الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى أبعد حد ممكن، وعبّروا فيه عن دقة مزاج ورهافة حس بالغة، حتى ليقول الجاحظ:«أما أنا فلم أرقط أمثل فى طريقة البلاغة من الكتاب، فإنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوّعرا وحشيّا ولا ساقطا سوقيّا (1)»
وكل ذلك معناه أن النثر تهيأت له أسباب كثيرة فى هذا العصر لكى ينمو ويزدهر، فقد أخذ يمتدّ ليستوعب العلوم والفلسفة، كما يستوعب مادة عقلية عميقة حتى فى المجال الأدبى، إذ أخذت تغذوه آداب الفرس السياسية والاجتماعية كما أخذت تغذوه الثقافات الأجنبية وكل ما اتصل بها من الفكر اليونانى، ومضى يتفاسرا مع ذلك كله محتفظا بمقوماته وطوابعه العربية الأصيلة، بحيث لم يحدث أىّ ازدواج فى اللغة يعرّضها للضياع، بل لقد أينعت الفروع الجديدة فى شجرتها الكبيرة، وأخذت تتكوّن فيها أزهار ذاكية الشّذى وثمار حلوة يانعة بفضل كبار الكتاب والمترجمين والمتكلمين الذين احتفظوا لها بأصولها وأوضاعها وأغنوها ونمّوها حتى فى مجال الأساليب الخالصة، إذ عرفوا كيف يستخلصون رحيقها البلاغى الذى يغذّى العقول ويشفى القلوب والأفئدة.
2 - الخطب والوعظ والقصص
نشطت الخطابة السياسية فى مطالع هذا العصر، إذ اتخذتها الثورة العباسية أداتها فى بيان حق العباسيين فى الحكم، وكانوا يحسّون منذ أول الأمر بأن أبناء عمهم العلويين يضطغنون عليهم استئثارهم بالخلافة من دونهم، فمضوا يؤكدرن فى خطابتهم أنهم أصحاب هذا الحق، فهم الذين أدالوا للشعب من بنى أمية وهم الذين قوّضوا حكمهم وحطموه حطما، وقدانهالوا عليهم بالتجريح والطعن العنيف، على نحو ما يتضح فى خطبة (2) أبى العباس السفاح حين بويع بالخلافة فى الكوفة، وفيها نراه يتحدث عن رحمهم وقرابتهم للرسول صلى الله عليه وسلم تاليا من القرآن الحكيم بعض الآيات الخاصة بأهل بيت النبوة من مثل (إنما يريد
(1) البيان والتبيين 1/ 137.
(2)
انظر الخطبة فى الطبرى 6/ 81 وما بعدها.
الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وما يلبث أن يعرض للسبئية من الشيعة الغالية قائلا: «وزعمت السبئية الضّلاّل أن غيرنا أحقّ بالرياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم، بم ولم أيها الناس، وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم وبصّرهم بعد جهالتهم وأنقذهم بعد هلكتهم. . وجمع الفرقة حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبرّ» . ويتحدث عن الأمويين وظلمهم للرعية وكيف تداركها الله بهم وردّ عليها حقوقها المسلوبة. وخطب عمه داود بن على بنفس اللحن، ويشيد الجاحظ ببيانه وفصاحته قائلا إنه «كان أنطق الناس وأجودهم ارتجالا واقتضابا للقول. وله كلام كثير معروف محفوظ» . ويروى من ذلك خطبته فى أهل مكة حين وليها لابن أخيه، وهى تمضى على هذا النمط (1):
«شكرا شكرا. أما والله ما خرجنا لنحتفر فيكم نهرا ولا لنبنى قصرا، أظنّ عدوّ الله أن لن نظفر به إذ أرخى له فى ذمامه، حتى عثر فى فضل خطامه.
فالآن عاد الأمر فى نصابه، وطلعت الشمس من مطلعها، والآن أخذ القوس باريها، وعادت النّبل إلى النّزعة (2)، ورجع الحق إلى مستقره فى أهل بيت نبيكم: أهل بيت الرأفة والرحمة».
