المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌5 - أبو تمام - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٣

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الأول

- ‌الفصل الأوّلالحياة السياسية

- ‌1 - الثورة العباسية

- ‌2 - بناء بغداد ثم سامرّاء

- ‌3 - النظم السياسية والإدارية

- ‌4 - العلويون والخوارج

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثانىالحياة الاجتماعية

- ‌1 - الحضارة والثراء والترف

- ‌2 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌3 - المجون

- ‌4 - الشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد

- ‌الفصل الثالثالحياة العقلية

- ‌1 - الامتزاج الجنسى واللغوى والثقافى

- ‌2 - الحركة العلمية

- ‌3 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة

- ‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ

- ‌5 - العلوم الدينية وعلم الكلام والاعتزال

- ‌الفصل الرابعازدهار الشعر

- ‌1 - ملكات الشعراء اللغوية

- ‌2 - طوابع عقلية دقيقة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - موضوعات جديدة

- ‌[5 - ]التجديد فى الأوزان والقوافى

- ‌الفصل الخامسأعلام الشعراء

- ‌1 - بشار

- ‌2 - أبو نواس

- ‌3 - أبو العتاهية

- ‌5 - أبو تمام

- ‌الفصل السادسشعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الدعوة العباسية

- ‌ أبو دلامة

- ‌[2 - ]شعراء الشيعة

- ‌ السيد الحميرى

- ‌دعبل

- ‌ ديك الجن

- ‌3 - شعراء البرامكة

- ‌ أبان بن عبد الحميد اللاحقى

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌أبو الشيّص

- ‌ على بن جبلة

- ‌الخريمىّ

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ أبو عيينة المهلّبى

- ‌الفصل السّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ العباس بن الأحنف

- ‌ربيعة الرّقى

- ‌2 - شعراء المجون والزندقة

- ‌ حماد عجرد

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌ عبد الله بن المبارك

- ‌4 - شعراء الاعتزال

- ‌ العتابى

- ‌ بشر بن المعتمر

- ‌النظام

- ‌5 - شعراء النزعات الشعبية

- ‌ أبو الشمقمق

- ‌الفصل الثامنتطور النثر وفنونه

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطب والوعظ والقصص

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية والعهود والوصايا والتوقيعات

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التاسعأعلام الكتّاب

- ‌خاتمة

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار

الفصل: ‌5 - أبو تمام

أما فى البيت الثالث فيشبهها فى سيرها الوئيد بالعروس فى سيرها الرفيق إلى خدرها.

وعلى هذا النحو لا يزال مسلم يلتقط لأبياته وأشعاره درر المعانى والصور، مضيفا إلى ذلك حلىّ كثيرة من وشى الطباق والمقابلة والجناس والمشاكلة، وهو فى ذلك لا ينسى العناية بموسيقاه الضخمة وما ترسل من رنين قوى محكم، مزاوجا بكل ما استطاع بين عناصر الشعر القديمة والجديدة، فإذا أشعاره تحتفظ بالصياغة الجزلة الرصينة التى تلذ الأسماع العربية، وإذا هى تفسح لمذهب البديع الجديد بكل طرائفه العقلية والخيالية، بحيث يمتع القلوب والأفئدة.

‌5 - أبو تمام

(1)

هو حبيب بن أوس الطائى، ولد بقرية جاسم بقرب دمشق على الطريق منها إلى طبرية، وقد تعددت الروايات فى سنة ولادته، فقيل سنة 172 وقيل سنة 182 وقيل سنة 188 وقيل سنة 192 ونسب إليه أنه قال: ولدت سنة 190 (2). والآراء متضاربة فى صحة نسبه من طيئ، فقد هجاه بعض معاصريه بأنه نبطى (3)، وزعم قوم أن أباه كان نصرانيّا (4) يسمّى تدوس وأنه حرّفه إلى أوس وانتسب فى طيئ. وظن مرجليوث فى ترجمته له بدائرة المعارف الإسلامية أنه ربما كان اسم أبيه المذكور فى المراجع القديمة على أنه تدوس محرف عن «تيودوس» وبنى

(1) انظر فى أبى تمام وأخباره وأشعاره ابن المعتز ص 283 والأغانى (طبع دار الكتب) 16/ 383 وتاريخ بغداد 8/ 248 والموشح ص 303 وابن خلكان (طبعة سنة 1299 هـ) 1/ 150 وتهذيب ابن عساكر 4/ 18 وشذرات الذهب 2/ 72 ومرآة الجنان 2/ 102 وكتاب الموازنة بين الطائيين للآمدى وأخبار أبى تمام للصولى وهبة الأيام فيما يتعلق بأبى تمام لليديعى ودائرة المعارف الإسلامية فى مادة أبى تمام ومن حديث الشعر والنثر لطه حسين والفن ومذاهبه فى الشعر العربى (طبع دار المعارف) ص 219 «وأبو تمام الطائى: حياته وحياة شعره» لنجيب محمد البهبيتى «وأبو تمام» لعمر فروخ. وقد طبع ديوانه طبعات مختلفة، أهمها طبعة دار المعارف بشرح التبريزى وقد ظهر منها ثلاثة أجزاء تشتمل على مدائحه، وسنرجع إلى هذه الطبعات، وما ليس فيها سنرجع فيه إلى طبعة بيروت سنة 1889 م.

(2)

انظر فى ميلاده وفيات الأعيان وأخبار أبى تمام للصولى ص 272.

(3)

الصولى ص 235.

(4)

الصولى ص 246 وانظر النجوم الزاهرة 2/ 261.

ص: 268

طه حسين على هذا الظن أنه يونانى الأصل (1)، بينما ذهب بروكلمان إلى أن اسم تدوس يشيع بين نصارى السريان (2). ونصرانية أبيه-إن صحت-لا تنفيه من العرب ولا من طيئ، فقد كانت النصرانية شائعة من قديم فيها، وجمهور من ترجموا له من الثقات يذهبون إلى أنه طائى صليبة (3)، ويشهد لذلك فخره المضطرم بطيئ وأنه اختار منها أكثر ممدوحيه، ونوّه تنويها عظيما بمن سجّلوا لها فى عصره أمجادا حربية، مما يدل على أنه طائى عريق وعربى أصيل.

وقد تضاربت الآراء أيضا فى نشأته، فقيل إنه نشأ بمصر يسقى الناس فى مسجدها الكبير، وأكثر المؤرخين له على أنه نشأ بدمشق وأن أباه كان عطارا فيها وأنه الحقه بحائك كى يحسن حياكة الثياب. ويبدو أنه أخذ يختلف-منذ نعومة أظفاره-إلى حلقات المساجد ينهل مما كان يجرى فيها من جداول الشعر والثقافة، وسرعان ما تدفق ينبوع الشعر على لسانه، واتجه به إلى بعض اليمنيين والطائيين فى بلدته وفى حمص مثل نوح بن عمرو السّكسكىّ وبنى عبد الكريم الطائيين.

ونراه يولّى وجهه نحو مصر قاصدا عيّاش بن لهيعة الحضرمى الذى كان يقوم أحيانا على شرطتها وخراجها، وله يقول فى إحدى مدائحه (4):

وأنت بمصر غايتى وقرابتى

بها وبنو الآباء فيها بنو أبى

وهو يشير دائما فى مديحه له إلى حرمته منه وأنه يمنى مثله، ويلجّج فى الافتخار بملوك اليمن وأقيالها القدماء. ويظهر أنه عاد فازورّ عنه، مما جعله يكثر من عتابه، حتى إذا يئس منه أصلاه بنار هجائه. وليس بين أيدينا ما يدلّ دلالة صريحة على تاريخ قصده إلى عياش، غير أن فى كتاب «الولاة والقضاة» للكندى أشعارا له تتصل بأحداث مصر بين سنتى 211 و 214 مما يؤكد مقامه بها فى تلك الفترة، وفى هذه الأشعار ما يدل على أنه تعرّف على عبد الله بن طاهر فى ولايته على مصر (211 - 213 هـ) وقد نوّه به وبقضائه فيها على الفتن. وفى ديوانه بيتان هجا بهما

(1) مقدمة نقد النثر لقدامة (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص 9 وانظر مقالته عنه فى كتابه «من حديث الشعر والنثر» .

