الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمر بقتلهم، ويقال إنه بلغه خبر عشرة رجال فى البصرة يجتمعون على المانوية، فأمر بحملهم إليه، فلما أدخلوا عليه امتحنهم، وحاول أن يردّهم عن ضلالهم، غير أنهم ثبتوا على عقيدتهم الفاسدة فأمر بقتلهم جميعا (1). ومرّ بنا فى الفصل السالف ما كان من ثبوت الزندقة على الأفشين قائد المعتصم التركى، مما جعله يزج به فى غياهب السجن حتى مات وصلب بعد موته.
ومما لا ريب فيه أن خلفاء بنى العباس لم يكونوا يقتلون على الزندقة إلا بعد ثبوتها على صاحبها ثبوتا لا يرقى إليه شك، ويظهر أنهم إنما كانوا يقتلون من ينزع نزعة مجوسية وخاصة أصحاب النزعة المانوية كما تشهد بذلك الأخبار السابقة، فكثرة المقتولين تضاف إليهم صفة المانوية، ويؤكد هذا تأكيدا قويّا وصية المهدى لابنه الهادى بتتبع الزنادقة، فقد وصفهم له وصفا يدل على أنه إنما أراد من يعتنقون تعاليم المانوية (2). ومعنى ذلك أنهم لم يكونوا يقتلون على الإباحة المسرفة والإمعان فى المجون ولا كانوا يعاقبون عليهما عقابا صارما، وكان حريّا بهم أن يشددوا فى ذلك حتى لا تؤول الحياة فى أمصار العراق إلى ما آلت إليه فى بعض جوانبها من الفساد والتحلل الخلقى.
5 - الزهد
ليس معنى ما قدمنا من حديث عن الزندقة والمجون أن المجتمع العباسى كان مجتمعا منحلاّ أسلم نفسه للإلحاد والشهوات، فالإلحاد والزندقة إنما شاعا فى طبقة محدودة من الناس كان جمهورها من الفرس، وكانت موجة المجون أكثر حدة، ولكنها لم تكن عامة فى المجتمع، بل كانت خاصة بالمترفين ومن حولهم من الشعراء والمغنين. أما عامة الشعب فإنها لم تكن تعرف زندقة ولا مجونا، أما من حيث الزندقة فإنها لم تكن تعادى الإسلام وصاحبه، بل كانت مسلمة حسنة الإسلام تهتدى بأضوائه وتجرى على سننه، وأما من حيث المجون فإنها لم تكن مترفة ولا
(1) المسعودى 3/ 332.
(2)
طبرى 6/ 433 وما بعدها.
ثرية، بل كانت تعيش على الكفاف، بل كان كثير منها يعيش فى البؤس والضنك والضيق وقلوبه تتقطع حسرات على ما تحظى به الطبقة المتزفة من أسباب النعيم. وكانوا ساخطين سخطا شديدا على كل ما يرونه حولهم من جموح الأهواء والإمعان فى المجون، وهو سخط اتسع فى أيام الفتنة بين الأمين والمأمون حين حوصرت بغداد واستطال شر المجّان والعهّار، وظلت من ذلك بقية فى سنتى 201 و 202 فإذا جماعات كبيرة تتطوّع للنكير عليهم والأخذ على أيديهم (1).
وإذا كانت حانات الكرخ ودور النخاسة والمقينين به اكتظت بالجوارى والإماء والقيان والمغنين، فإن مساجد بغداد كانت عامرة بالعبّاد والنسّاك وأهل التقوى والصلاح، وكان فى كل ركن منها حلقة لواعظ يذكّر بالله واليوم الآخر وما ينتظر الصالحين من النعيم المقيم والعاصين من العذاب والجحيم. وكان من الوعّاظ من يفتحم قصر الخلافة ليعظ الخلفاء على نحو ما هو معروف عن عمرو بن عبيد فى وعظه للمنصور (2) وصالح بن عبد الجليل فى وعظه للمهدى (3) وابن السماك فى وعظه لهرون الرشيد (4) ومن كلامه:«الدنيا كلها قليل والذى بقى منها فى جنب الماضى قليل، والذى لك من الباقى قليل، ولم يبق من قليك إلا القليل» (5).
وكان الوعظ فى هذا العصر يلتحم بالقصص للعظة والعبرة، وهو التحام قديم منذ تميم الدارى وكعب الأحبار فى عصر الخلفاء الراشدين ومنذ قصّاص الفتوح من أمثال أبى سفيان بن حرب. وقد ازدهر هذا الوعظ القصصى فى عصر بنى أمية عند الحسن البصرى وأضرابه، وتكامل ازدهاره فى هذا العصر. وينبغى أن نميز بين هذا الضرب من القصص الدينى وقصص آخر كان الناس يجتمعون حول أصحابه فى طرقات بغداد وغيرها من أمصار العراق ليسلوهم بالنوادر والحكايات القصيرة، ومن أجل ذلك قرنوا بأصحاب المساخر من مثل القرّادين (6). وقد كثر قصاص الوعظ الذين كانوا يدفعون الناس إلى العبادة ورفض المتاع الدنيوى وسلوك السبيل الواضحة إلى نعيم الآخرة كثرة مفرطة (7).