ويموت السفاح سريعا، ويخلفه أبو جعفر المنصور، ولم يكن فى العباسيين أبين منه ولا أخطب، وفى عهده تندلع ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن العلوى الملقب بالنفس الزكية بالمدينة، لسنة 145 للهجرة، ويتكاتبان كما مر بنا فى الفصل الأول، وكل منهما يؤكد حقه فى الخلافة وإرثها عن الرسول الكريم. ويشهر كل منهما السلاح فى وجه صاحبه، كما يشهران الخطب ويرسلان سهام القول، وكان محمد بن عبد الله لا يقل عنه لسنا وفصاحة، ومن قوله فى بعض خطبه (3):
ولم يلبث المنصور أن قضى على هذه الثورة قضاء مبرما، ولم يعد العلويون
(1) البيان والتبيين 1/ 331 وما بعدها.
(2)
النزعة: الرماة.
(3)
ذيل الأمالى للقالى ص 121.
(4)
بددأ: متفرقين.
كما أسلفنا فى غير هذا الموضع-يحاولون الثورة جهارا على أبناء عمهم، بل عمدوا إلى السرية خوفا من بطشهم وما عوّدوه الناس من إقناعهم بالسيف دون اللسان. وتضاءلت حينئذ-كما قدمنا-حركات الخوارج، فلم يكن هناك إلا السيف أو الإذعان. وبذلك كمّمت الأفواه، وضعفت الخطابة السياسية فى هذا العصر ضعفا شديدا، لأنها إنما تزدهر حين تكفل للناس حرياتهم السياسية على نحو ما كان الشأن فى عصر بنى أمية، أما فى هذا العصر فقد أخذ العباسيون الناس بالشدة فضعفت الأحزاب السياسية وفنيت أو ذابت حريتهم فى سلطانهم الباطش بكل من حدثته نفسه بخروج عليهم بل بخلاف أو ما يشبه الخلاف، وحقا عادت الخطابة السياسية إلى الظهور فى فتنة الأمين وحروبه مع أخيه المأمون، ولكن لم تعد لها قوتها القديمة فى العصر الأموى وما كانت تمتاز به من روعة تجذب الناس إلى الاستماع لكلام الخطيب والفتنة بأساليبه.
وعلى نحو ما ضعفت الخطابة السياسية ضعفت الخطابة الحفلية التى كنا نعهدها فى عصر بنى أمية لسبب طبيعى، وهو أن وفود العرب لم تعد تفد على قصور الخلفاء، وبالتالى لم يعد خطباؤها يفدون عليهم، فقد أسدلت الحجب بين الخليفة والرعية، ولم يعد يلقى وفودها ولا خطباءها المفوّهين. واقتصرت الخطابة الحفلية حينئذ على بعض مناسبات كأن يموت للخليفة ابن أو بنت فيقف بعض الخطباء لتعزيته، وكأن يموت خليفة ويتولى خليفة جديد فيجمع بعض الخطباء بين التعزية والتهنئة، من مثل قول ابن عتبة للمهدى يهنئه بالخلافة ويعزيه فى أبيه المنصور (1):
وكان يعقد لبيعة الخليفة حفل عام يحضره القواد وكبار رجال الدولة، وعادة يقف بعض الكتاب النابهين خطيبا بين يدى الخليفة الجديد منوّها بجلال الخلافة وإرث الخليفة لها وما له على القواد ورجال الدولة والناس من الطاعة علويين
(1) البيان والتبيين 2/ 192.
وغير علويين، على نحو ما يلقانا عند يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب فى خطبته بين يدى الرشيد حين جلس بين القواد والأمراء والوزراء لأخذ البيعة له، وهو يستهلها على هذا النمط بعد حمد الله والصلاة على رسوله (1):
وعلى هذا النحو أصبحت الخطابة الحفلية شيئا نادرا يقال فى الحين الطويل بعد الحين، وبذلك تضاءلت كما تضاءلت الخطابة السياسية ولم يعد لها شأن يذكر.
وقد ظل للخطابة الدينية وما اتصل بها من وعظ ازدهارها فى هذا العصر، وعلى نحو ما كان الخلفاء والولاة يشاركون فيها لعصر بنى أمية كانوا يشاركون فيها أيضا لهذا العهد، إذ نجد للمهدى خطبة بارعة مأثورة (3)، كما نجد للرشيد خطبة أخرى رائعة، وفيها يقول (4):
«عباد الله إنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى، حصّنوا إيمانكم بالأمانة ودينكم بالورع وصلاتكم بالزكاة، فقد جاء فى الخبر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ولا صلاة لمن لا زكاة له» . إنكم سفر (5) مجتازون وأنتم عن قريب تنتقلون من دار فناء إلى دار بقاء، فسارعوا إلى المغفرة بالتوبة وإلى الرحمة بالتقوى وإلى الهدى بالإنابة
(1) تاريخ الطبرى 6/ 442.
