(2)
طبقات النحويين واللغويين للزبيدى (نشر الخانجى) ص 147.
(3)
الحيوان 6/ 239.
(4)
أغانى (طبع دار الكتب) 3/ 150.
الخاصة، فحلقة لفقيه وحلقة لمحدث وحلقة لقصاص أو لمفسر وحلقة للغوى وحلقة لنحوى وحلقة لمتكلم، وكانت حلقة الفقهاء من أكبر الحلقات إذ كان يقصده طلاب الفقه ومن يريدون أن يتولوا منصب القضاء أو الحسبة، وكذلك كانت حلقة المتكلمين لما يجرى فيها من مناظرات ومحاورات بينهم أنفسهم وبينهم وبين أصحاب الملل والنحل. وكان يتحلّق كثيرون فى حلقات اللغويين والنحاة، ويقال إنه كان يحضر حلقة ابن الأعرابى الكوفى زهاء مائة شخص (1)، وكثيرا ما كانت تدور فى تلك الحلقات هى الأخرى مناظرات بين أصحابها على نحو ما يروى عن الأخفش من أنه تعرض للكسائى فى حلقة وسأله عن مائة مسألة محاورا له ومناقشا مناقشات مستفيضة (2). وكانت هناك حلقات للشعراء ينشدون فيها أشعارهم (3).
وهذه الحلقات الكثيرة التى لم يكن يشترط للحضور فيها أى شرط سوى الرغبة فى السماع والتى كانت مباحة لأى وارد كى يأخذ منها ما يريد من زاد المعرفة هيأت لظاهرتين كبيرتين، أما أولاهما فكثرة العلماء المتخصصين فى كل علم وفن، حتى ليروى أن النضر بن شميل تلميذ الخليل بن أحمد حين عزم على الخروج من البصرة إلى خراسان شيعه نحو ثلاثة آلاف شخص بين محدث ونحوى ولغوى وعروضى وإخبارى (4)، ولا بد أنه كان وراء هذا العدد الضخم كثيرون تخلفوا عن توديعه وتشييعه. وإذا كانت البصرة قد اشتملت على هذا العدد الوفير من العلماء فإنه مما لا شك فيه أن بغداد كانت تشتمل منهم على أضعاف له مضاعفة.
وتلك هى الظاهرة الأولى، أما الظاهرة الثانية فهى نشوء طائفة من العلماء والأدباء الذين نوّعوا معارفهم تنويعا واسعا، إذ لم يكتفوا بالاختلاف إلى حلقة واحدة، بل مضوا يختلفون إلى جميع الحلقات آخذين بطرف من كل لون من ألوان المعرفة حتى أصبحوا يشبهون الصحفيين المعاصرين الذين يستطيعون أن يتحدثوا حديثا شائقا فى كل صور المعرفة والثقافة. وكان يطلق على هذه الطائفة فى البصرة
(1) إنباه الرواة على أنباه النجاة (طبعة دار الكتب المصرية) 3/ 130
(2)
إنباه الرواة 2/ 37 ومعجم الأدباء 11/ 228.
(3)
الموشح ص 289.
(4)
معجم الأدباء 19/ 238.
اسم المسجديين، وكان لهم حلقات خاصة بهم فى المساجد، يسوقون فيها فنونا من الجدال والحوار فى أى شئ يعنّ لهم، وقد عرض الجاحظ فى كتاب البخلاء صورة من جدالهم تناولوا فيها الاقتصاد فى النفقة والتثمير للمال (1). وكانت لهم سوق نافقة فى مجالس الخلفاء والوزراء وعلية القوم، إذ كانوا يستطيعون أن يطرفوهم بالأحاديث الطلية ويروّحوا عنهم فى ساعات صفوهم وغضبهم بما يوردون على سمعهم من طرائف الأخبار والمعارف. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن ظهور هذه الطائفة وما حظيت به فى المجتمع العباسى هو الذى جعل الجاحظ وغيره يحوّلون كتبهم الأدبية إلى دوائر معارف واسعة، بل لقد استقر فى الأذهان أن الأدب هو الأخذ من كل علم وفن بطرف.