(1) طبرى 7/ 136 وما بعدها.
(2)
انظر عيون الاخبار 2/ 337 والعقد الفريد 3/ 164.
(3)
عيون الأخبار 2/ 333 والعقد الفريد 3/ 158.
(4)
طبرى 6/ 538 والعقد الفريد 3/ 164.
(5)
النجوم الزاهرة 2/ 112.
(6)
انظر ما كتبه الجاحظ عن أبى كعب الصوفى فى كتابه الحيوان 3/ 24 وراجع التاج ص 40.
(7)
القصاص لابن الجوزى ص 18.
وكان بجانب هؤلاء القصّاص الواعظون كثير من النساك، ومن الصعب استقصاؤهم إذ كانوا منتشرين فى كل الأمصار. وكان يحيون حياة زهد خالصة كلها تبتل وعبادة وتقشف وانقباض عن الاستمتاع بالحياة وملذاتها وانصراف عن كل نعيم فيها انتظارا لما عند الله من النعيم السرمدى الذى لا يزول. وفى البيان والتبيين وعيون الأخبار والعقد الفريد منثورات رائعة من أقوال مشاهيرهم أمثال سفيان الثورى المتوفى سنة 161 وداود الطائى المتوفى سنة 165 وعبد الله بن المبارك المتوفى سنة 181 والفضيل بن عياض المتوفى سنة 187 وسفيان بن عيينة المتوفى سنة 198 وكان يقول:«فكرك فى رزق غد يكتب عليك خطيئة (1)» ويقول: «لا يمنع أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه فإن الله قد استجاب دعاء شرّ الخلق وهو إبليس (قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين)، وكان يستحب أن يقال فى الدعاء: اللهم استرنى بسترك الجميل (2). ومن مشهورى هؤلاء النساك عبد الواحد بن زيد المتوفى سنة 177 وهو الذى أنشأ أول رباط أو أول صومعة للناسكين فى عبّادان بالقرب من الكوفة، وفيهم وفى رباطهم يقول أبو العتاهية (3):
سقى الله عبّادان غيثا مجلّلا
…
فإن لها فضلا جديدا وأوّلا
وثبّت من فيها مقيما مرابطا
…
فما إن أرى عنها له متحوّلا
إذا جئتها لم تلق إلا مكبّرا
…
تخلّى عن الدنيا وإلا مهلّلا
فأكرم بمن فيها على الله نازلا
…
وأكرم بعبّادان دارا ومنزلا
وقد أخذت تقام فى هذا العصر رباطات أخرى فى أنحاء العالم الإسلامى، وكانت الدولة التى تقيمها أحيانا، ففى أخبار الفضل بن يحيى البرمكى أنه شخص إلى خراسان فى سنة ثمان وسبعين ومائة، فبنى المساجد والرباطات (4).
ويدلّ أكبر الدلالة على ارتفاع موجة النسك حينئذ أنه أخذت تنبثق بين
(1) عيون الأخبار 2/ 315.
(2)
النجوم الزاهرة 2/ 158.
(3)
ديوان أبى العتاهية (طبع بيروت) ص 218.
(4)
الجهشيارى ص 190 وما بعدها.
النّسّاك مقدمات نزعة التصوف متمثلة فى شيوخ كثيرين، فى مقدمتهم إبراهيم ابن أدهم البلخىّ المتوفى سنة 160 ورابعة العدوية المتوفاة بالبصرة سنة 180 وشقيق البلخى تلميذ ابن أدهم المتوفى سنة 194 ويقال إنه أول من تكلم فى التصوف وعلوم الأحوال بكورة خراسان وأن له يدا طولى فى إشاعة مبدأ التوكل (1). ومن مشهوريهم معروف الكرخى من أهل كرخ بغداد المتوفى سنة 200 ومن مأثور كلامه:«من كابر الله صرعه، ومن نازعة قمعه، ومن ماكره خدعه، ومن توكل عليه منعه ومن تواضع له رفعه» (2). ومن مشهوريهم أيضا عبدك الكوفى وأبو سليمان الدارانى الشامى المتوفى سنة 205 وبشر بن الحارث الحافى الخراسانى نزيل بغداد المتوفى سنة 227 وكان يقول: «الجوع يصفى الفؤاد ويميت الهوى ويورث العلم الدقيق، والمتقلّب فى جوعه كالمتشحط فى دمه فى سبيل الله، وإذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلّم (3)» . وتلقانا من هؤلاء المتصوفة جماعة بمصر على رأس المائتين (4).
وينبغى أن لا نبالغ فنزعم أن التصوف نضج فى هذا العصر، إنما أخذت مقدماته فى البروز والظهور، أما تكونه التام فقد حدث فى العصر التالى، أما فى هذا العصر فقد تفتحت تباشيره الأولى، وقد حاول بعض المستشرقين أن يربط ربطا وثيقا بين زهد هؤلاء النّسّاك وبين زهد الرهبان المسيحيين الذين كانوا منتشرين فى العالم الإسلامى وخاصة فى العراق والشام ومصر (5)، ونحن لا نمنع التأثر العام، ولكن ينبغى أن يستقر فى نفوسنا أن الزهد الإسلامى يختلف عن الزهد المسيحى فى جوهره إذ الزهد عند المسيحيين ورهبانهم يقوم على أساس من فكرة الخطيئة، والإسلام لا يقرّ هذه الفكرة ولا ما تؤدى إليه من تعذيب الجسد، فإن لبدن المسلم عليه حقّا، ومن أجل ذلك نهى الإسلام عن العزوبة، بينما دعت إليها المسيحية.
