الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دعبل
(1)
هو دعبل بن على بن رزين، وقيل دعبل لقبه، واختلفوا فى اسمه هل هو محمد أو الحسن أو عبد الرحمن، وهو من خزاعة صليبة لاولاء (2)، ومن بيت شعر، فقد كان أبوه شاعرا متوسطا، وكذلك عمه عبد الله وأخواه على ورزين وولداه الحسين وعلى وابن عمه محمد بن عبد الله المشهور باسم أبى الشيص. وقد ولد دعبل بالكوفة سنة 148 للهجرة ويظهر أنه اختلف مبكرا إلى حلقات الدرس.
على أننا نجده فى شبابه يصحب الشّطّار ويشترك معهم فى مغامراتهم، مما يؤكد أنه كان فيه نزعة متأصلة إلى الشر وارتكاب الجنايات، وقد دفعته فيما بعد إلى أن يصبح أكبر هجاء فى عصره، وأن يعمّ بهجائه الخلفاء وكل من قدّموا له صنيعا.
ويظهر أن مواهبه الشعرية تفحت مبكرة، فمضى يختلط بالشعراء، وانعقدت بينه وبين مواطنه مسلم بن الوليد مودة كان لها أثر عميق فى شعره إذ عنى فيه على شاكلة مسلم بالبديع وبالجزالة ونصاعة القول، ويرمز الرواة لذلك بأن مسلما صنع قوله:
مستعبر يبكى على دمنة
…
ورأسه يضحك فيه المشيب
فما زال دعبل يدير البيت فى نفسه، محاولا أن يبنى على معناه قطعة فى الغزل حتى صنع قطعته التى فتحت له باب الشهرة على مصاريعه، إذ قال فى بكاء الشباب ووقوعه فى شباك الهوى:
أين الشباب؟ وأيّة سلكا؟
…
لا، أين يطلب؟ ضلّ بل هلكا
(1) انظر فى دعبل وأخباره وأشعاره ابن المعتز ص 264 وابن قتيبة ص 825 والأغانى (طبعة الساسى) 18/ 29 وتاريخ بغداد 8/ 382 والموشح ص 299 وابن خلكان 1/ 178 ومعجم الأدباء 11/ 99 وتهذيب تاريخ ابن عساكره 5/ 227 وشذرات الذهب 2/ 111 ومعرفة أخبار الرجال للكشى 313 وأخبار الرجال للنجاشى 116 ومرآة الجنان لليافعى 2/ 145 ولسان الميزان 2/ 430 والنجوم الزاهرة 2/ 322. وجمع شعره ونشره كل من محمد يوسف نجم ببيروت وعبد الصاحب الدجيلى فى النجف بالعراق وعبد الكريم الأشتر فى دمشق.
(2)
ممن زعموا أنه خزاعى ولاء عبد الله بن طاهر (انظر ترجمته فى الأغانى). وراجع ابن خلكان ولسان الميزان وابن كثير فى البداية والنهاية 10/ 348.
لا تعجبي يا سلم من رجل
…
ضحك المشيب برأسه فبكى
يا ليت شعرى كيف نومكما
…
يا صاحبىّ إذا دمى سفكا
لا تأخذا بظلامتى أحدا
…
قلبى وطرفى فى دمى اشتركا
وغنى بالأبيات بعض المغنين بين يدى الرشيد، فطرب، وسأل عن ناظمها، فقيل له دعبل، فأمر بإحضاره وأرسل إليه بعشرة آلاف درهم وخلعة من الثياب، وسار دعبل إليه، وأنشده بعض شعره فاستحسنه وأجرى عليه رزقا سيّا، ولم يلبث أن ارتحل إلى خراسان وواليها العباس بن جعفر الخزاعى (173 - 175 هـ) فأكرمه وولاه على سمنجان إحدى بلاد طبرستان. وعاد إلى بغداد ونزل الكرخ حيث اللهو والقصف، منشدا مثل قوله:
إنما العيش خلال خمسة
…
حبّذا تلك خلالا حبّذا
خدمة الضيف وكأس لذّة
…
ونديم وفتاة وغنا
وتؤثر له فى الخمر بعض الأشعار، وله بجانبها غزليات قليلة، وهو يعنى فيها ببعض فنون البديع على شاكلة قوله مطابقا:
دموع عينى لها انبساط
…
ونوم عينى به انقباض
وليس فى ديوانه مديح للرشيد ولا للبرامكة مما يدل على أنه ظل بعيدا عن القصر وأهله ووزرائه، وحقّا تروى له بعض أبيات فى البرامكة حين نكبهم الرشيد، ولكنها لا تدخل فى باب الرثاء إنما تدخل فى باب العظمة والاعتبار. وقد ظل لا يلم بالقصر فى عصر الأمين، ونراه يخرج إلى الحج فى سنة 198 للهجرة، ولا يعود إلى بغداد، بل يرتحل إلى مصر وواليها المطلب بن عبد الله الخزاعى (198 - 200 هـ) وفيه يقول:
زمنى بمطّلب سقيت زمانا
…
ما كنت إلا روضة وجنانا
كلّ النّدى إلا نداك تكلّف
…
لم أرض غيرك كائنا من كانا
أصلحتنى بالبرّ بل أفسدتنى
…
وتركتنى أتسخّط الإحسانا
ولم يكتف المطلب بما أغدق عليه من البر والنوال، فقد ولاّه على أسوان،
وسرعان ما شعر فى هذا البلد البعيد عن بغداد بوحشة شديدة، وعبث حنينه إليها بقلبه، فإذا هو ينظم أبياته المشهورة فى الحنين إلى الوطن وقد أنشدناها فى الفصل الرابع.
