الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - الرسائل الديوانية والعهود والوصايا والتوقيعات
تحدثنا فى الفصل الأول عن تعقد الدواوين فى هذا العصر وتنوعها، فدواوين للخراج ودواوين للنفقات ودواوين للجيش ودواوين للحروب ودواوين للرسائل ودواوين للخاتم ودواوين لشرقىّ الدولة ودواوين لغربيها. ولكل ولاية ديوان. وفوق هذه الدواوين ما يسمّى ديوان الزمام الذى ينظر فى ضبط كل ديوان على حدة.
وبجانب هذه الدواوين العامة فى بغداد دواوين فى الولايات للخراج والرسائل ودواوين أخرى لأولياء العهد وللأمراء وللوزراء وكبار القواد. ومن لم يتخذ من هؤلاء ديوانا كبيرا كان له كاتب يكتب عنه وينظر فى تدبير أمواله ونفقاته وضياعه. وحتى نساء الخلفاء كن يتخذن الكتاب، وكذلك كان يتخذهم بعض القضاة والعلماء للكتابة عنهم.
وبذلك نشطت الكتابة فى هذا العصر نشاطا واسعا، فقد توفر عليها مئات من أصحاب الأقلام يحدوهم فى ذلك ما كانت تدرّه عليهم من أرزاق واسعة.
وكان من يظهر منهم مهارة فى دواوين الخلافة سرعان ما يرقى إلى رياسة الديوان الذى يعمل فيه. وقد تقبل عليه الدنيا فيصبح رئيسا لمجموعة من الدواوين، وقد يصبح وزيرا للخليفة يسوس الدولة ويدبر أمورها وشئونها، فإن لم يصبح وزيرا.
أصبح واليا لإقليم من الأقاليم مثل الحسن بن البحباح البلخى الذى كتب للمهدى والهادى والبرامكة وقد ولى مصر فى عصر الهادى والأمين. ومثل الحسن بن رجاء كاتب المأمون الذى ولى فارس ومثل عمر بن مهران كاتب الخيزران أم الرشيد وقد ولاه مصر فى بعض السنين. وكثير من الولاة والقواد كانوا يحسنون الكتابة إلى أبعد غاية مثل جعفر بن محمد بن الأشعث والى خراسان للرشيد ومثل طاهر بن الحسين قائد المأمون وواليه على خراسان وابنه عبد الله بن طاهر والى مصر والشام والجزيرة ثم والى خراسان ومثل أبى دلف العجلى قائد المأمون المشهور.
وعلى هذا النحو كانت الكتابة فى هذا العصر الجسر الذى يصل الشخص إلى أرفع المناصب، وكان من يتقنها من الوزراء والقواد والولاة يلقى الإكبار
والإعجاب فى كل مكان، وقد أخذ يسيل لها لعاب كل من أحسّ فى نفسه قدرة عليها، حتى يحظى بما يكفل له العيش فضلا عما قد يصيب من رغد ونعيم، ومن أجل ذلك كثر الوافدون على أبواب الدواوين وخاصة من الناشئة ذوى المطامح البعيدة، وكانوا يعرضون أنفسهم، فيمتحنبون امتحانا عسيرا، تبحث فيه مهارتهم الأدبية والعقلية، ومن جاز الامتحان أمرهم رؤساء الدواوين بملازمتهم، ثم ضموهم إلى دواوينهم وترقوا بهم من حال إلى حال، على قدر مهاراتهم حتى بلغوا بهم المنزلة التى يستحقونها، وربما ألحقوهم ببعض الولاة والقواد أو جعلوا لهم التصرف فى بعض الأعمال أو فى بعض دواوين الخراج.
ولم يكن نجاح الكاتب الناشئ هينا، فقد كان لا بدّ له من إحسان صناعة الكتابة، وهو إحسان جعله يتوفر على مادتها اللغوية والأسلوبية، حتى يتقنها الإتقان المنشود من حيث الوضوح والجمال الفنى، أما الوضوح فلأنه كان يكتب غالبا إلى الرعية ولا بد للرعية أن تفهم عنه، وأما من حيث الجمال الفنى فلأنه كان يكتب عن الخلفاء والوزراء والولاة والقواد، ولا بد أن يروعهم ببيانه وبلاغته، وقد توقّف الجاحظ مرارا فى كتاباته يشيد ببراعتهم فى القول وعذوبة آدائهم وطلاوة صياغاتهم من مثل قوله:«إنهم لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة والمعانى المنتخبة وعلى المخارج السهلة والديباجة الكريمة وعلى الطبع المتمكن وعلى السبك الجيد وعلى كل كلام له ماء ورونق وعلى المعانى التى إذا صارت فى الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم وفتحت للسان باب البلاغة ودلّت الأقلام على مدافن الألفاظ وأشارت إلى حسان المعانى (1)» .
وكان لا بد لهم بجانب هذه القدرة البلاغية من أن يتقنوا طائفة من المعارف وفى مقدمتها علوم اللسان العربى وعلم الفقه، وكان العلم الأخير ضروريّا لهم، لأنهم كانوا يكتبون فى شئون الخراج وفيما يجب على أهل الذمة أن يؤدوه من أموال، وكذلك كان علم الحساب من الضرورة لهم بمكان. وكانوا يلمون بكل علم مثل الكيمياء والطب والنجوم، وأكبوا على الفلسفة والمنطق ليدعموا عقولهم. ولم يكن ذلك كل ثقافة الكاتب، فقد مضى يقرأ كل ما ترجم من الحكمة اليونانية ومأثور
(1) البيان والتبيين 4/ 24.
ما تبادله الإسكندر المقدونى وأرسطو من رسائل وما نقل عن الفلاسفة اليونانيين من أقوال وكذلك ما نقل عن الهنود من حكم وقصص يتصل بتدبير الملك وخاصة كتاب كليلة ودمنة. ومرّ بنا مدى إعجاب يحيى البرمكى بهذا الكتاب مما جعله يطلب إلى أبان بن عبد الحميد أن ينقله شعرا حتى يسهل حفظه، وكان قد نقله ابن المقفع قبل ذلك نثرا، ومرّ بنا فى غير هذا الموضع أنه نقل كثيرا من سير ملوك الفرس وأنظمتهم فى الملك وتدبيرهم فى السياسة والحكم وأن مما نقله «خداى نامه» فى سير ملوكهم و «آيين نامه» فى أنظمتهم و «التاج» فى سيرة كسرى أنوشروان و «الأدب الكبير» و «اليتيمة» و «الصحابة» . وأكبّ الكاتب العباسى على هذه الكتب وغيرها مما عرضنا له فى الفصل الثالث كأمثال بزرجمهر وكتاب «جاويدان خرد» فى الآداب والأخلاق و «عهد أردشير بن بابك إلى ابنه سابور» .
ولعلنا لا نبالغ إذ قلنا إن المادة الفارسية السياسية والأخلاقية المترجمة كانت من أهم المؤثرات فى رقى الكتابة الديوانية وتطورها، وحقّا أن هذا التأثير بدأ منذ عبد الحميد الكاتب ولكنه لم يبلغ أشده إلا فى هذا العصر إذ اتّسع نقل الآداب الفارسية وكل ما أثر عن ملوك الفرس ووزرائهم من عهود ووصايا ورسائل إلى العمال والولاة، مما سالت مادته الغزيرة فى كتابات الكاتب العباسى، ولعل ذلك ما جعل الجهشيارى يقدم لكتابه الوزراء والكتاب بتمهيد واسع عرض فيه لتدوين الفرس للدواوين ونظمها المختلفة، متحدثا فى ثنايا ذلك عن كتب الأكاسرة إلى عمالهم ومقتبسا فصولا عن سابور إلى ابنه ومر كلام أردشير وكلام أبرويز إلى وزرائه ووصيته لابنه شيرويه ووصية أردشير لوزرائه واستشارة سابور لوزيرين نابهين. وعرض الجهشيارى لبعض رسائل أرسطو للإسكندر، ولبعض وصايا الهند وحكمهم. وفى ذلك كله الدلالة الواضحة على مدى ما كان يأخذ به الكاتب العباسى نفسه من ثقافة سياسية، وخاصة ما كتبه الفرس فى وصاياهم وعهودهم.
