الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثانى
الحياة الاجتماعية
1 - الحضارة والثراء والترف
لما فتح العرب العراق وإيران والشام ومصر ورثوا ما فى الأولى والثانية من الحضارات الساسانية والكلدانية والآرامية وما فى الثالثة والرابعة من حضارات بيزنطية وسامية قديمة ومصرية، وأخذوا يكوّنون من ذلك ومن تراثهم العربى الخالص حضارتهم الإسلامية، وكان طبيعيّا أن تغلب على الأمويين بدمشق الحضارة البيزنطية وما كان بالشام من عناصر سامية حضارية، حتى إذا نقل العباسيون حاضرة الخلافة إلى العراق غلبت عليهم الحضارة الساسانية وغلبت على ما كان به من عناصر كلدانية وآرامية، وهى تبدو واضحة فى بناء بغداد إذ أقامها المنصور مستديرة على شاكلة طيسيفون المعروفة باسم المدائن حاضرة الساسانيين، وابتنى فيها قصره المعروف بقصر الذهب على طراز قصورهم ذات الأواوين الفخمة.
وقد كشفت حفائر سامرّاء عن طريق بناء الدور والقصور لا فيها فحسب، بل أيضا فى بغداد، فقد كان يصل بين الدار والقصر وبين الشارع أو الدرب دهليز مسقوف (1) يفضى إلى فناء واسع يسلم إلى القاعة الكبرى أو الإيوان، وتتناثر فى الدهليز والفناء غرف متجاورات للسكنى والمرافق المنزلية، وتتصل بالإيوان بعض الغرف الصغيرة. وبجانب الفناء الكبير للدار أفنية صغرى ثانوية تعلوها بعض القباب، وأكبرها جميعا قبة الإيوان. وفى الدار حمامات ومجار تحت الأرض وسراديب معدة للسكى، وتكثر الأساطين فى الأفنية، وتكثر الشرفات وتلحق بها
(1) انظر فى ذلك كتاب الحضارة الإسلامية لآدم ميتز (الترجمة العربية) 2/ 151 وما بعدها، وراجع وصف إيوان قصر الأمين فى طبقات الشعراء لابن المعتز (طبع دار المعارف) ص 209 ووصف إيوان قصر المعتصم فى الموشح المرزبانى ص 301.
بعض البساتين وبعض النافورات والبرك. وكانت مصاريع الأبواب تصنع من الخشب المحلّى بالنقوش وتتألق النوافذ بالزجاج الملوّن، وتزخرف الحيطان بالنقوش المستوحاة من الطير والحيوان والأشجار والأزهار، وقد يذهّب السقف والأبواب والحيطان وتعلق هنا وهناك ستائر الحرير المزركشة، وقد تحفر على الحيطان بعض الصور كالعنقاء، أما أرض الدار فكانت تموج بالبسط الإيرانية والأرمنية والطنانس ومناضد الآبنوس والتحف الثمينة وتماثيل العقيان والجامات المذهبة والأوانى المرصعة بالجواهر.
ولا ريب فى أن هذا البذخ إنما كان يتمتع به الخلفاء وحواشيهم من البيت العباسى ومن الوزراء والقواد وكبار رجال الدولة ومن اتصل بهم من الفنانين شعراء ومغنين ومن العلماء والمثقفين، وكأنما كتب على الشعب أن يكدح ليملأ حياة هؤلاء جميعا بأسباب النعيم، أما هو فعليه أن يتجرع غصص البؤس والشقاء وأن يتحمل من أعباء الحياة ما يطاق وما لا يطاق. ومردّ ذلك إلى طغيان الخلفاء العباسيين الذين حرموا الشعب حقوقه وطوقوه بالاستعباد والاستبداد والعنف الشديد، وقد مضوا هم وبطاناتهم يحتكرون لأنفسهم أمواله وموارده الضخمة، بحيث كانت هناك طبقة تنعم بالحياة إلى غير حد، وطبقات قتّر عليها فى الرزق، فهى تشقى إلى غير حد، واضطرب أوساط الناس من التجار وغيرهم بين الشقاء والنعيم.
وكانت خزائن الدولة هى المعين الغدق الذى هيأ لكل هذا الترف، فقد كانت تحمل إليها حمول الذهب والفضة من أطراف الأرض، حتى قالوا إن المنصور خلّف حين توفى أربعة عشر مليونا من الدنانير وستمائة مليون من الدراهم (1) وإن دخل بيت المال سنويّا لعهد الرشيد كان نحو سبعين مليونا من الدنانير (2) وكانت هذه الأنهار الدافقة من الأموال تصبّ فى حجور الخلفاء ومن يحف بهم من بيتهم ومن الوزراء والقواد والولاة والعلماء والشعراء والمغنين ونسوق من ذلك أطرافا تصور ما آل إليه ذلك من شيوع الإقطاع والثراء العريض فى الطبقة الحاكمة وحواشيها ومن يلوذون بها، فقد روى عن المنصور أنه فرض لكل شخص من أهل بيته ألف ألف درهم فى كل عام (3)، ويقال إن غلّة
(1) المسعودى 3/ 232.
(2)
انظر مقدمة ابن خلدون (طبع المطبعة الهية) ص 127 والجهشيارى ص 281 وضحى الإسلام (الطبعة الأولى) 1/ 111.
(3)
طبرى 6/ 327.
الخيزران زوجة المهدى من إقطاعاتها كانت تبلغ سنويّا مائة وستين مليونا من الدراهم (1)، وكانت إقطاعات محمد بن سليمان بن على العباسى والى البصرة تدرّ عليه كل يوم مائة ألف درهم (2)، وكانت للفضل بن الربيع وزير الرشيد والأمين قطيعة تغلّ له سنويّا مليون درهم (3)، ولعلنا لا نعجب بعد ذلك إذا عرفنا أن عمرو ابن مسعدة وزير المأمون خلّف بعد وفاته ثمانين ألف ألف دينار ونقل ذلك إلى المأمون فلم يأخذه العجب، بل قال: هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا (4).
وكان الخلفاء والوزراء والولاة والقواد يغدقون على العلماء والأطباء والشعراء والمغنين، ورسم المهدى لمروان بن أبى حفصة مائة ألف درهم على مدحته ذائع مشهور، وكان يصنع الصنيع نفسه مع المغنين (5) حين يطرب لبعض أصواتهم، وتجاوز رسمه لمروان ابنه الهادى فأعطاه يوما على مدحته فيه مائة وثلاثين ألف درهم (6)، وأطربه مغن فأهداه سبعمائة (7) ألف دينار. وكان الرشيد بحرا فياضا ما بنى ينهلّ على العلماء والفقهاء من أمثال قاضيه أبى يوسف والأصمعى والكسائى، والأطباء من مثل جبرائيل بن بختيشوع، ويقال إنه صار إليه فى عهده ما يزيد على أربعة ملايين من الدراهم (8)، وكان يجزل للشعراء والمغنين من نواله، ويكفى أن نعرف أنه وصل سلما الخاسر وحده لمدائحه فيه بعشرين ألف دينار (9)، وطرب يوما لغناء مخارق فأقطعه ضيعة ودارا ووصله بثلاثة آلاف دينار (10)، أما مغنيه الأثير عنده وهو إبراهيم الموصلى فيقال إن صلاته له تجاوزت مائتى ألف دينار (11) أما الأمين فقد تجاوز بصلاته كل حدّ حتى قالوا إنه أجاز عبد الله بن أيوب التيمى الشاعر يوما بمائتى ألف درهم (12)، وطرّب ليلة لغناء إسحق الموصلى، فأعطاه ألف ألف درهم (13)، وكان يعجب بمغنّية تسمى بذلا، فأنفق عليها أموالا طائلة،
(1) المسعودى 3/ 257
(2)
الجهشيارى ص 250
(3)
المسعودى 3/ 236
(4)
النجوم الزاهرة 2/ 227
(5)
أغانى (طبعة دار الكتب) 6/ 22.
(6)
النجوم الزاهرة 2/ 64 والأغانى 10/ 80 ويقال إن سلما الخاسر أنشده مدحة فيه فأعطاه ثلاثمائة ألف. درهم انظر الجهشيارى ص 173.
(7)
طبرى 6/ 139.
(8)
عيون الأنباء فى طبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة (طبعة دار الفكر ببيروت) القسم الأول من الجزء الثانى ص 58.
(9)
أغانى طبعة (الساسى) 21/ 77.
(10)
أغانى 21/ 144.
(11)
أغانى طبعة (دار الكتب) 5/ 192.
(12)
النجوم الزاهرة 2/ 189.
(13)
أغانى 5/ 368.