ولم تلبث الأمور أن فسدت بينه وبين المطلب، فإذا هو يهجوه هجاء مقذعا، كافرا يده عنده، وكان قد ولى الموصل قبل ولايته على مصر، فقال فى بعض هجائه له:
تعلّق مصر بك المخزيات
…
وتبصق فى وجهك الموصل
وأخذ يكثر من هجائه، موليا وجهه نحو بغداد، وتبعه المطلب معزولا عن مصر، وتلطّف له فكفّ لسانه عنه.
وأتاه نبأ عهد المأمون لعلى الرضا بالخلافة من بعده لسنة 201 وكان المأمون لا يزال بخراسان فارتحل إليهما ولم يكد يمثل بين أيديهما حتى أنشد تائيته المشهورة.
مدارس آيات خلت من تلاوة
…
ومنزل وحى مقفر العرصات
وقد صور فيها ما نزل بالعلويين من كوارث فى «كربلاء» و «فخ» نائحا على قتلاهم وخاصة الحسين نواحا مؤثرا ويفيض فى حرمانهم من الاستمتاع بحقهم فى الخلافة آملا فى خروج مهديهم المنتظر الذى يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا، وفيها يقول:
ملامك فى آل النبىّ فإنهم
…
أحبّاى ما عاشوا وأهل ثقاتى
فيا ربّ زدنى من يقينى بصيرة
…
وزد حبّهم يا ربّ فى حسناتى
ألم تر أنى من ثلاثين حجّة
…
أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم فى غيرهم متقسّما
…
وأيديهم من فيئهم صفرات (1)
ولولا الذى أرجوه فى اليوم أو غد
…
تقطّع قلبى إثرهم حسرات
خروج إمام لا محالة خارج
…
يقوم على اسم الله والبركات
(1) الفئ: الخراج وغنائم الحرب، يريد أن العلويين سلبوا حقهم فى سياسة الدولة والقيام على شئون المال. صفرات: خالية.
يميّز فينا كلّ حقّ وباطل
…
ويجزى على النّعماء والنّقمات
وأعجب بالقصيدة المأمون وعلى الرضا، فأعطاه أولهما عشرة آلاف درهم من دراهم كان قد ضربها باسم الرضا، أما الرضا فخلع عليه حلّة من ثيابه، ويقال إن أهل مدينة «قم» الشيعية اشتروا منه الحلة بثلاثين ألف درهم، كما اشتروا الدراهم المضروبة باسم الرضا، كل درهم بعشرة. ويقول ابن المعتز إن أهل هذه المدينة قسّطوا له كل سنة خمسين ألف درهم. وتطورت الظروف سريعا فتوفى على الرضا بطوس سنة 203 وهو فى طريقه مع المأمون إلى بغداد، ودفن بها، بجانب قبر هرون الرشيد، ولم يكد النعى يبلغ دعبلا، حتى قال:
قبران فى طوس خير الناس كلّهم
…
وقبر شرّهم هذا من العبر
ما ينفع الرّجس من قرب الزكىّ ولا
…
على الزّكىّ بقرب الرّجس من ضرر
ولم يكن الرشيد رجسا كما يقول، فقد كان طهرا، إذ كان يحج سنة ويغزو سنة على نحو ما هو معروف فى تاريخه، وقد أنزل بالروم هزائم ساحقة، وليس ذلك فحسب، فإن له يدا على دعبل إذ استقدمه من موطنه وفرض له راتبا سنيّا كما مرّ بنا، ولكن كأنما ينطوى دعبل على جحود غريب، حتى ليطعن كل من قدم له صنيعا. وله شعر شيعى كثير، وقد أكثر فيه من الحديث عن فضائل على بن أبى طالب، كما أكثر فيه من بكاء الحسين ورثائه بمثل قوله:
رأس ابن بنت محمد ووصيّه
…
يا للرّجال على قناة يرفع
والمسلمون بمنظر وبمسمع
…
لا جازع من ذا ولا متخشّع
وهو يبدو فى شعره الشيعى إماميّا وقد تشكك أبو العلاء فى تشيعه، فقال إنه لم يكن صادقا فيه وإنه إنما كان يريد التكسب به (1)، ولعله محق فى تشككه، لأن مثل دعبل المنطوى على كره الناس لا يمكن أن يخلص لآل البيت، إلا أن يكون وراء ذلك باعث يدفعه لأن يقول ما لا يعتقده، وكأن أموال «قم» هى التى دفعته لما كان ينظم من أشعار شيعية، كما دفعته إلى هجاء الرشيد وغيره من الخلفاء،
(1) رسالة الغفران (طبعة أمين هندية) ص 134.
