الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
له فى الردة والفتوح ووقعة الجمل، ونصر بن مزاحم المتوفى سنة 212 وقد نشرت له بالقاهرة وقعة صفّين.
وصبّ هشام بن محمد الكلبى عنايته على تاريخ العرب القديم وما يتصل به من أنساب وأيام وأشعار، وكان متهما بالوضع عند معاصريه، ونشر له بالقاهرة كتاب الأصنام. ومن أعلام المؤرخين لهذا العصر المدائنى المتوفى سنة 225 وكان له كتاب ضخم فى أخبار الخلفاء وآخر فى الدولة العباسية ومصنفات مختلفة فى السيرة النبوية وفى الفتوح وأيام الناس، وهى تعدّ بالمئات، وقد استقصاها ياقوت وابن النديم. وأخذت تؤلف فى هذا العصر كتب الرجال الذين حملوا الحديث النبوى من صحابة وتابعين على نحو ما يصور ذلك كتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد الذى أشرنا إليه آنفا، ومثله كتاب معرفة الرجال ليحيى بن معين المتوفى فى سنة 223.
وعلى هذا النحو نشطت كتابة التاريخ فى العصر العباسى الأول، فلم تقف عند السيرة النبوية، بل اتسعت لتشمل تاريخ العرب فى الجاهلية وفتوحهم ودولهم فى الإسلام وتاريخ الرسل والأنبياء، وهبطت إليهم روافد من تاريخ الأمم القديمة وخاصة الفرس، إذ عنى ابن المقفع وغيره بترجمة الكتب المؤلفة فى سير ملوك العجم.
5 - العلوم الدينية وعلم الكلام والاعتزال
نشأت العلوم الدينية فى ظلال الحديث النبوى، وقد أخذ رواته يضيفون إليه ما أثر عن الصحابة لا فى تعاليم الدين الحنيف فحسب، بل أيضا ما أثر عنهم وعن الرسول الكريم فى تفسير الذكر الحكيم. وبذلك حمل الحديث كل المادة المتصلة بالتشريع والفقه والتفسير. وقد أخذ يدوّن تدوينا عامّا منذ أوائل القرن الثانى للهجرة، على نحو ما هو معروف عن ابن شهاب الزهرى المتوفى سنة 124 وما انكاد نتقدم فى العصر العباسى حتى يتكاثر التصنيف فيه، وكانوا يوزعونه فى
مصنفاته غالبا على أبواب الفقه، وأول جيل يلقانا لمصنفيه (1) فى هذا العصر جيل عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة المتوّفى سنة 150 ومعمر بن راشد باليمن المتوفى سنة 153 وسعيد بن أبى عروبة بالبصرة المتوفى سنة 156 ومواطنه الربيع ابن صبيح المتوفى سنة 160 ومواطنهما حماد بن سلمة المتوفى سنة 165 وسفيان الثورى بالكوفة المتوفّى سنة 161 وعبد الرحمن الأوزاعى بالشام المتوفى سنة 157 والليث بن سعد بالفسطاط المتوفى سنة 175. ويتبع هذا الجيل جيل ثان على رأسه مالك بن أنس بالمدينة المتوفّى سنة 179 وسفيان بن عيينة بمكة المتوفى سنة 198 وعبد الرازق الصنعانى باليمن المتوفى سنة 211 وعبد الله بن المبارك بخراسان المتوفى سنة 181 وهشيم بن بشير بواسط المتوفى سنة 183 ويحيى بن زكريا بن أبى زائدة بالمدائن المتوفى سنة 183 ومحمد بن فضيل بن غزوان بالبصرة المتوفى سنة 198 ووكيع بن الجراح بالكوفة المتوفى سنة 196 وعبد الله بن وهب بالفسطاط المتوفّى سنة 197.
