المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - الشعوبية والزندقة - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٣

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الأول

- ‌الفصل الأوّلالحياة السياسية

- ‌1 - الثورة العباسية

- ‌2 - بناء بغداد ثم سامرّاء

- ‌3 - النظم السياسية والإدارية

- ‌4 - العلويون والخوارج

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثانىالحياة الاجتماعية

- ‌1 - الحضارة والثراء والترف

- ‌2 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌3 - المجون

- ‌4 - الشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد

- ‌الفصل الثالثالحياة العقلية

- ‌1 - الامتزاج الجنسى واللغوى والثقافى

- ‌2 - الحركة العلمية

- ‌3 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة

- ‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ

- ‌5 - العلوم الدينية وعلم الكلام والاعتزال

- ‌الفصل الرابعازدهار الشعر

- ‌1 - ملكات الشعراء اللغوية

- ‌2 - طوابع عقلية دقيقة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - موضوعات جديدة

- ‌[5 - ]التجديد فى الأوزان والقوافى

- ‌الفصل الخامسأعلام الشعراء

- ‌1 - بشار

- ‌2 - أبو نواس

- ‌3 - أبو العتاهية

- ‌5 - أبو تمام

- ‌الفصل السادسشعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الدعوة العباسية

- ‌ أبو دلامة

- ‌[2 - ]شعراء الشيعة

- ‌ السيد الحميرى

- ‌دعبل

- ‌ ديك الجن

- ‌3 - شعراء البرامكة

- ‌ أبان بن عبد الحميد اللاحقى

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌أبو الشيّص

- ‌ على بن جبلة

- ‌الخريمىّ

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ أبو عيينة المهلّبى

- ‌الفصل السّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ العباس بن الأحنف

- ‌ربيعة الرّقى

- ‌2 - شعراء المجون والزندقة

- ‌ حماد عجرد

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌ عبد الله بن المبارك

- ‌4 - شعراء الاعتزال

- ‌ العتابى

- ‌ بشر بن المعتمر

- ‌النظام

- ‌5 - شعراء النزعات الشعبية

- ‌ أبو الشمقمق

- ‌الفصل الثامنتطور النثر وفنونه

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطب والوعظ والقصص

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية والعهود والوصايا والتوقيعات

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التاسعأعلام الكتّاب

- ‌خاتمة

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار

الفصل: ‌4 - الشعوبية والزندقة

الجوارى بضمير المذكر. ومن تتمة هذا التبادل بين الجوارى والخصيان فى الزى والهيئة حينئذ كثرة المخنثين بين المغنين والضاربين على الدفوف، وكانوا يتشبهون بالنساء فى عاداتهن وثيابهن وضفر شعورهن وصبغ أظافرهن بالحناء (1).

‌4 - الشعوبية والزندقة

نادى الإسلام فى قوة بهدم الفوارق العصبية للقبائل والفوارق الجنسية للشعوب، حتى يسود الوئام بين أفراد الأمة الإسلامية، فلا عدنانى ولا قحطانى ولا عربى ولا أعجمى، إنما هى أمة واحدة يتساوى أفرادها فى جميع الحقوق ولا تفاضل فيها إلا بالتقوى والعمل الصالح، يقول جلّ شأنه:(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم فى خطبة حجة الوداع: «أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربى على عجمى فضل إلا بالتقوى» (2).

وهذا بلا ريب مثل أعلى أراده الإسلام لأمته، غير أنا لا نصل إلى عصر على بن أبى طالب وما نشب لعهده من حرب صفّين حتى نرى العصبيات القبلية تعود جذعة بين القبائل، وكأنهم لم ينسوا حياتهم القديمة، بل لقد اضطرمت اضطراما لم تهدأ ثائرته طوال عصر بنى أمية. وقد مضى الأمويون ينحرفون عن جادّة الدين فى معاملة الموالى، فهم يرهقونهم بكثرة الضرائب، وهم لا يسوون بينهم وبين العرب فى الحقوق، إلا ما كان من عمر بن عبد العزيز، ولكن مدة حكمه كانت قصيرة، فلم يؤت عمله فى هذا الجانب أى ثمرة.

