الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولست أترك تفضيلى له أبدا
…
حتى الممات على رغم الملاعين
وكثر فى هذا العصر بين شعراء الشيعة الحديث عن على بن أبى طالب وفضائله، ومرّ بنا فى الفصل الرابع أن لبشر بن المعتمر مزدوجة صوّر فيها منزلته وكيف أنه يرتفع فوق خصومه من الخوارج درجات. وينبغى أن نشير هنا إلى ما كان من محاولة المأمون عقد البيعة من بعده لعلى الرضا الإمام السابع عند الشيعة الإثنى عشرية، وأن أسرته ثارت عليه فى بغداد، وأن عليّا الرضا توفّى سريعا، فانصرف عن فكرته، وقد ظل يوالى العلويين على الرغم من قيامهم ببعض ثورات فى خلافته، إذ نراه-كما أسلفنا فى غير هذا الموضع-يكتب إلى الآفاق فى سنة 112 للهجرة بتفضيل على بن أبى طالب على جميع الصحابة، مما جعل شعراء الشيعة يطمئنون إليه، ونفذ بعض الشعراء من غيرهم مثل أبى تمام إلى النظم فى فضائل على إرضاء للدولة. وأيضا ينبغى أن نشير هنا إلى كثرة الانقسامات بين الشيعة وما جرّ إليه ذلك من أشعار انتصر فيها الشعراء لما اعتنقوه من بعض المذاهب الشيعية وفى كتاب الفرق بين الفرق للبغدادى منثورات مختلفة من تلك الأشعار. وجدير بنا أن نعرض لأبرز شعراء الشيعة فى العصر، وهم
السيد الحميرى
ومنصور النّمرى ودعبل وديك الجن.
السيد (1) الحميرى
هو إسماعيل بن محمد حفيد يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميرى الذى ترجمنا له فى الجزء الثانى من هذه السلسلة، وقد تشككنا هناك فى نسبه من حمير واستظهرنا أنه يرجع إلى أصول إيرانية لما عرف عنه من إتقانه الفارسية. على أننا نجد السيد
(1) انظر فى ترجمة السيد الحميرى وأشعاره وأخباره ابن المعتز ص 32 والأغانى (طبعة دار الكتب) 7/ 229 وما بعدها والبيان والتبيين 3/ 360 والحيوان 5/ 317 والفرق بين الفرق للبغدادى ص 30 والملل والنحل للشهرستانى (طبعة لندن) ص 111 وروضات الجنات ص 28 والنجوم الزاهرة 2/ 29، 68، 74 وفوات الوفيات فى إسماعيل وفرق الشيعة للنوبختى (طبعة ريتر) ص 26، ومعرفة أخبار الرجال للكشى 184 وترجمة جده يزيد بن مفرغ فى الجزء الثانى من هذا الكتاب وحديث الأربعاء لطه حسين 2/ 305.
يفتخر بحميريته، وكانت أمه من الأزد اليمنيين، ومن ثمّ يقول:
إنى امرؤ حميرىّ غير مؤتشب
…
جدّى رعين وأخوالى ذوويزن (1)
وقد ولد لأبويه فى البصرة سنة 105 للهجرة، وكانا من إباضيّة الخوارج، فنشأ يسمع منهما سبّ على بن أبى طالب، بل تكفيره وتكفير بعض الصحابة، وعبثا كان يراجعهما. ولم يلبث أن أوغل فى التشيع لعلى وآله، ويظهر أنه وقع لبعض أصحاب مذهب الكيسانية القائلين بإمامة محمد بن الحنيفية والمعتنقين لنظرية الغيبة والرجعة، فإذا هو يصبح كيسانيّا لحما وروحا، ولا ندرى هل حدث له ذلك فى البصرة أو حدث فى الكوفة فقد أقام بها ردحا من الزمن. وأيّا كان فقد اعتنق المذهب مبكرا وأصبح شيعة لأصحابه منذ أواخر عصر بنى أمية، حتى إذا أظلّه العصر العباسى