الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السّابع
طوائف من الشعراء
1 - شعراء الغزل
كثر الغزل فى هذا العصر كثرة مفرطة، حتى ليمكن أن يقال إن جميع الشعراء عنوا بالنظم فيه، وهى عناية أعدّته لكى يزدهر ازدهارا واسعا، إذ تداوله أفذاذ الشعراء، وصاغوه بعقلياتهم الخصبة الحديثة وما أوتوه من قدرة على التوليد فى المعانى القديمة واستنباط كثير من الخواطر والأخيلة الجديدة. وقد مضوا يتسعون بكل صوره القديمة حتى النسيب ووصف الأطلال والديار الدارسة، فقد استبقوا هذا الوصف، وحاولوا أن يبثوا فيه طوابع فكرهم الدقيق وإحساسهم الحضرى المرهف، على نحو ما مرّ بنا فى الفصل الرابع.
وقد مضى الغزل يجرى فى نفس التيارين اللذين اندفع فيهما منذ عصر بنى أمية، ونقصد تيارى الغزل الصريح والغزل العفيف، وكان التيار الأول أكثر حدة وعنفا، بسبب انتشار دور النخاسة وما كانت تموج به من إماء وقيان روميات وخراسانيات وغير خراسانيات وروميات، إماء وقيان من كل جنس، وقد أخذن يتسلطن على الحياة العباسية ويشعن فيها كثيرا من صور التحلل الخلقى، مستبدات بمكان الحرائر القديم من الشعراء. ونفس الشعراء كانت كثرتهم من الموالى الذين نبذوا التقاليد الخلقية الإسلامية والعربية، إما بعامل الزندقة والشعوبية، وإما بعامل الترف وما ينتشر معه من فساد الأخلاق. وشتان بين الغزل للصريح فى هذا العصر عند مطيع ابن إياس وأبى نواس وأضرابهما وبينه فى العصر الأموى عند عمر بن أبى ربيعة والأحوص وأمثالهما، إذ كانوا يحتفظون بغير قليل من الوقار والحشمة، أما مطيع وأبو نواس وبشار ونظراؤهم العباسيون فقد خرجوا عن كل حشمة ووقار خروجا؟ ؟ ؟ ، يكون ثورة، بل هو ثورة حقيقية، فهم يتحدثون فى غزلهم عن غرائزهم
النوعية فى غير تعفف ولا حياء ولا كرامة، وقد استحدث كثيرون منهم-باستثناء بشار-ضربا جديدا من هذا الغزل الصريح، وهو الغزل بالغلمان، وهو يصور ما انتهت إليه حياتهم من الفساد، لكثرة الرقيق، وقد أطلقوا لأنفسهم فيه العنان لا يرعوون ولا يستحون.
وكان يجرى بجانب هذا التيار تيار الغزل العفيف، ولكن مجراه أخذ يضيق ضيقا شديدا بالقياس إلى عصر بنى أمية إذ كان يتسع حتى يشمل بوادى الحجاز وحتى تجرى أسراب منه فى مكة عند أمثال عبد الرحمن الجشمىّ الملقب بالقسّ لنسكه وفى المدينة عند أمثال عروة بن أذينة. ومن أعلامه فى البوادى قيس بن ذريح وجميل بن معمر العذرى، حيث نجد الحب النقى الطاهر الذى يملك على الشاعر كل عواطفه وأهوائه، حتى ليصبح ضربا من الهيام القوى الحادّ الذى يدفع الشاعر إلى التغنى بمحبوبته فى شعر عذب لا يخدش حياء، شعر يموج بالحرمان وحرارة العشق وشدة الظمأ الذى لا ينتهى. وطبيعى أن يضعف هذا التيار فى العصر العباسى الأول الذى قلما عرف فيه الشعراء العفة والطهر، ومع ذلك فقد بقيت له بقية عند العباس بن الأحنف وعند بعض الشعراء الذين هاموا ببعض الجوارى ثم بعن وضرب بينهم وبينهن حجاب صفيق، فعاشوا يتعذبون بالحب، وعاش الحب فى قلوبهم قويّا حادّا، ومن خير من يصور ذلك على بن أديم الكوفى الذى أحب جارية تسمى «منهلة» منذ صغرها، حتى إذا أدركت باعها أهلها لبعض الهاشميين، فطار لبه، وبكاها بكاء حارّا بمثل قوله (1):
صاحوا الرحيل وحثّنى صحبى
…
قالوا الرواح فطيّروا لبّى
لا صبر لى عند الفراق على
…
فقد الحبيب ولوعة الحبّ
ويقول أبو الفرج: «له حديث طويل معها فى كتاب مفرد مشهور صنعه أهل الكوفة لهما، فيه ذكر قصصهما وقتا وقتا وما قال فيها من الأشعار، وأمرهما متعالم عند العامة» وفيها يقول (2):
يا نصب عينى لا أرى
…
حيث التفتّ سواك شيّا
(1) أغانى (طبع دار الكتب) 15/ 267.