(2)

تاريخ الأدب العربى لبروكلمان (طبع دار المعارف) 2/ 72.

(3)

ص 59 والأغانى 17/ 383 وجمهرة أنساب العرب لا بن حزم (الطبعة الثانية بدار المعارف) ص 399.

(4)

الديوان (طبع دار المعارف) 1/ 162.

ص: 269

المطلب بن عبد الله الخزاعى معلنا له أن مدحه فيه كان كذبا وبهتانا، وقد ولى المطلب مصر فى سنتى 198 و 199 للهجرة وكان يقيم عياش بن لهيعة على شرطته، فهل يعنى ذلك أنه نزل مصر مرتين: مرة فى أواخر القرن الثانى ومرة فى أوائل العقد الثانى من القرن الثالث؟ . الحق أنه ليس بين أيدينا ما يجعلنا نقطع برأى فاصل فى ذلك، وخاصة أنه ليس فى ديوانه مديح للمطلب، وربما قال هذين البيتين بعد عزل المطلب عن مصر أو ربما كانا منحولين عليه.

وقد عاد إلى موطنه فى سنة 214 والمآتم منصوبة فى كل مكان على بطل طيئ المغوار محمد بن حميد الطوسى الذى كافح بابك كفاحا مريرا، وخانه القدر فسقط فى ميدان النضال لأوائل هذه السنة. وتعمقت الحادثة نفس أبى تمام فبكاه بكاء حارّا أخذ يدور على الألسنة وأخذ يحتلّ به مكانة ممتازة بين الشعراء وأخذ يتردّد على الرقة والموصل ويمدح أجوادهما مثل حبيش بن المعافى قاضى نصيبين ورأس عين ومحمد بن حسان الضبى، ونراه يقول فى إحدى مدائحه له (1):

بالشام أهلى وبغداد الهوى وأنا

بالرّقّتين وبالفسطاط إخوانى

وما أظن النّوى ترضى بما صنعت

حتى تشافه بى أقصى خراسان

وذكره الفسطاط يدل على أنه كان حديث عهد بالأوبة منها، ولا تزال ذكرى واليها عبد الله بن طاهر حية فى نفسه، ولذلك ينوى أن يزوره فى خراسان: ولايته الجديدة، وهو يتمنى أن تكتحل عيناه بمرأى بغداد، ويظهر أنه ألمّ بها فى صحبة محمد بن حسان الضبى إلماما قصيرا (2)، وفى ديوانه قصيدة موجهة إلى الحسن بن سهل الذى كان جوده الغدق لا يزال يسيل على الرغم من اعتزاله الوزارة وفيها يقول (3):

ستّ وعشرون تدعونى فأتبعها

إلى المشيب ولم تظلم ولم تحب (4)

فإذا صح أنه مدحه بها فى بغداد فإنه يكون قد زارها وهو فى السادسة والعشرين من عمره. على أنه لم يلبث أن عاد سريعا إلى الموصل متنقلا بينه وبين موطنه،

(1) الديوان (طبعة دار المعارف) 3/ 309.

(2)

ابن المعتز ص 283.

(3)

الديوان (طبعة دار المعارف) 1/ 115

(4)

لم تحب: من الحوب وهو الإثم.

ص: 270

وربما بدأ مديحه لمالك بن طوق التغلبى والى الجزيرة منذ هذا التاريخ. ونراه يحاول المثول بين يدى المأمون فى إلمامه بدمشق وثغور الشام أثناء حملاته على الروم، وربما كان أول ما مدحه به قصيدته:(كشف الغطاء فأوقدى أو أخمدى) وفيها يعلن له حبه لآل البيت مشيدا بقضائه على الثورات والفتن بمصر، يقول (1):

وانتاش مصر من اللّتيّا والتى

بتجاوز وتعطّف وتعمّد

والمعروف أن المأمون زار مصر فى أول سنة 217 للهجرة، وقد عاد منها إلى دمشق ثم توجه منها إلى ثغر «أذنة» معسكرا بها وجيوشه تتغلغل وراء البيزنطيين، مبددين لجموعهم فى غير جبهة، وتقدّم بنفسه إلى حصن «لؤلؤة» فأناخ به، وجيوشه تغدو وتروح فى آسيا الصغرى منزلة بالروم هزائم ساحقة. ونرى أبا تمام يتغنى بتلك الانتصارات فى ميميته للمأمون تغنيا بديعا بمثل قوله يصف تلك الجيوش واستبسالها فى القتال (2):

مسترسلين إلى الحتوف كأنما

بين الحتوف وبينهم أرحام

آساد موت مخدرات مالها

إلا الصّوارم والقنا آجام (3)

وقد مضى يشيد بقائدين من قواد هذه الحروب، أما أولهما فخالد بن يزيد ابن مزيد الشيبانى والى أرمينية وقد سجّل له انتصارا حربيّا ماحقا على تيوفيل إمبراطور بيزنطة مصورا كيف ولّى الأدبار وكيف استولى الرعب على جنوده، يقول (4):

ولما رأى توفيل راياتك التى

إذا ما اتلأبّت لا يقاومها الصّلب (5)

تولّى ولم يأل الرّدى فى اتّباعه

كأن الرّدى فى قصده هائم صبّ

كأن بلاد الروم عمّت بصيحة

فضمّت حشاها أو رغا وسطها السّقب (6)

(1) الديوان 2/ 48. انتاش: خلص.

(2)

الديوان 3/ 156.

(3)

مخدرات: ساكنات بيوتها وغاباتها. آجام: جمع أجمة وهى الشجر الكثير الملتف.

(4)

الديوان 1/ 197.

(5)

اتلأبت: تتابع هزها. الصلب: جمع صليب، ويريد النصارى.

(6)

السقب: ولد الناقة التى عقرتها ثمود فصارت شؤما عليهم وهلاكا لهم.

ص: 271

وأما القائد الثانى فجعفر الخياط، على أنه لم يتوسع فى تصوير حروبه وانتصاراته، ونظن ظنّا أنه لقى فى هذا الحين المعتصم إذ كان المأمون يعهد إليه بقيادة بعض تلك الجيوش الغازية للروم، فقد جاء فى بعض أخباره أن أول لقائه له إنما كان فى المصيصة إحدى ثغور الشام (1)، وفى بعض الروايات أنه إنما لقيه بعد بنائه لسرّ من رأى وفتحه لعمورية فى سنة 223 للهجرة غير أنه فى إحدى مدائحه له يقول (2):

أربيعنا فى تسع عشرة حجّة

حقّا لهنّك للرّبيع الأزهر (3)