وكانت هذه المعاملة السيئة للموالى سببا فى اضطغانهم على العرب، أو بعبارة أدق على الدولة الأموية، فشاركوا الخوارج والشيعة فى الثورة عليها، يأخذ فريق منهم يمثلهم إسماعيل (3) بن يسار النسائى يفاخر العرب بحضارة أمته الفارسية وملوكها

(1) أغانى 4/ 7.

(2)

البيان والتبيين 2/ 33.

(3)

أغانى 4/ 410 وما بعدها.

ص: 74

الساسانيين الذين غلبوا على الأرض. وعظم حقد الموالى على الدولة، وملأت الحفيظة والموجدة صدورهم، والتفّت منهم جماعات كثيرة حول أبى مسلم داعية العباسيين بخراسان، وما لبثوا أن زحفوا فى جيش ضخم أدالوا به للعباسيين من الأمويين وللفرس من العرب إدالة نفذوا فى أثنائها إلى مناصب الدولة العباسية العليا، بحيث كان منهم أكثر القواد وأكثر الولاة، وخاصة حين استولى على أزمّة الحكم البرامكة فى عهد الرشيد وبنو سهل فى عهد المأمون.

وكان هذا التحول الخطير فى مقاليد الحكم وما أصبح للفرس من مكانة رفيعة فى المجتمع العباسى الجديد سببا فى بروز نزعة الشعوبية نسبة إلى الشعوب الأعجمية، وهى نزعة كانت تقوم على مفاخرة تلك الشعوب-وفى مقدمتها الشعب الفارسى- للعرب مفاخرة تستمد من حضارتهم وما كان العرب فيه من بداوة وحياة خشنة غليظة.

وكان منهم معتدلون وقفوا عند حد التسوية بين العرب وغيرهم من الشعوب حسب تعاليم الإسلام فلا عربى يفضل أعجميّا ولا أعجمى يفضل عربيّا، إذ ليست العروبة ولا العجمة ميزة فى نفسها تعلى من شأن صاحبها، فالناس جميعا سواء وقد خلقوا من تراب ويعودون إلى التراب.

وكان بجانب هؤلاء المعتدلين متطرفون تجاوزوا التسوية بين العرب وغيرهم من الشعوب إلى الإزراء عليهم والنزول بهم دونها مرتبة أو مراتب، وهؤلاء هم الذين تصدق عليهم كلمة الشعوبيين، إذ قدموا الشعوب الأجنبية على العرب وتنقّصوا قدرهم وصغّروا شأنهم، وكانوا طوائف مختلفة فمنهم رجال السياسة الذين يريدون أن يستأثروا دون العرب بالحكم والسلطان، ومنهم قوميون كانوا يستشعرون مشاعر قوميتهم ضد العرب الذين اجتاحوا ديارهم وقوّضوا دولهم وهى مشاعر ما زالت تحتدم فى نفوس الفرس حتى أحيوا لغتهم ودولتهم فيما بعد، ومنهم مجان خلعاء أعجبتهم الحضارات الأجنبية وما اقترن بها من خمر ومجون واستمتاع بالحياة. وأشد من كل هؤلاء عنفا وغيظا من العرب الملاحدة الزنادقة الذين كانوا يبغضون الدين الحنيف وكل ما اتصل به من عرب وعروبة، وفيهم يقول الجاحظ: «إن عامة من ارتاب بالإسلام إنما كان أول ذلك رأى الشعوبية والتمادى فيه وطول الجدال المؤدّى إلى الضلال، فإذا أبغض شيئا أبغض أهله، وإن أبغض تلك اللغة أبغض تلك

ص: 75

الجزيرة، وإذا أبغض تلك الجزيرة أحبّ من أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام، إذ كانت العرب هى التى جاءت به، وهى السلف والقدوة» (1).