(2)
الفئ: غنائم الحرب.
(3)
العقد الفريد 4/ 101.
(4)
العقد الفريد 4/ 102.
(5)
السفر: الجماعة المسافرون.
فإن الله، تعالى ذكره، أوجب رحمته للمتقين ومغفرته للتائبين وهداه للمنيبين».
على أننا نجد الرشيد يستنّ سنّة كانت سببا فى أن تضعف هذه الخطابة على ألسنة الخلفاء، إذ طلب إلى الأصمعى أن يعدّ لابنه الأمين خطبة يخطب بها يوم الجمعة (1)، كما طلب إلى إسماعيل اليزيدى وابن أخيه أحمد أن يعدّا خطبة مماثلة يخطب بها المأمون (2)، وبذلك سنّ للخلفاء أن يخطبوا بكلام غيرهم، وكان المأمون معروفا بالفصاحة والجهارة وحلاوة اللفظ وجودة اللهجة والطلاوة (3)، وقد روى له ابن قتيبة ثلاث خطب (4): أولاها فى يوم جمعة وثانيتها فى يوم الأضحى وثالثتها فى عيد الفطر وفيها يقول:
ومعروف أن الولاة كانوا يجمعون بين الولاية والصلاة، ويظهر أنهم أخذوا مع مر الزمن يخطبون بكلام غيرهم، وقد يندبون من قوم مقامهم فى الصلاة والخطابة، ويذكر الجاحظ عن محمد بن سليمان الباسى والى البصرة والكوفة لعهد المنصور والمهدى أنه كانت له خطبة يوم الجمعة لا يغيّرها، وهى خطبة قصيرة (5)
ولكن إذا كانت الخطابة الدينية أخذت تضعف على لسان الولاة والخلفاء فإنها أينعت فى بيئة الوعاظ والنساك ممن كانت تزخر بهم مساجد بغداد والبصرة والكوفة، وكانوا أخلاطا من الزهاد والفقهاء والمحدّثين والمتكلمين، وكان بعضهم يلمّ بمجالس الخلفاء لوعظهم، وأحيانا كانوا يستقدمونهم، فيعظونهم حتى يبكوهم،
(1) الفرج بعد الشدة للتنوخى 2/ 20.
(2)
أغانى (طبعة الساسى) 18/ 82.
(3)
البيان والتبيين 1/ 91، 115.
(4)
عيون الأخبار 2/ 253 وما بعدها.
(5)
انظرها فى البيان والتبيين 2/ 129.
بما يوقعون فى نفوسهم من خشية عقاب الله وبما يصورون لهم من زفير جهنم، وهم فى تضاعيف ذلك يزجرونهم عن ظلم الرعية واقتراف المعاصى والسيئات. ومن كبارهم الذين عرفوا بمقاماتهم المحمودة بين أيدى الخلفاء ثلاثة هم عمرو بن عبيد المعتزلى الزاهد المشهور واعظ المنصور وصالح بن عبد الجليل واعظ المهدى وابن السماك واعظ الرشيد، ويروى عن أولهم أنه دخل على المنصور يوما فقال له:
عظنى، فقال (1):
«إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاستر نفسك ببعضها، واذكر ليلة تمخّض عن يوم لا ليلة بعده. فوجم أبو جعفر من قوله، فقال له الربيع (2): يا عمرو غممت أمير المؤمنين. فقال عمرو: إن هذا صحبك عشرين سنة لم ير لك عليه أن ينصحك يوما واحدا، وما عمل وراء بابك بشئ من كتاب الله ولا سنّة نبيه قال أبو جعفر: فما أصنع؟ ! قد قلت لك: خاتمى فى يدك فتعال وأصحابك (3)، فاكفنى. قال عمرو: ادعنا بعد لك تسخ أنفسنا بعونك.
ببابك ألف مظلمة اردد منها شيئا نعلم أنك صادق».