ويقال إنه أهداها من الجوهر ما لم تملك واحدة مثله (1). وكان المأمون كثير الإغداق على حاشيته حتى قالوا إنه فرق فى ساعة واحدة أربعة وعشرين ألف ألف درهم (2)، ويروى ابن تغرى بردى أنه أمر يوما لكل من ابنه العباس وأخيه المعتصم وعبد الله ابن طاهر بخمسمائة ألف دينار، وعجب ابن تغرى بردى من تفريقه هذه المبالغ الطائلة، فعقب على ذلك بقوله: لعل الدينار يوم ذلك لم يكن مثل دينارنا اليوم (3) وكأنما ذهب عن ابن تغرى بردى أن أموال الدولة كلها كانت فى أيدى المأمون وسابقيه وتاليه يبذلونها للناس حسب مشيئتهم وينثرونها عليهم نثرا.
ونافسهم الوزراء فى هذا البذل الواسع، وللبرامكة فيه ما ليس لأحد، حتى ليقال إنه لم يكن يرى لجليس خالد البرمكى دار إلا وخالد بناها له، ولا ضيعة إلا وخالد ابتاعها له، ولا دابة إلا وخالد حمله عليها (4)، وصنيع ابنه يحيى وولديه جعفر والفضل فى هذا الباب فوق صنيعه درجات، فقد كانت بأيديهم خزائن الدولة لعهد الرشيد، فملأوا منها أيدى العلماء والأطباء والمترجمين والمغنين والشعراء بالأموال، بل بالثروات الضخمة، على نحو ما يحكى من أنهم أعطوا إبراهيم الموصلى يوما ستمائة ألف درهم وضيعة بمائة وستين ألفا (5)، وأعطى يحيى البرمكى يوما ابنه إسحق مائة ألف درهم ليبتاع بها دارا وأعطاه ابنه جعفر مائة ألف لفرشها، وأعطاه ابنه الفضل مائة ألف لزخرفتها، وأعطاه ابنه محمد مائة ألف رابعة لنفقتها (6)، وبلغ-فيما يقال-ما أعطوه لسلم الخاسر الشاعر عشرين ألف دينار (7)، وكأنهم كانوا يبارون فيه الرشيد. وكان ينافسهم فى هذا البذل الواسع الفضل بن الربيع وبنو سهل وكبار الولاة والقواد من أمثال معن بن زائدة وابن أخيه يزيد بن مزيد الشيبانى وابنه خالد ويزيد بن حاتم المهلبى وأخيه روح ومحمد بن حميد الطوسى وأبى دلف العجلى، وآل طاهر وفى مقدمتهم طاهر نفسه، ويقال إن صلاته بلغت يوما ألفى درهم وسبعمائة ألف وأن ابنه عبد الله تجاوز بصلاته يوما هذا الرقم، بل لقد ضاعفه إذ بلغ به أربعة آلاف ألف درهم وسبعمائة ألف (8).
(1) أغانى (ساسى) 15/ 138.
(2)
طبرى 7/ 212.
(3)
النجوم الزاهرة 2/ 205.
(4)
الجهشيارى ص 150.
(5)
أغانى (طبعة دار الكتب) 5/ 38.
(6)
أغانى 5/ 308 وما بعدها.
(7)
أغانى (ساسى) 21/ 77.
(8)
النجوم الزاهرة 2/ 195.
وكان لهذه السيول التى كانت ما تنى تسيل إلى حجور العلماء والأطباء والمترجمين والشعراء والمغنين أثرها الواسع فى نهضة العلوم والآداب والفنون، فقد كفى أصحابها مئونة العيش، وكان منهم كثيرون يرتّب لهم رزق معلوم يأخذونه فى كل شهر أو فى كل سنة، بل لقد كان منهم وخاصة من المغنين والشعراء من يثرى ثراء فاحشا حتى ليقال إنه صار إلى إبراهيم الموصلى المغنى أربعة وعشرون مليون درهم سوى رزقه أو راتبه الجارى وهو عشرة آلاف درهم فى كل شهر وسوى غلاّت ضياعه (1)، ويقال إن سلما الخاسر خلّف حين توفى خمسين ألف دينار (2)، وما وصل الأصمعى من الرشيد والبرامكة يتجاوز كل حد، وكذلك ما وصل أبا يوسف القاضى من الرشيد، ويقال إنه دخل عليه وفى يده درتان بديعتان يقلّبهما وينظر فيهما، فقال له: هل رأيت أحسن منهما؟ فأجابه: نعم الوعاء الذى هما فيه، فألقى بهما إليه (3)، ويروى أن زبيدة زوجة الرشيد مرّت بإحدى فتاواه فأهدته حقّا من فضة بداخله حقان مملوءان طيبا، وبأحدهما جام من ذهب مملوء دراهم وبالثانى جام فضة مملوء ذهبا، مع غلمان وتخوت من ثياب وبعض الدواب الفارهة (4). وسنعرض فى الفصل التالى لما سكبه الخلفاء والوزراء والولاة وعلية القوم من أموال على العلماء والمؤدبين والأطباء والمترجمين مما جعل حياتهم نعيما خالصا.