وواضح أنه يشير إلى سنة تسع عشرة بعد المائتين مما يؤكد أنه كان ببغداد فى تلك السنة، وكأنه شدّ رحاله إليها بعد وفاة المأمون سنة 218 وقد أخذت تتوثق علاقة بينه وبين إسحق بن إبراهيم المصعبى القائم على شرطة بغداد وأعمالها، ونراه يشيد بانتصاراته على المحمّرة الذين ثاروا بالجبل شمالى إيران لسنتى 218، 219 إشادات رائعة (4). ويظهر أنه لم يلبث أن ارتحل إلى عبد الله بن طاهر والى خراسان، واستقبله هو ومن حوله من الكتّاب والشعراء استقبالا حافلا، ويقال إنه لما أنشده قصيدته فيه:(هنّ عوادى يوسف وصواحبه) نشر عليه ألف دينار. وقد دبّج قصائد كثيرة فى رئيس ديوانه وكتّابه محمد بن الهيثم بن شبانة وأيضا فى كثير من العمّال والقواد هناك مثل محمد بن المستهل ودينار بن عبد الله وحفص بن عمر الأزدى وعلى بن مرّ، ونوّه فى طريقه بكثير من الولاة وخاصة الحسن بن رجاء والى فارس. وفى عودته نزل بهمذان على أبى الوفاء بن سلمة، وتصادف أن حبسه الثلج عنده أشهرا، فأكبّ على خزانة كتبه يؤلف ويصنّف مجاميع من الشعر أشهرها كتاب الحماسة وهو مطبوع مرارا، وطبع له شرحان: شرح التبريزى وشرح المرزوقى، وهو يصوّر لنا من بعض الوجوه دقة ذوق أبى تمام كما يصور ثقافته الواسعة بالشعر العربى ودرره النفيسة فى القديم والحديث.

وعاد إلى «سرّ من رأى» وأخذ يتغنى بانتصارات القواد على بابك الخرّمى وكان قد ثار منذ سنة 201 للهجرة ونازله كثيرون من قوّاد المأمون، وما توافى

(1) الصولى ص 144.

(2)

الديوان 2/ 193.

(3)

لهنك: لغة فى لإنك.

(4)

الديوان 3/ 168، 264، 297.

ص: 272

سنة 220 حتى يعقد المعتصم للأفشين على الجيوش التى تنازل أتباعه من الخرّمية فى الجبال وأرمينية وأذربيجان، وكان من أهم القواد الذين عصفوا حينئذ بأتباعه أبو سعيد محمد بن يوسف الثغرى الطائى وقد مضى أبو تمام يشيد بانتصاراته وكأنه يحيّى فيه قبيلته طيّئا وأمجادها الحربية الحديثة، ومن ثمّ لم يترك له انتصارا دون أن يسجله فى ملحمة رائعة. ومجّد بجانبه بطلا عربيّا ثانيا ممن نكلوا ببابك وأصحابه تحت لواء الأفشين هو أبو دلف العجلى، وكان فارسا مغوارا، وغيثا مدرارا، فنوّه به تنويها رائعا. وأخيرا فى أوائل سنة 223 قدم الأفشين ببابك مقيدا إلى سرّ من رأى. فتعالى بها التكبير والضجيج، وقتل وقطّع جسده وصلب جزاء وفاقا لبغيه ونكثه بالعهود. وأخذ الشعراء وفى مقدمتهم أبو تمام يهنئون المعتصم والأفشين بهذا النصر المبين، وله فيه ثلاث قصائد رائعة، هى:(غدا الملك معمور الحمى والمنازل) و (آلت أمور الشرك شر مآل) و (بذّ الجلاد البذّ (1) فهو دفين). ولم يلبث تيوفيل إمبراطور بيزنطة أن أغار على زبطرة بالقرب من سميساط والحدث فى طرف بلاده، واستشاط المعتصم غضبا، فجهّز الجيوش لغزو الروم، والتقى بتيوفيل وهزمه هزيمة ساحقة. افتتح على إثرها عمورية وتفرقت جيوشه فى آسيا الصغرى تمحق الروم محقا. وتوطئهم صغارا وذلا. وكان لمحمد بن يوسف الثغرى فى تلك الحروب دور كبير جعل أبا تمام يتغنّى به وبانتصاراته طويلا على نحو ما تصور ذلك قصيدتاه:(لا أنت أنت ولا الديار ديار) و (ما عهدنا كذا نحيب المشوق) وهو فيهما يسمّى كثيرا من الحصون الرومية التى افتتح أقفالها، مصورا كيف تغلغل حتى خليج القسطنطينية سائقا بين يديه مئات الأسرى والمغانم الكثيرة.

ودرّة تلك الحروب قصيدته فى عمورية التى امتدح بها المعتصم: (السيف أصدق أنباء من الكتب) وهى ملحمة رائعة.

وأخذت تتوثق علاقة أبى تمام منذ عودته من خراسان بأحمد بن أبى دؤاد مستشار المعتصم وقاضى قضاته، وبأحمد بن المعتصم وبكثيرين من رجالات الدولة وقوادها.

وما نكاد نتقدم فى سنة 224 حتى يخلع الطاعة مازيّار بطبرستان، وما تزال جيوش الخلافة تنازله حتى تأتى به صاغرا إلى «سرّ من رأى» فى سنة 225 فيقتل ويصلب

(1) البذّ: كورة بين أران وأذربيجان خرج بها بابك.

ص: 273

بجانب بابك. وتجمعت أدلة قاطعة على خيانة الأفشين وزندقته وأنه يبطن الكفر وينتوى الغدر بالدولة والإيقاع بأبطالها وخاصة من العرب أمثال أبى دلف، فيأمر المعتصم بالقبض عليه وإلقائه فى غيابات السجون، ويموت، فيصلب بجانب بابك، ثم يحرق بالنار التى كان يعبدها من دون الله، وما يلبث أبو تمام أن ينشد المعتصم قصيدته البديعة (1):

الحقّ أبلج والسيوف عوارى

فحذار من أسد العرين حذار

وقد صوّر فيها كفران الأفشين بالإسلام وبنعم الدولة ونقضه لما بينه وبين المعتصم من عهود ومواثيق وبغيه الذى أورده موارد الهلاك، وما كان من حرقه بالنار وصلبه قبل ذلك بجوار بابك ومازيار يقول:

ما زال سرّ الكفر بين ضلوعه

حتى اصطلى سرّ الزّناد الوارى (2)

نارا يساور جسمه من حرّها

لهب كما عصفرت شقّ إزار (3)

صلّى لها حيّا وكان وقودها

ميتا ويدخلها مع الفجّار

ولقد شفى الأحشاء من برحائها

أن صار بابك جار مازيّار

سود الثياب كأنما نسجت لهم

أيدى السّموم مدارعا من قار (4)

كادوا النبوّة والهدى فتقطّعت

أعناقهم فى ذلك المضمار

وانعقدت صلة وثيقة بينه وبين ابن الزيات منذ وزارته للمعتصم سنة 225 وكذلك بينه وبين كاتبه الحسن بن وهب وظل يمدح أبا سعيد الثغرى وخالد بن يزيد والى أرمينية ومالك بن طوق التغلبى والى الجزيرة، ومدح موسى بن إبراهيم الرافقى والى دمشق للمعتصم والواثق. وتهاداه الرؤساء وكبار رجال الدولة. وتوفى المعتصم وخلفه الواثق فهنأه وعزّاه بقصيدته البديعة:(ما للدموع تروم كلّ مرام) ويضفى عليه مدائح مختلفة. ويظهر أنه أخذ يحس منذ ولاية الواثق سنة 227 ملله

(1) الديوان 2/ 198.

(2)

يشير بسر الزناد الوارى إلى حرقه بالنار.

(3)

يشير إلى أنه حرق بالنار وهو مصلوب على الجذع، ومن أجل ذلك يشبهه بإزار عصفر نصفه طولا.

(4)

يشير إلى صلب الثلاثة الأفشين وبابك ومازيار، وأراد بسواد ثيابهم سواد جلودهم بالشمس وغبار الرياح.