تمشت فى نفسه الفرحة لانتصار الهاشميين وتقويض حكم الأمويين، وأخذ يستبشر بقيام الدولة العباسية، وكأنه رأى فيها انتصارا لمذهبه الشيعى، إذ كان أبو هاشم بن محمد بن الحنفية قد أوصى من بعده، كما مرّ بنا، لمحمد بن على العباسى، وأوصى محمد للسفاح ومن ثمّ كانت إمامته وخلافته هو ومن تلاه من العباسيين صحيحة فى نظر الكيسانية أو على الأقل جمهورهم الذى كان يتبع فرقة أبى هاشم. وطبيعى لذلك أن نجد السيد الحميرى الكيسانى يهلل لانتصار العباسيين حتى ليبادر أبا العباس السفاح حين خطب فى الكوفة خطبته المشهورة التى أخذ على إثرها البيعة من الناس قائلا:
دونكموها يا بنى هاشم
…
فجدّدوا من عهدها الدّارسا
قد ساسها قبلكم ساسة
…
لم يتركوا رطبا ولا يابسا
ولست من أن تملكوها إلى
…
مهبط عيسى فيكم آيسا
وواضح أنه يهنئه بالخلافة لامزا الأمويين الذين ملأوا الأرض ظلما وجورا، ويقول إنها لن تزال فيهم إلى هبوط عيسى بأخرة من الدنيا، فهو لا يفكر فى زوالها عنهم، بل هو يراها لهم خالصة حتى تفنى الأرض ومن عليها، وتوفّى السفاح
(1) المؤتشب: غير الصريح فى نسبه. وذو رعين: من ملوك اليمن، وذو يزن: أبناء ذى يزن أحد أمراء اليمن الأقدمين.
وخلفه المنصور، فأغدق عليه من صلاته السّنية وأغدق عليه السيد الحميرى من مدحه بمثل قوله:
إن الإله الذى لا شئ يشبهه
…
أعطاكم الملك للدّنيا وللدّين
أعطاكم الله ملكا لا زوال له
…
حتى يقاد إليكم صاحب الصين
وصاحب الهند مأخوذا برمّته
…
وصاحب التّرك محبوسا على هون
ومدح من بعده ابنه المهدى وظن طه حسين أن السيد الحميرى كان فى هذا المدح منافقا، فهو لا يستحلّ أن يظهر غير ما يضمر وأن يمدح بنى العباس بلسانه ويلعنهم فى قلبه، فيظفر بمالهم ويتقى شرهم، كان يستحلّ ذلك كما كانت تستحلّه عامة الشيعة الذين كانوا يقولون بمذهب التقية (1)». ولا تقية ولا نفاق، وإنما شاعر كيسانى بمدح أوصياء عقيدته الكيسانية الذين أدالوا من بنى أمية وسلطانهم الجائر، وهو بعد ذلك مخلص فى كيسانيته إخلاصا بعيدا حتى ليؤمن بأن محمد ابن الحنفية حىّ وأنه راجع يوما يقول:
حتى متى؟ وإلى متى؟ ومتى المدى؟
…
يا بن الوصىّ وأنت حىّ ترزق
ويروى أن شيطان الطاق محمد بن على بن النعمان أحد متكلمى مذهب الشيعة الإمامية ناظره يوما فى عقيدته الكيسانية يريد أن يجذبه إلى عقيدته، وغلبه فى مناظرته، غير أن السيد لم يلبث أن أنشأ قصيدة أدارها على أبيات كثيّر سلفه الكيسانى فى العصر الأموى التى تجرى على هذا النمط:
ألا إن الأئمة من قريش
…
ولاة الحقّ أربعة سواء
علىّ والثلاثة من بنيه
…
هم أسباطه والأوصياء
فسبط سبط إيمان وحلم
…
وسبط غيّبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى
…
يقود الخيل يقدمها اللّواء
والسبط الأول الحسن والثانى الحسين المقتول بكربلاء. والثالث إمامه محمد بن الحنفية، وكثيّر يقول إنه لا يزال حيّا لم يذق الموت وأنه سيعود فى جيش لجب
(1) حديث الأربعاء 2/ 307.