وإذا كان الخلفاء ووزراؤهم قد أغدقوا على هذه الطائفة كثيرا، فإنهم لم يحرموا طائفة العلماء المتخصصين، بل كثيرا ما كانوا يضفون عليهم عطاياهم الجزيلة، وجاراهم فى ذلك الولاة وكبار القواد، وكان أول من سنّ ذلك وجعله تقليدا للدولة المهدى فإنه أكثر من مكافآته للعلماء كثرة جعلتهم يشدّون إليه الرحال من كل بلدة (2)، واحتذاه فى ذلك ابنه الرشيد، ويقال إنه وصل الأصمعى يوما بمائة ألف درهم (3) وكان من المحظوظين لدى البرامكة، ويروى أن جعفرا البرمكى وصله بخمسمائة ألف (4). وكان المأمون سحابة منهلة على العلماء والمتكلمين.
وقد أعطى النضر بن شميل وهو لا يزال أميرا بمر وخمسين ألف درهم (5). ويروى أن طاهر بن الحسين قائد المأمون وواليه على خراسان وصل أبا عبيد القاسم بن سلام بألف دينار ثم عاد فوصله بثلاثين ألفا، وأجرى عليه ابنه عبد الله عشرة آلاف درهم فى كل شهر (6).
وليس من شك فى أن هذا الصنيع كان من أهم الأسباب فى ازدهار الحركة العلمية بالمساجد، إذ كان من يبزغ نجمه فى حلقاتها لا يلبث أن يستدعى إلى دار الخلافة أو دار الولاية أو دور الوزراء، فإذا العطايا تسبغ عليه وإذا الرواتب تفرض له شهريّا. وحقّا كان بين علماء الفقه والحديث من لا يبغون بعلمهم وتعليمهم سوى الثواب من الله، ولعله من أجل ذلك شاع بينهم التكسب من الحرف
(1) كتاب البخلاء للجاحظ (طبعة دار الكاتب المصرى) ص 24.
(2)
إنباه الرواة 2/ 34.
(3)
طبرى 6/ 541.
(4)
إنباه الرواة 2/ 199 - 201.
(5)
إنباه الرواة 3/ 349 وما بعدها.
(6)
إنباه الرواة 3/ 16 وما بعدها.
أو التجارة كأبى حنيفة وكان بزّازا، غير أن الكثرة وخاصة من علماء اللغة وأصحاب العلوم الدنيوية كانوا يتخذون علمهم حرفة لهم ومتجرا، بل لقد كان متجرا رابحا.
وكان من أهم الأسباب فى بلوغ الحركة العلمية غايتها من النهضة الواسعة استخدام الورق، إذ أخذ يعمّ منذ مفتتح هذا العصر وكانوا قبل ذلك يكتبون فى الجلود والقراطيس المصنوعة بمصر من ورق البردى. ولم يلبث الفضل بن يحيى البرمكى أن أنشأ فى عهد الرشيد مصنعا ببغداد للورق، ففشت الكتابة فيه لخفته وغلبت على الكتابة فى الجلود والقراطيس. وكان الإملاء حينئذ أعلى مراتب التعليم ولكن لم تلبث أن ظهرت المصنفات الكثيرة واحتيج معها إلى النسخ، فاتسعت صنعة الوراقة. وهى تحل فى هذا العصر محل الطباعة فى عصرنا الحديث، وقد مضى العلماء حينئذ يفيدون منها، فاتخذوا لأنفسهم ورّاقين ينقلون عنهم كتبهم ويذيعونها فى الناس مثل دماذ أبى غسان وراق (1) أبى عبيدة. وكان مما دفع لرواج الوراقة تنافس كثيرين على اقتناء الكتب واتخاذ المكتبات، وقد أقامت الدولة منذ عصر الرشيد مكتبة ضخمة هى دار الحكمة وعنيت فيها أشد العناية بالكتب المترجمة التى تحمل كنوز الثقافات الأجنبية، ولا ريب فى أن هذه المكتبة كانت جامعة كبرى لطلاب العلم والمعرفة.