وكانت أهم مطاعنهم التى وجههوها إلى العرب أنهم كانوا بدوا (2) رعاة أغنام وإبل، ولم يكن لهم ملك ولا حضارة ولا مدنية ولا معرفة بالعلوم، فأين هم قديما من ملك الأكاسرة والقياصرة؟ وأين هم من الحضارة الفارسية والرومية؟ وأين هم من علوم الهند والفرس والكلدان واليونان والرومان؟ وقد مضوا يزرون على خطابتهم واعتمادهم فيها على العصى وإشارتهم بها واتكائهم على أطراف القسّى كما أزروا على أسلحتهم الساذجة وأطعمتهم الخشنة. وأخذوا يتتبعون مثالبهم ويحصونها عليهم ويستقصونها، وكان العرب بسبب أهاجيهم القبلية العنيفة قد وضعوا تحت أيديهم مادة وفيرة منها، فاستغلوها فى ذمهم وأضافوا إليها مادة مختلقة صاغوها فى قصص وأشعار وأضافوها إليهم. وبلغ من سوء نيتهم وشدة موجدتهم عليهم أن حاولوا تقبيح بعض شيمهم الرفيعة كشيمة الكرم، وقايسوا بين ما عندهم من المعارف والتعمق فى السياسة وبين ما للعرب من حكم منثورة. وزعموا-فيما زعموا- أن الرسول فضلهم على العرب بمثل قوله:«لأنابهم أوثق منى بكم» (3) والوضع فى هذا الحديث لا يحتاج دليلا. وحاولوا أن يستلّوا قريشا قوم الرسول من العرب ويدخلوهم فى غمارهم فزعموا أن سائلا سأل الرسول عن أهله وأصل قريش.

فقال: نحن قوم من نبط كوثى (4).

ومن المحقق أن رجال الفرس البارزين من أمثال البرامكة وآل سهل وآل طاهر ابن الحسين كانوا يذكون نار هذه الشعوبية فيمن حولهم من الفرس، وقد اختلف الناطقون عنها بين عالم وأديب وشاعر، نذكر منهم أبا عبيدة اللغوى الإخبارى المشهور، وأصله من يهود فارس، وقد صبّ عنايته على تسجيل مثالب العرب

(1) الحيوان 7/ 220.

(2)

انظر فى هذه المطاعن البيان والتبيين 3/ 5 - 124 وكتاب العرب لابن قتيبة فى مجموعة رسائل البلغاء بتحقيق محمد كرد على (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) والعقد الفريد 3/ 401 وما بعدها.

(3)

انظر تيسير الوصول 3/ 111، 127.

(4)

انظر مادة كوثى فى معجم البلدان لياقوت.

ص: 76

وبلغ من فساد طويته أن طعن فى بعض أسباب (1) الرسول صلى الله عليه وسلم.

وليس من شك فى أن عنايته بتلك المثالب هى التى دفعته إلى شرح نقائص جرير والفرزدق لما تحمل منها من وقود جزل، وكان فى الوقت نفسه يعنى بالكتابة فى فضائل الفرس (2). ومنهم علاّن الشعوبى الفارسى وكان منقطعا إلى البرامكة ونسخ فى بيت الحكمة للرشيد والمأمون، وألّف فى مثالب القبائل العربية كتابا سماه الميدان (3). وكان يستشعر هذه النزعة فى أعماقه الكاتب الأديب سهل بن هرون الفارسى أحد صنائع البرامكة، وقد أسند إليه المأمون الإشراف على بعض خزائن بيت الحكمة، وكان يتعصب على العرب تعصبا مسرفا، وصنف فى ذلك كتبا كثيرة (4). وقد افتتح الجاحظ كتابه البخلاء برسالة له أشاد فيها بالبخل وغضّ غضّا شديدا من فضيلة الكرم العربية.