ص: 274

من حرفته، وأنها تضطره أحيانا لبذل مديحه لغير مستحقه من مثل موسى بن إبراهيم الرافقى، فتمنى لو صار له عمل فى الدولة يدرّ عليه ما يكفيه مئونته، وسرعان ما حقّق له صديقه الحسن بن وهب أمنيته، فعيّنه على يريد الموصل، وضل هناك عامين، جاءه فيهما نعى خالد بن يزيد بن مزيد الشيبانى فبكاه وبكى بطولته بكاء حارّا، ولا يدور العام حتى يلبى داعى ربه سنة 231 للهجرة ويرثيه كثير من الشعراء، وفى مقدمتهم الحسن بن وهب، وفيه يقول (1):

فجع القريض بخاتم الشعراء

وغدير روضتها حبيب الطائى

ماتا معا فتجاورا فى حفرة

وكذلك كانا قبل فى الأحياء

ويقال إن بنى حميد الطوسى بنوا على قبره قبة خارج باب الميدان على حافة الخندق (2)

وأخبار أبى تمام فى أسرته قليلة، وبين مراثيه مرثية فى زوجة له، ويقال إنه كان له أخ يسمى سهما يجرى على لسانه شعر ضعيف (3). وكان ابنه تمام يقول الشعر، ويظهر أنه كان له بنون مختلفون، وفد احتسب منهم اثنين رثاهما رثاء مؤثرا.

ويقول الصولى إنه كان أسمر طوالا، وكانت فيه تمتمة يسيرة جعلته يتخذ غلاما لإنشاد شعره بين يدى المعتصم وغيره (4). ويقال إنه كان من أكثر الناس مزاحا (5) تسعفه فى ذلك بديهة حاضرة. وفى ديوانه رائية يمدح بها أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها يفضل عليا ويشيد بمواقفه فى عصر الرسالة، فهل معنى ذلك أنه كان يتشيع؟ . الحق أنه لم يكن متشيعا، أما هذه القصيدة فنظن ظنّا أنه نظمها حين كتب المأمون إلى الآفاق فى سنة 212 للهجرة بتفضيل على بن أبى طالب على أبى بكر وعمر، وكان حينئذ بمصر وفى القصيدة نفسها ما يدل على أنه نظمها بها إذ يقول فى مطالعها (6):

وإن نكيرا أن يضيق بمن له

عشيرة مثلى أو وسيلته مصر

(1) الصولى ص 277.

(2)

هبة الأيام فيما يتعلق بأبى تمام ص 49.

(3)

الصولى ص 144.

(4)

الصولى ص 259 وما بعدها.

(5)

ابن المعتز ص 283.

(6)

الديوان (طبعة بيروت) ص 143.

ص: 275

ونراه فى أول قصيدة لقى فيها المأمون يصرح له فيها كما قدمنا بأنه مشغوف بحب آل محمد، تقربا إليه وزلفى، حتى ليزعم أنه من شيعة الكوفة، يقول متحدثا عن قصيدته (1):

ووسيلتى فيها إليك طريفة

شام يدين بحبّ آل محمّد

نيطت قلائد عزمه بمحبّر

متكوّف متدمشق متبغدد (2)

حتى لقد ظن الغواة-وباطل-

أن قد تجسّم فىّ روح السيّد (3)

ومعنى ذلك أن تشيعه فى القصيدتين جميعا إنما كان فى سبيل المأمون، يحاول أن يمتّ إليه بما يعطفه عليه. وفى أخباره أن الحسن بن رجاء لا حظ عليه وهو عنده أنه يصلى صلاة خفيفة لا يطيل فيها (4)، وتوسع بعض الباحثين فى الخبر فقالوا إنه لا حظ عليه تقصبره فى أداء الفروض الدينية (5). وديوانه وما به من مواعظ دينية يشهد على صحة إسلامه، وأيضا ففيه قصبدة وصف بها حجّة حجّها (6).

وليس فى ديوانه وراء ذلك ما يصور أنه كان عابثا أو ماجنا. يلهو ولكن بقسطاس وكأن خصومه حاولوا أن يغضّوا منه فزيّفوا عليه الخبر السالف طعنا عليه ومحاولة للنقص منه. أما الخبر الذى يذكر فيه أنه كان له غلام رومى وللحسن بن وهب غلام خزرى وكل منهما يتعشق غلام صاحبه (7)، فهو أدنى إلى الفكاهة، ولعل غلام أبى تمام المذكور هو الذى كان ينشد شعره. والحق أنه كان وقورا وكان يترفع عن الدنايا، وكان مخلصا لدينه كما كان مخلصا لعروبته.

وشعر أبى تمام زاخر بما يدل على أنه انقضّ على معارف عصره انقضاضا حتى تمثّلها تمثلا دقيقا، وخاصة التاريخ وعلم الكلام وما يتصل به من الفلسفة والمنطق، أما التاريخ فيتضح فى كثير من جوانب مديحه، وخاصة حين يعرض لقبيله الممدوح ووقائعها وأمجادها فى الجاهلية والإسلام على نحو ما يلقانا فى قصائده (8) لخالد بن

(1) الديوان (طبع دار المعارف) 2/ 55.

(2)

بمحبر: يقصد نفسه وأنه يحبر القصائد ويجودها. متكوف يقصد أنه كوفى تشيعا. متبغدد: يقصد أنه ظريف من أهل بغداد.

(3)

السيد: يريد السيد الحميرى المشهور بتشيعه.

(4)

الصولى ص 172.

(5)

انظر مقالة مرجليوث عن أبى تمام فى دائرة المعارف الإسلامية.

(6)

الديوان (طبعة بيروت) ص 379.

(7)

الصولى ص 194.

(8)

الديوان (طبع دار المعارف) 1/ 194 وانظر 1/ 87 وما بعدها.

ص: 276

يزيد بن مزيد الشيبانى ومالك بن طوق التغلبى، وكذلك حين يقرن وقائع بعض الأبطال ودويها فى الخافقين إلى وقائع جاهلية وإسلامية مشهورة على نحو ما نرى فى تمجيده لانتصار إسحق بن إبراهيم المصعبى على المحمّرة بالجبل (1)، وكان يعرف كيف يحول التاريخ شعرا على شاكلة قوله فى إحدى قصائده لخالد بن يزيد الشيبانى وانتصار قومه فى يوم ذى قار المشهور على الفرس (2):

لهم يوم ذى قار مضى وهو مفرد

وحيد من الأشباه ليس له صحب

به علمت صهب الأعاجم أنه

به أعربت عن ذات أنفسها العرب (3)

هو المشهد الفصل الذى ما نجا به

لكسرى بن كسرى لاسنام ولا صلب (4)

وكانت تميم قبل هذا اليوم أصابها جدب شديد، فابتغت الرّعى فى أرض العراق، وكاتب والى الحيرة كسرى هل يأذن لهم فى الرعى؟ فاشترط أن يقدّموا رهائن منهم، ولما طلبت من رئيسهم حاجب بن زرارة، قال: ليس معى إلا قوسى، فاسترهنوها منه، ووفى لهم بما وافقهم عليه. فصار ذلك معدودا فى مناقب بنى تميم. وإلى ذلك يشير أبو تمام فى قصيدة يمدح بها أبا دلف متحدثا عن المنقبة الكبرى لشيبان يوم دى قار، إذ فتكوا بالفرس الذين كسوا تميما منقبة القوس وأدالوا منهم للعرب والعروبة، مسجلين هذا المجد الحقيقى على التاريخ، يقول (5):

إذا افتخرت يوما تميم بقوسها

وزادت على ما وطّدت من مناقب

فأنتم بذى قار أمالت سيوفكم

عروش الذين استرهنوا قوس حاجب

محاسن من مجد متى تقرنوا بها

محاسن أقوام تكن كالمعايب

مكارم لجّت فى علوّ كأنما

تحاول ثأرا عند بعض الكواكب

وقد تحدثنا فى الفصل السابق عن تعمقه فى مذاهب المتكلمين وفى الفلسفة والمنطق تعمقا جعله ينشر فى معانيه الأضداد المتنافرة نشرا يدخل البهجة على

(1) الديوان 3/ 300 وما بعدها.