وأهم كتاب وصلنا عن هذين الجيلين كتاب «الموطّأ» لمالك بن أنس إمام أهل المدينة، وهو مرتب على أبواب الفقه، وفى كل باب أحاديث الرسول-صلى الله عليه وسلم-المتعلقة به وأقوال الصحابة وفتاوى التابعين وفتاوى مالك نفسه. وقد ظل يمليه على طلاّبه نحو أربعين عاما، وهو يزيد وينقص فيه وفى أحاديثه، ولذلك اختلفت رواياته، وأشهرها رواية يحيى بن يحيى الليثى الأندلسى المتوفّى سنة 234 وقد شرحها الزرقانى وشرحه مطبوع.
وأخذت تقترن فى أواخر القرن الثانى بالطريقة السالفة فى تصنيف الحديث طريقة جديدة تقوم على تخليص الحديث من الفقه، مما جعل أصحابها يوزعون الحديث فى مصنفاتهم على أساس رواته من الصحابة، وهى الطريقة المعروفة باسم «المساند» إذ يسند المؤلف لكل صحابى ما روى عنه من الأحاديث، وممن سبقوا إلى التأليف على هذه الطريقة الربيع بن حبيب الإباضى البصرى المتوفّى سنة 170 ومسنده مطبوع وأبو داود الطيالسى المتوفى بالبصرة سنة 203 ومسنده هو الآخر مطبوع.
(1) انظر فى جيل مصنفى الحديث التاليين خطط المقريزى 4/ 143 وإحياء العلوم للغزالى 1/ 79 وقوت القلوب ص 216 والفهرست ص 314.
وأشهر المصنفات فى هذا الاتجاه مسند ابن حنبل المتوفى سنة 241 وهو مطبوع فى ستة أجزاء ضخام.
وبجانب الطريقتين السالفتين فى تصنيف الحديث أخذت تشيع طريقة ثالثة توزّع فيها الأحاديث على المعانى والموضوعات التى تتصل بها فقهية وغير فقهية، ومن أقدم من ألفوا فيها أبو بكر عبد الله بن أبى شيبة المتوفّى سنة 235 وفيه يقول المقريزى:«تفرد بتكثير الأبواب وجودة التصنيف وحسن التأليف» (1) واتبع طريقتة فى العصر العباسى الثانى البخارى وغيره من أصحاب الصّحاح الستة.
وأخذ المحدّثون منذ هذا العصر يعرضون رواة الحديث على نقد شديد حتى يحيطوه بسياج متين من الصحة والثقة، مما أدّى إلى نشوء علم هو علم الرجال أو علم التعديل والتجريح، وهو علم محّص مادة الحديث ونفى عنها الزيف والتدليس، وأهم من بدأ التصنيف فيه-كما أسلفنا فى غير هذا الموضع-محمد بن سعد ويحيى بن معين. ومن العلوم التى نشأت حول الحديث لهذا العصر علم غريبه، وهو علم يعنى بتفسير ما فيه من ألفاظ غريبة، وقد ألف فيه كثيرون من لغويى (2) هذا العصر وعلى رأسهم أبو عبيد القاسم بن سلام.
وإذا تركنا التصنيف فى الحديث إلى التصنيف فى تفسير القرآن الكريم وجدنا مصنفات كثيرة فيه تستمد مما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة وخاصة أبىّ بن كعب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وما أذاعه تلاميذه الكثيرون عنه، وقد سجل ابن النديم أسماء طائفة كبيرة من هذه المصنفات (3)، وتولاّها العلماء بالجرح والتعديل، فمنها ما اتهموه ومنها ما وثقوه، وقد أجمعوا على صحة ما دوّنه على بن أبى طلحة المصرى عن ابن عباس، وفى ذلك يقول ابن حنبل:«بمصر صحيفة فى التفسير (عن ابن عباس) رواها ابن أبى طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا» (4). ومن أهم المفسرين فى هذا العصر بتلك الطريقة التى تعتمد على التفسير بالمأثور سفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن زيد ابن أسلم بالمدينة ووكيع بن الجراح وأبو بكر بن أبى شيبة. وقد ضاعت كتبهم هم
(1) خطط المقريزى 4/ 143.