ويقال إن المأمون كان إذا سمع هجاءه فيه أو فى بعض وزرائه ضحك، وكان ذلك يدفعه إلى التمادى حتى ليقول له مهددا وكأنه يهدده بلسان أهل قم:
إنى من القوم الذين سيوفهم
…
قتلت أخاك وشرّفتك بمقعد
وهو يشير إلى أن طاهر بن الحسين قائد المأمون وقاتل أخيه الأمين من موالى قبيلته خزاعة. على أن هذا الولاء الطاهر لم ينفعه عنده، فقد رماه بسهم لاذع من سهام هجائه التى كان ما ينى يرسلها على جميع من حوله، وكان طاهر أعور، ويلقب بذى اليمينين، فقال:
وذى يمينين وعين واحده
…
نقصان عين ويمين زائده
وولىّ وجهه نحو صديقه القديم مسلم بن الوليد، وكان الحسن بن سهل ولاّه يريد جرجان، فجفاه ولم يلقه، وأثّر ذلك فى نفس دعبل، غير أنه لم يعمد إلى هجائه، خوفا من لسانه، وقد مر بنا كيف كان مسلم يقذع فى هجائه وكيف كان يريشه سهاما مصمية، وكأنما خشى دعبل معرة هجائه إن هو عرض له بالهجاء، فعاتبه عتابا رقيقا بأبياته المعروفة:
أبا مخلد كنّا عقيدى مودّة
…
هوانا وقلبانا جميعا معا معا
غششت الهوى حتى تداعت أصوله
…
بنا وابتذلت الوصل حتى تقطّعا
فلا تعذلنّى ليس لى فيك مطمع
…
تخّرقت حتى لم أجد لك مرقعا
فهبك يمينى استأكلت فقطعتها
…
وجشّمت قلبى صبرة فتشجّعا
ويقال إنه قصد عبد الله بن طاهر فى ولايته لخراسان (214 - 230 هـ) فكان يصله فى الشهر بمائة وخمسين ألف درهم، ومع ذلك لم يسلم من لسانه.
ولعله لم يتعرض لخليفة بالهجاء كما تعرض للمعتصم، فقد صبّ عليه شواظا ملتهبا من أهاجيه كقوله:
ملوك بنى العباس فى الكتب سبعة
…
ولم تأتنا عن ثامن لهم الكتب
كذلك أهل الكهف فى الكهف سبعة
…
كرام إذا عدّوا وثامنهم كلب
وظل يرميه بسهام هجائه حتى توفى، وخلفه ابنه الواثق، فأسرع يطلق لسانه فيه، جامعا فى هجائه بينه وبين أبيه بمثل قوله:
خليفة مات لم يحزن له أحد
…
وآخر قام لم يفرح به أحد
وروى الرواة له فى المتوكل بيتا مقذعا واحدا، وفيه يهجوه باستيلاء مواليه من الجند الأتراك على الحكم حتى أصبح كأنه لعبة فى أيديهم، بل أصبح لهم عبدا، يقول:
ولست بقائل قذعا ولكن
…
لأمر مّا تعبّدك العبيد
ولم يقف عند هجاء الأفراد، فقد استعاد هجاء العصبيات القديم، وكانت قصيدة الكميت الشيعى فى هجاء أصوله القحطانيين تؤذيه فعمد إلى نقضها بقصيدة نونية أودعها مثالب القبائل العدنانية. ولو أنه كان مخلصا فى تشيعه حقّا لأعلى صلة التشيع بينه وبين الكميت على العصبية القبلية، وخاصة أن الكميت كان قد مات منذ زمن بعيد. وأثار ذلك أبو سعد المخزومى فاندلعت بينهما معركة هجاء عنيفة. والحق أن الهجاء كان طبعا ركّب فى نفسه حتى لنراه يهجو بجانب كل من أسدى إليه صنيعة زوجته وأخاه رزينا وأهل مدينة «قم» بل الناس جميعا، يقول:
ما أكثر الناس، لا، بل ما أقلّهم
…
والله يعلم أنى لم أقل فندا
إنى لأفتح عينى حين أفتحها
…
على كثير ولكن لا أرى أحدا
وممن هجاهم فأقذع فى هجائه مالك بن طوق التغلبى ممدوح أبى تمام، ويقال إنه وجد عليه موجدة شديدة جعلته يرسل له من اغتاله فى بعض قرى الأهواز.
واختلف الرواة فى سنة وفاته، فمنهم من جعلها فى عهد المعتصم ومنهم من تأخر بها الى سنة 246 للهجرة. وأكبر الظن أنه لم يتأخر إلى هذا التاريخ وأنه توفى لأوائل عهد المتوكل عقب هدمه لقبور الحسين والعلويين سنة 235.
ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور شاعريته، فقد كان شديد العناية بصياغته وكان لا يزال يغوص على المعانى الدقيقة، ومن حين إلى حين يوشى شعره بزخرف البديع، وله أبيات كثيرة دارت على الألسنة من مثل قوله: