المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌خاتمة تحدثت فى هذا الجزء الخاص بتاريخ الأدب العربى فى العصر - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٣

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الأول

- ‌الفصل الأوّلالحياة السياسية

- ‌1 - الثورة العباسية

- ‌2 - بناء بغداد ثم سامرّاء

- ‌3 - النظم السياسية والإدارية

- ‌4 - العلويون والخوارج

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثانىالحياة الاجتماعية

- ‌1 - الحضارة والثراء والترف

- ‌2 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌3 - المجون

- ‌4 - الشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد

- ‌الفصل الثالثالحياة العقلية

- ‌1 - الامتزاج الجنسى واللغوى والثقافى

- ‌2 - الحركة العلمية

- ‌3 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة

- ‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ

- ‌5 - العلوم الدينية وعلم الكلام والاعتزال

- ‌الفصل الرابعازدهار الشعر

- ‌1 - ملكات الشعراء اللغوية

- ‌2 - طوابع عقلية دقيقة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - موضوعات جديدة

- ‌[5 - ]التجديد فى الأوزان والقوافى

- ‌الفصل الخامسأعلام الشعراء

- ‌1 - بشار

- ‌2 - أبو نواس

- ‌3 - أبو العتاهية

- ‌5 - أبو تمام

- ‌الفصل السادسشعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الدعوة العباسية

- ‌ أبو دلامة

- ‌[2 - ]شعراء الشيعة

- ‌ السيد الحميرى

- ‌دعبل

- ‌ ديك الجن

- ‌3 - شعراء البرامكة

- ‌ أبان بن عبد الحميد اللاحقى

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌أبو الشيّص

- ‌ على بن جبلة

- ‌الخريمىّ

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ أبو عيينة المهلّبى

- ‌الفصل السّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ العباس بن الأحنف

- ‌ربيعة الرّقى

- ‌2 - شعراء المجون والزندقة

- ‌ حماد عجرد

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌ عبد الله بن المبارك

- ‌4 - شعراء الاعتزال

- ‌ العتابى

- ‌ بشر بن المعتمر

- ‌النظام

- ‌5 - شعراء النزعات الشعبية

- ‌ أبو الشمقمق

- ‌الفصل الثامنتطور النثر وفنونه

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطب والوعظ والقصص

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية والعهود والوصايا والتوقيعات

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التاسعأعلام الكتّاب

- ‌خاتمة

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار

الفصل: ‌ ‌خاتمة تحدثت فى هذا الجزء الخاص بتاريخ الأدب العربى فى العصر

‌خاتمة

تحدثت فى هذا الجزء الخاص بتاريخ الأدب العربى فى العصر العباسى الأول عن الحياة السياسية وما اتصل بها من قيام الدولة العباسية وبناء بغداد وسامرّاء واتخاذهما حاضرتين متعاقبتين، كما تحدثت عن غلبة الطوابع الإيرانية على نظم الحكم وما ارتبط بها من دواوين ووزراء وتقاليد مختلفة. وقد مضى العلويون يقاومون أبناء عمهم العباسيين سرّا وجهرا، بينما ضعف شأن الخوارج ضعفا شديدا.

ويعدّ أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقى لدولة بنى العباس، ويخلفه المهدى فيقضى على ثورات الخرمية وترتعد فرائص البيزنطيين أمام جيوشه فى غير موقعة.

ويعقبه ابنه الهادى لمدة قصيرة. ويتولى مقاليد الخلافة بعده أخوه هرون الرشيد، وعصره يعد أزهى عصور الخلافة العباسية، بما شاع فيه من رخاء، وقد محقت جيوشه الخوارج محقا وسحقت البيزنطيين سحقا. ويخلفه ابنه الأمين لسنوات قصيرة، ويتولى بعده المأمون، ويقود حركة عقلية واسعة ينتصر فيها للمعتزلة وقولهم بأن القرآن مخلوق، بينما يقضى قواده على كثير من الثورات، ويقلم أظافر البيزنطيين مرارا، ويخلفه أخوه المعتصم فيقضى على ثورة بابك الخرمى، ويدق أعناق البيزنطيين دقّا فى عمورية وغير عمورية، ويعقبه ابنه الواثق، وبه يختم العصر العباسى الأول.

وكانت بغداد وسامرّاء تحفل بالقصور الباذخة وتكتظ بالثراء، وصبّت سيول منه فى حجور المغنين والشعراء والعلماء، مما أعدّ لنهضة واسعة فى الفنون والآداب والعلوم، وشاع الترف فى الملابس والمطاعم والمشارب كما شاعت أدوات مختلفة للترويح عن النفوس، وكثر الرقيق والجوارى وشغف الناس بالغناء وبضروب مختلفة من الظّرف وتورط كثيرون فى الخمر والمجون. وكان انتصار العنصر الفارسى على العنصر العربى فى الثورة العباسية سببا فى أن تبرز موجة حادة من الشعوبية، ورافقتها موجة حادة من الزندقة، جعلت المهدى ينصب ديوانا لتعقب الزنادقة ومحاكمتهم، ويبعث العلماء للرد على بهتانهم. وتغنّى كثيرون بالزهد ورفض

ص: 565

الدنيا ومتاعها الزائل، وتعالت أصوات الوعّاظ والقصّاص وأخذت تظهر مقدمات التصوف.

وقد حدث امتزاج جنسى ولغوى وثقافى واسع بين الشعب العربى والشعوب المستعربة، إذ امتزجت به فى السكنى والتزاوج وفى الأخلاق والعادات، واتخذت لغته لسانا لها نترجم به عن ضميرها ومشاعرها وذات نفسها، وسرعان ما استوعبت تلك اللغة الثقافات التى كانت مبثوثة فى هذا المحيط الجديد سواء أكانت هندية أم فارسية أم يونانية أم دينية خالصة. ونشطت الحركة العلمية نشاطا واسعا، فشاع التعليم فى الكتاتيب والمساجد وكثر العلماء فى كل فن، وانتشر اقتناء الكتب والمكتبات الخاصة، وترجمت علوم الأوائل إلى العربية من هندية وفارسية ويونانية، وأنشأ الرشيد للترجمة دارا كبيرة هى دار الحكمة وألحق بها المأمون مرصدا فلكيّا ضخما. وأخذت توضع منذ أوائل العصر العلوم اللغوية: علوم النحو والتصريف والعروض ووضع أول معجم للعربية، وهو معجم العين المشهور.

ونمت المصنفات التاريخية. وصّنفت فى الحديث النبوى كتب جامعة. وكثرت المصنفات فى تفسير القرآن الكريم. ووضعت مذاهب الفقه الأساسية: مذهب أبى حنيفة ومذهب مالك ومذهب الشافعى ومذهب ابن حنبل. وأحكم المتكلمون أصولهم العقيدية وخاصة المعتزلة الذين تعمقوا فى المباحث الفلسفية.

وازدهر الشعر، وحذق الشعراء الموالى لغته، واستوعبوا مقوّماتها وخصائصها نافذين إلى أسلوب مولّد جديد، اعتمدوا فيه على الألفاظ الواسطة بين لغة العامة المبتذلة ولغة البدو الجافية، أسلوب يموج بالجزالة والرصانة حينا، وحينا بالعذوبة والنعومة. واصطبغ شعرهم ومعانيه بحكم رقيهم الفكرى بطوابع عقلية دقيقة، وقد مكن لها المعتزلة بمباحثهم العميقة وطرقهم فى الاستدلال وتوليدات المعانى وتفريعاتها المتشعبة. وظل الشعراء ينظمون فى موضوعات الشعر العربى القديمة متطورين بها قليلا أو كثيرا، وبذلك حافظوا على شخصيته الموروثة، مع الوصل بينه وبين حياتهم الاجتماعية والعقلية والحضارية. وقد اضطرم المديح اضطراما بما صوروا فيه من المثالية الخلقية والبطولات العربية والأحداث الكبيرة، وبما أضافوا إلى عناصره البدوية القديمة من عناصر حياتهم الحضارية وملكاتهم العقلية وتطور

ص: 566

الهجاء بما أشاعوا فيه من روح الاستخفاف والسخرية المريرة والفكاهة السامّة.