(2)

الديوان 1/ 195.

(3)

صهب: شقر شعر الرأس، ويوصف الأعاجم بالشقرة لغلبة ذلك عليهم.

(4)

السنام: كناية عن النوق. والصلب هنا: كناية عن الخيل.

(5)

الديوان (طبع دار المعارف) 1/ 215.

ص: 277

النفس بما يصور من تعانقها فى الحياة، تصويرا يدل على عمق غوره فى الإحساس بحقائق الكون، وبترابط جواهرها، حتى الجواهر التى تبدو متضادة، فإن بعضها ينشأ من بعض، ويلتقى التقاء وثيقا، على شاكلة قوله (1):

ربّ خفض تحت السّرى وغناء

من عناء ونضرة من شحوب (2)

وجعلته صلته بالمنطق والفلسفة يكثر من استخدام الأدلة المنطقية، وهى عنده تستمد من نفس إحساسه العميق بتشابك حقائق الكون، فإذا بعضها يرى من خلال بعض، بل إذا بعضها يتخذ دليلا وحجة على بعض، من مثل قوله لمن عذلته على ضيق ذات يده (3):

لا تنكرى عطل الكريم من الغنى

فالسّيل حرب للمكان العالى

وقوله فى تحبيب الرحلة عن الأوطان (4):

وطول مقام المرء فى الحىّ مخلق

لديباجتيه فاغترب تتجدّد (5)

فإنى رأيت الشمس زيدت محبّة

إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد (6)

ويتسع التأثر بالفلسفة عنده حتى ليشيع الغموض فى كثير من أبياته، وهو غموض بهيج كغموض الطبيعة فى الصباح والغروب إذ يجلله دائما شفق يأخذ بالألباب، ونعجب إذ نجد القدماء يحملون عليه من أجله (7)، كما حملوا على إكثاره من اللفظ الغريب ومن التصاوير وألوان البديع (8)، حتى قالوا إنه أفسد الشعر، وهو لم يفسده بل هيأ له ازدهارا رائعا، تسنده فيه ثقافة واسعة بالفلسفة والمنطق، وبالشعر العربى قديمه وحديثه، كما تسنده قوة ملكاته التى جعلته يعدّ بحقّ حامل لواء الشعر العربى فى عصره، بل جعلته صاحب مذهب مستقل بخصائصه العقلية والزخرفية، أما الخصائص العقلية فتتضح فى دقة معانيه وغوصه على طرائفها

(1) الديوان 1/ 126.

(2)

الخفض: سعة العيش. السرى: السير ليلا، غناء: نفع.

(3)

الديوان 3/ 77.

(4)

الديوان 2/ 23.

(5)

مخلق: من أخلق أى أبلى. ويريد بالديباجتين الوجه والمكانة الأدبية.

(6)

سرمد: دائم.

(7)

انظر مناقشتنا لهم فى كتابنا الفن ومذاهبه فى الشعر العربى (الطبعة السادسة بدار المعارف) ص 239 وما بعدها.

(8)

المصدر نفسه ص 235.

ص: 278

النادرة، محتكما إلى قانونى التضاد والقياس وإلى كثرة التوليد والاستنباط، وأما الخصائص الزخرفية فتتضح فى روعة تصاويره وكثرة بديعه، بل نحن لا نحقق حين نفصل بين الضربين من الخصائص، إذ هما يتزاوجان عنده تزاوجا رائعا بحيث يصبح الزخرف عملا عقليا والعمل العقلى زخرفا نادرا لا يكاد يتعلق به أحد.

والمديح أهم الأغراض التى تتجلّى فيها خصائصه، وهو فى كثير منه، بل فى جمهوره، يحتفظ بالمقدمة الطللية وما يتصل بها من التشبيب والنسيب، مودعا فيها كثيرا من لفتاته وخواطره النادرة التى تدل على سعة خياله وتأمله الطويل وأنه يخضع التفكير للشعر، وكأنه فيلسوف يخضع فلسفته للشعر أو شاعر يخضع شعره للفلسفة والفكر الدقيق، وهل هناك جانب فى شعره إلا وهو يفكر فيه تفكيرا متصلا، وهو تفكير كان يعرف كيف يصوغ به خواطره وكيف يبرزها فى معارض من التصاوير والحكم الرشيقة من مثل قوله فى تصوير أيام عشقه الماضية (1):

أعوام وصل كاد ينسى طولها

ذكر النّوى فكأنها أيام

ثم انبرت أيام هجر أردفت

بجوى أسى فكأنها أعوام

ثم انقضت تلك السنون وأهلها

فكأنها وكأنهم أحلام

وواضح أن قانون التضاد يلعب بأقواسه الأرجوانية فى هذه الأبيات، فالأعوام أيام، والأيام أعوام، وأوقات الصحو الممتعة أحلام. ومن طريف حكمه فى الغزل والنسيب قوله (2):

أجدر بجمرة لوعة إطفاؤها

بالدّمع أن تزداد طول وقود

وقوله (3):

أحلى الرجال من النساء مواقعا

من كان أشبههم بهنّ خدودا

وقد ردّد كثيرا فى تضاعيف نسيبه شكواه المرة من الزمن وما ينزله به من الخطوب والكوارث، حتى ليقول ضجرا متأففا منه ومن سياسته الخرقاء (4):

(1) الديوان 3/ 151.

(2)

الديوان 1/ 392.

(3)

الديوان 1/ 415.

(4)

الديوان 2/ 324.

ص: 279

لقد ساسنا هذا الزمان سياسة

سدى لم يسسها قطّ عبد مجدّع

تروح علينا كلّ يوم وتغتدى

خطوب كأن الدهر منهن يصرع

وقد أشرنا فى الفصل السابق إلى أنه هو الذى ألهم ابن الرومى والمتنبى الشكوى من الزمن وما يصبه على الناس من البلاء وما يتصل بذلك من حكم، وأيضا فإنه هو الذى ألهم المتنبى اعتداده بنفسه وما طوى فى ذلك عنده من فخر محتدم، واقرأ له هذه الأبيات التى ساقها بعد نسيبه فى مديحه للحسن بن سهل (1):

وغرّبت حتى لم أجد ذكر مشرق

وشرّقت حتى قد نسيت المغاربا

خطوب إذا لاقيتهنّ رددننى

جريحا كأنى قد لفيت الكتائبا

وقد يكهم السيف المسمّى منيّة

وقد يرجع المرء المظفّر خائبا (2)

وكنت امرءا ألقى الزمان مسالما

فآليت لا ألقاه إلا محاربا

وهو نفس نغم الفخر والاعتداد بالنفس الذى نلقاه عند المتنبى مع ما يمسح عليه ويتخلله من شكوى الدهر، ومع ما يسوده من الشعور بقوة النفس وصلابتها وأنها أقوى عودا وأصلب من الزمن، فهى لا تتخاذل أمامه ولا تضعف بل تحاول أن تقهره وتطعنه الطعنة المصمية.

وكان أبو تمام يضيف إلى نسيبه أحيانا وصفا لبعيره وما يقطع من الفلوات، مستمدّا من معانى القدماء فى هذا الوصف ومضيفا طرائفه الحديثة، كقوله يصف بعيره وما أصابه من هزال لطول رحلته به إلى خراسان ليمدح ابن طاهر (3):

رعته الفيافى بعد ما كان حقبة

رعاها وماء الروض ينهلّ ساكبه

فالصحراء بطرقها الوعثة كأنما هى التى رعته إذ أضمرته وأنحلته، بينما كان يرعى أعشابها، وهو تضاد بديع، فهو يرعى الصحراء والصحراء ترعاه. وقد ألم بوصف الخمر فى بعض مقدماته للمديح، وهو ليس ممن يجيدون فى وصفها، لأنه لم يكن ممن ينغمسون فى إثمها، وقد يلقانا عنده بعض أبيات طريفة فيها كقوله (4):

(1) الديوان 1/ 147.

(2)

يكهم: لا يقطع.

(3)

الديوان 1/ 230.

(4)

الديوان 1/ 34

ص: 280

وضعيفة فإذا أصابت فرصة

قتلت كذلك قدرة الضعفاء

وكأنّ بهجتها وبهجة كأسها

نار ونور قيّدا بوعاء

وقد فسح فى مقدماته مرارا للحديث عن الشيب، وكان قد وخطه فى سن مبكرة، وهو لا يحاول تزيينه، بل يعرف دائما بأنه قبيح مكروه وخاصة فى عين المرأة، ومن طريف ماله فيه قوله (1):

لو رأى الله أنّ للشيب فضلا

جاورته الأبرار فى الخلد شيبا

ولعل من الطريف أنه وقف بعض مقدماته للمديح على وصف الطبيعة، وهو لا يبارى فى تصوير مشاعر الطير وأحاسيسه، ومن خير ما يمثل ذلك عنده تصويره لقمرية وقمرىّ وهما يرشفان رحيق الهوى بينما هو يتعمقه الحزن، وكأنما ترثى له السماء فتستهل بروقها ورعودها، والطبيعة من حوله مكتسية بثياب الربيع المشرقة والطواويس تومض بألوانها الزاهية وأذنابها المزركشة، وكأنها خدم هذا العرس الرائع من أعراس الربيع، يقول (2):

غنّى فشاقك طائر غرّيد

لما ترنّم والغصون تميد

ساق على ساق دعا قمريّة

فدعت تقاسمه الهوى وتصيد (3)

إلفان فى ظلّ الغصون تألّفا

والتفّ بينهما هوى معقود

يتطّعمان بريق هذا هذه

مجعا وذاك بريق تلك معيد (4)

يا طائران تمتّعا هنّيتما

وعما الصباح فإننى مجهود

أبكى وقد تلت البروق مضيئة

من كل أقطار السماء رعود

واهتزّ ريعان الشباب فأشرقت

لتهلّل الشجر القرى والبيد (5)

ومضت طواويس العراق فأشرقت

أذناب مشرقة وهنّ حفود (6)

(1) الديوان 1/ 168.

(2)

الديوان 2/ 148.

(3)

الساق الأولى: القمرى أو ذكر الحمام. والساق الثانية: ساق الشجرة. تصيد: تصيده وتوقعه فى شباكها.

(4)

مجعا: حسوا.

(5)

يريد بريعان الشباب الربيع.

(6)

ومضت: لمعت وتلألأت. وحفود، جمع حافد؛ وهو الخادم.

ص: 281

يرفلن أمثال العذارى طوّفا

حول الدّوار وقد تدانى العيد (1)

وهى قطعة رائعة زاخرة بوصف المشاعر والأحاسيس، مشاعر أبى تمام المحزون وأحاسيس الطير المبتهجة بالحب والطواويس المبتهجة بالربيع. ونراه فى إحدى مدائحه للمعتصم يصور الربيع واصلا بينه وبين عصر المعتصم وكأنه يرى عصره ربيع العصور العباسية. وقد مضى يحتكم فى هذا الوصف للربيع وفتنته بأنه مجمع الضدين:

الصيف والشتاء، فالصيف يتراءى فى طقسه والشتاء يتراءى فى زهره (2)، بل إن المطر فى الشتاء ليحمل بين أطوائه الصحو المشرق الجميل كما يحمل الصحو بترطيبه للجو نضرة المطر، يقول:

مطر يذوب الصّحو منه وبعده

صحو يكاد من النضارة يمطر

ويتسع به الخيال فإذا الندى الذى تترقرق حباته على الأوراق والغصون كأنه طيب سقط من غدائر السحاب على لمم الثّرى ولحاه، يقول:

وندى إذا ادّهنت به لمم الثّرى

خلت السحاب أتاه وهو مغدّر

وبمضى فى حلمه، فإذا هو يرى نفسه فى رياض الربيع وأضواء الشمس تخالط الورود والرياحين كأنه فى ليلة مقمرة جميلة، والأحلام تفد عليه من كل صوب، يقول:

يا صاحبىّ تقصّيا نظريكما

تريا وجوه الأرض كيف تصوّر

تريا نهارا مشمسا قد شابه

زهر الرّبى فكأنما هو مقمر

وله بائية (3) فى مديح ابن الزيات استهلها بوصف ديمة ممطرة مصورا فرحة الطبيعة بها بعد الجفاف الطويل ونراه يصل بينها وبين مديحه لابن الزيات وكأنه يرى فيها خلاله وكرمه الفياض. وهذا الوصل بين الممدوحين والطبيعة سواء فى هذه القصيدة أو سابقتها يجعلنا نحس فى وضوح عنده بوحدة القصيدة، وكأنها بمقدماتها عمل فنّىّ نام لا يزال بعضه يتولد من بعض.

(1) طوفا: جمع طائفة. الدوار: صنم كان النساء يطفن حوله فى الجاهلية.

(2)

انظر القصيدة فى الديوان 2/ 191.

(3)

الديوان 1/ 296 وانظر هبة الأيام ص 37 حيث نص على أنها فى ابن الزيات.

ص: 282

وإذا أخذنا ننظر فى معانى مديحه وجدناه يحاول دائما أن يستنبط منها مبتكرات طريفة مستمدّا من مناجم عقله الغنية وكنوز أخيلته الثرية التى تحفل دائما بما يملأ النفس إعجابا به وبشعره، كقوله يصف جود أبى دلف (1):

تكاد مغانيه تهش عراصها

فتركب من شوق إلى كل راكب (2)

وقوله يصور جود المعتصم وكثرة بذله ونواله (3):

تعوّد بسط الكفّ حتى لو أنّه

ثناها لقبض لم تجبه أنامله

ولو لم يكن فى كفّه غير روحه

لجاد بها فليتّق الله سائله

وقد تحول بوصفه بسالة الأبطال الذين تغنى بمديحهم وانتصاراتهم إلى ملاحم كبرى جسّم فيها بطولتهم تجسيما يدلع الحماسة فى قلب كل عربى، ويضرمها إضراما. ونراه يتغنى طويلا ببطولة محمد بن يوسف الثغرى الطائى وما أنزله من صواعق الموت على رءوس الخرّمية أصحاب بابك ورءوس الروم، وكأنه قيس يتغنى بليلاه. ومن رائع ما له فيه قوله يصور هجومه من الجنوب واقتحامه حصون العدو فى الشمال، والثلوج تغطى الطرق والآفاق (4):

لقد انصعت والشتاء له وج

هـ يراه الرجال جهما قطوبا (5)

طاعنا منحر الشمال متيحا

لبلاد العدوّ موتا جنوبا

فى ليال تكاد تبقى بخدّ الشّ

مس من ريحها البليل شحوبا

فضربت الشتاء فى أخدعيه

ضربة غادرته عودا ركوبا (6)

لو أصخنا من بعدها لسمعنا

لقلوب الأيام منك وجيبا (7)

وأمّ ملاحمه قصيدته فى عمّورية التى مدح بها المعتصم مسجلا انتصاره العظيم على البيزنطيين، وهو فيها مبتهج ابتهاجا لا حدّ له بهذا الفتح المبين، وقد استهلها

(1) الديوان 1/ 212.

(2)

العراص: الساحات.

(3)

الديوان 3/ 29.

(4)

الديوان 1/ 173 وما بعدها.

(5)

انصعت: رجعت مسرعا. الجهم، القطوب: العبوس.

(6)

الأخدعان: العرقان البارزان فى العنق. العود: البعير المسن ركوب: مذلل.

(7)

أصخنا: أرهفنا السمع. الوجيب: الخفقان.

ص: 283

بتفضيل القوة على العقل والسيف على الكتب والهزؤ بالمنجمين وما زعموا من أن المعتصم لا يفتحها فإذا هى تسقط أركانها ويتداعى بنيانها أمام مجانيقه وجنوده لبواسل، ويفرّ تيوفيل إمبراطور بيزنطة على وجهه، وقد عصف بقلبه الرعب، والنيران تأخذ عمورية من كل جانب، يقول (1):

فتح الفتوح تعالى أن يحيط به

نظم من الشعر أو نثر من الخطب

فتح تفتّح أبواب السماء له

وتبرز الأرض فى أثوابها القشب

ويتحدث عن وقعتها وما حققت للمسلمين والإسلام من منى معسولة ومن عز ومجد، بينما هوت بالروم وديارهم فى الحضيض. ويصور استعصاءها على ملوك الفرس والتبابعة وأنها عتيقة منذ الإسكندر ومع ذلك تحتفظ بشبابها للخليفة الموعود بفتحها وكأنما كان نصر جنود المعتصم فى يوم «أنقرة» جربا أصابها، فإذا هى تركع صاغرة تحت قدمى المعتصم وقد لطخ الدم ذوائب فرسانها وجباههم، والتهمتها النيران التهاما، وعلى الرغم مما أصاب جسدها من جرب ووجهها من تشويه تسكب فى نفوس العرب من الفرح والبهجة ما لا تذكر بجانبه فرحة ذى الرمة وبهجته حين كان يلمّ بربع مية التى تغنت بحبه لها الأحياء والبيد، يقول:

لقد تركت أمير المؤمنين بها

للنار يوما ذليل الصخر والخشب

غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى

يشلّه وسطها صبح من اللهب (2)

حتى كأن جلابيب الدّجى رغبت

عن لونها أو كأن الشمس لم تغب

ضوء من النار والظلماء عاكفة

وظلمة من دخان فى ضحى شحب

فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت

والشمس واجبة فى ذا ولم تجب (3)

ما ربع ميّة معمورا يطيف به

غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب (4)

ولا الخدود وقد أدمين من خجل

أشهى إلى ناظرى من خدّها التّرب

(1) انظر القصيدة فى الديوان 1/ 45.

(2)

الليل البهيم: شديد الظلام. يشله: بطرده.

(3)

واجبة، آفلة: غاربة.

(4)

غيلان: ذو الرمة.

ص: 284

وواضح استمداده من قانون الأضداد فى وصف حريقها ليلا، وهو استمداد تخلق فى تضاعيفه هذا الخيال بل الحلم العجيب، فهو فى الليل البهيم ويتصور كأنه فى الصبح المضئ، بل هو فى الضحى المنير، وكأنما خلع الليل ثيابه بل لكأنما رغب عنها، بل كأن الشمس لم تغب ولم تغرب، بل لقد غربت ولم تلبث أن أشرقت فى ربوع عمورية. فيا للحلم ويا لروعته، وإن نشوة الظفر ليجرى رحيقها فى نفسه، فإذا هو يحس إزاءها نفس أحاسيس ذى الرمة إزاء مية التى شغفت قلبه حبّا. وقد مضى يصور قوة المعتصم وجنوده، وكيف فر تيوفيل بفلول جيشه أمامه وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وما زال يصور فتك المعتصم بجيوشه وأبطاله، حتى قال والجدل يغمره:

خليفة الله! جازى الله سعيك عن

جرثومة الدين والإسلام والحسب (1)

بصرت بالرّاحة الكبرى فلم ترها

تنال إلا على جسر من التّعب

إن كان بين صروف الدّهر من رحم

موصولة أو ذمام غير منقضب (2)

فبين أيامك اللاّتى نصرت بها

وبين أيام بدر أقرب النّسب

أبقت بنى الأصفر الممراض كاسمهم

صفر الوجوه وجلّت أوجه العرب (3)

وعواطفه الدينية والقومية بارزة فى هذه الأبيات الأخيرة، بل إنها لتبرز فى جنبات الملحمة جميعها، وإنه ليهدر فيها هدير الظافر المبتهج الذى تبددت أمامه جحافل الأعداء وانجابت غياهب الظلام وحلت مكانها أضواء النصر فى كل مكان.

وإذا تركنا ملاحمه إلى مدائحه الأخرى وجدناه يلائم دائما بين مدحه وممدوحه، فإذا مدح كاتبا شاعرا مثل الحسن بن وهب نوه بأدبه وبلاغته ودرر لفظه ومعانيه، وكذلك الشأن فى مدحه لابن الزيات، وكان هو الآخر كاتبا شاعرا، وجلّى فى وصفه لقلمه الذى أنشدنا منه قطعة فى الفصل الرابع والذى استهله بقوله (4):

(1) جرثومة: أصل.

(2)

صروف الدهر: أحداثه. منقضب: منقطع.

(3)

بنو الأصفر: الروم.

(4)

الديوان 3/ 122 وما بعدها.

ص: 285

لك القلم الأعلى الذى بشباته

تصاب من الأمر الكلى والمفاصل (1)

وقد استمد فى وصفه له من قانون الأضداد مستنبطا كثيرا من المعانى اللطيفة الدقيقة. ونحسّ فى مديحه له وللحسن بن وهب ظاهرة نادرة هى الصداقة التى تنعقد بين رجال الأدب والشعر والفن، وقد عبّر عنها تعبيرا بديعا فى قوله لصديقه على بن الجهم الشاعر المعروف (2):

إن يكد مطّرف الإخاء فإننا

نغدو ونسرى فى إخاء تالد (3)

أو يختلف ماء الوصال فماؤنا

عذب تحدّر من غمام واحد

أو يفترق نسب يؤلّف بيننا

أدب أقمناه مقام الوالد

ومراثى أبى تمام لا تقلّ عن مدائحه روعة، وإذا كان قد بلغ ذروة الإحسان فى أناشيد النصر وملاحمه فإنه بلغ أيضا هذه الذروة فى مراثيه لابن حميد الطوسى الطائى، وكان قد سقط-كما أسلفنا-فى ميدان النضال، وما إن أتاه نعيه حتى غمس-كما يقول الرواة-طرف ردائه فى مداد، ثم ضرب به كتفيه وصدره (4) وأخذ يندبه بقصيدته الرائية الخالدة بمثل قوله (5):

فتى كلما فاضت عيون قبيلة

دما ضحكت عنه الأحاديث والذّكر

فتى مات بين الطّعن والضّرب ميتة

تقوم مقام النصر إن فاته النّصر

وما مات حتى مات مضرب سيفه

من الضّرب واعتلّت عليه القنا السّمر

وقد كان فوت الموت سهلا فردّه

إليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر (6)

ونفس تعاف العار حتى كأنما

هو الكفر يوم الرّوع إن فاته الكفر (7)

فأثبت فى مستنقع الموت رجله

وقال لها من تحت أخمصك الحشر (8)

(1) الشباة: الحد.