وكان لا بد له من إلمام واسع بأخبار العرب وأشعارهم وكل ما يتصل بهم وبخلفائهم.
وكان أحيانا يحسن نظم الشعر ورصفه. ويستشهد به فى رسائله وكلامه، وكذلك كان يحفظ القرآن الكريم ويقتبس منه أحيانا، وأحيانا يحاول مجاراة
أساليبه وما يجرى فيها من حسن التأليف والتئام الكلم وجودة المقاطع وحلاوة البيان وعذوبته. وحتى الخطّ كان لا بد للكاتب العباسى من إجادته.
ومن ينظر نظرة عامة فى موضوعات الرسائل الديوانية لهذا العصر يلاحظ أنها كانت تتناول تصريف أعمال الدولة وما يتصل بها من تولية الولاة، وأخذ البيعة للخلفاء وولاة العهود، ومن الفتوح والجهاد ومواسم الحج والأعياد والأمان وأخبار الولايات وأحوالها فى المطر والخصيب والجدب، وعهود الخلفاء لأبنائهم، ووصاياهم ووصايا الوزراء والحكام فى تدبير السياسة والحكم. وأيضا فإنها أخذت تتناول بعض الأغراض التى كان يتناولها الشعر من تهنئات وتعزيات وشكر مما سنعرض له فى الرسائل الإخوانية التى تصور عواطف الأفراد، وقد تفننوا حينئذ طويلا فى التحميدات التى تصدّر بها الرسائل، وتنسب إلى الرشيد أنه أول من أمر أن تبتدئ مكاتباته بعد البسملة بالصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم (1).
وفى رواية ثانية أن يحيى البرمكى وزيره أول من زاد فى الرسائل: «وأسأله أن يصلى على محمد عبده ورسوله» وأنه أنشأ فى ذلك كتابا ذكر فيه فضل الأنبياء عليهم السلام (2).
ونحن نقف بعد طائفة من الكتاب النابهين مرتبين لهم على عهود الخلفاء وأول كاتب لمع اسمه فى مطالع العصر عمارة بن حمزة كاتب السفاح والمنصور وقد ولاه الأخير فى سنة 156 على كور دجلة والأهواز وفارس ثم ولاه المهدى خراج البصرة، وعاش حتى سنة 199 للهجرة (3)، وكان المهدى يجلّه، وكان جوادا غير أنه كان فيه تيه شديد حتى ضرب المثل بتيهه، فقيل أتيه من عمارة، وتروى له فى التيه والكرم حكايات كثيرة. وهو أحد الكتاب البلغاء وقد اشتهر بتدبيجه لأول رسالة من رسائل الخميس، وهى رسالة كانت تكتب فى عهد كل خليفة عباسى، وكان موضوعها تأييد الدعوة العباسية وتأييد الخليفة الحاضر وتعداد مناقبه وبيان مآثره وأنه أحق أهل بيته بالخلافة. واشتهر أيضا برسالة
(1) النجوم الزاهرة 2/ 103.
(2)
الوزراء والكتاب للجهشيارى ص 177.
(3)
النجوم الزاهرة 2/ 164 وانظر فى ترجمته الفهرست لابن النديم ص 171 ومعجم الأدباء 15/ 242 والجهشيارى ص 91، 133 وفى مواضع أخرى متفرقة، راجع الفهرس.
لقّبت باسم الماهانية وفيها يقول ابن النديم: «الكتب المجمع على جودتها عهد أردشير، كليلة ودمنة، رسالة عمارة بن حمزة الماهانية، اليتيمة لابن المقفع، رسالة الخميس لأحمد بن يوسف» . ويظهر أنها كتبت لعامل كى يستشير عيسى بن ماهان فى كل ما يأخذ من الأمر ويدع، وفيها يقول له على لسان الخليفة (1):
وواضح حرص عمارة على التمثل بكلام العرب واستعارة ألفاظ القرآن ومعانيه، فقد حلّ فى آخر كلامه قوله جلّ شأنه:{(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).}
ومن كتّاب المنصور مسعدة بن سعد بن صول أحد ملوك جرجان فيما يقال، وكان يكتب أولا لخالد بن برمك وزير المنصور ثم لواليه على فارس.
ولما اتخذ المنصور أبا أيوب الموريانى وزيرا وقلّده الدواوين أقام مسعدة على ديوان الرسائل، ويروى ياقوت فى ترجمته لابنه عمرو أن المنصور قال يوما لكتّابه: اكتبوا لى تعظيم الإسلام، فبدر مسعدة فكتب (2):
(1) انظر الرسالة بأكلها فى جمهرة رسائل العرب لأحمد زكى صفوت 3/ 127.
(2)
معجم الأدباء لياقوت 16/ 128.
«الحمد لله الذى عظّم الإسلام واختاره وأوضحه وأناره وأعزّه وأنافه (أعلاه) وشرّفه، وأكمله، وتمّمه، وفضّله، وأعزّه، ورفعه، وجعله دينه الذى أحبّه واجتباه (اختاره) واستخلصه وارتضاه، واختاره واصطفاه، وجعله الدين الذى تعتدّ به ملائكته وأرسل بالدعاء إليه أنبياءه وهدى له من أراد إكرامه وإسعاده من خلقه فقال جلّ من قائل:{(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)} وقال جلّ وعلا: {(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)} وقال:
{(مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)} . فبهذا الإسلام والدخول فيه والعلم به وأداء شرائعه والقيام بمفروضاته وصلت ملائكته ورسله إلى رضوان الله ورحمته، وجواره فى جنّته، وبه تحرّزوا من غضبه وعقوبته، وأمنوا نكال عذابه وسطوته».
فقال المنصور: حسبك يا مسعدة، اجعل هذا صدر الكتاب إلى أهل الجزيرة بالإعذار والإنذار. وفى جوانب من التحميد أسجاع مما يدل على القصد إلى العناية الفنية وأن الكاتب يريد أن يأسر الأسماع بجمال الجرس والأداء.
ومن كتّاب المنصور أيضا يوسف (1) بن صبيح، وكان يكتب، فى ديوان الكوفة لبنى أمية، ثم كتب لعبد الله بن على عم المنصور فى مطلع الدولة العباسية، حتى إذا أخفقت ثورته على ابن أخيه واستتر بالبصرة عند إخوته لجأ يوسف إلى أصحابه من الكتاب فى ديوان المنصور، فألحقوه به. ويظهر أنه ظل يعمل فى ديوان الخلافة، حتى إذا كان البرامكة قربوه، فكان يختلف بين دواوينهم ودواوين الرشيد، ومن مأثور ما يروى له رسالة قصيرة كتبها عن عبد الله بن على إلى ابن أخيه السفاح يعزيه عن ابن له على هذا النمط (2):
ومن الكتّاب لعصر المنصور جبل بن يزيد كاتب عمارة بن حمزة وفيه يقول صاحب الفهرست: «كان مترجما وكان من معدودى البلغاء والبرعاء (3)» وقد
(1) انظر فى ترجمته الأوراق للصولى (أخبار الشعراء) ص 146 والجهشيارى 131، 175.
(2)
جمهرة رسائل العرب 3/ 9.
(3)
الفهرست ص 171.