(2)
أغانى 15/ 265.
إنى لميت إن صدد
…
ت وإن وصلت رجعت حيّا
وعلى شاكلته محمد بن أمية، وكان يهوى جارية تسمى خداع رآها تغنّى ببعض دور النخاسة، فشغف بها شغفا شديدا واتصلت زياراته لها، وبادلته حبّا بحب، ولقيته، ولكنها ظلت تدافعه عن نفسها، وكثيرا ما كانت تعده الزيارة ولا تزوره. وهو يقول لها دائما إنى أحبك إنى أنتظرك، من مثل قوله (1):
ربّ وعد منك لا أنساه لى
…
أوجب الشكر وإن لم تفعلى
أقطع الدهر بظنّ حسن
…
وأجلّى غمرة ما تنجلى
كلما أمّلت يوما صالحا
…
عرض المكروه لى فى أملى
وأرى الأيام لا تدنى الذى
…
أرتجى منك وتدنى أجلى
وبينما هو يمى نفسه باقتطاف ثمرة الحب اشتراها بعض ولد المهدى. فحجبت عنه وانقطع ما بينهما إلا مكاتبة ومراسلة. واستقر حبها فى قلبه وملك عليه كل شئ من أمره، فمضى يتغبى بها طويلا، وكان خلاّنه يلومونه ويقولون له: إنها تبخل عليك بودّها، فدعها إلى غيرها، فينشدهم مثل قوله (2):
أأن حجبت عنى أجود لغيرها
…
بودّى وهل يغرى المحبّ سوى البخل
أسرّ بأن قالوا تضنّ بودّها
…
عليك ومن ذا سرّ بالبخل من قبلى
وبون بعيد بين حرارة هذا الغزل العفيف والغزل المماثل له فى عصر بنى أمية الذى نقرؤه عند قيس بن ذريح وأضرابه، فإن غزلهم يصور حبّا جامحا، وكأن فى صدورهم شواظ نار، فهم يألمون كما لم يألم أحد، ألما تعجز النفوس العادية عن احتماله، ألما يعصف بهم كالسيل المندفع الذى لا يترك لهم رويّة ولا أناة، إنما يترك لهم الحزن الممض والدموع الغزار. ومن أجل ذلك نقول: إن الغزل العذرى فى العصر العباسى الأول قد أخذ يضيق مجراه. لأنه لا يبلغ من التأثير فى النفس والقلب ما يبلغه الغزل العفيف الأموى، وكأنما أفسدت الحضارة هذا الفن، فإذا هو يجرى فيه التكلف ولا يكاد يؤثر فى العاطفة والشعور إلا قليلا.
على أنه من الخطأ أن نصع حدّا فاصلا فى هذا العصريين الغزل العفيف والغزل
(1) أغانى 12/ 144.
(2)
أغانى 12/ 153.
الصريح فإنه تلقانا عند المصرحين الذين لا يحتشمون ولا يتوقّرون، والذين يعبرون عن الحب الجسدى حب الغرائز الذى لا يخلو من الفسوق والإثم أسراب مختلفة من الحب المبرّح تجعلهم يقتربون أحيانا من أصحاب الحب العفيف، واقرأ فى بشار مثلا فستجد عنده كثيرا من الغزل الآثم، وستجد بجانبه غزلا، فيه لوعة. وفيه ألم وسهاد، وفيه صبوة يسودها غير قليل من الاحتشام، على نحو ما يلقانا فى أشعاره لصاحبته عبدة، ومثله أبو نواس فى أشعاره لجنان جارية الثقفين، وقد ظلت تحلق بعيدا عنه وراء السحب. والحب يضنيه ويبرّح به، ونضرب مثلا من شعر هؤلاء الخليعين الماجنين يصور كيف كان الحب أحيانا يستأثر بكل ما فى قلوبهم من هوى وعاطفة، وكيف كانوا يتعمقون فى دقائقه تعمقا يفضى إلى كثير من السعة والجمال، وهو هذه القطعة التى أنشدها صاحب الأغانى لآدم حفيد عمر ابن عبد العزيز، وكان خليعا ماجنا فى أول أمره، وفيها يقول لصاحبة له (1):
أحبّك حبّين: لى واحد
…
وآخر أنّك أهل لذاك
فأما الذى هو حبّ الطّباع
…
فشئ خصصت به عن سواك
وأما الذى هو حبّ الجمال
…
فلست أرى ذاك حتى أراك
ولست أمنّ بهذا عليك
…
لك المنّ فى ذا وهذا وذاك
وقد أدخلت رابعة العدوية تعديلا قليلا على هذه القطعة، فأصبحت أمّا للشعر الصوفى كله على نحو ما سنرى فى حديثنا عن شعراء الزهد. وفى الأغانى حشد هائل من أشعار عباسية تتخلص من المادة وأدرانها وتصور جحيم الحب ونعيمه، كانت تجرى على ألسنة المجان وأشباههم.
ومرّ بنا فى الفصل الرابع أن شعراء هذا العصر استخرجوا كثيرا من دفائن المعانى فى غزلهم، فقد كان عقلهم خصبا يقتدر على تشعيب المعانى وتحليلها واستنباط كثير من دقائقها. وكثير من غزلهم لا يصور ذلك فحسب، بل يصور أيضا حسهم المترف الدقيق وشعورهم الرقيق المرهف، وقد صورنا ذلك من بعض الوجوه فى حديثنا عن أعلامهم فى الفصل الخامس. وظاهرة ثالثة هى كثرة العبارات اللينة
(1) أغانى 15/ 289.
فى غزلهم، وهو شئ طبيعى مردّه إلى حياتهم المتحضرة وأنهم كانوا يتجهون بأكثر غزلهم إلى الجوارى المغنيات، ولم يكنّ متبدّيات إنما كن متحضرات، فكانوا يختارون لهن اللفظ السهل البسيط الذى يلمس القلوب لمسا بدون أى حجاب. وظاهرة رابعة هى شيوع الأوزان المجزوءة والقصيرة فى هذا الغزل، وقد أوضحنا فى كتاباتنا عن عصر بنى أمية نشوء هذه الظاهرة فى شعر الغزل الأموى بسبب معانقته لنظرية الغناء التى استحدثها الموالى الأجانب، وكيف أن هذه النظرية دفعت الشعراء دفعا إلى الملاءمة الدقيقة بين غزلهم وأصوات الغناء، ووضعه بحيث يؤدّى ما يريدونه من مدّ أصواتهم بالألحان والهمس بها، وهى غاية أحدثت فى الأوزان القديمة كثيرا من التجزئة وكثيرا من صور الزحافات، وما زالت هذه الصور تتسع حتى استكشف الوليد بن يزيد وزن المجتث.
وقد بسطنا فى كتابنا «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى» كيف أن هذه الظاهرة نمت فى غزل العباسيين بنمو الغناء، وكيف دفعت إلى ظهور أوزان جديدة، هى أوزان المقتضب والمضارع والمتدارك. وفى الفصل الرابع من هذا الكتاب تصوير موجز لذلك. وينبغى أن ننبّه هنا إلى أن الغزل هو الذى دفع الشعراء دفعا إلى التحوير فى الأوزان القديمة تحويرا نفذوا منه إلى كثير من صور التجديد فيها وفى القوافى.
وظاهرة خامسة تقترن بالجوارى اللائى كان ينظم فيهن الشعراء، وذلك أن كثيرا منهن كن مثقفات يحسنّ صوغ الشعر ونظمه، فكان الشعراء يراسلونهن، وكانوا أحيانا يفضون إليهن ويتطارحون معهن شعر الغزل. ومن أشهرهن فى هذا الباب عريب جارية المأمون ومتيم جارية على بن هشام ودنانير جارية البرامكة وقد عقد ابن المعتز فى آخر كتابه «طبقات الشعراء» فصولا لطائفة منهن، على رأسهن عنان جارية الناطفى، ويقول ابن الجراح:«كانت تجلس للشعراء ويجتمعون إليها، فيلقى عليها كل رجل منهم الأبيات الغريبة والمعانى النادرة فتجيبه بديها (1)» ويروى بعض محاوراتها مع أبى نواس، من ذلك أنه دخل عليها فوجد الناطفى مولاها قد ضربها وهى تبكى فقال:
(1) كتاب الورقة لابن الجراح ص 39.