وقد أخذ كثيرون من الأفراد يعنون باقتناء المكتبات، وكانوا يوظفون فيها بعض الوراقين للنسخ، من ذلك مكتبة إسحق بن سليمان العباسى وكانت تمتلئ بالكتب والأسفاط والرقوق والقماطير والدفاتر والمساطر والمحابر (2)، وأضخم منها وأعظم مكتبة يحيى بن خالد البرمكى ويقال إنه لم يكن فى مكتبته كتاب إلا وله ثلاث نسخ (3)، وربما فاق هذه المكتبة عظما وضخما مكتبة الواقدى المؤرخ المشهور المتوفى سنة 207 وكانت تشتمل على ستمائة صندوق مملوءة بالكتب (4) وكان له مملوكان يكتبان له ليلا ونهارا (5).
ولعل فى ذلك ما يدل دلالة واضحة على أن الكتب أصبحت مادة أساسية
(1) الفهرست ص 81.
(2)
الحيوان 1/ 61.
(3)
الحيوان 1/ 60.
(4)
معجم الأدباء 18/ 281.
(5)
الفهرست ص 144.
للمعرفة، إذ كانت تسجّل أمهات العلم وأصوله بما لعله يفضل تلقيه وأخذه عز العلماء، وفى ذلك يقول الجاحظ:«وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن ويجالس الفقهاء خمسين عاما، وهو لا يعدّ فقيها ولا يجعل قاضيا فما هو إلا أن ينظر فى كتب أبى حنيفة وأشباه أبى حنيفة وبحفظ كتاب الشروط فى مقدار سنة أو سنتين حتى تمر ببابه فتظن أنه من بعض العمال وبالحرى أن لا يمر عليه من الأيام إلا اليسير حتى يصير حاكما (قاضيا) على مصر من الأمصار أو بلد من البلدان» (1).
ولم تكن الكتب تعدّ لهذا التحصيل السريع فى الفقه وحده، بل كانت تعد لذلك فى جميع فروع العلم والمعرفة، فطبيعى أن يقبل عليها الناس إقبالا شديدا لما تجمع لهم فى كل فن وكل علم من مادته الغزيرة المنظمة المرتبة، بل لقد أصبحت الأداة الطيعة التى تسوق لهم المعرفة وألوان الثقافة سوقا وهم يكبّون على هذه الأداة أو هذه الوسيلة السهلة منفقين عليها كل ما يستطيعون من أموال مؤمنين بأن «من لم تكن نفقته التى تخرج فى الكتب ألذّ عنده من إنفاق عشاق القيان والمستهترين بالبنيان لم يبلغ فى العلم مبلغا رضيّا، وليس ينتفع بإنفاقه حتى يؤثر اتخاذ الكتب إيثار الأعرابى فرسه باللبن على عياله» (2).
وأنشأ بعض الورّاقين لهم دكاكين كبيرة ملئوها بالكتب يتجرون فيها، وكان بعض الشباب يغدو إلى هذه الدكاكين لا ليشترى منها فحسب، بل ليقرأ فيها ما لذّ وطاب من صنوف الآداب نظير أجر بسيط يتقاضاه منه صاحبها. وبلغ من عناية الوراقين بعملهم أن موّه بعضهم خطوطه بالذهب، ويذكر الجاحظ أن الزنادقة كانوا يتأنقون فى كتبهم تأنقا شديدا (3) وكان بعض السراة يطلب هذه الأناقة المسرفة حتى فى كتب الهزل والفكاهة (4).
ولم تكن الكتب والمساجد كل ما هيأ لازدهار الحركة العلمية حينئذ، فقد هيأ لها أيضا مجالس الخلفاء والوزراء والأمراء والسّراة، إذ تحولوا بها إلى ما يشبه ندوات علمية يتناظر فيها العلماء من كل صنف، على نحو ما يروى من مناظرة
(1) الحيوان 1/ 87.
(2)
الحيوان 1/ 55.
(3)
نفس المصدر والصفحة وما بعدها.
(4)
الحيوان 1/ 61.
الكسائى الكوفى واليزيدى البصرى بين يدى المهدى (1) وما يروى من مناظرة الكسائى وسيبويه بين يدى الرشيد أو بين يدى يحيى بن خالد البرمكى (2). وكانت مجالس البرامكة ندوات كبيرة للمتكلمين والمتفلسفين من كل نحلة يتجادلون فيها ويتحاورون فى كل ما يعرض لهم من مسائل، وفى ذلك يقول المسعودى:«كان يحيى بن خالد البرمكى ذا بحث ونظر، وله مجلس يجتمع فيه أهل الكلام من أهل الإسلام وغيرهم من أهل النحل، فقال لهم يحيى وقد اجتمعوا عنده: قد أكثرتم الكلام فى الكمون والظهور والقدم والحدوث والإثبات والنفى والحركة والسكون والمماسّة والمباينة والوجود والعدم والجوهر والطفرة والأجسام والأعراض والتعديل والتجوير والكمية والكيف والمضاف والإمامة أنصّ هى أم اختيار وسائر ما توردونه من الكلام فى الأصول والفروع فقولوا الآن فى العشق على غير منازعة، وليورد كل منكم ما سنح له فيه وخطر بباله» (3) ويورد المسعودى أطرافا من كلامهم وحوارهم فى العشق تصور كيف كانوا يفرّعون الأفكار ويستنبطونها ويشعبونها فى الموضوعات المختلفة التى كانت تمس مسائل الفلسفة وعلم الكلام ومذاهب الشيعة والسنة فى الإمامة
وكان مجلس المأمون ساحة واسعة للجدال والمناظرة، وكان مثقفا ثقافة واسعة عميقة بالعلوم الدينية واللغوية وبالفلسفة وعلوم الأوائل، فمضى يحول مجالسه فى دار الخلافة ببغداد إلى ندوات علمية تتناول كل فروع المعرفة وفى ذلك يقول يحيى بن أكثم:«أمرنى المأمون أن أجمع له وجوه الفقهاء وأهل العلم من بغداد، فاخترت له من أعلامهم أربعين رجلا وأحضرتهم وجلس لهم المأمون فسأل عن مسائل وأفاض فى فنون الحديث والعلم (4)» ويمضى ابن أكثم فيقول: إنه لما انتهى ذلك المجلس طلب إلى المأمون أن أنوّع مجالسه بحيث تكون لكل طائفة من العلماء مجلس.
ويعرض طيفور فى كتابه بغداد كثيرا من هذه المجالس وما طرح فيها من موضوعات مختلفة للجدل والمناظرة. ويصور المسعودى ما عاد على الحركة العلمية من هذه الندوات التى غدت كأنها مجمع علمى كبير، فيقول: «قرّب المأمون إليه كثيرا
(1) مجالس العلماء للزجاجى ص 288.
(2)
إنباه الرواة 2/ 271.
(3)
مروج الذهب 3/ 286.
(4)
بغداد لطيفور ص 45.
من الجدليين والنظّارين كأبى الهذيل العلاّف وأبى إسحق إبراهيم بن سيار النظام وغيرهما ممن وافقهما وخالفهما (يريد من المعتزلة وغيرهم) وألزم مجالسة الفقهاء وأهل المعرفة من الأدباء وأقدمهم من الأمصار وأجرى عليهم الأرزاق (الرواتب) فرغب الناس فى صنعة النظر وتعلموا البحث والجدل، ووضع كل فريق منهم كتبا ينصر فيها مذهبه ويؤيد بها قوله» (1).
وقد كفلت الحرية العقلية فى هذا المجلس أو هذا المجمع إلى أبعد غاية ممكنة، بحيث كان كل رأى يعرض للمناقشة العقلية الخالصة حتى آراء الزنادقة (2).
ومما لا شك فيه أن المجتمع كان يرتبط حينئذ بالإسلام ارتباطا وثيقا فى جميع شئونه الروحية والاجتماعية، ولكن كأنما أصبح سلطان العقل فوق سلطان الدين، وكل ذلك باعثه الحقيقى رقى الحياة العقلية فى هذا العصر، فإذا كل شئ يناقش فى حرية، وإذا كل شئ يعرض على بساط البحث والجدل.