احتفظ له ابن طيفور فى كتابه «اختيار المنظوم والمنثور» بطائفة بديعة من رسائله، منها رسالة كتب بها إلى المهدى يعزيه عن أبيه ويهنئه بالخلافة، ويظهر أنه كتبها عن عمارة بن حمزة وفيها يقول (1):
ومن الكتّاب أيضا لعصر المنصور غسّان بن عبد الحميد كاتب (2) عمه سليمان بن على واليه على البصرة لسنة 133 للهجرة، وفى الفهرست أنه كتب لابنه جعفر بن سليمان على المدينة سنة 146 للهجرة، ويقول:«كان بليغا حلو الكلام لطيف المعانى (3)» واحتفظ له أيضا ابن طيفور بطائفة جيدة من رسائله، وأكثرها يدور فى التعزية، ويظهر أنه كان يتقنها إتقانا بعيدا على نحو ما نرى فى هذه القطعة من رسالة يعزى بها المهدىّ عن أبيه (4):
«أما بعد فإن الله تبارك وتعالى جعل المقادير علما ثابتا عنده وكتابا سابقا منه، فجرت عليه ومضت به الأمور فى قدرته، والعباد فى قبضته. وليس عبد من عبيده إلا وقد كان عمره فى الدنيا موظوفا قبل خلقه، وكان ما يصيبه منها مكتوبا عليه قبل أن ينزل به، ثم جعل أهل عبادته أهل حظوظ متكاملة فى السعادة وأهل فضائل متظاهرة فى الكرامة، فاصطفى منهم أنبياءه، وانتجب منهم خلفاءه، وألزمهم على ذلك الموت الذى لا بد منه وجعله الحياة لهم فيما عنده، فكانت وفاة من توفّى منهم له سعادة فيما يصيّرهم إليه وحياة من أحيا منهم له كرامة فيما يصنطنعهم له، فيمضى الأول منهم سعيدا ويبقى الباقى منهم مصطنعا فلا تنقطع الدنيا بماضيهم إلا إلى خير منها ولا يبقى باقيهم إلا ليزداد خيرا فيها.
(1) جمهرة رسائل العرب 3/ 148
(2)
الجهشيارى ص 110.
(3)
الفهرست ص 183.
(4)
جمهرة رسائل العرب 3/ 149.
والماضى مفقود مستخلف منه، والباقى محمود مرضىّ به، وأمر الرعية قائم معدول فيه».
وننتقل إلى عصر المهدى فنلتقى بأبى عبيد الله معاوية (1) بن عبيد الله بن يسار وكان المنصور ضمّه إليه حين أنفذه إلى الرىّ ليكتب له ويصدر عن رأيه ومشورته، فلما ولى الخلافة استوزره وفوّض إليه الدواوين، حتى إذا كانت سنة 163 صرفه عن وزارته واقتصر به على ديوان الرسائل وما زال يليه حتى سنة 167. ثم صرفه المهدى عنه أيضا، ولم يلبث أن توفى سنة 170 للهجرة.
وكان غزير العلم جذاب الحديث بارعا فى القول، ومن طريف ما رواه له الجاحظ قوله:«التماس السلامة بالسكوت أولى من التماس الحظ بالكلام، وقمع نخوة الشرف أشد من قمع بطر الغنى، والصبر على حقوق النعمة أصعب من الصبر على ألم الحاجة، وذل الفقر قاهر لعز الصبر، كما أن عز الغنى مانع من الإنصاف إلا لمن كان فى غريزته فضل كرم وفى أعراقه مناسبة لعلو الهمة (2)» .
وكان أهل الخراج يعذّبون بصنوف من العذاب: من السباع والزنانير والسنانير، فكتب إلى جميع العمال برفع العذاب عنهم. وقد اشتهر ببراعته فى التحميدات التى كانت تصدّر بها الرسائل والكتب من مثل قوله (3):
«الحمد لله الذى جعل الإسلام رحمة قدّمها لعباده قبل خلقه إياهم واستيجابهم إياها منه، فاصطفاه لنفسه وشرعه لهم دينا يدينون به، ثم جعل تجديد وحيه ومتابعة رسله رحمة تلافاهم بها بعد تقديمها ومنّة ظاهره، عليهم قبل استيجابهم لها، تطولا على العباد بالنعماء، وإعذارا إليهم بالحجج وتقدمة بالوعد وإنذارا إليهم عواقب سخطه فى المعاد. والحمد لله الذى ابتعث محمدا صلى الله عليه وسلم بهداه وشرائع حقه على فترة من الرسل وطموس من معالم الحق ودروس من سبل الهدى، عند الوقت الذى بلغ فى سابق علمه ومقاديره أن يجتبى فيه لدينه الأصفياء، ويختار له لأولياء، الظاهرين بحقه القاهرين لمن ابتغى
(1) الجهشيارى ص 126 وفى ثنايا حديثه عن أيام المهدى ووزرائه وكتابه، وانظر فيه كتب التاريخ مثل الطبرى وابن الأثير والفخرى ص 134.
(2)
الجهشيارى ص 156.
(3)
جمهرة رسائل العرب ص 165.
سبيلا غير سبيله، فعظّم حرمته ووسع حورته وصدع بأمره وجاهد عن حقه فى حومات الضلالة وظلمات الكفر بالحق المبين والسراج المنير، ثم جعله مصدقا لمن سبقه من الرسل ومجددا لما بعثوا له وهدى ورحمة»
ومن البلغاء المجيدين الذين كتبوا له فى دواوينه إسماعيل بن صبيح ومطرّف (1) ابن أبى مطرف العبدى الذى كان يتقلد ديوان الخراج، ويظهر أن أبا عبيد الله كان يستعين به من حين إلى حين فى كتابة بعض الرسائل الديوانية، فمما أثر له رسالة إلى بعض العمال كلها إعذار وإنذار على هذه الشاكلة (2):
وواضح كثرة اقتباساته من ألفاظ الذكر الحكيم، من مثل قوله تعالى:
({أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً)} وقوله: ({الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً)} وقوله: ({وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ}
(1) انظر فى أخباره ترجمة ابنه عمر بن مطرف فى معجم الأدباء 16/ 72 والجهشيارى ص 166.
(2)
جمهرة رسائل العرب 3/ 213.
{اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ. .)} وقوله: ({وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ)} {(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ)} وقوله: ({وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا)} وقوله جل ذكره: ({فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ).} وقد توفى مطرّف سنة 164 للهجرة وكان له ابن كاتب يسمى عمر (1) تقلد ديوان المشرق للمهدى والهادى وقلّده الرشيد ديوان الأزمّة.
ومن الكتاب الذين اشتهروا بالبلاغة فى عصر المهدى، وربما لحقته هذه الشهرة فى عصر المنصور محمد (2) بن حجر كاتب ولاة أرمينية والشام، واتخذه العباس بن محمد أخو المنصور كاتبا له، ولعله تعرف عليه فى أثناء نهوضه بقيادة الجيوش فى غزو الروم، وقد كتب عنه رسالة إلى المهدى حين جعل ابنه الرشيد ولى عهده بعد أخيه الهادى سنة 163 وفيها يوثّق البيعة لولى العهد الجديد على هذا النمط (3):
ونمضى إلى عصر الرشيد، ويلقانا يحيى (6) البرمكى، أحد من جمع جمعا رائعا بين ثقافة العرب وثقافة الفرس، وكان قلده المهدى الكتابة لابنه، منذ جعله ولىّ عهده، والقيام على نفقاته وتدبير أمر الجيوش التى كان يقودها الرشيد ضد الروم. وحسن أثره عنده إلى أقصى غاية حتى إذا ولى الخلافة قلده أمور الرعية وسلمه خاتم الخلافة يأمر وينهى كما يشاء ويستعمل على الولايات والأعمال
(1) انظر ترجمته فى ياقوت 16/ 71 والفهرست ص 184.
(2)
انظر ترجمته فى الفهرست ص 172.
(3)
جمهرة رسائل العرب 3/ 169.
(4)
صفق يده بالبيعة: ضرب يدا بيد دلالة على التزامها.
(5)
ناصح الجيب: ناصح القلب والصدر.
(6)
انظر فى ترجمة يحيى كتب التاريخ فى خلافة الرشيد من مثل الطبرى وابن الأثير واليعقوبى وراجع الفخرى والجهشيارى ص 150، 168 وفى أيام الرشيد، وراجع فى بلاغته وبلاغة أبنائه العقد الفريد 5/ 58.