وتحولوا بالفخر القبلى إلى فخر شعوبى محتدم. واتسعوا بالرثاء. فرئوا المدن المنكوبة والحيوان والطير. وتفننوا فى الغزل بنوعيه الإباحى والعفيف. وتبذلوا فى شعر المجون والخمر. ونظموا كثيرا فى الزهد. ونفذوا إلى موضوعات جديدة، إذ أفردوا قصائد لتصوير بعض المثل الخلقية أو تصوير الرياض ومظاهر الحضارة العباسية أو بكاء البصر والتفجع على فقده أو وصف بعض الغرائز كغريزة الغيرة أو وصف حياة الشظف والبؤس والمسغبة أو نظم بعض الفكاهات والنوادر. واستحدثوا فن الشعر التعليمى ونظموا فيه كثيرا من التاريخ والقصص والمعارف والنحل المختلفة.

وأكثروا من النظم على الأوزان القصيرة والمجزوءة ونفذوا إلى اكتشاف أوزان المضارع والمقتضب والمتدارك أو الخبب، وإلى أوزان أخرى لم يستخدمها العرب قبلهم، غير أنه لم يكتب لها الشيوع لنقص أنغامها بالقياس إلى الأوزان الموروثة. وعرفوا وزنا شعبيّا هو وزن المواليا. وجددوا تجديدا واسعا فى القوافى ونمط القصيدة، فاستحدثوا المزدوجات والرباعيات والمسمطات. ونظموا صورة تعدّ أمّا للموشحات مما يدل على أنها ترجع إلى أصول سياسية.

وأعلام الشعراء فى العصر بشار وأبو نواس وأبو العتاهية ومسلم بن الوليد وأبو تمام، فأما بشار فكان فارسى الأب رومى الأم، وكان أكمه، وولد على الرّقّ، ونشأ فى البصرة نشأة عربية خالصة، فحذق اللغة وبرع فى الشعر، وكان يجالس المتكلمين وأصحاب المقالات الدينية، فاضطرب بين هذه المقالات وصار إلى الشك ثم إلى الزندقة، واستظهر شعوبية آثمة. وهو يعدّ زعيم الشعراء المحدثين بما رسم لهم من التمسك بأصول الشعر التقليدية والملاءمة بينها وبين العصر ومجتمعه وحضارته وثقافته. وقد أكثر من الفخر الشعوبى الذميم، وأثر فقده لبصره واضح فى غزله فهو فى أكثره غزل حسى يصدر فيه عن الغريزة النوعية صدورا يزرى بمروءة الرجل الحر الكريم مما جعل الوعاظ يذمونه ذمّا شديدا.

وأكثر أيضا من وصف مجالس الخمر والغناء دون رادع من خلق أو دين إذ كان زنديقا وقتل على الزندقة. وكان أبو نواس فارسى الأب والأم، ونشأ مثل بشار فى البصرة، وتحول عنها إلى الكوفة مع شيطان كبير نفث فيه من غيّه ومجونه

ص: 567

وإثمه هو والبة، ورحل إلى البادية يتزود من ينابيع اللغة الأصيلة وعاد إلى البصرة ولزم مجالس اللغويين والمتكلمين والقصّاص والمحدّثين وعبّ من الثقافات الأجنبية عبّا. ونزل بغداد وامتدح الرشيد والبرامكة، ورحل إلى مصر وعاد إلى بغداد فاتصل بالأمين. وشعره يجرى فى اتجاهين: اتجاه تقليدى فى المديح والرثاء واتجاه تجديدى فى الهجاء والغزل والمجون والطّرديات، وهو أكثر شعراء عصره مجونا وإفحاشا فيه. ومع إكثاره من الجهر بالفسق والمعصية يردد اعتماده على عفو الله ومغفرته، وهو-غير منازع-شاعر الخمرية على توالى العصور العربية بما ابتكر فى صورها ومعانيها وما أشاع فيها من حيوية دافقة. أما أبو العتاهية فكان نبطيّا ونشأ بالكوفة لأب يشتغل بالحجامة، وكان سيئ السيرة فى صباه إذ انتظم فى سلك المخنّثين، وعمل مع أخ له فى بيع الجرار وصنعها، واختلف إلى بيئات الرواة واللغويين والعلماء والمتكلمين، ولم يلبث أن أتقن العربية وبرع فى الشعر فرحل إلى بغداد ومدح المهدى وتعلق بجارية من جوارى قصره تسمى عتبة ونظم فيها غزلا كثيرا، ومدح ابنيه الهادى والرشيد، ويقبل على الخمر والمجون مفرطا فيهما.