وطبيعى أن تدفع هذه الأموال لا إلى النعيم فحسب، بل أيضا إلى الترف فى الحياة وكل أسبابها المادية من دور مزخرفة وفرش وثيرة وثياب أنيقة معطرة ومطاعم ومشارب من كل لون والتماس لكل أدوات الزينة والتفنن فيها تفننا يتيح كل ما يمكن من استمتاع بالحياة. ويصور ذلك من بعض الوجوه ما يروى عن مجلس للمهدى كان يجلس فيه على فرش موردة وعليه ثياب موردة وعلى رأسه جارية تلبس هى الأخرى ثيابا موردة (5)، وما يروى عن مجلس الرشيد من أنه كان يعبق بالطيب والرعفران والأفاويه من كل شكل (6)، وأيضا ما يروى عن زواج المأمون ببوران بنت ويره الحسن بن سهل، فقد أنفق فيه ما يفوق أغرب القصص الخيالية، إذ قيل إن أباها فرق على حاشية المأمون رقاعا بأسماء كثير من الضياع وبدرا من
(1) أغانى 5/ 163.
(2)
أغانى (ساسى) 21/ 77.
(3)
النجوم الزاهرة 2/ 182.
(4)
المسعودى 3/ 260.
(5)
الجهشيارى ص 160.
(6)
الطبرى 6/ 537.
الدنانير والدراهم كل بدرة عشرة آلاف، وأعطى المأمون بوران ألف ياقوتة وأوقد لها شموع العنبر وبسط لها حصيرا منسوجا بالذهب مكللا بالدر والياقوت، ونثرت جدتها عليها حين جلس إليها المأمون ألف درة (1). وينوّه المؤرخون بأناقة المعتصم حتى قيل إن ثيابه كانت تشبّه بالزّهرة لتألقها (2)، واشتهر بلبس قلانس طويلة ذات ألوان مختلفة سميت بالمعتصميات، كما اشتهر بأنه ألبس قواده وكبار جنده دراعات الديباج المنسوجة بالذهب المرصعة باليواقيت والأكاليل المرصعة بالدرر من كل لون (3)، ويصف بعض المغنين مجلس الواثق فيقول:«لم يزل الخدم يسلموننى من خدم إلى خدم حتى أفضيت إلى دار مفروشة الصحن ملبسة الحيطان بالوشى المنسوج بالذهب ثم أفضيت إلى رواق أرضه وحيطانه ملبسة بمثل ذلك، وإذا الواثق فى صدره على سرير مرصّع بالجوهر وعليه ثياب منسوجة بالذهب» (4).
وكان الوزراء وغير الوزراء من علية القوم يحيون هذه الحياة المترفة وينغمسون فيها انغماسا، جامعين لقصورهم ومجالسهم كل ما يمكنهم من طرف، ويصور ذلك-من بعض الوجوه-ما يروى عن الأصمعى من أنه دخل على الفضل بن يحيى البرمكى فى يوم بارد من أيام الشتاء «فإذا هو فى بهو قد فرش بالسّمّور (ضرب من الفراء) وهو فى دست منه وعلى ظهره دوّاج (ثوب) سمّور أشهب مبطن بخزّ، وبين يديه كانون فضة فوقه أثفيّة ذهب فى وسطها تمثال أسد رابض فى عينيه ياقوتتان تتوقدان» (5).
وطبيعى أن يشيع فى هذا الجو الزاخر بالترف التأنق فى الملبس والثياب، وقد عمّ حينئذ ببغداد لبس الأزياء الفارسية، ومرّ بنا فى الفصل السابق كيف كانت كل طائفة من طوائف الموظفين ورجال الدولة تلبس زيّا خاصّا بها يميزها من الطوائف الأخرى. وكان المنصور أول من دفع إلى ذلك إذ رسم للوزراء لبس الدّرّاعات والطيلسانات والشاشيات، وأمر أفراد حاشيته بلبس القلانس الطوال
(1) مقدمة ابن خلدون ص 121 والطبرى 7/ 187 واليعقوبى 3/ 186 والمسعودى 3/ 351 وابن طيفور 114 وابن الطقطقى ص 167.