وأهم شاعر فى العصر أوقد نيران هذه الخصومة وظل يمدها بحطب جزل من أشعاره بشار بن برد وكان فى عصر بنى أمية يكثر من الفخر بمواليه من قيس، حتى إذا حدث الانقلاب العباسى انقلب معه يتبرأ من العرب وولائهم ناسبا ولاءه إلى الله ذى الجلال، يقول (5):

أصبحت مولى ذى الجلال وبعضهم

مولى العريب فخذ بفضلك فافخر

وقد مضى يشنّ حربا عنيفة على العرب، وكان أبوه طيّانا يضرب اللّبن، فاعتزى إلى أشراف العجم وملوكهم داخلا-كما يقول الجاحظ-بذلك فى باب فسيح لا حجاب عليه ونسب واسع لا مدافع عنه. ولم يكتف بهذا النسب الذى ادعاه فقد مضى يزعم أنه ينتسب من قبل أمه إلى قياصرة الرّوم على نحو ما نجد فى قصيدته (6):

هل من رسول مخبر

عنى جميع العرب

(1) الفهرست (طبعة القاهرة) ص 79.

(2)

الفهرست ص 80 والبيان والتبيين 1/ 308 والكامل للمبرد ص 351.

(3)

الفهرست ص 153.

(4)

الفهرست ص 174.

(5)

أغانى 3/ 139.

(6)

ديوان بشار (طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر) 1/ 377.

ص: 77

وهى تصور ضراوة حقده العنيف على العرب، وقد مضى فيها يقارن بين بداوتهم الجافية وحضارة آبائه اللينة من الفرس والروم. وفى الحق أن شعوبيته كانت صارخة، إذ كان زنديقا وعدوّا للعرب ودينهم الحنيف عداوة ترسب فى ضميره وفؤاده.

وممن يسلكون فى شعراء الشعوبية أبو يعقوب الخريمى، ولم يكن جادّا فى تعصبه على العرب وخصومتهم، إنما كان يطلب التسوية بينهم وبين غيرهم من الشعوب، ولذلك ينبغى أن ينحّى عن جماعة الشعوبيين، وأدخل منه فيهم أبو نواس وشعوبيته إنما ترجع إلى شغفه بالخمر وعكوفه على المجون وإعجابه بالحضارات الأجنبية، فهى شعوبية ناشئة عن الاستمتاع باللذات، وكان يبتغيها ما وجد إليها سبيلا، ويجعلها غاية الغايات من حياته، وقد مضى يصور ذلك بدعوته إلى الانصراف عن الحياة المتبدّية الخشنة وما يتصل بها من بكاء الأطلال والوقوف برسوم الديار إلى الحياة الناعمة المترفة وما يتصل بها من النشوة بالخمر والغلو فى الشراب والإغراق فى اللذات، وله فى ذلك أشعار كثيرة. وكانت تسقط أسراب من هذه النزعة إلى شعراء النبط والهند، من مثل قول أبى الأصلع الهندى يفخر بالهند وما أخرجت بلاد الهند (1):

لقد يعذلنى صحبى

وما ذلك بالأمثل

وفى مدحتى الهند

وسهم الهند فى المقتل

وفيه السّاج والعاج

وفيه الفيل والدّغفل (2)

وينبغى أن نعرف أن الروح العربية-على الرغم من هذه الشعوبية-ظلت شامخة مسيطرة، يسندها الخلفاء وزعماء العرب من الولاة والقواد ومستشارى الدولة، كما يسندها الفقهاء والمحدثون وعلماء اللغة ورواة الشعر. وقد ردّ بعض شعراء العرب على الشعوبية وأصحابها على نحو ما نجد عند أبى الأصبع الأموى فى تصدّيه لعبد الله بن طاهر حين افتخر فى قصيدة له بنسبه من الفرس وبأبيه طاهر بن

(1) الحيوان 7/ 171.

(2)

الساج: نوع ثمين من الخشب، والدغفل: ولد الفيل.