ويحدث انقلاب فى حياته، فيتزهد ويلبس الصوف، ويظل متصلا بالخلفاء والحسن بن سهل وزير المأمون حتى يبرح دنياه. وأشعاره تمثل حياته وما حدث بها من انقلاب فهو فى جانب منها يمدح ويتغزل ويصف الخمر، وفى جانب يتزهد وينثر الحكم مع التفنن فى المراثى، وتشيع فى أساليبه سهولة وليونة مفرطة.

وكان يعاصره مسلم بن الوليد، وهو أيضا ينتظم فى عداد الموالى، وقد نشأ بالكوفة ثم انتقل إلى البصرة، وأكبّ على الشعر القديم وشعر بشار خاصة، حتى إذا لمع اسمه بين الشعراء المجيدين رحل إلى بغداد فمدح الرشيد وقواد الدولة ووزراءها وعمّالها وولاّه بأخرة الفضل بن سهل وزير المأمون بريد جرجان فظلّ بها حتى وفاته.

واشتهر بتجويده لشعره والتدقيق فى معافيه والعناية برصانة اللفظ وجزالته ونصاعته والإكثار من ألوان البديع. وأبو تمام الطائى خاتمة هؤلاء الأعلام. وقد ولد بجاسم، وهى قرية من قرى دمشق، وتفتحت موهبته الشعرية مبكرة، فرحل إلى حمص، ثم إلى الفسطاط، وعاد إلى الشام وتردّد بينها وبين الرّقة والموصل، ثم هبط بغداد، ورحل عنها إلى خراسان، ثم عاد إليها، وتحوّل عنها مع المعتصم إلى سرّ من رأى» ولزم بابه وأبواب وزرائه وكبار رجال الدولة، وظل وثيق الصلة بابنه

ص: 568

الواثق ووزيره ابن الزيات وكاتبه الحسن بن وهب، وولاّه الأخير بريد الموصل وسرعان ما وافته منيته. وشعره يفيض بثقافات عصره العربية والأجنبية وخاصة الثقافة الفلسفية والكلامية، واشتهر بأنه صاحب مذهب جديد، يقوم على التدقيق فى المعانى والأخيلة والتعمق فيها تعمقا قد يفضى إلى الغموض، كما يقوم على استخدام ألوان البديع، حتى لا يكاد يخلو منها بيت من أبياته، بل حتى لتتوهج فيها توهجا.

وكثر حينئذ شعراء السياسة والمديج والهجاء، فكان هناك شعراء الدعوة العباسية الذين ينافحون عن العباسيين زاعمين أنهم أصحاب الخلافة الشرعيون، ومن أشهرهم أبو دلامة نديم السفاح وغيره من الخلفاء، ومروان بن أبى حفصة وسلم الخاسر اللذان وجها شعرهما نحو الدفاع عن حق العباسيين فى الخلافة وإنكار حق العلويين فيها والرد عليهم ردّا عنيفا. وكان شعراء الشيعة يدافعون بدورهم عن حق العلويين فى الخلافة، يجهرون بذلك كلما سنحت لهم الفرصة ويخفونه كلما أشفقوا على أنفسهم من العباسيين، ومن أشهرهم السيد الحميرى وكان كيسانى العقيدة لا يرى بأسا فى مديح الخلفاء العباسيين، كما كان لا يخفى حبه للعلويين، وأكثر من تغنيه بمناقب على بن أبى طالب وذمّ قاتلى الحسين وثلبهم.