وكان السيد الحميرى فى القرن الثانى لا يزال يؤمن مثله برجعته. وزعم بعض الرواة أنه رجع بأخرة من حياته عن كيسانيته واعتنق مذهب الإمامية أصحاب جعفر الصادق، وأجروا على لسانه:
تجعفرت باسم الله والله أكبر
…
وأيقنت أن الله يعفو ويغفر
غير أن أبا الفرج ردّ ذلك قائلا هو ورواته إنه ظل على كيسانيته حتى الأنفاس الأخيرة من حياته. ولعلنا لا نغلو إذا قلنا إنه كان أكثر شعراء القرن الثانى تمجيدا لعلى وبنيه، فقد أنفق حياته فى نظم أخبارهم ومناقبهم، ويقول ابن المعتز إنه لم يترك فضيلة معروفة لعلى بن أبى طالب إلا نقلها إلى الشعر، وقد كرّر طويلا ما تدّعيه الشيعة من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى له بالخلافة من بعده عند غدير خمّ بين مكة والمدينة، وفيه يقول:
أقسم بالله وآلائه
…
والمرء عما قال مسئول
إن على بن أبى طالب
…
على التّقى والبرّ مجبول
ولعل أطول قصائده الشيعية قصيدته التى تسمى المذهبة، وقد عنى بها الشيعة وشرحوها مرارا، وهو يستهلها بذكر الأمويين ومسير عائشة رضى الله عنها إلى البصرة مع طلحة والزبير، يقول:
أين التطرّف بالولاء وبالهوى
…
أإلى الكواذب من بروق الخلّب
أإلى أمية أم إلى الشّيع التى
…
جاءت على الجمل الخدبّ الشّوقب
تهوى من البلد الحرام فنبّهت
…
بعد الهدوّ كلاب أهل الحوأب
وهو يشير إلى أن كلابا نبحت أم المؤمنين عند بئر الحوأب، وكان يفرط فى سبّها وسب طلحة والزبير وأبى بكر الصديق وعمر وكثير من الصحابة لا يرعوى ولا يزدجر، وكان يستطيع أن يسجّل لعلى ما شاء من فضائله، دون أن يزج بنفسه فى هذه المضايق الوعرة غير مراع لجلة الصحابة وأمهات المؤمنين، أى حرمة، ولبئس ما قال فى عائشة وصاحبيها:
جاءت مع الأشقين فى هودج
…
تزجى إلى البصرة أجنادها
كأنها فى فعلها هرّة
…
تريد أن تأكل أولادها
ويروى أن المهدى جلس يوما يعطى قريشا صلاتها وهو ولى عهد، فبدأ بينى هاشم ثم سائر قريش، ولم يلبث السيد أن وفد عليه بقصيدة يذم فيها عشيرتى عمر وأبى بكر الصديق وينهاه أن يعطى أحدا منهما صلته، ولبّاه المهدى. وقد روى أبو الفرج قطعة منها، وقال إنه حذف باقيها لقبح ما جاء فيها من السبّ والشتم.
ولعل فى ذلك ما يدلّ على أن السيد الحميرى كان غاليا فى تشيعه غلوّا قبيحا، ولو أنه لم يشب مديحه لعلى وبنيه بهذا السبّ المنكر لتداول شعره الرواة، إذ كان شاعرا بارعا، ومن مستحسن شعره فيهم قوله ناظما ما روى من أن الحسن والحسين، أتيا الرسول فوجداه ساجدا فركبا على ظهره، فقال عمر: نعم المطىّ مطيكما:
أنى حسنا والحسين الرسول
…
وقد برزا ضحوة يلعبان
فضمّهما ثم فدّاهما
…
وكانا لديه بذاك المكان
وراحا وتحتهما عاتقاه
…
فنعم المطيّة والراكبان
وكان يكثر من رثاء الحسين رثاء يستنرف الدمع ويذيب القلب حسرات، ويقال إنه استأذن يوما على جعفر الصادق فأذن له وأقعد حرمه خلف ستر، فدخل، فأنشده قوله:
امرر على جدث الحس
…
ين فقل لأعظمه الزّكيّه
آأعظما لا زلت من
…
وطفاء ساكبة رويّة (1)
وإذا مررت بقبره
…
فأطل به وقف المطيّه
وابك المطهّر للمطهّ
…
ر والمطهّرة النّقيّه
(1) الوطفاء: السحابة المحملة بالأمطار الغريزة.
كبكاء معولة أتت
…
يوما لواحدها المنيّه
فسالت دموع جعفر على خديه مدرارا وارتفع النشيج والصراخ فى داره فأمره بالإمساك فأمسك.