ص: 78

الحسين قاتل الأمين، فقد نقضها نقضا بقصيدته (1):

لا يرعك القال والقيل

كلّ ما بلّغت تضليل

وتجرّد نفر من الموالى أنفسهم للرد على أصحاب هذه النزعة الخبيثة وما تحمل من كيد للعرب ودينهم الحنيف على نحو ما يلقانا عند الجاحظ فى كتابه البيان والتبيين وابن قتيبة فى رسالته التى سماها «كتاب العرب» ومر بنا منذ قليل رأى الجاحظ فى أنها كانت تدفع الموغلين فيها دفعا إلى الإلحاد فى الدين والزندقة.

وكلمة الزندقة ليست عربية إنما هى تعريب لمصطلح إيرانى كان يطلقه الفرس على صنيع من يؤوّلون «الأقستا» كتاب داعيتهم زرادشت تأويلا ينحرف عن ظاهر نصوصه، ومن أجل ذلك نعتوا به دعوة مانى ومن فتنوا بها من الفرس. وأخذ مدلول الكلمة يتسع فى العصر العباسى ليشمل كل من استظهر نحلة من نحل المجوس، واتسعت أكثر من ذلك فشملت كل إلحاد بالدين الحنيف وكل مجاهرة بالفسق والإثم.

ومعروف أن جمهور الفرس قبل الإسلام كانوا مجوسا على دين زرادشت الذى ظهر فى ديارهم حوالى منتصف القرن السابع قبل الميلاد وما وضعه لهم من تعاليم (2) ضمّنها كتابه «الأقستا» وفيه زعم أن للعالم إلهين هما «أهورا مزد» إله النور خالق كل خير و «أهرمن» إله الظلمة خالق كل شر، وأن وراء الحياة الدنيا حياة أخرى يكون فيها حساب الشخص على أعماله فإما النعيم وإما الجحيم، وأن النار مقدسة طاهرة مما جعل الإيرانيين يقيمون لها المعابد فى كل مكان. وظهر عندهم فى القرن الثالث الميلادى داع يسمى مانى مزج فى تعاليمه بين الزرادشتية والبوذية والنصرانية (3)، فأبقى من الأولى على عقيدة إلهى النور والظلمة واستباحة الزواج بالبنات والأخوات، وأخذ من الثانية عقيدة التناسخ وتحريم ذبح الحيوان والطيور، وأخذ من الثالثة الزهد والنّسك، وفرض على أصحابه صلوات وأدعية

(1) أغانى (طبع دار الكتب) 12/ 104 وابن المعتز ص 300.

(2)

انظر فى تعاليم زرادشت الملل والنحل للشهرستانى (طبعة كيورتن) ص 185 وتراث فارس (الطبعة العربية) ص 36 وفجر الإسلام لأحمد أمين (الطبعة الأولى) ص 118.

(3)

راجع فى مانى والمانوية الفهرست ص 456 والشهرستانى ص 188 ومختصر تاريخ الدول لابن العبرى ص 122 وفجر الإسلام ص 124.

ص: 79

كثيرة. وفى أواخر القرن الخامس للميلاد يظهر فى إيران داع جديد هو مزدك وكان ثنويّا (1) يؤمن بإلهى النور والظلمة وتقديس النار، وقد مضى يدعو دعوة صارحة إلى العكوف على اللذات والشهوات والإمعان فيها، وأحلّ النساء وأباح الأموال وجعلها شركة للناس، وكان له-كما كان لمانى-أتباع كثيرون.

وقد عامل الإسلام والمسلمون المجوس معاملة أهل الكتب السماوية، وبذلك ظلت المجوسية حية حياة قوية حتى العصر العباسى، ومرّ بنا ما كان من ثورات سنباذ والخرمية فى خراسان وأذربيجان وطبرستان، وهى ثورات كانت تستوحى هذه الملل المجوسية السابقة، وكانت تسرى فى نفوس كثيرين من نازلة بغداد والعراق سرّا وجهرا، وكانت المانوية أخطرها جميعا لما كانت تأخذ به من الزهد ومن بعض التعاليم المسيحية، مما جعلها تقترب من دعوات الديانات السماوية فى السلوك وفى التخلق بالخلق الحسن، وإن افترقت عنها بعد ذلك افتراقا شديدا فى ثنويتها وتحليلها الزواج بالبنات والأخوات وما جلبته من بعض مذاهب الهند.