ويعزل كما يريد، ولم يلبث الرشيد أن ولى ابنه جعفرا على المغرب كله من الأنبار إلى إفريقية وولّى ابنه الفضل على المشرق كله من النهروان إلى أقصى بلاد الترك، وسبق أن تحدثنا عن ذلك كله فى الفصل الأول من فصول هذا الجزء، ومضى ما نهض به البرامكة فى الشئون الإدارية والثقافية إلى أن نكبهم الرشيد فى سنة 187 للهجرة إذ أمر بقتل جعفر وحبس أبيه وأخيه الفضل حتى ماتا فى الحبس.
وكان يحيى سيوسا حصيفا دقيق الحس مهذب الذوق رقيق الشعور. وحوّل مجلسه كما أسلفنا إلى ندوة علمية أدبية كبرى يتحاور فيها كبار العلماء من كل صنف. وكان آية فى البلاغة والإيجاز، وتوقف الجهشيارى مرارا ليروى بعض المأثور من كلامه من مثل قوله:«البلاغة أن تكلم كلّ قوم بما يفهمون» وقوله لجعفر ابنه: «يا بنى انتق من كل علم شيئا فإنه من جهل شيئا عاداه وأنا أكره أن تكون عدوّا لشئ من الأدب» وقوله: «الناس يكتبون أحسن ما يسمعون ويحفظون أحسن ما يكتبون، ويتحدثون بأحسن ما يحفظون» وقوله:
«العجب للسلطان كيف يحسن، ولو أساء كل الإساءة لوجد من يزكّيه ويشهد بأنه محسن» وقوله: «لست ترى أحدا تكبّر فى إمارة إلا وقد دل على أن الذى نال فوق قدره، ولست ترى أحدا تواضع فى إمارة إلا وهو فى نفسه أكبر مما نال فى سلطانه» . وكتب إلى الرشيد لما نكبه وسجنه رسالة بليغة، وفيها يقول (1):
«من شخص أسلمته ذنوبه وأوثقته عيوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه. ومال به الزمان، ونزل به الحدثان (2)، فحلّ فى الضيق بعد السعة وعالج البؤس بعد الدّعة، وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل السهاد بعد الهجود (3).
ساعته شهر، وليلته دهر، قد عاين الموت، وشارف الفوت، جزعا لموجدتك يا أمير المؤمنين وأسفا على ما فات من قربك».
(1) العقد الفريد 5/ 68 وعرر الحصائص الواضحة للوطواط (طبعة بولاق سنة 1284 هـ) ص 406 وجمهرة رسائل العرب 3/ 221.
(2)
الحدثان: نوازل الدهر ونوائبه.
(3)
الهجود: النوم.
وفى هذه العبارات المحبوكة المسجوعة ما يدل على عناية يحيى بتعبيره وحوكه الفنى، ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن البرامكة كانوا من أهم العوامل فى شيوع السجع فى الكتابة الديوانية، وحقا أنه لا يطرد دائما فى كتاباتهم، ولكن نحس ميلهم الواضح له هم وبعض كتابهم ومن كانوا يكتبون إليهم.
وكان جعفر (1) لا يقل عن أبيه بيانا وفصاحة وبلاغة، إن لم يتقدم فى ذلك خطوات، وكان مثقفا بمعارف عصره ثقافة واسعة وضمّه أبوه إلى أبى يوسف القاضى فعلّمه وفقّهه حتى صار نادرة زمنه. وحظى عند الرشيد حظوة كبيرة لم ينلها أحد قبله، حتى قتله سنة 187 لما ثبت عنده من إطلاقه يحيى بن عبد الله العلوىّ من سجنه، على نحو ما مر بنا فى الفصل الأول. وكانت تضرب ببلاغته الأمثال ووصفه ثمامة بن أشرس فقال:«قد جمع الهدوء والتمهل والجزالة والحلاوة وإفهاما يغنيه عن الإعادة، ولو كان فى الأرض ناطق يستغنى بمنطقه عن الإشارة لاستغنى جعفر عن الإشارة كما استغنى عن الإعادة (2)» . ومن رسالة له فى العفو إلى أحد عماله (3):
«عندنا الاغتفار لما اقترفت، وتصديق كل ما قلت، واحتججت بذكره، واعتذرت بوصفه، والإسقاط لما جحدته، والإكذاب للجور الذى اقترفته، والرجوع عما أنكرته، والزيادة فيما اخترته، استدعاء لك وإن انصرفت، وحياطة لما قدمت وإن ذممت، وإيثارا للإغضاء والاحتمال فإنهما أبلغ فى الإصلاح، وأنجع فى الاستنجاح، وأسرع فى التعليم، وأكبر فى التقويم، إن احتيج إليه فى مثلك ممن تؤمن عليه قريحته، وترده إلى الاستقامة تجربته» والرساله مبنية على السجع، وكان جعفر يؤثره فى كتاباته، مبالغة منه فى التأنق والتنميق، وهو تنميق كان يطلبه فى كل ما يتصل به حتى فى ثيابه (4).
وكثير هم الكتاب البلغاء الذين كتبوا فى دواوين الرشيد والبرامكة وفى مقدمتهم
(1) انظر فى جعفر كتب التاريخ فى خلافة الرشيد والجهشيارى (انظر الفهرس).
(2)
البيان والتبيين 1/ 106. وانظر وصف سهل بن هارون لبلاغته فى زهر الآداب 2/ 69. والعقد الفريد 5/ 58.
(3)
جمهرة رسائل العرب ص 190.
(4)
الجهشيارى ص 215.
إسماعيل (1) بن صبيح وكان يكتب فى أول حياته لأبى عبيد الله معاوية بن عبيد الله ابن يسار وزير المهدى ورئيس دواوينه، ولما ألحق المهدى يحيى البرمكى بابنه الرشيد اتخذه كاتبه، حتى إذا ولى الهادى توسط له عند وزيره إبراهيم الحرانى فقلده ديوان زمام الشام وما يليها، ولما صارت الأمور بيد يحيى فى عصر الرشيد قلده ديوان الخراج، ولم يلبث أن قلده ديوان الرسائل، وظلّ على هذا الديوان مدة فى عصر الأمين. ومما يؤثر له رسالة عن الرشيد إلى جميع العمال بما عقد بين ولديه الأمين والمأمون من العهد بعده وتعليق هذا العهد فى بيت الله الحرام، وفيها يقول (2):
ومن الكتّاب البلغاء الذين اتصل عملهم فى الدواوين من عهد المنصور حتى هذا العهد يوسف بن صبيح، وقد عرضنا له آنفا، وفى الجهشيارى أن يحيى البرمكى أمره بالكتابة إلى الآفاق بتولية الرشيد (3)، وفى الأوراق للصولى رسالة له عن الفضل بن يحيى فى حاجة لشخص إلى أحد العمال، وهى تجرى على هذه الشاكلة (4).
(1) انظر فى إسماعيل الجهشيارى، ص 150، 168، 257، 277، 301 وفى مواضع متفرقة.
(2)
الطبرى 6/ 481 وما بعدها.
(3)
الجهشيارى ص 5/ 10.
(4)
الأوراق للصولى (قسم الشعراء) ص 158.
ومن الكتاب المفوّهين حينئذ محمد بن الليث، وفيه يقول صاحب الفهرست:
«كتب ليحيى بن خالد. . ويعرف بالفقيه وكان بليغا مترسلا كاتبا فقيها متكلما بارعا (1)» . ومن أروع ما أثر عنه رسالته (2) التى كتبها للرشيد إلى قسطنطين السادس إمبراطور بيزنطة، وهى تمتد إلى نحو سبعين صحيفة، وفيها يدعوه الرشيد إلى الإسلام، وقد أفاض ابن الليث فى وصف رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وما طوى فيها من الهدى للبشر وإنقاذهم من ظلمة الضلال، كما أفاض فى وحدانية الله ورسالات الأنبياء وهيمنة الإسلام وسلطانه على تلك الرسالات والرسالة أشبه بدفاع قوى عن الإسلام وشريعته، وكأن ابن الليث استمد فيها كثيرا مما كان يجادل به المتكلمون النصارى وأصحاب الملل والنحل من حوله.
وهو تارة يجادل بالمنطق وتارة يجادل بآيات الرسالة الباهرة، ناقضا ما يردده الرهبان من أن عيسى ابن الله وما يكررونه من نظرية الأب والابن والروح القدس، مناقشا فى ثنايا ذلك آيات من الإنجيل ومن العهد القديم، وملوّحا بما سينزله الرشيد فى ديارهم من خراب ودمار، وأن الروم لو تابعوه لعمّ مساكينهم وزرّاعهم وفقراءهم وضعفاءهم من العدل ما يجعلهم يعيشون فى أمن وسلام، ولذاقوا لذة الخفض ودعة الحال ورفاهية العيش والرخاء، ولاستقاموا على الشريعة الصحيحة والتوحيد القويم. ويروى الرواة أن جعفر بن يحيى كتب إلى محمد بن الليث يستوصفه الحطّ، فكتب إليه رسالة بديعة فى الخط والقلم على هذا النمط (3):
«أما بعد فليكن قلمك بحريّا، لا متينا ولا رقيقا ما بين الرقة والغلظ، ضيق الثقب، وابره بريا مستويا كمنقار الحمامة، واعطف بطنه ورقّق شفتيه، وليكن مدادك فارسيّا خفيفا إذا وزنته، وانقعه ليلة، ثم صفّه فى
(1) الفهرست ص 175.
(2)
انظر فى هذه الرسالة جمهرة رسائل العرب 3/ 252.
(3)
العقد الفريد 4/ 195.
الدّواة، وليكن قرطاسك رقيقا مستوى النّسج، تخرج السّحاة (1) مستوية من أحد الطرفين إلى آخره، فليست تستقيم السطور إلا فيما كان كذلك، وليكن أكثر تمطيطك فى طرف القرطاس الذى فى يسارك، وأقله فى الوسط، ولا تمطّ فى الطرف الآخر، ولا تمط كلمة ثلاثة أحرف ولا أربعة، ولا تترك الأخرى بغير مطّ، فإنك إذا قرنت القليل كان قبيحا، وإذا جمعت الكثير كان سمجا. ثم ابتدئ الألف برأس القلم كله واخططه بعرضه واختمه بأسفله. واكتب الياء والتاء والسين والشين والمطّة العليا من الصاد والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين ورأس كل مرسل برأس القلم. واكتب الجيم والحاء والخاء والدال والذال والراء والمطة السفلى من الصاد والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين بالسن السفلى من القلم. وامطط بعرض القلم، والمط نصف الخط، ولا يقوى عليه إلا العاقل، ولا أحسب العاقل يقوى عليه أيضا إلا بالنظر إلى اليد فى استعمالها الحركة، والسلام».
وإنما نقلنا هذه الرسالة بطولها، لندل على مدى احتفال الكتاب باختيار الأقلام وبجودة الخط، حتى تجرى الأقلام فى القراطيس جريان لماء، وحتى يروع الخط برونقه وبهائه، وحتى الحروف ومطاتها العليا والسفلى، كل ذلك يكتب بقسطاس. ولا بد من أن تكون السطور معتدلة متناسقة، وقطع القراطيس مقطوعة بانتظام، حسنة النسج والهندام، ولا بد للكاتب من أن يراعى مواضع سنّ القلم من كتابة الحروف، ولا بد من أن يراعى التوازن فى مدات هذه الحروف ومطاتها. وبأيدى محمد بن الليث وغيره من الكتاب فى العصر العباسى تطوّر الخط العربى وارتقت صناعته رقيا بعيدا، وهو رقى كان يرافق احتفالهم بألفاظهم وأساليبهم ومعانيهم حتى تصبح الكتابة كأنها وشى خالص، وشى فى العين، ووشى فى السمع، ووشى فى العقل والذهن.
وكان يكتب لجعفر بن يحيى البرمكى أنس بن أبى شيخ، وقد سلكه ابن النديم فى البلغاء العشرة الأول فى العصر، وفيه يقول الجاحظ:«كان زكيا فهما نفى الألفاظ جيد المعانى حسن البلاغة (2)» وعدّه الرشيد شريك جعفر
(1) السحاة: القطعة من القرطاس.
(2)
الجهشيارى ص 239.
فى إثمه، فلماذا أذاقه نفس المصير وصلبه. ويؤثر من تحميداته قوله (1):
والسجع واضح فى هذا التحميد، ولعل فى ذلك ما يؤكد من بعض الوجوه ما قلنا من أن البرامكة أشاعوا فى كتّاب دواوينهم ذوق التسجيع، وإن لم يطّرد فى جميع رسائلهم وآثارهم، لكنه على كل حال أخذ يشيع فى كتاباتهم، وقد عمل فى دواوينهم ودواوين الرشيد كثير من الكتّاب الذين لمعت أسماؤهم فيما بعد مثل الفضل بن سهل وأخيه الحسن ومثل سهل بن هرون وعمرو بن مسعدة.
ومن الكتاب الذين اشتهروا فى عهد الرشيد قمامة بن أبى يزيد، وكان يكتب أولا لصالح (2) بن على، ثم أصبح كاتبا للقاسم (3) بن الرشيد، ثم اختص بعبد الملك بن صالح والى الرشيد على الجزيرة والشام ومصر. وسعى على عبد الملك إلى الرشيد وثبت كذبه فقتله صبرا سنة 178 للهجرة. وكان لسنا فصيحا بليغا، ومما أثر له قوله من رسالة وجهها-فيما يبدو-عن عبد الملك بن صالح إلى الرشيد (4):
وممن عرفوا لعصر الرشيد بالكتابة البليغة جعفر بن محمد بن الأشعث، وكان
(1) جمهرة رسائل للعرب 3/ 191.
(2)
الجهشيارى ص 262 وانظر الفهرست ص 173.
(3)
الجهشيارى ص 265.
(4)
جمهرة رسائل العرب 3/ 338.
الرشيد جعل ابنه الأمين فى حجره ثم جعله فى حجر الفضل (1) بن يحيى البرمكى، وولاه على خراسان ثم صرفه عنها سنة 173 للهجرة (2)، ولعله لذلك كله كان يضطغن على يحيى البرمكى ويروى أن يحيى حاول أن يسند إليه بعض الأعمال فكتب إليه يستعفيه برسالة يقول فيها (3):
ومن الكتّاب لعصر الرشيد أيضا عمر بن مهران كاتب (4) الخيزران أم الرشيد، وقد ولاه الرشيد على خراج مصر سنة 176 للهجرة وكان بعض أهلها قد اعتادوا المطل بالخراج وكسره، فأحضر عمر أشدهم مدافعة وإلطاطا (5) فاستمهله مدة، فأمهله، ثم طالبه ثانية، فأقسم عمر أن لا يؤديه إلا ببغداد. وسرعان ما قدم له الخراج فلم يقبله منه، وحمله إلى بغداد فأدّى الخراج بها، وخاف الماطلون، فأدّوا خراجهم، وكتب عمر مع الرجل إلى الرشيد (6):
ونخرج إلى عصر الأمين، ويتولى وزارته ورياسة دواوينه الفضل بن الربيع، ويظل إسماعيل بن صبيح على ديوان الرسائل، ويروى الطبرى أنه لما عزم الأمين على خلع المأمون أشار عليه إسماعيل أن يكتب إليه بحاجته له للاستعانة برأيه ويسأله القدوم عليه، فقال الفضل للأمين: القول ما قال يا أمير المؤمنين، قال
(1) الجهشيارى، ص 193.
(2)
النجوم الزاهرة 2/ 72.