ومثله منصور النمرى الشيعى الإمامى، وكان يمدح العباسيين ويأخذ جوائزهم ويتفجع على قتلى آل البيت وحقوقهم المهدرة فى الخلافة. ومثلهما دعبل، وكان يعلن تشيعه إعلانا صريحا، وتشكك أبو العلاء المعرى فى صدقه وقال إنه كان يريد التكسب بإعلان تشيعه. وكان ديك الجن مخلصا فى تشيعه، غير أن ما أثر من شعره الشيعى قليل. وكان البرامكة بحورا فياضة، فنظم الشعراء فيهم كثيرا من المدائح، وفى مقدمتهم أبان بن عبد الحميد اللاحقى مترجم كليلة ودمنة شعرا، وأشجع بن عمرو السّلمى، وله قصائد طنانة فيهم وفى انتصارات الرشيد على نقفور إمبراطور بيزنطة. وكان كثير من الوزراء والقواد والولاة يجزلون العطاء للشعراء. فدبّجوا مدائح كثيرة فيهم، على نحو ما يلقانا عند أبى الشيص شاعر عقبة بن جعفر الخزاعى والى الرّقّة بالموصل، وعبد الله بن أيوب التّيمى شاعر يزيد بن مزيد قائد الرشيد، وعلى بن جبلة شاعر أبى دلف العجلى قائد

ص: 569

المأمون، والخريمى شاعر عثمان بن خريم المرّى والى أرمينية. وبرع فى الهجاء شعراء كثيرون من أمثال أبى عيينة المهلبى وكان يكثر فى هجائه من الإقذاع الشديد، وعلى شاكلته عبد الصمد بن المعذّل وكان هجاء شكسا حديد اللسان.

وتكاثر شعراء الغزل بنوعيه النقى العفيف والمادى الصريح، وكان النوع الثانى أكثر شيوعا لكثرة الجوارى والإماء، وخير من يصور النوع الأول العباس بن الأحنف الذى عاش يتغنى بالغزل العذرى الطاهر. أما النوع الثانى فخير من يصوره ربيعة الرّقى وغزله يسيل عذوبة. وكان شعراء المجون والزندقة كثيرين كثرة مفرطة لما شاع من فساد الأخلاق وكثرة النحل والمقالات والمذاهب الدينية والفلسفية ومن أشهرهم حماد عجرد، وكان يخلط مجونه بزندقة أشربتها روحه. ومنهم مطيع ابن إياس وهو من أكثر الشعراء مجاهرة بالفسق والعصيان. ومنهم صالح بن عبد القدوس ولم يكن ماجنا، ولكنه كان زنديقا كبيرا، إذ كان يعتنق عقيدة الثنوية المانوية مجاهرا بها، ومجادلا مناظرا إلى أن أمر الرشيد بضرب عنقه، وجمهور شعره أمثال وحكم. وكان غير شاعر يأخذ نفسه بحياة زاهدة ناسكة على نحو ما نجد عند عبد الله بن المبارك ودعوته إلى الجهاد فى سبيل الله وإلى التقوى واجتناب الآثام، وعند محمد بن كناسة الكوفى وتغنيه طويلا برفض الدنيا ومتاعها الزائل، وعند محمود الوراق ودعوته إلى طاعة الله والرضا بقضائه والتوكل عليه والقناعة بكفاف العيش مع التفكير الدائم فى الموت والفناء. وشارك المعتزلة فى الشعر وفنونه، وكان منهم من ينظم فى نفس الأغراض التى ينظم فيها الشعراء من حوله مثل العتّانى الذى يروع قارئه بمعانيه الطريفة، ومثل النظّام الذى يصبغ أشعاره فى الغزل وغير الغزل بصبغة كلامية واضحة. ومنهم من كان ينظم فى حوار أهل الملل والنحل مثل بشر بن المعتمر وكان يكثر من الحديث عن عجائب الله فى خلفه. وصوّر نفر من الشعراء فى أشعارهم النزعات الشعبية صادرين عن روح العامة وأحاسيسها، وخير من يمثلهم أبو الشمقمق وكان يستخدم فى شعره أحيانا ألفاظ العامة، مجسما فقره وبؤسه ومسغبته وأسماله البالية، وكثيرا ما يعرض ذلك فى صورة فكهة.