(2)

الديوان 1/ 407.

(3)

يكدى: لا يثمر، ويريد بمطرف الإخاء حديثه. تالد: قديم.

(4)

هبة الأيام ص 141.

(5)

الديوان (طبعة بيروت) ص 330.

(6)

الحفاظ: الذب عن الحمى والمحارم. الوعر: الصعب.

(7)

يوم الروع: يوم الحرب والفزع.

(8)

الأخمص: باطن القدم.

ص: 286

تردّى ثياب الموت حمرا فما دجى

لها الليل إلا وهى من سندس خضر (1)

مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة

غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر (2)

وحقّا قال أبو دلف له: لم يمت من رثى بمثل هذا الشعر (3)، فقد جسّم فيه بطولة ابن حميد تجسيما رائعا، وما زال يتغنى ببطولته واستبساله فى قتال الأعداء حتى أبدله من كسوة الدم الزكى كسوة الفردوس السندسية. وجاءه نعى خالد بن يزيد بن مزيد الشيبانى وهو على بريد الموصل فبكاه بكاء حارّا، ونراه يتفجع تفجعا كله حزن وأسى على ابنيه محمد وأبى على وعلى أخ له حضر وفاته وفيه يقول واصفا لحظة النزع الأخير (4):

لله مقلته والموت يكسرها

كأن أجفانه سكرى من الوسن (5)

يردّ أنفاسه كرها وتعطفها

يد المنية عطف الرّيح للغصن

ويقال إنه مات لعبد الله بن طاهر ابنان صغيران فى يوم واحد، وهزّه الخبر، وحرّك شاعريته، فدخل عليه وأنشده مرثية بديعة يقول فى تضاعيفها (6):

نجمان شاء الله أن لا يطلعا

إلا ارتداد الطّرف حتى يأفلا

وكان يجيد العتاب والاعتذار، ومن أروع اعتذاراته ما قدمه لابن أبى دؤاد حين غضب عليه لنيله من مضر فى إحدى قصائده لأبى سعيد (7) الثغرى الطائى، فقد أحسّ أنه أذنب ذنبا عظيما وأخذ يستعطفه بمثل قوله (8):

أتانى عائر الأنباء تسرى

عقاربه بداهية نآد (9)

نثا خبر كأن القلب أمسى

يجرّ به على شوك القتاد (10)

كأن الشمس جلّلها كسوف

أو استترت برجل من جراد (11)

(1) دجى: أظلم.

(2)

ثوى: مات.

(3)

الأغانى 16/ 390 والصولى ص 125.

(4)

الديوان (طبعة بيروت) ص 351.

(5)

الوسن: النعاس.

(6)

الديوان (طبعة بيروت) ص 340 والصولى ص 217.

(7)

هبة الأيام ص 225.

(8)

الديوان (طبع دار المعارف) 1/ 378.

(9)

عائر: سائر وذائع. نآد: عظيمة.

(10)

نثا: ذائع ومنتشر. القتاد: شجر له شوك كالإبر.

(11)

رجل هنا: طائفة.

ص: 287

بأنى نلت من مضر وخبّت

إليك شكيتّى خبب الجواد (1)

لقد جازيت بالإحسان سوءا

إذن وصبغت عرفك بالسّواد (2)

وما سافرت فى الآفاق إلا

ومن جدواك راحلتى وزادى (3)

ولم يقبل ابن أبى دؤاد استعطافه فاستشفع عنده بخالد بن يزيد بن مزيد الشيبانى ودبّج فيه قصيدة يستدرّ عطفه بها، موازنا بين استشفاعه عنده بخالد واستشفاع يزيد بن المهلب قديما بسليمان بن عبد الملك عند أخيه الوليد وعفوه عنه. ونراه يحاول أن يبرئ ساحته مما قرف به وأنه كيد حاسد لعل له فضلا إذ يذيع فضائله وما يلبث أن يقول (4):

لولا التخوّف للعواقب لم تزل

للحاسد النّعمى على المحسود (5)

ولأبى تمام أوصاف كثيرة فى المطر والسحاب والشتاء وفى بعض الخلع التى كانت تهدى إليه وبعض الخيل. وله غزل مفرد عن مقدمات مدائحه، ولكنه لا يبلغ روعة ما يجلبه منه فى تلك المقدمات. وله زهديات قليلة وأهاج مختلفة، وهو لا يجيد فى الهجاء، ويقول الصولى إنه كان لا يجيب هاجيا له حتى لا يستدرّ سبّه (6).

أما الفخر فله فيه قصائد ينوّه فيها بقومه من طيئ تنويها على شاكلة قوله يصور مكارمهم ومحامدهم (7):

أنا ابن الذين استرضع الجود فيهم

وسمّى فيهم وهو كهل ويافع

مضوا وكأن المكرمات لديهم

لكثرة ما أوصوا بهنّ شرائع

بهاليل لو عاينت فيض أكفّهم

لأيقنت أن الرزق فى الأرض واسع (8)

وتتوهج فى مقدمات قصائده قطع كثيرة تصور طموحه واعتداده بنفسه اعتدادا لا حدّ له، اعتداد النفوس الكبيرة التى تسعى إلى الكمال واجدة لذتها فى هذا السعى

(1) خبت: من الخبب وهو ضرب من عدو الفرس.

(2)

العرف: الجود.

(3)

جدواك: عطاؤك.

(4)

الديوان (طبع دار المعارف) 1/ 402

(5)

يريد أنه لولا أن الحسد مذموم لكان الحاسد فضل على المحسود لأنه يظهر فضله وينشر محامده.

(6)

الصولى ص 241.

(7)

الديوان (طبعة بيروت) ص 427.

(8)

بها ليل: سادة.

ص: 288

مهما كلفها من جهد مضن ومهما لقيت من خطوب، وهو يعرض ذلك فى ثنايا حديثه إلى من شغفن قلبه مصورا بعد همته وجلده وقوة احتماله للمحن، حتى لكأنه يبذّ كل سابق ولاحق فيما حاول-ويحاول-من اكتساب المجد. وله فى ذلك طرائف كثيرة، كقوله لإحدى صواحبه، وقد تعمقها الأسى لشيبه المبكر (1):

يومى من الدهر مثل الدهر مشتهر

عزما وحزما وساعى منه كالحقب

فأصغرى أنّ شيبا لاح بى حدثا

وأكبرى أننى فى المهد لم أشب

ولا يؤرّقك إيماض القتير به

فإن ذاك ابتسام الرأى والأدب (2)

لا تنكرى منه تخديدا تجلّله

فالسّيف لا يزدرى أن كان ذا شطب (3)

وعلى هذا النحو يملأ شعره نفس قارئه فتوة وقوة، لا بما يصوره من بطولة ليوث الغاب من العرب فحسب، بل أيضا بما يصوره من بطولة نفسه واقتحامه للصعاب وما ظفر به من مجد فنى، وقد دأب على وصف أشعاره بالغرابة وباللآلئ الفريدة، يقول (4):

مفصّلة باللؤلؤ المنتقى لها

من الشّعر إلا أنه اللّؤلؤ الرّطب

وهى حقّا لآلئ تومض بالفكر الدقيق وبألوان البديع الزاهية، لآلئ سوّى منها عقود قصائده وقلائد شعره.

(1) الديوان 1/ 116.

(2)

يؤرقك: يسهدك. إيماض: لمعان. القتير: ابتداء الشيب وأوائله.

(3)

التخديد: الطرائق التى تبدو فى الخد والجبين مع تقدم السن. شطب السيف: طرائقه التى تظهر فيه بسبب شحذه.

(4)

الديوان 1/ 204.

ص: 289