(3)
كتاب الصناعتين لأبى هلال (طبعة الحلبى) ص 338 وانظر الجهشيارى ص 179.
(4)
الجهشيارى ص 218 وانظر النجوم الزاهرة 2/ 78 وما بعدها.
(5)
إلطاطا: جحودا ومما طلة.
(6)
طبرى 6/ 459.
(7)
لوانى: مطلنى. استنظرنى: استمهلنى وأجلنى.
الأمين فليكتب بما رأى، فكتب إليه الرسالة التالية (1):
«من عند الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بن هرون أمير المؤمنين، أما بعد فإن أمير المؤمنين روّى (2) فى أمرك والموضع الذى أنت فيه من ثغرك وما يؤمل فى قربك من المعاونة والمكانفة (3) على ما حمّله الله وقلّده من أمور عباده وبلاده، وفكر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من الولاية وأمر به من إقرارك على ما تصيّر إليك منها. ورجا أمير المؤمنين أن لا يدخل عليه وكف (4) فى دينه، ولا نكث فى يمينه إذ كان إشخاصه إياك فيما يعود على المسلمين نفعه، ويصل إلى عامتهم صلاحه وفضله. وعلم أمير المؤمنين أن مكانك بالقرب منه أسدّ للثغور، وأصلح للجنود، وآكد للفيئ، وأردّ على العامة، من مقامك ببلاد خراسان، منقطعا عن أهل بيتك، متغيبا عن أمير المؤمنين وما يجب الاستمتاع به من رأيك وتدبيرك. . فاقدم على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه، بأبسط أمل، وأفسح رجاء، وأحمد عاقبة، وأنفذ بصيرة، فإنك أولى من استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النّصب فيما فيه صلاح أهل بيته وذمته، والسلام.
والرسالة تحمل خصائص إسماعيل وما كان يعنى به فى كتابته من إجادة القول وإتقانه، وهى إجادة تردّ إلى دقته فى اختيار الألفاظ والصياغات بحيث تصبح مظهرا للجمال الفنى الأدبى، وبحيث يجد فيها السامع من لذة الكلام ما يمتعه ويروعه.
ومن الكتّاب البلغاء الذين عملوا فى دواوين الأمين موسى (5) بن عيسى بن يزدانيروذ، وقد احتفظ ابن طيفور برسالة له إلى الأمين يتحدث فيها عن موسم الحج وسلامته ودعته، وهى تجرى على هذا النمط (6)
«أما بعد فإن الله بحمده ومنّه هو ولىّ أمير المؤمنين وولىّ النعمة عليه فيما حمّله واستحفظه، وجعله القائم به والمحافظ عليه، من ولاية دينه ورعاية أهله،
(1) الطبرى 7/ 11.
(2)
روى: فكر.
(3)
المكانفة: المساعدة.
(4)
وكف: عيب وفساد.
(5)
الجهشيارى ص 289.
(6)
جمهرة رسائل العرب 3/ 350.
والمرجوّ لإتمام ذلك بمنّه ورحمته. وإنى كتبت إلى أمير المؤمنين يوم النّفر الأول، وقد قضى الله مناسكنا، وتمّم حجّنا، وأرانا فى مواقفنا وإفاضتنا ومن حضر الحج معنا من رعيّة أمير المؤمنين أفضل ما لم يزل يبلى (1) الله أمير المؤمنين ويعوّده ويبلى الرعية فى خلافته من السلامة والعافية والتوفيق والكفاية، والله المحمود.
ولم أر موسما كان أعمّ عافية وسلامة، وأحسن هديا ودعة، وأكثر داعيا لأمير المؤمنين وولىّ عهده بطول البقاء من موسم الناس فى عامهم هذا بنعمة الله وفضله.
أحببت الكتاب إلى أمير المؤمنين لمعرفتى بعنايته وتطلعه إلى عمله، ليسسرّ به، ويحمد الله عليه ويشكره، فإنه يحب الشاكرين».
وسرعان ما يخلف المأمون الأمين، وفى عصره تبلغ الكتابة الديوانية الذروه المنشودة، فقد تكاثر الكتاب البارعون وتكاثرت آثارهم، واتضح فيها نزعة قوية إلى العناية بالجمال الفنى والتدقيق فى المعانى أشد التدقيق. وأول من نلقاه من هؤلاء الكتاب البارعين الفضل بن سهل وأخوه الحسن وزيرا المأمون، وكان سهل مجوسيّا وأسلم على يد يحيى البرمكى وأصبح من أتباعه، فأحضر له ابنيه الفضل والحسن، فأعجب بهما يحيى وطلب إلى الفضل أن ينقل له كتابا من الفارسية إلى العربية فأعجب بنقله وجودة عبارته ووصله بابنه جعفر ووصل الحسن بابنه الفضل (2)، ولم يلبث جعفر أن ضمّ الفضل إلى المأمون، فأسلم على يديه وغلب عليه بحصافة رأيه وسعة عقله وبلاغته، حتى إذا أنفذه أبوه إلى مرو أصبح أمر المأمون كله بيده. ولما احتدم النزاع بينه وبين الأمين وخلعه من ولاية العهد قام على تدبير أموره خير قيام، من تنظيم للجيوش بقيادة طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين، ومن حسن سياسة ودقة تصريف لشئون المأمون فى ولايته حتى تم له القضاء على أخيه وصوت له الخلافة. وقد عقد له المأمون فى سنة 196 والنزاع بينه وبين أخيه على أشده على الشرق طولا وعرضا ولقّبه ذا الرياستين:
رياسة السيف ورياسة القلم والتدبير، ويظهر أنه كانت فيه ميول شيعية فقد
(1) يبلى هنا: ينعم ويحسن.
(2)
انظر فى ترجمة الفضل بن سهل كتب التاريخ والوزراء والكتاب للجهشيارى ص 229 وفى مواضع متفرقة والفخرى ص 165 وزهر الآداب 2/ 14.
دفع المأمون فى سنة 201 إلى البيعة بولاية العهد من بعده لعلوى كان يعظمه المأمون ويبجله ويتخذه رفيقا، هو على الرضا، وكتب بذلك إلى الآفاق.
فغضب آله العباسيون ببغداد، وبايعوا إبراهيم بن المهدى بالخلافة، فعزم المأمون على المبادرة إلى بغداد، وفى طريقه إليها قتل الفضل بسرخس، وفتك المأمون بقتله، ولم يلبث على الرضا أن توفّى بطوس، وعادت ولاية العهد إلى العباسيين. وتروى للفضل كلمات كثيرة مأثورة، ومما روى له من رسائله الرسالة التالية وقد وجّه بها مع جائزة منحها لبعض خاصّته، وفيها يقول (1):
أما الحسن (2) أخوه فقد ولاه المأمون دواوين الخراج فى سنة 196 للهجرة، وفى سنة 199 جعله نائبه فى بغداد، فقدم إليها وفرق عمّاله على البلاد، ولما مات أخوه الفضل اتخذه وزيرا له بعده، حتى إذا تزوج ابنته بوران سنة 207 طلب منه أن يعتزل الوزارة، فأعفاه. وظل وافر الحرمة حتى توفى بسرخس سنة 236 للهجرة. وكان لا يقلّ عن أخيه لسنا وبلاغة، وله رسالة بديعة كتب بها إلى محمد بن سماعة قاضى بغداد فى اختيار شخص يتولّى بعض أموره وقد وصف له فيها الخصال التى ينبغى أن يشتمل عليها، وهى تجرى فى هذه الصورة (3):
«أما بعد فإنى احتجت لبعض أمورى إلى رجل جامع لخصال الخير ذى عفّة ونزاهة طعمة (4)، قد هذبته الآداب وأحكمته التجارب، ليس بظنين فى رأيه، ولا بمطعون فى حسبه، إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلّد مهمّا من الأمور أجزأ (5) فيه، له سنّ مع أدب ولسان، تقعده الرزانة، ويسكّنه الحلم، قد فرّ (6) عن ذكاء وفطنة، وعضّ على قارحة (7) من الكمال، تكفيه
(1) تاريخ بغداد للخطيب البغدادى 12/ 342.