(2)
أغانى (طبعة دار الكتب) 5/ 345.
(3)
المسعودى 4/ 9 - 12.
(4)
أغانى 4/ 116.
(5)
طبقات الشعراء لابن المعتز (طبع دار المعارف) ص 214.
مما جعل أبا دلامة مضحكة ينشده (1):
وكنا نرجّى من إمام زيادة
…
فزاد الإمام المصطفى فى القلانس
تراها على هام الرجال كأنها
…
دنان يهود جلّلت بالبرانس (2)
وكان الشعراء يلبسون الوشى والمقطعات الحريرية (3)، ويلبس المغنون قطوع الديباج والخزّ (4)، ويقال إنه كان لعمارة بن حمزة أحد كتّاب الخراج ألف دوّاج من صوف وفراء (5)
واستكثروا حينئذ من العطور وأنواع الطيب من الغالية والمسك والكافور والعنبر والروائح الأرجة التى كانت تستخلص من البنفسج والنرجس والنّيلوفر وغير ذلك من الأزهار، واشتهرت جور الفارسية بماء الورد وأدهنة الزعفران.
وبالغ النساء حرائر وجوارى فى زينتهن وأناقتهن، فكن يرفلن فى الثياب الحريرية ويختلن فى الحلى والجواهر متخذات منها تيجانا وأقراطا وخلاخيل وعقودا وقلائد، وقد ينظمنها على شعرهن (6) أو على عصائبهن (7)، ويقال إن دنانير جارية البرامكة كانت تتحلّى بعقد من الجوهر بلغت قيمته ثلاثين ألف دينار كان قد أهداه إليها الرشيد (8). وكن يتعطون بأنواع الطيب من مفرقهن إلى أقدامهن، ويقال إن عريب المغنية كانت تغسل شعرها من جمعة إلى جمعة وتغلفه فى كل غسلة بستين مثقالا مسكا وعنبرا (9). وكن يمشطن شعورهن بأمشاط من الصّدف والصّندل (10) ويعقصنه أو يرسلنه غدائر تنوس، وقد يلوينه على أصداغهن فى هيئة النون أو هيئة العقرب، وفى ذلك يقول أبو نواس واصفا طائفة منهن (11):
أصداغهنّ معقربا
…
ت والشّوارب من عبير
(1) أغانى 10/ 236.
(2)
الهام: الرءوس. جللت: غطيت. البرانس كالقلانس، والشاشيات: أغطية للرأس.
(3)
البيان والتبيين 3/ 115.
(4)
أغانى 6/ 293 وانظر 5/ 317.
(5)
الجهشيارى ص 149. والدواج: من الملابس التى يلتحف بها.
(6)
طبرى 6/ 435.
(7)
أغانى (طبع دار الكتب) 10/ 162
(8)
أغانى (طبعة الساسى) 16/ 132 وانظر فى عقد آخر نفيس أهداه الواثق لفريدة الصغرى المغنية الأغانى (طبعة دار الكتب) 4/ 117.
(9)
أغانى (ساسى) 18/ 187.
(10)
وكان الرجال يتخذون هذه الأمشاط أيضا. انظر كتاب البخلاء للجاحظ (طبعة دار الكاتب المصرى) ص 53.
(11)
ديوان أبى نواس (طبعة آصاف) ص 83.
وكنّ يلبسن جوارب الحرير ويتحلين بعقود الأزهار من بنفسج وغير بنفسج، ويقول الجاحظ إن المرأة حين كانت تزوّج ابنتها تحليها بالذهب والفضة وتكسوها المروزىّ والوشى والقزّ والخزّ وتعلّق لها المعصفر وتدق الطيب حتى تعظّم أمرها فى عين زوجها وأهله (1). ولعل امرأة لم تبلغ من التأنق ما بلغته زبيدة زوجة الرشيد وفيها يقول المسعودى إنها:«أول من اتخذ الآلة من الذهب والفضة المكللة بالجوهر وصنع لها الرفيع من الوشى حتى بلغ الثوب من الوشى الذى اتّخذ لها خمسين ألف دينار. . وهى أول من اتخذ القباب من الفضة والآبنوس والصندل. . ملبسة بالوشى والسمور (الفراء) والديباج وأنواع الحرير. . واتخذت الخفاف (النعال) المرصعة بالجوهر، وشمع العنبر، وتشبّه الناس بها» (2).
ولا ريب فى أن هذا كله كان على حساب العامة المحرومة التى كانت تحيا حياة بؤس تقوم على شظف العيش لينعم الخلفاء والوزراء والولاة والقواد وكبار رجال الدولة وأمراء البيت العباسى الذين بلغوا هم وأبناؤهم نحو ثلاثين ألفا لعهد المأمون (3). وطبيعى أن يعم البؤس والشقاء من جانب، بينما يعم النعيم والترف من جانب آخر، بل لقد كان للشقاء والبؤس أكثر الجوانب فى الحياة العباسية، فالجمهور يعيش فى الضنك والضيق لا الرقيق منه فحسب الذى كان يعمل فى القصور والضياع، بل أيضا جمهور الناس من الأحرار، وكأنما كانوا جميعا أرقاء فى هذا النظام الذى كفلت فيه أسباب النعيم ووسائل الترف لأقلية محدودة استأثرت لنفسها بطيبات الأرض والرزق وزينة الحياة.
ولعل هذا البذخ وما صحبه من اعتصار الشعب هو السبب الحقيقى فى كثرة الثورات على العباسيين وخاصة فى إيران، مما عرضنا له فى الفصل السابق، وأيضا لعله السبب الحقيقى فى تعلق الناس بالمهدى المنتظر من أبناء على الذى ينشر العدل الاجتماعى فى الأرض، مما هيأ لكثرة الجمعيات السرية واعتناق الناس لعقيدة التشيع على اختلاف فرقها. غير أن المسألة لم توضع وضعا سليما صريحا على أساس مشكلة العدالة الاجتماعية واستنزاف الشعب لمصلحة طبقة تعيش معيشة
(1) البخلاء ص 25. والمروزى نسبة إلى مرو. ويريد الحاحظ بالمعصفر الستور الحريرية التى كانت تعلق على الحيطان.
(2)
المسعودى 4/ 244.
(3)
مقدمة ابن خلدون ص 123.
باذخة مسرفة فى البذخ، بل وجهت توجيها خاطئا، على أساس دعوات دينية مارقة كدعوة الخرمية التى استوجت آراء المزدكية والمانوية، وحتى الشيعة وفرقهم أعلوا المقاصد الدينية على مقاصد العدالة الاجتماعية. وبذلك أخفقت هذه الثورات جميعا، لأنها لم تضع للشعب اللافتات والشعارات الحقيقية التى يلتف حولها ويعمل من أجلها، ومضى العباسيون وحواشيهم يغرقون إلى آذانهم فى البذخ والترف.
وقد هيأ هذا الترف لنشوء طبقة وسطى فى بغداد ومدن العراق من التجار والصناع الذين كانوا يقومون على مطالب الترف وأدواته، أما التجار فكانت سفنهم وقوافلهم غادية رائحة فى البحر والبر تجلب الطرف النفيسة من جميع أنحاء العالم، وأما الصناع فكانوا يتفننون فى صوغ التحف الثمينة. وكان مركزهم جميعا فى الأسواق حيث تتجمع حوانيت كل طائفة منهم فى سوق أو شارع. وكانت رءوس أموالهم تختلف قلة وكثرة وضيقا وسعة، فمنهم من كان رأس ماله ثلاثة آلاف دينار (1) ومنهم من بلغ رأس ماله مائة وأربعين ألف دينار ومليونين وستمائة ألف من الدراهم (2)، ويقال إن ربح بعض التجار بلغ فى صفقة واحدة مائة ألف دينار (3). وكان أكثرهم ثراء البزّازين والعطّارين وتجار التحف النفيسة.
ومن أهم الجوانب التى يتضح فيها بذخ الطبقة المترفة مطاعمها ومشاربها، فقد طعموا وشربوا فى أوانى الذهب والفضة وصحاف الصينى المزخرفة والصحاف الزجاجية المنقوشة والمحفورة، وتفنّن لهم الطهاة فى ألوان الطعام والشراب، وكانوا يسمّون باسم ما يعدونه منها من خبّاز وشوّاء وطبّاخ وخبّاص وهو الذى يصنع الحلوى وسرابى وهو صانع الشراب وألوانه. وفى كتاب البخلاء للجاحظ حشد كبير من الأطعمة والمشارب وهى فى جمهورها فارسية، فمنها السّباج وهو لحم يطبخ بخلّ مع شئ من الزعفران لتطيب رائحته، والطّباهج وهو طعام من لحم وبيض وبصل، والشّبارقات وهى شرائح مشوية من اللحم، ومنها الفانيذ وهو حلوى من الدقيق والسكر والسمن، والخشكنان وهو كعك بحشى بالجوز والسكر، والفالوذج وهو حلوى من النشا وعسل النحل والسمن، ومنها الجلاّب وهو شراب من ماء الورد.
(1) البخلاء ص 101
(2)
البخلاء ص 34
(3)
الجهشيارى ص 185، 319
وكانوا يتفننون تفننا واسعا فى إضافة الأفاويه إلى الأطعمة وصنع المشهيّات والمخلّلات الحرّيفة وصنوف النّقل من مثل مملوح البندق والجوز واللوز والفستق. وتكثر عندهم أسماء الفواكه من مثل التين والعنب والموز والكمّثرى والخوخ والرمان والإجّاص والسفرجل والتفاح، وكان البطيخ لديهم كثيرا حتى نسبوا إليه سوق الفاكهة، فسموها باسم سوق البطيخ ودار البطيخ.
ومما يدل على كثرة أفانين الطهاة فى الأطعمة ما يروى من أن مائدة المأمون ضمت ذات يوم ثلاثمائة لون (1)، وقد انبهر الأصمعى لكثرة ما رآه على مائدة الفضل بن يحيى البرمكى من ألوان الطعام وما غسلوا به أيديهم بعد الأكل من ألوان الطيب والغالية والعنبر (2). ويقال إن المأمون كان ينفق على طعامه يوميّا ستة آلاف دينار بينما كان ينفق وزيره ابن أبى خالد على طعامه يوميّا ألف درهم (3)، وهو نفس المبلغ الذى كان ينفقه إبراهيم الموصلى يوميّا على طعامه وطيبه (4).
ومن تتمة هذا الترف فى المطعم أن نراهم يتواضعون على طائفة من آداب المائدة اقتبسوا كثيرا منها عن الفرس (5)، فمن ذلك أن يضم الآكل شفتيه فى أثناء المضغ وأن لا يستأثر لنفسه بشئ من محاسن الطعام وأن لا يمسح فمه بكمه وأن لا يتناول إلا ما بين يديه وأن لا ينظر إلى ما بين يدى غيره وأن لا يطلب ما عسى أن لا يكون موجودا.
وعلى نحو ما كان للمائدة آدابها كان لمجالس الخلفاء والوزراء وعلية القوم أيضا آدابها، وهى تعرف بآداب المسامرة (6)، وكان لا بد للنديم من إحسانها، حتى يخفّ على قلب منادمه، وكثير من هؤلاء الندماء استطاع أن يعتلى منصب الوزارة بما كان يحسنه من التبسط إلى الخليفة فى الحديث فى ساعات صفوه وغضبه، ومن لم يعتل منهم منصب الوزارة سالت عليه الصلات السنية، ولذلك لا نعجب أن يصبح الحذق بالمنادمة وما تتطلب من كياسة مطمحا لكثير من العلماء والأدباء ومن اللغويين والفقهاء وكل من يريد الحظوه عند خليفة أو وزير. وتلمع فى هذا الجانب أسماء الأصمعى وأبى يوسف منادمى الرشيد وثمامة بن أشرس نديم المأمون.
(1) ابن طيفور ص 36.
(2)
طبقات الشعراء لابن المعتز ص 214
(3)
ابن طيفور ص 123.
(4)
أغانى (طبعة دار الكتب) 5/ 164.
(5)
عيون الأخبار لابن قتيبة (طبعة دار الكتب) 3/ 214
(6)
المسعودى 3/ 195 وما بعدها
وكان النديم يورد فى أحاديثه أخبار العامة ونوادرهم وبعض الحكايات القصيرة وبعض الطرف الأدبية. وكان بين هؤلاء الندماء مضحكون لا يزالون يوردون فكاهات مضحكة، ومن أشهرهم أبو دلامة الشاعر مضحك السفاح والمنصور والمهدى، وله فكاهات كثيرة تدور فى كتب الأدب، ومنهم ابن أبى مريم مضحك الرشيد «وكان محدثا فكها، فكان الرشيد لا يصبر عنه ولا يمل محادثته، وكان ممن جمع إلى ذلك المعرفة بأخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف ومكايد المجان» (1) ومنهم أبو الشمقمق وكان الناس يتهافتون على جمع نوادره (2).