وللسيد وراء تشيعه ومدائحه للعباسيين مدائح فى بعض ولاة البصرة والأهواز، وله أهاج فى المرجئة وفى عبد الله بن سوار قاضى البصرة الذى ردّ شهادته لقذفه فى الصحابة، وقد شكاه للمنصور فانتصف له منه. ويقال إنه كان يعكف على الخمر، وليس له فيها أشعار مذكورة. وفى الحق أنه عاش للتشيع ينفق فيه أيامه وقصيده، وكان يعرف كيف يوازن بين جزالته وعذوبته، مع الرونق والحلاوة، ولعل ذلك ما جعله يتحامى فيه الغريب واللفظ الآبد، حتى يلذّ الأسماع والأفئدة وحتى يسير على الشفاه والألسنة. وما زال هذا دأبه حتى توفى سنة 173 للهجرة.
منصور (1) النّمرى
هو منصور بن الزبرقان بن سلمة (2) من قبيلة النّمر بن قاسط من أهل الجزيرة وهو تلميذ العتابى المتكلم وراويته وعنه أخذ ومن بحره استقى وتشبّه كما يقول أبو الفرج، ويقال إنه وصفه للفضل بن يحيى بن خالد البرمكي ونوّه به وقرّظه، فاستقدمه من الجزيرة، فأنشده بعض مدائحه فيه، وحظى عنده، ولم يلبث أن وصله بالرشيد، ووقع من نفسه خير موقع، إذ مضى يمدحه على طريقة مروان بن أبى حفصة بنفى الإمامة عن أبناء على بن أبى طالب وبيان أنها حق خالص للعباسيين، وأنهم لا يزالون يطوّقون رقابهم بالمنن، وهم يجحدونها، فيثورون، وكثيرا ما يتلقون ثوراتهم بالعفو عنهم على نحو ما صنع الرشيد بيحيى بن عبد الله، فإنه اكتفى بسجنه، ولم يقتله، وفى ذلك يقول:
بنى حسن وقل لبنى حسين
…
عليكم بالسداد من الأمور
(1) انظر فى أخبار النمرى وأشعاره ابن المعتز ص 242 وابن قنيبة 835 والأغانى (طبعة دار الكتب) 13/ 140 وتاريخ بغداد 13/ 65 والبداية والنهاية لابن كثير 10/ 212 وأمالى المرتضى (طبعة الحلبى) 2/ 274 وما بعدها وزهر الآداب 3/ 68.
(2)
فى بعض المصادر منصور بن سلمة بن الزبرقان.
أميطوا عنكم كذب الأمانى
…
وأحلاما يعدن عدات زور
مننت على ابن عبد الله يحيى
…
وكان من الحتوف على شفير
يد لك فى رقاب بنى علىّ
…
ومنّ ليس بالمنّ الصغير
وإنك حين تبلغهم أذاة
…
-وإن ظلموا-لمحزون الضمير
فإن شكروا فقد أنعمت فيهم
…
وإلا فالنّدامة للكفور
وإن قالوا بنو بنت فحقّ
…
وردّوا ما يناسب للذكور
وما لبنى بنات من تراث
…
مع الأعمام فى ورق الزّبور
ويقال إنه استخفّ الرشيد حين أنشده هذه القصيدة، فإذا هو يأمر الفضل ابن الربيع أن يدخله بيت المال ويدعه يأخذ ما يشاء، فأخذ سبعا وعشرين بدرة.
ومن روائع قصائده فيه قصيدته العينية، ويقول ابن المعتز إنه أقام القيامة بحديثه فى مطلعها عن الشباب إذ يقول:
ما تنقضى حسرة منى ولا جزع
…
إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع
بان الشباب وفاتتنى بلذّته
…
صروف دهر وأيام لها خدع
ما كنت أوفى شبابى كنه غرّته
…
حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
إن كنت لم تطعمى ثكل الشباب ولم
…
تشجى بغصته فالعذر لا يقع
ويقال إن الرشيد حين سمع منه هذا المطلع قال له: أحسنت والله، لا يتهنّأ أحد بعيش حتى يخطر فى رداء الشباب، وخرج إلى المديح ملوحا فى وجه العلويين بمثل قوله:
يا ابن الأئمة من بعد النبىّ ويا اب
…
ن الأوصياء أقرّ الناس أو دفعوا
وما لآل علىّ فى إمارتكم
…
حقّ وما لهم فى إرثكم طمع
العمّ أولى من ابن العمّ فاستمعوا
…
قول النّصيح فإن الحقّ يستمع
وهو يشير إلى أن العباس عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم يحجب على بن أبى طالب ابن أخيه كما تقضى بذلك فريضة الإرث فى الإسلام. وكان لا يزال يحيط
هرون بهالة من القدسية حتى ليرفعه على آل الرسول جميعا، وحتى ليجعل من يشتمل عليه سخطه لا ينتفع بدينه ولا بصلواته، يقول فى القصيدة السالفة:
أىّ امرئ بات من هرون فى سخط
…
فليس بالصلوات الخمس ينتفع
ويقول فى قصيدة ثانية:
يا خير ماض وخير باق
…
بعد النبيين فى الأنام
ومن قصيدة له ثالثة:
آل الرسول خيار الناس كلّهم
…
وخير آل رسول الله هرون
ولم يكن منصور فى كل هذه الأشعار مخلصا، بل كان يظهر غير ما يضمر، إذ كان شيعيّا إماميّا، وكأنه كان يتخذ تلك الأشعار متجرأ، ليعيش آمنا، ولينال ما يريد من طيبات الحياة ومتاعها معتمدا على ما يؤمن به الإمامية من التقية.