وتنبه المهدى لانتشار هذه الملل المجوسية المارقة فى أمصار العراق ورأى فيها خطرا أى خطر على الدولة والإسلام، فأمر-كما أسلفنا فى الفصل السابق- باتخاذ ديوان خاص لتعقب من يعتنقها من المسلمين ونصب لهم حربا لا هوادة فيها ولا لين، فكل من تثبت عليه زندقته قدّم وقودا لتلك الحرب التى ظلت قائمة إلى عهد ابنه الرشيد. ويظهر أن الفرس كانوا قد نشطوا نشاطا واسعا فى نشرها بين الناس ونشط معهم كثير من الزنادقة أنفسهم يترجمون كتب النحل الفارسية ويصنّفون فى الدعوة لها وفى تعاليمها، وأيضا فهم وبعض النصارى نقلوا إلى العربية كتب بعض مارقة النصارى وملحدتهم مثل مرقيون (2) وابن ديصان (3)، يقول المسعودى: «أمعن المهدى فى قتل الملحدين والمداهنين فى الدين لظهورهم فى أيامه وإعلانهم باعتقاداتهم فى خلافته لما انتشر من كتب مانى وابن ديصان ومرقيون

(1) انظر فى مزدك والمزدكية الفهرست ص 479 والشهرستانى ص 192 وفجر الإسلام ص 130.

(2)

من أهل آسيا الصغرى وكان يعتنق المسيحية وانحرف عن تعاليمها وكون لنفسه مذهبا مستقلا كان فيه الملهم لا بن ديصان، وقد طردته الكنيسة سنة 144 م.

(3)

من أهل الرها ولد سنة 154 وكان يعتنق المسيحية وشذ على تعاليمها مكونا عقيدة مستقلة فطردته الكنيسة.

ص: 80

مما نقله عبد الله بن المقفع وغيره وترجمه من الفارسية والفهلوية إلى العربية وما صنّف من ذلك ابن أبى العوجاء وحماد عجرد ويحيى بن زياد ومطيع بن إياس من تأييد المذاهب المنانية (1) والديصانية والمرقيونية، فكثرت بذلك الزنادقة وظهرت آراؤهم فى الناس» (2) ويقول الجاحظ: «لولا متكلمو النصارى وأطباؤهم ومنجموهم ما صار إلى أغبيائنا وظرفائنا ومجّاننا وأحداثنا شئ من كتب المنّانية والدّيصانية والمرقيونية. .

ولكانت تلك الكتب مستورة عند أهلها ومخبّأة فى أيدى ورثتها فكل سخنة عين رأيناها فى أحداثنا وأغبيائنا فمن قبلهم كان أولها» (3).

ولم ينصب المهدى وخلفاؤه للزنادقة حرب السيف وحدها، فقد نصبوا لهم أيضا حرب اللسان: لسان المتكلمين انذين مضوا يجادلونهم ويفحمونهم وينقضون شبهاتهم بالبرهان القاطع والدليل الساطع، وصنفوا فى ذلك الرسائل والكتب الطوال، ومن يقرأ كتاب الحيوان للجاحظ يجده يتوقف كثيرا ليورد ردّ النظام وغيره من المتكلمين على هؤلاء الزنادقة وكيف كانوا يسددون إليهم أدلة مصمية رادعة، وكان للمعتزلة فى ذلك القدح المعلّى، فهم الذين عاشوا يناظرونهم ويدفعون شرهم عن العامة والخاصة موضحين ما فى شبههم من زيف وتمويه وما فى عقائدهم من فساد ومناقضة للعقل المنطقى السليم.