(2)
الفهرست ص 129.
(3)
الفهرست ص 50.
(4)
الإتقان للسيوطى (طبع مطبعة حجازى) 2/ 188.
ومن سبقهم غير أن الطبرى احتفظ فى تفسيره الكبير بكل هذه الثروة المأثورة الغنية.
وقد أخذ الشيعة يستقلون-منذ هذا العصر-بتفاسير للقرآن خاصة بهم، لعل أهمها تفسير (1) جعفر الصادق المتوفى سنة 148، إن صحت نسبته إليه.
ونشط المعتزلة فى كتابة تصانيف عن المتشابه فى القرآن على نحو ما يروى عن بشر (2) بن المعتمر وأبى الهذيل (3) العلاف، وما زالوا يعنون بتأويل الآيات التى قد تفيد التشبيه على الله أو تفيد الجبر وبمباحث مختلفة حول القرآن وإعجازه حتى استطاع أخيرا أبو بكر الأصم المتوفى سنة 232 أن يصنف أول (4) تفسير اعتزالى.
ونشأت بجانب التفسير-لهذا العصر-علوم قرآنية كثيرة، أحصاها ابن النديم إحصاء دقيقا، ذاكرا أهم من صنفوا فيها ومصنفاتهم (5)، وهى علم نقطه وشكله وأهم من ألفوا فيه الخليل بن أحمد ومعروف أنه أول من ابتكر الشكل فى العربية، وقد أخذه من صور حروف العلل الممدودة فالضمة واو صغيرة الصورة والكسرة ياء تحت الحرف والفتحة ألف مبطوحة فوقه (6). ومن تلك العلوم علم الوقف والابتداء فى آياته، وممن ألفوا فيه الفراء، وعلم غريبه وممن ألفوا فيه محمد بن سلام الجمحى وأبو عبيد القاسم بن سلام، وعلم لغاته وممن صنفوا فيه الأصمعى وأبو زيد الأنصارى، وعلم معانيه وممن صنفوا فيه انفراء وأبو عبيدة، وعلم قراءاته وممن صنفوا فيه أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيد القاسم بن سلام، وعلم ناسخه ومنسوخه وممن صنفوا فيه أحمد بن حنبل، وعلم أحكامه وممن صنفوا فيه الشافعى ويحيى بن أكثم صفى المأمون وقاضيه.
وازدهرت دراسات الفقه فى هذا العصر ازدهارا عظيما، فإذا الفقهاء يصوغونه صياغة علمية دقيقة على نحو ما صاغ اللغويون النحو وغيره من العلوم اللغوية.
ومعروف أن الإسلام فتح أمام الفقهاء أبواب الاجتهاد على مصاريعها، وكان منهم من يبحث عن نص من القرآن أو السنة يهتدى به فى فتواه، وقلما اعتمد عقله أو استنباطه العقلى، ومنهم من كان يتسع فى الاستنباط والقياس
(1) تاريخ الأدب العربى لبروكلمان (طبع دار المعارف) 3/ 343.
(2)
الفهرست ص 51.
(3)
الفهرست ص 55.
(4)
انظر مذاهب التفسير الإسلامى لجولد تسيهر (نشر الخانجى) ص 135.
(5)
الفهرست ص 51 - 57.
(6)
المحكم فى نقط المصاحف ص 7.
السديد على ضوء الإسلام وتعاليمه. ويمثل الأولين أهل الحجاز بينما يمثل الثانين أهل العراق ولذلك سمّوا أهل الرأى، وسرعان ما تحول الاتجاهان فى هذا العصر إلى مذهبين واضحين فى الفقه والتشريع: مذهب أبى حنيفة فى الكوفة والعراق ومذهب مالك فى المدينة والحجاز، وينفذ الشافعى من خلال المذهبين إلى مذهب مستقل به، وبأخرة من العصر ينفذ ابن حنبل إلى مذهب رابع كانت تتبعه فيه عامّة بغداد.