وكان وراء هذا المجلس الكبير ومجلس يحيى بن خالد البرمكى مجالس صغرى ما يزال يجتمع فيها العلماء ويتجادلون ويتناظرون، من ذلك مجلس أيوب بن جعفر ابن أبى جعفر المنصور، وقد اجتمع فيه يوما النظام وأبو شمر المتكلم، وكانت فى أبى شمر رزانة تجعله لا يحرك يديه ولا منكبيه إذا جادل أو ناظر، فاضطره النظام بما أورد عليه من الحجج وأثقل عليه من البراهين فى مسألة ناظره فيها أن يحرك يديه وأن يحبو إليه حبوا يريد أن يسكته بيده بعد أن أعجزه أن يسكته بالأدلة العقلية (3)، ومن ذلك مجلس أزدى بالبصرة وفيه يقول صاحب الأغانى:«كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام: عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وبشار الأعمى وصالح بن عبد القدوس وعبد الكريم بن أبى العوجاء ورجل من الأزد، فكانوا يجتمعون فى مجلس الأزدى ويختصمون عنده» (4) ويتحدث صاحب النجوم الزاهرة عن مجلس آخر فى نفس البلدة، فيقول: «كان يجتمع بالبصرة عشرة فى مجلس لا يعرف مثلهم: الخليل بن أحمد صاحب العروض سنّى، والسيد ابن محمد الحميرى الشاعر رافضى وصالح بن عبد القدوس ثنوى، وسفيان بن
(1) مروج الذهب 4/ 245.
(2)
الحيوان 4/ 442.
(3)
البيان والتبيين 1/ 91.
(4)
أغانى (طبع دار الكتب) 3/ 146.
مجاشع صفرى، وبشار بن برد خليع ماجن، وحماد عجرد زنديق، وابن رأس الجالوت الشاعر يهودى، وابن نظير النصرانى متكلم، وعمرو بن أخت الموبذ مجوسى، وابن سنان الحرّانى الشاعر صابئى، فتتناشد الجماعة أشعارا وأخبارا» (1).
وواضح من هذين النصين كيف كان يلتقى أصحاب الملل والنحل والأهواء المختلفة فى المجالس، وكيف كانوا يثيرون كثيرا من المسائل التى تتصل بأهوائهم ونحلهم ومللهم ويتحاورون فيها حوارا طويلا. وكانت هناك مجالس أخرى للمتفلسفة والمتكلمين، ويقال إن مجلس يوحنا بن ماسويه «كان أعمر مجلس بمدينة بغداد لمتطبب أو متكلم أو متفلسف إذ كان يجتمع فيه كل صنف من أصناف أهل الأدب» وكان تلاميذ، يقرءون عليه فى هذا المجلس كتب المنطق لأرسططاليس وكتب جالينوس فى الطب (2). وعلى شاكلة مجلسه مجلس حنين (3) ابن إسحق، ويقال إن المأمون رسم له على كل كتاب ينقله إلى العربية أن يأخذ وزنه ذهبا. وكانت لابن أبى دؤاد المعتزلى مستشار المأمون والمعتصم والواثق ندوة كبيرة يحضرها من كبار المترجمين والأطباء سلمويه وابن ماسويه وبختيشوع بن جبريل (4).