(2)
انظر فى الحسن كتب التاريخ والفخرى فى الآداب السلطانية ص 167 والجهشيارى ص 230 وفى مواضع متفرقة وزهر الآداب 4/ 25.
(3)
الأمالى للقالى 1/ 253.
(4)
طعمة: مكسب.
(5)
أجزا: أغنى وكفى.
(6)
فر: اختبر وجرب.
(7)
قارحة هنا: تجربة ناضجة.
اللحظة، وترشده السكتة، قد أبصر خدمة الملوك وأحكمها وقام فى أمورهم فحمد فيها. له أناة الوزراء، وصولة الأمراء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، وجواب الحكماء، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يكاد يسترق قلوب الرجال بحلاوة لسانه وحسن بيانه، دلائل الفضل عليه لائحة، وأمارات العلم له شاهدة، مضطلعا (1) بما استنهض، مستقلا (2) بما حمل. وقد آثرتك بطلبه، وحبوتك بارتياده، ثقة بفضل اختيارك، ومعرفة بحسن تأتّيك».
وتلك الخصال فى الواقع كانت حينئذ الخصال المنشودة فيمن يتولّون أعمال الدواوين، وخدمة الوززاء والخلفاء، وهى ترينا ما كان يطلب فى الكاتب من ثقافة واسعة ومن حصافة وتهذيب فى الذوق وحلم وأناة وذكاء وقدرة على تصريف الأمور وإحسان للجواب ولباقة فى الخطاب وبلاغة فى الكلام بحيث يجذب القلوب والأسماع إليه، بل بحيث يسترق أفئدة الرجال ويستولى على عقولهم استيلاء.
ومن الكتّاب الذين طارت شهرتهم فى دواوين المأمون أحمد بن يوسف وعمرو بن مسعدة، وسنتحدث عنهما فى الفصل التالى، وكان وراءهما كثيرون لم يبلغوا مبلغهما فى الشهرة، منهم محمد بن يزداد «وكان بليغا مترسلا شاعرا» وله رسائل مجموعة (3)، ومنهم محمد (4) بن سعيد، ومنهم على بن عبيدة الريحانى الكاتب وكان أديبا فصيحا بليغا صنّف الكتب فى الحكم والأمثال واختصّ بالمأمون (5).
وفى مقدمة القواد والولاة الذين اشتهروا بالكتابة البليغة فى عصر المأمون طاهر (6) بن الحسين، وهو الذى قاد جيوش المأمون ضد أخيه الأمين وحاصره ببغداد حتى ظفر به وقتله فى سنة 198 للهجرة. وولاه المأمون خراسان والمشرق سنة 205 ولم يلبث أن توفى سنة 207، وله وصية طويلة كتب بها إلى ابنه عبد الله حين ولاه المأمون الرّقة سنة 206 وهى أشبه بدستور للحكم القويم والحاكم الرشيد، وقد وزعها بين ما يجب على الحاكم فى دينه وخلقه وما يجب عليه فى
(1) مضطلعا: ناهضا.
(2)
مستقلا: محتملا فى قوة.
(3)
الفهرست ص 179.
(4)
الفهرست ص 182.
(5)
النجوم الزاهرة 2/ 231 وانظر الفهرست ص 173 وزهر الآداب 2/ 122.
(6)
انظر فى طاهر كتب التاريخ ووفيات الأعيان لابن خلكان 1/ 295.
سيرته مع حاشيته وخاصته ومع الجند والرعية، استهلها بحديثه عما ينبغى على ابنه من تقوى الله وطاعته والأخذ بسنة رسوله واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده، ثم نصحه بالاقتصاد فى أموره وعدم الريبة فى عماله مع المسألة عن شئونهم، وأمره بالحياطة للرعية وإقامة حدود الله، والنظر فى استصلاح العامة وعمارة ديارهم وبلادهم وانتظام معايشهم، كما أمره بتفقد الجند ورواتبهم والعناية بهم وبالقضاء الذى به يستقيم العدل والأمن، والعناية بالخراج وعدم الشطط فى تقديره، والعناية بأمور الفقراء والمساكين بتعاهد ذوى البؤس منهم واتخاذ دور يأوى إليها فقراؤهم وأطباء يعالجون أسقامهم، مع العمل بشريعة الله، ومع تصفح الأعمال والعمّال وما ينبغى أن يكونوا عليه من العون فى سياسة أمير المؤمنين، ومن قوله فى تضاعيفها (1):
«اعلم أنك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا، وإنما سمّى أهل عملك ورعيتك لأنك راعيهم وقيّمهم تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم وتنفقه فى قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم، فاستعمل عليهم فى كور عملك ذوى الرأى والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل والعلم بالرياسة والعفاف ووسّع عليهم فى الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك، ولا يشغلنّك عنه شاغل، ولا يصرفنّك عنه صارف، فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة فى عملك واحترزت النّصحة من رعيتك وأعنت على الصلاح فدرّت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب فى كورك، فكثر خراجك وتوفرت أموالك وقويت بذلك على ارتباط جندك وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم عن نفسك وكنت محمود السياسة مرضىّ العدل. . واستعمل الحزم فى كل ما أردت، وباشر بعد عون الله بالقوة، وأكثر استخارة ربك فى جميع أمورك وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذى أخرت، واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، فإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فشغلك ذلك حتى تعرض عنه،
(1) تاريخ الطبرى 7/ 160 وما بعدها.
فإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك وأحكمت أمور سلطانك» وشاعت هذه الوصية فى الناس، فكتبوها وتدارسوها، وسمع بها المأمون، فطلبها، ولما قرأها قال ما أبقى طاهر شيئا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأى والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيضة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه وأوصى به. وأمر أن تكتب منها نسخ وترسل إلى جميع العمال فى نواحى الأعمال.
وكان ابنه عبد الله (1) بارع الآداب حسن الشعر، وقد عنى بتأديبه فى صغره، واختلافه إلى حلقات المحدثين والفقهاء، وكانت فيه نزعة قوية إلى الفنون، فلم يكتف بالشعر، بل حذق بجانبه الموسيقى، وروى أبو الفرج أصواتا تؤثر له. وقلده المأمون الأعمال الجليلة، فجلّى فيها، وكان أول ما قلّده الجزيرة والرقة، فقمع المفسدين فيهما، ثم ولاه مصر سنة إحدى عشرة ومائتين فلمّ ما كان بها من شعث ومهّدها ورتب شئونها، حتى إذا انتظمت أمورها غادرها سنة اثنتى عشرة ومائتين مستخلفا عليها عيسى بن يزيد الجلودى. وتوفى أخوه طلحة والى خراسان فولاه المأمون عليها سنة 213 وظلت له ولايتها حتى توفى سنة 230. وكان بحرا فياضا، كما كان كاتبا بارعا، وله أمان طريف (2) كتبه فى ولايته على الجزيرة لنصر بن شبث حين ضيّق عليه وعاذ بالأمان وطلبه، ويقال إنه لم يطلبه إلا بعد أن كتب إليه وقد اعتصم منه بأحد الحصون (3) «اعتصامك بالقلال (4)، قيّد عزمك عن القتال، والتجاؤك إلى الحصون، ليس ينجيك من المنون، ولست بمفلت من أمير المؤمنين فإما فارس مطاعن أو راجل مستأمن». فلما قرأ هذه الرسالة حصره الرعب عن الجواب، فلم يلبث أن طلب الأمان وخرج من حصنه إلى عبد الله بن طاهر مستأمنا صاغرا، فوجّه به إلى بغداد.
ونمضى إلى عصر المعتصم والواثق، وفيه يتألق فى الكتابة البليغة اسم ابن
(1) انظر فى ترجمة عبد الله كتب التاريخ والنجوم الزاهرة 2/ 191 وما بعدها ووفيات الأعيان/327.