وأبو حنيفة النعمان بن ثابت يرجع إلى أصل فارسى، وقد ولد سنة 80 للهجرة وتوفى ببغداد سنة 150 وكان بزازا وهو مع ذلك يتثقف بالحديث والقرآن والفقه والتفسير حتى صار أبرع أهل زمانه فى الفقه والرأى، بل لقد نفذ إلى مذهب مستقل به، وهو مذهب كان يعتمد على الكتاب والسنة، كما كان يعتمد على القياس العقلى اعتمادا واسعا متخذا منه حلولا للأحكام الكثيرة التى تطلبتها المشاكل التى نشأت فى حياة الناس من الجهتين الدينية والدنيوية، ويقال إنه أفتى فى ثلاث وثمانين ألف مسألة منها ثمان وثلاثون ألفا فى العبادات والبقية فى المعاملات. وإلى دقته فى استخدام القياس يشير مساور الوراق إذ يقول (1):
إذا ما النّاس يوما قايسونا
…
بآبدة من الفتيا ظريفه
أتيناهم بمقياس طريف
…
مصيب من قياس أبى حنيفه
ونهض من بعده بمذهبه أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب المولود بالكوفة سنة 113 والمتوفى سنة 182 وهو الذى انتشر به مذهب أبى حنيفة فى العراق وسائر الأقطار التابعة للخلافة العباسية، إذ كان قاضى القضاة فى عهد الهادى والرشيد وكان لا يولى على أى بلد قاضيا إلا من فقهاء المنتمين إلى مذهبه (2)، وله فى الخراج كتاب مشهور مطبوع، وهو أول من ألف فى علم الحيل (3) وهو علم يفتح بفتاويه المنثورة فيه المنافذ لكى يخرج منها من يقع فى حرج. وانتهت رياسة المذهب بعده إلى تلميذه محمد بن الحسن الشيبانى الكوفى المتوفى سنة 189 وكان
(1) أغانى (طبعة الساسى) 16/ 163. وانظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/ 77 وعيون الأخبار لابن قتيبة 2/ 140.
(2)
انظر المغرب لابن سعيد (طبع دار المعارف) 1/ 164.
(3)
الحيوان 3/ 11.
قد سمع أبا حنيفة وتتلمذ له، كما سمع مالك بن أنس والأوزاعى فقيه الشام، وممن أخذ عنه الشافعى وأحمد بن حنبل، وهو الذى حرّر المذهب الحنفى بكتبه الكثيرة من مثل المبسوط والسير الكبير والجامع الكبير والجامع الصغير، وقد نوه ابن جنى بدقة استخدامه للعلل فى كتبه (1). وإلى هؤلاء الأئمة الثلاثة يرجع الفضل فى صياغة الفقه الحنفى ومصطلحاته صياغة علمية دقيقة.
وكان يقابل هذا المذهب العراقى مذهب مالك بن أنس فى الحجاز، على نحو ما يمثله كتابه «الموطأ» الذى تحدثنا عنه بين كتب الحديث والذى تعرض فيه أبواب الفقه ومسائله على أساس رواية الحديث النبوى والآثار عن الصحابة والتابعين.
ومن أهم من تلقوا هذا المذهب عن مالك تلميذه عبد الرحمن بن القاسم المتوفى بالفسطاط سنة 191 وقد أدّاه بدوره إلى سحنون عالم القيروان المتوفى سنة 240 فألف فيه كتابه الملقب باسم «المدونة الكبرى» ونشره ببلاد المغرب. وتلقى المذهب عن مالك أيضا يحيى بن يحيى الليثى الأندلسى، ونشره بموطنه على نحو ما نشر أبو يوسف مذهب أبى حنيفة إذ كان مقدّما عند حكام الأندلس وجعلوا له تولية القضاة فكان لا يولى قاضيا إلا من أصحابه المالكية.