وقد زعم المرتضى فى أماليه أنه «كان ينافق الرشيد ويذكر هرون فى شعره ويريه أنه من وجوه شيعته وباطنه ومراده بذلك أمير المؤمنين على بن أبى طالب عليه السلام لقول النبى، صلى الله عليه وآله، له: أنت منى بمنزلة هرون من موسى» ونراه يكثر من مدح آل الرسول والتنديد بالأمويين والعباسيين، ومن خير ما يصور ذلك لا ميته وفيها يقول:
شاء من الناس راتع هامل
…
يعلّلون النفوس بالباطل (1)
تقتل ذريّة النبىّ وير
…
جون جنان الخلود للقاتل
ويلك يا قاتل الحسين لقد
…
بؤت بحمل ينوء بالحامل
ما الشك عندى فى كفر قاتله
…
لكننى قد أشك فى الخاذل
وعاذلى أننى أحبّ بنى
…
أحمد فالتّرب فى فم العاذل
قد دنت ما دينكم عليه فما
…
وصلت من دينكم إلى طائل
دينكم جفوة النبىّ وما ال
…
جافى لآل النبىّ كالواصل
(1) هامل: المتروك ليلا ونهارا.
وقد مضى فى القصيدة ينكر موقف أبى بكر وعمر من دعوى فاطمة إرث «فدك» زاعما أنهما ظلماها، ومطالبا بمن يثأر لها من ظلمتها، يقول:
مظلومة والنبىّ والدها
…
تدير أرجاء مقلة حافل
ألا مساعير يغضبون لها
…
بسلّة البيض والقنا الذابل (1)
وكانت قد حدثت جفوة بينه وبين أستاذه العتابى، فأسخط الرشيد عليه، غير أنه عاد فعفا عنه وأوسع له فى مجالسه، وانتهز العتابى منه يوما فرصة، فذكر له حقيقة النمرى وأنه شيعى غال فى تشيعه، وأنشده اللامية الآنفة وأشعارا أخرى من مثل قوله:
آل الرسول ومن يحبّهم
…
يتطامنون مخافة القتل
أمن النصارى واليهود وهم
…
من أمّة التوحيد فى أزل (2)
فاستشاط الرشيد غضبا، وبعث إلى الرّقة، وكان مقيما بها، من يقتله، غير أن رسوله وجد جنازته تستقبله، فانكفأ راجعا إلى الرشيد، فأعلمه خبره.
وممن مدحهم وأشاد بهم يزيد بن مزيد الشيبانى، وكان من مدّاح الفضل ابن يحيى البرمكى كما مرّ بنا، وقد بكاه حين نكبه الرشيد هو وأباه وأخاه جعفرا لسنة 187، وفى ذلك ما يدل على أن وفاته كانت بعد نكبتهم. وواضح مما أنشدناه من أشعاره أنه كان يعنى عناية شديدة بانتخاب ألفاظه وانتقاء معانيه، وكان ما يزال يجهد فكره وخياله حتى يأتى بالطرائف النادرة من مثل قوله:
ولقد تبيت أناملى
…
يجنين رمّان النّحور
ومن المحقق أنه لم يكن يتعلق بلهو ولا مجون ولا خمر شأن كثير من معاصريه، وأنه كان يكتفى من ملاهى عصره بالسماع إلى الغناء واجدا فيه ما يبتغى من لذة ومتاع.
(1) مساعير: جمع مسعار، وهو موقد الحرب البيض: السيوف. الذابل: الرقيق الحاد.
(2)
أزل: ضيق وشدة.