وكان صالح بن عبد الجليل ناسكا مفوّها، وكان يلمّ بمجالس المهدى ويعظه، ويطيل فى وعظه له حتى يبكيه وحتى يذرف الدمع مدرارا، ويروى أنه دخل عليه يوما فسأله أن يأذن له فى الكلام، فقال له تكلّم، ومن بعض كلامه حينئذ (4):
«كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من حجب الله عنه العلم عذّبه به على الجهل، وأشدّ منه عذابا من أقبل إليه العلم وأدبر عنه، ومن أهدى الله إليه علما فلم يعمل به، فقد رغب عن هدية الله وقصّر بها، فاقبل ما أهدى الله إليك من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل لا قبول سمعة ورياء فإنه لا يعدمك منا إعلام لما تجهل أو مواطأة على ما تعلم أو تذكير من غفلة، فقد وطّن الله عز وجل نبيّه عليه السلام على نزولها تعزية عما فات وتحصينا من التمادى ودلالة على المخرج فقال:{(وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ}
(1) عيون الأخبار 2/ 337.
(2)
حاجب المنصور.
(3)
يريد أصحابه من المعتزلة الناسكين.
(4)
عيون الأخبار 2/ 333.
{فَاسْتَعِذْ بِاللهِ)} فأطلع الله على قلبك بما ينوّره من إيثار الحق ومنابذة الأهواء، ولا حول ولا قوة إلا بالله».
وكان ابن السماك محدثا وواعظا مؤثرا، روى عنه أحمد بن حنبل وغيره، وله كلام ومواقف بين يدى الرشيد تدور فى كتب التاريخ والأدب، ومما يؤثر عنه أنه دخل عليه يوما، فقال له الرشيد: عظنى، فقال (1):
وكان هؤلاء الوعاظ يستمدون دائما من الذكر الحكيم وأحاديث الرسول الكريم وأقوال أصحابه ومن سبقوهم إلى الوعظ فى العصر الأموى من مثل الحسن البصرى، ودائما تبهرنا مواعظهم لما أشاعوا فيها من إيمان شديد بالدين وثقة وطيدة بأن ما عند الله خير وأبقى مما فى أيدى الناس من متاع الحياة الزائل.
وكثير من الوعّاظ كانوا يمزجون وعظهم بالقصص الدينى وتفسير بعض آى القرآن؛ وهو مزج قديم منذ الصدر الأول للإسلام. وكثر هؤلاء القصاص الوعاظ فى عصر بنى أمية مما جعل الجاحظ يعقد لهم فصلا (3) طريفا فى كتابه البيان والتبيين، وفيه يقول عن قصّاص العصر العباسى الأول:
«ومن القصّاص موسى بن سيار الأسوارى وكان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية فى وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس فى مجلسه المشهور به، فتقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدرى بأى لسان هو أبين. واللغتان إذا التقتا فى اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضّيم على صاحبتها إلا ما ذكرنا من لسان موسى بن سيار الأسوارى. ولم يكن فى هذه الأمة بعد أبى موسى الأشعرى أقرأ فى محراب من موسى بن سيّار ثم عثمان بن سعيد بن أسعد ثم يونس النحوى ثم المعلّى. ثم
(1) تاريخ الطبرى 6/ 538.
(2)
اخضلت: بللتها الدموع.
(3)
انظر البيان والتبيين 1/ 367 وما بعدها.
قصّ فى مسجده أبو على الأسوارىّ وهو عمرو بن فائد ستا وثلاثين سنة، فابتدأ لهم فى تفسير سورة البقرة، فما ختم القرآن حتى مات، لأنه كان حافظا للسير ولوجوه التأويلات، فكان ربما فسّر آية واحدة فى عدة أسابيع. . وكان هو يحفظ مما يجوز أن يلحق فى ذلك من الأحاديث كثيرا، وكان يقصّ فى فنون من القصص ويجعل للقرآن نصيبا من ذلك. . ثم قصّ بعده القاسم بن يحيى، وهو أبو العباس الضرير، لم يدرك فى القصّاص مثله. وكان يقصّ معهما وبعدهما مالك بن عبد الحميد المكفوف. . فأما صالح المرّى فكان يكنى أبا بشر، وكان صحيح الكلام رقيق المجلس. وسمعه سفيان بن حبيب (أحد كبار المحدثين) فقال ليس هذا قاصّا، هذا نذير».
ووقف الجاحظ فى بيانه مرارا عند صالح المرّى حاكيا بعض كلامه، أو بعض ما كان يردّده من شعر فى قصصه، من ذلك قوله عنه: «كان صالح المرى القاص العابد البليغ كثيرا ما ينشد فى قصصه وفى مواعظه هذا البيت الذى أنشدناه فى غير هذا الموضع:
فبات يروّى أصول الفسيل
…
فعاش الفسيل ومات الرّجل» (1)
ومن ذلك ما يذكر من أنه مات ابن لعبيد الله بن الحسن قاضى البصرة.
فعزّاه صالح المرى، فقال:«إن كانت مصيبتك فى ابنك أحدثت لك عظة فى نفسك، فنعم المصيبة مصيبتك، وإن لم تكن أحدثت لك عظة فى نفسك فمصيبتك فى نفسك أعظم من مصيبتك فى ابنك (2)» . وعزّى رجلا فى أخيه فقال:
«إن تكن مصيبتك فى أخيك أحدثت لك خشية فنعم المصيبة مصيبتك، وإن تكن مصيبتك بأخيك أحدثت لك جزعا فبئس المصيبة مصيبتك (3)» . ويذكر الجاحظ أنه كان كثيرا ما يردد فى مجلسه: «أعوذ بك من الخسف والمسخ والرّجفة والزلزلة والصاعقة والريح المهلكة، وأعوذ بك من جهد البلاء ومن شماتة الأعداء» . وكان يقول: أعوذ بك من التّعب والتعذر والحسيبة وسوء المنقلب. اللهم من أرادنى بخير فيسّر لى خيره، ومن أرادنى بشر فاكفنى شرّه. اللهم إنى
(1) البيان والتبيين 1/ 119.
(2)
البيان والتبيين 2/ 82.
(3)
البيان والتبيين 3/ 171.
أسألك خصب الرّحل (1)، وصلاح الأهل (2)». وروى الجاحظ من بعض وعظه فى كتابه الحيوان قوله:«تغدو الطير خماصا وتروح شباعا، واثقة بأن لها فى كل غدوة رزقا لا يفوتها. والذى نفسى بيده أن لو غدوتم على أسواقكم على مثل إخلاصها لرحتم وبطونكم أبطن من بطون الحوامل (3)» .
وواضح مما روينا من كلام صالح المرّىّ وغيره من القصّاص والوعاظ أنهم ارتقوا بصناعة النثر فى المعانى التى كانوا يرددونها رقيا بعيدا، إذ شعّبوا وفرّعوا فى تلك المعانى طويلا، واستنبطوا فيها كثيرا من الدقائق التى تمسّ القلوب والعقول.
وأضافوا إلى ذلك عناية واسعة بأساليبهم، وهى عناية تقوم على الدقة فى اختيار اللفظ والإحساس المرهف بجمال السبك والصياغة. وأدّاهم ذلك فى بعض الأحيان إلى استخدام السجع، بل كان منهم من أكثر من استخدامه مثل الفضل ابن عيسى الرقاشى وفيه يقول الجاحظ كان سجّاعا فى قصصه (4)، وكان من أخطب الناس وكان متكلما قاصّا مجيدا (5)، ويروى من وعظه:«سل الأرض فقل من شقّ أنهارك وغرس أشجارك، فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا (6)» ويقول الجاحظ: «كان يتلو الآية التى فيها ذكر الجنة والنار والموت والحشر (7)» ثم يفيض فى الوعظ. وكان ابنه عبد الصمد قاصّا مثله، وكان أغزر منه وأبين وأعجب وأخطب (8)، وقيل له:«لم تؤثر السجع على المنثور وتلزم نفسك القوافى (أى روىّ الأسجاع) وإقامة الوزن؟ قال: إن كلامى لو كنت لا آمل فيه إلا سماع المشاهد لقلّ خلافى عليك، ولكنى أريد الغائب والحاضر والراهن والغابر، فالحفظ إليه أسرع، والآذان لسماعه أنشط، وهو أحق بالتقييد وبقلة التفلّت (9)» .
(1) الرحل هنا: المسكن والبيت.
(2)
البيان والتبيين 3/ 288.
(3)
الحيوان 7/ 62.
(4)
البيان والتبيين 1/ 290.
(5)
البيان والتبيين 1/ 306.
(6)
البيان والتبيين 1/ 308.
(7)
البيان والتبيين 1/ 291.
(8)
البيان والتبيين 1/ 308.
(9)
البيان والتبيين 1/ 287.