وكانت هناك أدوات للتراويح ولعب كثيرة، من ذلك سباق الخيل (3) وسباق الحمام الزاجل (4) ولعبة الصولجان وهو كرة تضرب من فوق ظهور الخيل، ومن ذلك المحادثة بين الديوك والكباش والكلاب، ولعب أبى نواس بالكلاب هو الذى أتاح له التفوق فى وصفها بطردياته، ومن ذلك لعبة الشطرنج حتى ليشتهر شخص بإحسانها يسمى أبا حفص الشطرنجى، ولعبة النّرد (الطاولة) ويقال إن واضعه أراد به تمثيل الحياة، فرقعته تقابل الأرض المبسوطة لسكانها، ومنازله الأربع تقابل الطبائع الأربع وخطوطها وهى أربعة وعشرون تقابل ساعات الليل والنهار وبيادقة (حجارته) الثلاثون تقابل عدد أيام الشهر واختلاف ألوانها بين البياض والسواد تقابل اختلاف الليل والنهار وفصّاه (الزهر) يقابلان القضاء. ويظهر أنهم عرفوا لعبة خيال الظل، فقد هدّد دعبل ابنا لأحد طبّاخى المأمون بأنه سيهجوه، فقال له: والله إن فعلت لأخرجنّ أمك فى الخيال (5).
ومن أسباب اللهو التى فتن بها الخلفاء الصيد بالبزاة والشواهين والصقور والكلاب والفهود، والصيد قديم عند العرب والفرس جميعا، ومن الملوك الذين اشتهروا به عند الأخيرين بهرام جور (6)، وأولع به المهدى، فكان يخرج إليه فى مواكب كبيرة ومعه الحرس والوصفاء وبعض حاشيته، ويروى أن على بن سليمان العباسى خرج معه يوما فعرض لهما ظبى سانح، فرماه هو والمهدى بسهمين،
(1) طبرى 6/ 531.
(2)
الحيوان للجاحظ (طبعة الحلبى) 1/ 61.
(3)
الجهشيارى ص 207 والمسعودى 3/ 279.
(4)
أغانى (طبع دار الكتب) 14/ 34.
(5)
الديارات للشابشى ص 119.
(6)
الحيوان 1/ 140.
أما المهدى فأصابه وأما على بن سليمان فأصاب كلبا كان قد أرسل عليه وقتلاهما جميعا، فقال أبو دلامة متندّرا (1):
قد رمى المهدىّ ظبيا
…
شكّ بالسهم فواده
وعلىّ بن سليما
…
ن رمى كلبا فصاده
فهنيئا لهما ك
…
لّ امرئ يأكل زاده
وشغف بالصيد كل من جاء بعد المهدى من الخلفاء (2)، وكان يشغف به الفضل بن يحيى البرمكى شغفا شديدا (3).
وكان للعامة ملاهيهم وفى مقدمتها الفرجة على القرّادين والحوّائين، وكانوا يتجمعون حول قصّاص يطرفونهم بحكايات خيالية، كما كانوا يتجمعون حول طائفة من الحكّائين الذين كانوا يحكون فى دقة لهجات سكان بغداد ونازليها من الأعراب والنبط والخراسانيين والزنوج والفرس والهنود والروم، ويصور الجاحظ عملهم، فيقول: «إنا نجد الحاكية من الناس يحكى ألفاظ سكان اليمن مع مخارج كلامهم لا يغادر من ذلك شيئا وكذلك تكون حكايته للخراسانى والأهوازى والزّنجى والسّندى والأحباش وغير ذلك، نعم حتى تجده كأنه أطبع منهم، فإذا ما حكى كلام الفأفاء فكأنما قد جمعت كل طرفة فى كل فأفاء فى الأرض فى لسان واحد، وتجده يحكى الأعمى بصور ينشئها لوجهه وعينيه وأعضائه لا تكاد تجد من ألف أعمى واحدا يجمع ذلك كله، فكأنه قد جمع جميع طرف حركات العميان فى أعمى واحد، ولقد كان أبو دبّوبة الزنجى مولى آل زياد يقف بباب الكرخ بحضرة المكارين، فينهق، فلا يبقى حمار مريض ولا هرم حسير ولا متعب بهير إلا نهق، وقبل ذلك تسمع نهيق الحمار على الحقيقة فلا تنبعث لذلك، ولا يتحرك منها متحرك حتى كان أبو دبّوبة فيحركها، وقد كان جمع جميع
(1) أغانى 6/ 240 والمسعودى 3/ 297 وابن الطقطقى ص 131، 133.
(2)
انظر المصايد والمطارد لكشاجم (طبع دار المعرفة ببغداد) ص 3 وما بعدها والجهشيارى ص 173 والطبرى 6/ 494 والأغانى 5/ 344، 418، 7/ 158.
(3)
المسعودى 3/ 284.