وتطور النثر فى هذا العصر وتنوّع وكثرت فنونه بما ملأ أوانيه اللفظية من

ص: 570

الثقافات اليونانية والفارسية والهندية وما استوعبه من صنوف العلوم وذخائر الفلسفة، وقد انبرى المتكلمون معتزلة وغير معتزلة يبحثون فى الأسس التى تقوم عليها براعة القول وبلاغته، واقتبسوا كثيرا مما سجلته الأمم القديمة من أصول البيان، وعنى كتّاب الدواوين هم الآخرون بفصاحة الكلام وبلاغة القول، مما جعلهم يتحولون بدواوينهم إلى ما يشبه مدارس بيانية كبيرة. وحقّا ضعف شأن الخطابة السياسية والحفلية، غير أن الخطابة الدينية وما اتصل بها من وعظ ووعّاظ وقصص وقصّاص ازدهرت ازدهارا عظيما، كما ازدهرت المناظرات وخاصة فى بيئة المعتزلة إذ كانوا يكثرون من حوار زعماء الفرق والنّحل فى المساجد ومجالس البرامكة ومجالس المأمون، مثيرين ما لا يحصى من دقائق المعانى وخفيات الأدلة، وبلغ من إتقانهم للجدل وقدرتهم على الإقناع وإفحام الخصوم أن نفذوا كثيرا-بقصد إظهار المهارة الجدلية-إلى تقبيح الأشياء المستحسنة وتحسين الأشياء المستقبحة، مما هيأ لظهور كتب المحاسن والمساوى. واتسع نقل الآداب الفارسية وكل ما اتصل بها من عهود ملوك الفرس ووزرائهم ورسائلهم إلى العمال ووصاياهم وتوقيعاتهم، وكان لذلك أثر بعيد فيما كان يصدر عن الخلفاء والوزراء ويدبّجه الكتاب من رسائل وعهود ووصايا وتوقيعات. وكان الكتّاب يحرصون فى هذا النبر الديوانى الرسمى على بلاغة القول والتفنن فى الأفكار والمعانى، ويلقانا فى عصر كل خليفة كتّاب ذاع صيتهم وطارت شهرتهم كل مطار. وازدهرت حينئذ الرسائل الإخوانية، إذ تناول كثير من الكتاب الأغراض التى كان ينظم فيها الشعراء من ثناء وشكر وهجاء وذم وعتاب واعتذار واستعطاف وتهنئة وتعزية، وأخذوا يحبّرون فيها رسائل شخصية مفتنّين فى أساليبها البيانية وما يصوّرون بها من عواطفهم وأهوائهم. ونفذ نفر منهم إلى كتابة رسائل أدبية طريفة تتناول النفس الإنسانية وعواطفها وسلوكها وحياتها العاملة وما يهديها سبيل الرشاد. وأخذ بعض الكتّاب البارعين يحاكون ما نقله ابن المقفع وغيره إلى العربية من القصص الحيوانى والرسائل السياسية الفارسية.

وأعلام الكتاب فى العصر ابن المقفع وسهل بن هرون وأحمد بن يوسف وعمرو بن مسعدة وابن الزيات. أما ابن المقفع فكان فارسى الأصل ونشأ بالبصرة