ونفذ من خلال هذين المذهبين إلى تكوين مذهب جديد الشافعى محمد بن إدريس المولود بغزة سنة 150 والمتوفّى بالفسطاط سنة 204 وقد نشأ بمكة وحمل ما بها من حديث، وفى سنة 170 رحل إلى المدينة ولزم مالكا إلى أن توفى، فرحل إلى اليمن واتّهم باشتراكه فى ثورة لبعض العلويين، فأرسل به إلى الرشيد وعفا عنه.
وانتهز فرصة مقامه ببغداد فقرأ كتب محمد بن الحسن الشيبانى وناظره طويلا، وخرج إلى مصر ونشر بها مذهبه الذى يجمع بين طريقة الحجازيين فى الاعتماد على الكتاب والسنة وطريقة العراقيين فى الاعتماد على القياس. وقد انتهت عنده الروح العلمية الأصيلة التى سادت فى مباحث الفقهاء إلى الغاية المنتظرة إذ استطاع أن يضع فى كتابه الملقب باسم الرسالة علم أصول الفقه لأول مرة، وفيه حرّر المناهج فى استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وهو بذلك يقف علما فى تاريخ الفقه الإسلامى، يقول الرازى: «واعلم أن نسبة الشافعى
(1) راجع الخصائص (طبعة دار الكتب المصرية) 1/ 163.
إلى علم الأصول كنسبة أرسططاليس إلى علم المنطق وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض. . فإن الناس كانوا قبله يتكلمون فى مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعارضون، ولكن ما كان لهم قانون كلى مرجوع إليه فى معرفة دلائل الشريعة وفى كيفية معارضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعى-رحمه الله-علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليّا يرجع إليه فى معرفة مراتب أدلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعى إلى علم الشرع كنسبة أرسططاليس إلى علم العقل (1)». وعاد الشافعى إلى العراق فى سنة 195 ثم رجع إلى مصر سنة 198 وتركها إلى مكة ولم يلبث أن عاد إليها وظل بها إلى وفاته. وحمل عنه مذهبه فى مصر تلاميذ كثيرون من أهمهم البويطى المتوفى سنة 231 وقد انتشر مذهبه فى كثير من بلدان العالم الإسلامى.
وأكبر تلامذة الشافعى فى العراق أحمد بن حنبل المتوفّى سنة 241 وقد استقل بمذهب فقهى جديد يعلى من شأن الحديث إلى أبعد غاية، وبذلك عدّ ممثلا لأهل السنة، غير أن مذهبه لم يكتب له الانتشار كما كتب للمذاهب الثلاثة السالفة، وإن كان قد ازدهر حديثا بين الوهابيين.
وكان للشيعة فى هذا العصر نشاط مستقل فى الفقه، إذ ينسب للإمام العلوى جعفر الصادق كتب مختلفة فيه مثل كتاب «مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة» المطبوع فى طهران ومثل كتاب «فقه الرضا» لعلى الرضا حفيده وهو كسابقه مطبوع بطهران.
ولعل علما لم يزدهر فى هذا العصر كعلم الكلام، ويراد بالكلام الجدل الدينى فى الأصول العقيدية لا عند المسلمين وحدهم، بل عند جميع الملل والنحل، ومن أجل ذلك نرى الوصف بالمتكلم يضاف إلى بعض الرافضة مثل هشام بن الحكم وشيطان الطاق (2)، بل نراهم يضيفونه إلى أهل الحجاج من المسيحيين (3)، بل لقد أضافوه إلى أهل الجدل من المنانية الثنويه القائلين بإلهى النور والظلمة الذين يحامون ويناضلون عن عقيدتهم الفاسدة (4). وقد مضى كل متكلم مدافع عن
(1) مناقب الإمام الشافعى للرازى ص 100.
(2)
الفهرست ص 29 - 252.
(3)
ثلاث رسائل للجاحظ ص 20.
(4)
الفهرست ص 338.
عقيدة فى هذا العصر يتسلّح فى دفاعه بالفلسفة اليونانية وما يتصل بها من منطق وغير منطق حتى ليقول الجاحظ: «ولا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام متمكنا فى الصناعة حتى يكون الذى يحسن من كلام الدين فى وزن الذى يحسن من كلام الفلسفة (1)» .
وأهم فرق المتكلمين فى هذا العصر فرقة المعتزلة الذين نصبوا أنفسهم للدفاع عن عقيدة الإيمان الإسلامية وما يتصل بها من توحيد الله وتنزيهه عن التشبيه وحقائق النبوة والثواب والعقاب فى الآخرة أمام المرجئة والمجبرة وروافض الشيعة والنصارى واليهود والدهريين الماديين والمانويين الثّنويين. وقد ملئوا بجدالهم وحجاجهم لهم مساجد البصرة وجذبوا بحسن بيانهم وقوتهم فى الإقناع وإفحام الخصوم الشباب شعراء وغير شعراء. ورحل كثير منهم منذ أواخر القرن الثانى إلى بغداد، فخلبوا الألباب هناك ببيانهم الساحر وبما أوردوا على الناس من دقائق الأفكار، وإذا الناس لا حديث لهم غير الاعتزال والمعتزلة ومناظراتهم لأصحاب الملل والنحل فى المساجد الجامعة، وإذا المأمون يعتنق عقيدتهم، حتى شعبة خلق القرآن التى دلع شررها بشر المريسى كما مرّ بنا، وحاول أن يعلنها عقيدة رسمية للدولة.
ولعلنا لا نغلو إذا سمينا هذا العصر عصر الاعتزال، فقد بلغ من ازدهاره أن استولى على صولجان الحكم وأن وجّهه حسب مشيئته، وربما كان ذلك هو الخطأ الوحيد الذى ارتكبه أصحابه، فإنهم وضعوه ووضعوا معه محنة خلق القرآن على رقاب الناس، فكان ذلك سبب سقوطه من حالق. ولكنه إذا كان قد أخفق حين استخدم السيف وغياهب السجون فإنه نجح نجاحا كبيرا فى أن صبغ العقول بصبغة فلسفية وأن مرّنها تمرينا واسعا على دقة التعليل والمهارة فى الاستنباط لخفيات المعانى ودقائقها والبراعة فى تفريعها وتشعيبها وتوليدها، مع القياس الناصع والبرهان الساطع. وسرت من ذلك أسراب فى جميع جوانب الفكر العباسى، إذ أكب الناس على مناظراتهم وأكبّ معهم الشعراء، بل قلما نجد شاعرا نابها فى هذا العصر إلا وتلمذ لهم على نحو ما هو معروف عن بشار وأبى نواس وأبان اللاحقى والعتابى ومنصور النمرى وأبى تمام.
واختلف الباحثون فى سبب تسميتهم معتزلة، فقيل إن ذلك يرجع إلى اعتزال
(1) الحيوان 2/ 134.
أستاذهم الأول واصل بن عطاء للحسن البصرى ومجالسه، وقيل بل يرجع إلى سريان نزعة زهد فيهم واعتزالهم الناس، ورجح نالينو أنهم نعتوا بذلك لا بتعادهم عن المنازعات الناشئة بين الخوارج وخصومهم من أهل السنة والشيعة، فقد وقفوا على الحياد لا ينصرون فريقا على فريق (1)، وبالمثل لم ينصروا العلويين على أبناء عمهم العباسيين، بل ظلوا متمسكين بحيادهم ومضوا يناضلون غلاة الشيعة نضالا عنيفا على نحو ما ناضلوا المانويين والدهريين، ولذلك احتضنهم العباسيون. واستطاع أستاذهم واصل أن يؤثر فى زيد بن على بن الحسين تأثيرا واسعا وأن يحمله على التخلص من الآراء الشيعية الغالية.
وتميز الاعتزال بأصول خمسة، هى التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والقول بأن منزلة مرتكب الكبيرة بين منزلتين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فأما التوحيد فأراد به المعتزلة تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين فهو ليس بجسم ولا عرض ولا عنصر ولا جزء ولا جوهر ولا يحصره المكان ولا الزمان، وقد أولوا الآيات التى يفهم منها مشابهته للمخلوقات من مثل:{(يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)} فمعنى اليد فى الآية عندهم القدرة، ومضوا ينفون عن الله الصفات لأنها من عوارض الأجسام، فقالوا إنها عين الذات حتى لا يتعدّد القديم جل جلاله، ومن أجل ذلك نفوا عنه صفة الكلام، ومن هنا اندفعوا إلى القول بأن القرآن مخلوق حتى لا يظنّ أنه قديم، ولا قديم سوى الله.
أما العدل فقد مضوا يؤصّلون عليه فكرة خلق العباد لأفعالهم وأنهم أحرار فى إرادتهم، وهى حرية ضرورية لكى يثابوا ويعاقبوا على أعمالهم دون أن يظلمهم الله مثقال ذرة، وقد أوّلوا الآيات التى تدلّ على الجبر من مثل:{(وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ)} ودفعهم هذا الأصل إلى القول بالصلاح والأصلح وأن الله لا يأمر بالشر ولا يعمل إلا ما فيه صلاح العباد وما هو أصلح لهم.
وأما الوعد والوعيد فهو أن الله صادق فيما وعد من ثواب وأوعد من عقاب ولا مبدل لكلماته، وهم بهذا الأصل يردون على المرجئة الذين يرجئون الحكم على مرتكب الكبيرة، فالله لن يغفر لمرتكب كبيرة إثمه إلا إذا تاب وأناب، وهو لا بد مدخل
(1) انظر التراث اليونانى فى الحضارة الإسلامية لعبد الرحمن بدوى ص 173 وما بعدها.
الأتقياء الجنة حسب وعده الذى وعده، ومدخل العصاة النار حسب إيعاده الذى أوعده.
وأما القول بأن منزلة مرتكب الكبيرة بين منزلتين فهو قول نفذوا به من خلال رأى الخوارج القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافر ويجب حربه وقتله ورأى الحسن البصرى القائل بأن مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق، فقد اعتزلوا الرأيين جميعا وقالوا إنه فى منزلة وسطى بين منزلتى المؤمن والكافر. وبذلك لم ينتصروا-كما يقول نالينو-لطرف من طرفى هذه الخصومة.
وأما الأصل الخامس فيريدون به أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجبان على سائر المسلمين كلّ حسب استطاعته، وكان ينبغى وهم يعتنقون هذا الأصل أن يدفعوا الدولة للضرب على أيدى المجان والفساق وأرباب الدعارة، وأيضا كان ينبغى أن يصرخوا فى وجوه الخلفاء ضد طغيانهم وظلمهم للعامة، وأن يصارحوهم بنظرية الإسلام فى الخلافة وأنها ليست حقّا من حقوق أهل البيت إنما هى حق الأكفاء من أبناء الأمة.
وقد أدّاهم النظر فى الأصول السالفة إلى مباحث كبيرة فى العلاقة بين الله والإنسان وبين الله والطبيعة وما فيها من قوى فعالة، مما جعلهم يتوسعون إلى أقصى حد فى الأبحاث الطبيعية والرياضية والفلسفية. وتجرّدوا للرد على الملاحدة وأصحاب النحل والملل ودفعهم ذلك إلى الوقوف على كل التراث العقيدى والفكرى عند المستعربين من أهل الكتب السماوية وغيرهم كالمجوس والصائبة.
وواصل بن عطاء المتوفى بالبصرة سنة 131 هو مؤسس فرقتهم كما قدمنا، وهو أول من قال منهم بأن مرتكب الكبيرة فى منزلة وسطى بين منزلتى الإيمان والكفر (1)، وكان يكثر من جدال أصحاب الملل والنحل. وخلفه على آرائه ختنه عمرو بن عبيد المتوفى سنة 145 وكان يكثر من الجدال فى عقيدة العدل وما يتصل بها من حرية (2) الإرادة. وقد مضى تلاميذه فى البصرة يفرّعون فى مسائل الاعتزال وبعض المسائل الفلسفية تفريعات انبثقت منها شعب اعتزالية كثيرة أهمها البشرية والثمامية والهذيلية والنظامية.
(1) انظر أمالى المرتضى 1/ 165 والشهرستانى ص 31.
(2)
أمالى المرتضى 1/ 169 وضحى الإسلام 3/ 97.
والبشرية نسبة إلى بشر بن المعتمر المتوفى سنة 210 وقد تحول من البصرة إلى بغداد فنشر بها الاعتزال، وكان يقول بتفضيل على بن أبى طالب على بقية الصحابة ومنه سرى هذا القول إلى أصحابه من معتزلة بغداد، وله أشعار كثيرة نظمها فى التاريخ الطبيعى وفى أصناف الفرق والاحتجاج على أصحابها. وهو أول (1) من ذهب إلى تولد الأفعال بعضها من بعض كالحجر يرمى فيحطّم زجاجا، فتتطاير منه شظية فتصيب إنسانا، وقد اشتق من هذه الفكرة بحثا واسعا فى تحديد المسئولية إزاء مثل هذا الفعل المتولد عن غيره. وكان يخالف بعض رفاقه من المعتزلة فى فكرة وجوب الأصلح على الله لعباده، لأنه لا غاية لما يقدر عليه من الصلاح، فما من أصلح إلا وفوقه أصلح منه، وإنما الذى عليه حقّا أن يمكن العبد بالقدرة والاستطاعة.
والثمامية نسبة إلى ثمامة بن أشرس النّميرى البصرى المتوفّى سنة 213 وقد تحول مثل بشر بن المعتمر إلى بغداد، وكان يقول هو الآخر بتفضيل علىّ على الصحابة، كما كان يقول بخلق القرآن، وأكبر الظن أن بشرا المريسى هو الذى أقنعه بذلك. وكان المأمون يقدمه ويجعل له الرياسة على المتكلمين فى مجالسه.
وكان يذهب إلى أن الأفعال المتولدة لا فاعل لها (2) وأن المعارف كلها ضرورية وأن الحسن والقبح ذاتيان فى الأفعال، وعلى أساسهما يدور التحليل والتحريم فى الأوامر والنواهى الإلهية.
والهذيلية نسبة إلى أبى الهذيل العلاّف المتوفى بسامرّاء لسنة 227 وقيل:
بل سنة 235 وهو تلميذ عمرو بن عبيد وقد عمر طويلا، ويعدّ المؤسس الحقيقى للاعتزال. وكان يرى أن الصفات الإلهية عين الذات العلية (3). وفرّق بين أفعال الإنسان الاختيارية وأفعاله الطبيعية أو بعبارة أخرى بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح. وتحدث فى مسائل فلسفية كثيرة كمسألة الجوهر الفرد أو الجزء الذى لا يتجزّأ ومسألة الكمون ككمون النار فى الحجر وغير ذلك مما يتصل بالأبحاث الفلسفية والطبيعية.
(1) الشهرستانى ص 44 وضحى الإسلام 3/ 141.
(2)
الشهرستانى ص 49 وضحى الإسلام 3/ 247.
(3)
الشهرستانى ص 34 وأمالى المرتضى 1/ 178 وضحى الإسلام 3/ 98 ودى بور ص 57.
والنظّامية نسبة إلى النظّام المتوفى سنة 231 ويقول الشهرستانى إنه خلط كلام الفلاسفة بكلام المعتزلة وإنه كان يميل إلى تقرير مذاهب الطبيعيين من الفلاسفة دون الإلهيين، وكان يرى أن الله لا يفعل إلا الأصلح لعباده، وأن إرادته التى يتحدث عنها القرآن الكريم إنما يراد بها الخلق والإنشاء. وكان ينفى الجوهر الفرد أو الجزء الذى لا يتجزّأ (1). وأعلى فى مباحثه سلطان العقل إعلاء بعيدا.
(1) الشهرستانى ص 37 وضحى الإسلام 3/ 106 ودى بور ص 59.