(2)
تاريخ الطبرى 7/ 173.
(3)
زهر الآداب 4/ 126.
(4)
القلال: أعالى الجبل.
الزيات وزيرهما، وسنخصه بحديث مفصل فى الفصل التالى، وممن اشتهر ببلاغته حينئذ إبراهيم بن العباس الصولى، وقد عمل فى دواوين المأمون ووزيره الحسن بن سهل، وتولى الأهواز حينا من الزمن وعزله عنها ابن الزيات، فوجّه إليه باستعطافات طريفة، ونحن نؤخر الحديث عنه إلى العصر العباسى الثانى، إذ تولى ديوان الرسائل فيه للمتوكل وكتب عنه كثيرا، مما يجعله أحق بوضعه فيه.
وقد تولى ابن الزيات وزارة المعتصم وعلى ديوان الرسائل عبد الله بن الحسن الأصبهانى ويروى صاحب (1) الأغانى أنه كتب عن المعتصم إلى قائده وواليه على أرمينية خالد ابن يزيد بن مزيد:
«إن المعتصم أمير المؤمنين ينفخ منك فى غير فحم، ويخاطب امرءا غير ذى فهم» .
فقال محمد بن عبد الملك الزيات: هذا كلام ساقط سخيف جعل أمير المؤمنين ينفخ بالزّق كأنه حدّاد. وأبطل الكتاب. ثم كتب محمد بن عبد الملك إلى عبد الله بن طاهر:
«وأنت تجرى أمرك على الأربح فالاربح، والأرجح فالأرجح، لا تسعى بنقصان، ولا تميل برجحان» فقال عبد الله الأصبهانى: الحمد لله! قد أظهر من سخافة اللفظ ما دل على رجوعه إلى صناعته من التجارة (2)، بذكره ربح السلع ورجحان الميزان ونقصان الكيل والخسران من رأس المال. فضحك المعتصم وقال: ما أسرع ما انتصف الأصبهانى من محمد، وحقدها عليه ابن الزيات حتى نكبه».
واستخدم ابن الزيات بعده على ديوان الرسائل الحسن (3) بن وهب، وهو من بيت قديم فى الكتابة إذ خدم أجداده فى دواوين الأمويين، جدّا بعد جد، حتى إذا آلت الخلافة إلى العباسيين توالى أجداده يعملون فى دواوينهم. وقد كتب جده سعيد وأبوه وهب للبرامكة، وعمل وهب فى دواوين الفضل بن سهل
(1) انظر الأغانى 20/ 49.
(2)
يشير إلى حرفة أبيه إذ كان تاجرا بالكرخ.
(3)
انظر فى أخبار الحسن بن وهب وترجمته الفهرست ص 177 وترجمته أخيه سليمان فى ابن خلكان والأغانى 20/ 67.
وأخيه الحسن وتوفّى قبل دخول المأمون بغداد، وعمل ابنه سليمان فى دواوين المأمون. ولا نشك فى أن الحسن أخاه هو الآخر اشتغل فى تلك الدواوين، وعرف ابن الزيات حذقه فى الكتابة فأسند إليه ديوان الرسائل، ونهض به خير نهوض، ويقول ابن النديم:«كان شاعرا مترسلا فصيحا وأحد ظرفاء الكتاب، وله ديوان كتاب رسائله» . وقد عاش شطرا فى العصر العباسى الثانى، ولكنه أبعد عن الديوان منذ نكبة ابن الزيات لأول عصر المتوكل، ولذلك لم نؤخره إلى هذا العصر، فنشاطه الكتابى إنما كان فى وزارة ابن الزيات وعصر المعتصم والواثق. ومع ذلك ليس بين أيدينا رسائل ديوانية له، سوى ما تبادله مع ابن الزيات فى المودة والتزاور والشكر، وهما تارة يتكاتبان شعرا وتارة يتكاتبان نثرا، وله بجانب ذلك بعض رسائل فى التعزية، ونحن نسوق له رسالة فى الشكر لندل بها على مقدار بلاغته وحسن بيانه، وهى تجرى على هذا النمط (1):
ولم نتحدث حتى الآن عن التوقيعات، وهى عبارات موجزة بليغة، تعودّ ملوك الفرس ووزراؤهم أن يوقّعوا بها على ما يقدّم إليهم من تظلمات الأفراد فى الرعية وشكاواهم، وحاكاهم خلفاء بنى العباس ووزراؤهم فى هذا الصنيع، وكانت تشيع فى الناس ويكتبها الكتّاب ويتحفظونها، وقد سموا الشكاوى والظلامات بالقصص لما تحكى من قصة الشاكى وظلامته، وسموها بالرقاع تشبيها لها برقاع الثياب. ودارت فى الكتب الأدبية توقيعات كثيرة أثرت لكل خليفة عباسى وكل وزير خطير، من ذلك توقيع السفاح فى كتاب جماعة من
(1) العقد الفريد 4/ 233.
(2)
الحشاشة: بقية الروح.
بطانته يشكون احتباس أرزاقهم: «من صبر فى الشدة شارك فى النعمة (1)، وتوقيع المنصور على شكوى لأهل الكوفة من عاملهم «كما تكونون يؤمّر عليكم (2)» وتوقيع المهدى لشاعر: «أسرفت فى مديحك فقصّرنا فى حبائك (3)» وتوقيع الرشيد على رسالة لوالى خراسان: «داو جرحك لا يتسع (4)» وتوقيع المأمون على قصة متظلم: «ليس بين الحق والباطل قرابة (5)» .
ولعل وزيرا لم يبرع فى التوقيعات براعة جعفر بن يحيى البرمكى «وكان إذا وقّع نسخت توقيعاته وتدورست بلاغاته» وحكى على بن عيسى بن يزدانيروذ أنه جلس للمظالم فوقّع فى ألف قصة ونيف، ثم أخرجت فعرضت على العمال والقضاة والكتّاب وكتّاب الدواوين فما وجد فيها شئ مكرر ولا شئ يخالف الحق (6)» وقال ابن خلدون:«كان جعفر بن يحيى يوقّع فى القصص بين يدى الرشيد ويرمى بالقصة إلى صاحبها، فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء فى تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفنونها، حتى قيل إنها كانت تباع كل قصة منها بدينار (7)» ومما رواه له الجهشيارى من توقيعاته (8) توقيعه على رقعة لمجوس متظلم من حبسه: «العدوان أوبقه، والتوبة تطلقه» وتوقيعه على كتاب لعلى بن عيسى ابن ماهان يعتذر فيه عن أشياء بلغته عنه: «حبّست إلينا الوفاء الذى أبغضته، وبغّض الغدر الذى أحببته، فما جزاء الأيام أن تحسن ظنك بها وقد رأيت غدراتها ورقعاتها عيانا وإخبارا» . واشتهر الفضل بن سهل ذو الرياستين بتوقيعاته البليغة المحكمة، فمن ذلك توقيعه على قصة مظلوم «كفى بالله للمظلوم ناصرا (9)» وتوقيعه على كتاب لتميم بن خزيمة بن خازم:«الأمور بتمامها والأعمال بخواتيمها والصنائع باستدامتها، وإلى الغاية جرى الجواد، فهناك كشفت الخبرة قناع الشك فحمد السابق وذمّ الساقط (10)» . وكثيرا ما كانوا يوقعون بآية من الذكر الحكيم أو ببيت من الشعر أو بمثل من الأمثال.
(1) العقد الفريد 4/ 211.
(2)
العقد الفريد 4/ 212.
(3)
العقد الفريد 4/ 213.
(4)
العقد الفريد 4/ 213.
(5)
العقد الفريد 4/ 215.
(6)
الجهشيارى ص 204.
(7)
مقدمة ابن خلدون ص 173.
(8)
الجهشيارى ص 205.
(9)
الجهشيارى ص 205.
(10)
الجهشيارى ص 307.