ص: 571

فى ولاء آل الأهتم، وهم بيت فصاحة وخطابة، فحذق العربية، وعمل فى دواوين العراق آخر زمن بنى أمية، ثم فى دواوين سليمان بن على وعيسى بن على عمى المنصور، وكان لا يزال مجوسيّا فأسلم على يد الأخير. وأغرى به المنصور سفيان بن معاوية والى البصرة، فقتله. وقد اشتهر بترجمته عن لغته بعض كتب الأدب الفارسى وكتاب كليلة ودمنة الهندى الأصل وبعض منطق أرسططاليس. وكان آية فى البلاغة وحسن الأداء وفصاحته. على نحو ما يتضح فى الأدب الصغير والأدب الكبير وكتاب اليتيمة ورسالة الصحابة، وهى جميعا تفيض بالوصايا السياسية والاجتماعية والخلفية. وتعدّ ترجمته لكليلة ودمنة من روائعه الفذة. وله رسائل إخوانية وأدبية بديعة. وكان سهل بن هرون مثله فارسى الأصل، وعكف على الآداب الأجنبية، وشارك فى الترجمة عن لغته الأصلية، ويقال إنه كانت فيه نزعة شعوبية، وكان فيه ميل إلى التندر، وظّفه الرشيد بخزانة الحكمة التى أنشأها، وقرّبه المأمون وجعله خازنا لبعض أقسامها. وكان من أفراد عصره فى البلاغة والبيان وصحة المنطق، وعنى بتأليف قصص حيوانى على شاكلة كليلة ودمنة، وهو يملؤه بالتربية السياسية والاجتماعية والحكم والأمثال على شاكلة كتابه «النمر والثعلب» . ومن رسائله الأدبية الطريفة رسالته فى الاحتجاج للبخل. ورسالته الأخرى فى نصرة الزجاج على الذهب. وله رسائل شخصية بديعة. ومن أهم ما يميزه عنايته بدقة معانيه وتوفير الازدواج والجمال الصوتى لألفاظه وأساليبه. أما أحمد بن يوسف فكان من بيت كتابة، إذ كان أبوه يوسف بن صبيح ممن ذاع صيتهم فى دواوين القرن الثانى، وقد عنى بتأديب ابنه وإعداده للعمل فى الدواوين. وسرعان ما استخلصه الفضل بن سهل للمأمون، فجعله على ديوان الرسائل، ثم اختاره وزيرا له، وظل على وزارته حتى توفى. وكان واحد زمانه فى الكتابة الديوانية، ومن أروع رسائله السياسية رسالة الخميس التى كتبها فى تأييد الدعوة العباسية، وثقافته الكلامية واضحة فى تحميدها إذ تحول به إلى ما يشبه مبحثا كلاميّا فى الدلالة على وجود الله ووحدانيته وحدوث الخلق وفناء العالم. وله رسائل شخصية يتضح فيها ما يتضح فى رسائله الديوانية من تأنق التعبير. حتى ليمكن أن يقال إنه هو الذى أعدّ فى قوة لأن يشيع فى النثر الديوانى الرسمى أسلوب الازدواج والترادف الصوتى وما يجرى فيه أحيانا من السجع. وكان عمرو بن مسعدة مثله من بيت كتابة،

ص: 572

إذ كان أبوه مسعدة يلى ديوان الرسائل للمنصور، وقد أحكم تأديبه وتثقيفه، وتلقفه جعفر بن يحيى البرمكى، فاتخذه كاتبا للتوقيع بين يديه، وغرس فيه شغفه بالإيجاز والتأنق فى التعبير، حتى أصبح ذلك جزءا لا يتجزأ من جوهر نفسه.

والتحق بدواوين المأمون، حتى إذا رفع أحمد بن يوسف إلى الوزارة أقامه مقامه على ديوان الرسائل وظل يليه إلى وفاته. وتتميز كتابته الديوانية بالاقتصاد المسرف حتى كان يضرب به المثل فى الإيجاز، وهو يضيف إليه ميلا شديدا إلى التأنق والتنميق. وكان ابن الزيات من بيت تجارة، غير أنه نشأ محبّا للأدب، فأقبل على التزود بعلوم اللغة وكنوز الآداب الأجنبية والعربية، حتى برع فى الشعر والكتابة جميعا، وسرعان ما التحق بدواوين المأمون، وما زال نجمه فى صعود، حتى استوزره المعتصم، وظل وزيرا فى عهد ابتيه الواثق والمتوكل إلى أن نكبه الأخير نكبته المشهورة. وكان لسنا بليغا ولم يكن يصدر فى بلاغته ولسنه عن تكلف، وإنما كان يصدر عن طبع مهذب دون قصد إلى التأنق المسرف أو التنميق المفرط، وكان يحرص دائما على فصاحة اللفظ وحسن الأداء مع الجزالة والنّصاعة.

ص: 573