وقد حاول جولد تسيهر أن يربط بين مقدمات نزعة التصوف الإسلامية وبين
(1) النجوم الزاهرة 2/ 21 وانظر فى تاريخ وفاته 2/ 146.
(2)
النجوم الزاهرة 2/ 167.
(3)
النجوم الزاهرة 2/ 250.
(4)
كتاب الولاة والقضاة للكندى ص 160.
(5)
العقيدة والشريعة فى الإسلام لجولد تسيهر (طبعة دار الكاتب المصرى) ص 131 وما بعدها.
تعاليم الأفلاطونية الحديثة وما يتصل بها من مذهب الفيض ووحدة الوجود (1)، كما حاول أن يربط بين هذه المقدمات وبوذية الهند، إذ رأى فى سيرة إبراهيم بن أدهم التي صورها بعض من تحدثوا عن أخباره ما يحكى محاكاة تامة سيرة بوذا، إذ يقال إنه كان ابن ملك من ملوك بلخ ورأى من إحدى نوافذ قصره رجلا مسكينا فتدبر أمره ولم يلبث أن خلع ثوب الإمارة إلى الأبد ولبس أطمارا بالية وفارق قصره وزوجه وأولاده وأوى إلى الصحراء سائحا مطوّفا عابدا ربه (2). وهى سيرة لابن أدهم صنعتها له الأجيال المتأخرة (3) فلا يصح أن تحمل على العصر العباسى الأول ولا أن تتخذ دليلا على أن متصوفته كانوا يتأثرون البوذية وما ترويه عن بوذا الناسك. وقد رأى جولد تسيهر الجاحظ يروى خبرا عن ناسكين سائحين (4) فقال إنهما من ناسكى البوذية، كى يدعم دعواه، وهما من ناسكى المانوية.
والحق أن جولد تسيهر يبالغ فى كل ما رآه من هذا الربط بين مقدمات التصوف الإسلامى والبوذية من جهة والأفلاطونية من جهة أخرى. يمكن أن يكون قد حدث ذلك فى بعض جوانب التصوف فيما بعد هذا العصر إذ كان التصوف لا يزال يستمد من معين الإسلام ذاته كما لا حظ ذلك نيكلسون (5)، وهو حينئذ لم يكن أكثر من نمو للزهد الإسلامى وما ارتبط به من نسك، وآية ذلك القاطعة أن نظريتى الفيض ووحدة الوجود لم تمدا ظلالهما عليه حتى هذا التاريخ.
على أن هذا الزهد الإسلامى وما ارتبط به من مقدمات التصوف كانت تجرى بجانبه أسراب من زهد فاسد هو زهد الزنادقة الذين اعتنقوا تعاليم المانوية على نحو ما يلقانا فى أشعار صالح بن عبد القدوس المقتول لمانويته وهى تزخر بالترغيب عن متاع الدنيا الزائل حتى ليقول ابن المعتز إن له فى ذلك ما ليس لأحد (6).
(1) العقيدة والشريعة فى الإسلام ص 136.
(2)
العقيدة والشريعة فى الإسلام ص 143.
(3)
قارن هذه السيرة التى حكاها جولد تسيهر بما قاله ابن تغرى بردى فى النجوم الزاهرة 2/ 36 وهو من المصادر المتأخرة، يقول: «وكان إبراهيم بن أدهم من الأشراف، وكان أبوه شريفا كثير المال والخدم والجنائب (الدواب) والبزاة، فبينما إبراهيم يأخذ كلابه وبزاته للصيد وهو على فرسه يركضه إذ هو بصوت يناديه: يا إبراهيم ما هذا العبث؟ ! أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا، اتق الله وعليك بالزاد ليوم الفاقة، فنزل عن دابته ورفض الدنيا. وانظر صفة الصفوة 4/ 127.
(4)
الحيوان 4/ 456 وما بعدها.
(5)
انظر كتاب فى التصوف الإسلامى وتاريخه لنيكلسون (طبع مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص 3.
(6)
ابن المعتز ص 91.
ومعنى ذلك أن العصر العباسى الأول شهد لونين من الزهد: زهدا إسلاميا خالصا أعدّ للنسك والتصوف، وزهدا مانويّا مارقا، وهو الذى يمكن أن يوصل بينه وبين البوذية، إذ المانوية تتأثر بها-كما مر بنا-من قديم. وقد مضت الدولة تقاومه وتقاوم أصحابه مقاومة عنيفة على نحو ما أسلفنا، وكان من تمام النسك فى هذا الزهد المارق المنحرف أن يعيش الناسك من سؤال الناس (1).
(1) الحيوان 4/ 456.