ويخيل إلى الإنسان كأنما كانت أزواد المعرفة والثقافة ملقاة فى كل مكان بأمصار العراق وهى حقّا كانت مطروحة فى الطرقات معرضة لكل الأيدى، فأبواب المساجد مفتوحة على مصاريعها لكل الواردين ومثلها دكاكين الوراقين، ولا مصاريف تطلب للتعليم، والتعليم مجانا من حق الجميع. وكان لذلك آثار بعيدة، فإن جمهور العلماء والشعراء لهذا العصر كانوا من أبناء العامة، ويكفى أن نعزف أن أعلام الشعر حينئذ وهم بشار بن برد وأبو نواس وأبو العتاهية ومسلم بن الوليد وأبو تمام كانوا جميعا من الطبقة الدنيا فى الشعب فبشار كان أبوه طيّانا يضرب اللبن، وأبو نواس كانت أمه غازلة للصوف ومن هذا الغزل كانت تعوله، وأبو العتاهية كان فى صغره يحمل الخزف والجرار على ظهره فى شوارع الكوفة يبيعها للناس، وكان أبو مسلم حائكا، أما أبو تمام فكان أبوه عطارا أو خمارا، ومن
(1) النجوم الزاهرة 2/ 29.
(2)
عيون الأنباه لابن أبى أصيبعة (طبعة دار الفكر العربى ببيروت) القسم الأول من الجزء الثانى ص 124 وابن الققطى فى أخبار الحكماء (طبعة الخانجى) ص 249.
(3)
ابن أبى أصيبعة ص 139
(4)
الحيوان 4/ 123.
وراءهم من الشعراء كان جمهورهم من أبناء العامة، وكذلك كان العلماء فى جميع فروع العلم، بل كان منهم من يجمع بين علمه وحرفته التى نشأ فيها مثل أبى أحمد التّمّار وشعيب القلاّل الذى كان يصنع فعلا القلال، وهما من المتكلمين.
وأبعد من ذلك وأعمق أن بين أيدينا من النصوص ما يدل على أن أكثر العامة كانوا يصيبون حظوظا مختلفة من الثقافة، إذ لم يكن بينهم وبينها أى حجاب ولا أى حاجز، بل لقد كانوا يروحون ويغدون عليها فى المساجد ودكاكين الوراقين، فنهل كلّ ما نزع إليه من ينابيع المعرفة، ومن خير ما يصوّر ذلك أن نرى الجاحظ يقول:«وسألت بعض العطارين من أصحابنا المعتزلة (1)» وكأن العطارين كانوا أقساما منهم من يتبع المعتزلة ومنهم من يتبع غيرهم ولا بد أن كان مثلهم بقية التجار وأصحاب الحرف، فهم يناصرون هذا المذهب أو ذاك، وهم يناصرون هذا الأستاذ أو ذاك ولكل أستاذ أتباعه لا من أوساط المثقفين فحسب، بل من العامة أيضا، وبذلك نفهم قول صاحب النجوم الزاهرة عن النظام ونشاطه فى الدعوة لآرائه الاعتزالية ببغداد إذ يقول:«وفى سنة 220 ظهر إبراهيم النظام وقرر مذهب الفلاسفة وتكلم فى القدر، فتبعه خلق (2)» . ونرى الجاحظ فى رسالته «الرد على النصارى» ينكر على العامة تعرضهم لمناقشة الملحدين فى آرائهم الفاسدة لعدم إحاطتهم الدقيقة بتلك الآراء وما ينقضها نقضا من الأدلة، يقول:«ومن البلاء أن كل إنسان من المسلمين يرى أنه متكلم وأنه ليس أحد أحق بمحاجة الملحدين من أحد» . ويهمنا ما تدل عليه شكواه من أن كل مسلم لعصره أصاب حظّا من طريقة المتكلمين فى حجاج أصحاب الملل والنحل الفاسدة، وبالمثل كانت العامة تصيب حظوظا من الثقافة الدينية واللغوية والشعرية.
وليس من شك فى أن ذلك كان ثمرة ازدهار الحركة العلمية فى العصر، فقد تغلغلت المعرفة والثقافة فى جميع الأوساط حتى فى أوساط العامة، وأصبحتا غذاء لجميع العقول والقلوب، وبرزت صفوة من العلماء والأدباء كان جمهورها من أبناء هؤلاء العامة قادت الحركتين العلمية والأدبية قيادة خصبة باهرة، إذ استطاعت أن تسيغ كل ما نقل إلى العربية من ثقافات متباينة وأن تضيف إليها من عقولها
(1) الحيوان 5/ 304.
(2)
النجوم الزاهرة 2/ 334.