وقد قتل كثيرون من رءوس الزنادقة لهذا العصر، يتقدمهم ابن المقفع الذى قتل لعهد المنصور، وفيه يقول المهدى:«ما وجدت كتاب زندقة قط إلا وأصله ابن المقفع (4)» وقتل منهم كثيرون لعهد المهدى، منهم-فى بعض الروايات- صالح بن عبد القدوس (5)، وكان يعتنق المانوية، ويحاضر فيها ويناظر فقتل وصلب على الجسر ببغداد (6) نكالا للناس وعظة، ومنهم بشار وكان يعلن إشادته بالنار معبودة قومه المجوس ويفضلها على الطين كما يفضل إبليس على الإنسان، وبلغ من تحمس المهدى لقتله أن خرج بنفسه إلى البصرة ليشهد مقتله (7). وكانت

(1) النسبة إلى مانى إما منانى أو مانوى.

(2)

المسعودى 4/ 242.

(3)

ثلاث رسائل للجاحظ ص 20.

(4)

أمالى المرتضى (طبعة الحلبى) 1/ 134.

(5)

يجزم ابن المعتز بأنه قتل فى عهد الرشيد.

(6)

أمالى المرتضى 1/ 134 وانظر ترجمته فى تاريخ بغداد 9/ 303.

(7)

أغانى (طبعة دار الكتب) 3/ 244.

ص: 81

البصرة-فما يظهر-أكبر وكر حينئذ للزنادقة والملاحدة، ففيها نبت وعاش بشار وصالح بن عبد القدوس، ونرى محمد بن سليمان العباسى واليها للمهدى يقتل من ملاحدتها زنديقين كبيرين هما عبد الكريم (1) بن أبى العوجاء وحماد (2) عجرد «وكان عبد الكريم مانويّا يؤمن بالتناسخ ويتخذ من سيرة مانى وسيلة لدعوته إلى الزندقة وتشكيك الناس فى عقائدهم» (3) ولما قدم للقتل قال:«لئن قتلتمونى لقد وضعت فى أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة مصنوعة» (4). وفى ذلك ما يصور جانبا من دسّ هؤلاء الزنادقة على الإسلام ومحاولة تشويه هديه الكريم.

وقد تنبّه لهم رواة الحديث النبوى فأسقطوا ما وضعوه وبينوا كذبه واختلاقه. ومرّ بنا آنفا أن حماد عجرد كان ممن يؤلفون الكتب فى تأييد الإلحاد والزندقة استغواء للعامة وإفسادا لها وقد سلك معه المسعودى فى هذا الاتجاه يحيى بن زياد الحارثى ومطيع بن إياس، ولا نجد ذكرا لقتلهما ولا لحبسهما على الزندقة، وربما لم تثبت عليهما ثبوتا قاطعا.

واشتد الهادى مثل أبيه فى طلب الزنادقة حين ولى الخلافة لسنة 169 وقتل منهم جماعة (5) من بينهم أحد أبناء عمه داود بن على ويعقوب بن الفضل من سلالة الحارث بن عبد المطلب. وسرعان ما خلفه هرون الرشيد لسنة 170 فسار فيهم نفس السيرة، وممن تعقبهم يزيد (6) بن الفيض، ويونس بن أبى فروة وكان قد ألف كتابا فى مثالب العرب وعيوب الإسلام-بزعمه-وصار به إلى ملك الروم فأغدق عليه مالا كثيرا (7). وطلب الرشيد أيضا على بن الخليل الشاعر لما ذاع من زندقته، غير أنه تبرّأ منها فأطلقه (8).

وكان المأمون إذا سمع بزنديق أو زنادقة أمر بحملهم إليه وأحضرهم مجالسه حيث المتكلمون ودفعهم جميعا إلى المناظرة، لعلهم يقنعونهم ويردونهم إلى الإسلام ومحجته المستقيمة، وكان يناظرهم هو نفسه أحيانا (9)، فإذا لم يكفوا عن غوايتهم

(1) لسان الميزان لابن حجر 4/ 51 وما بعدها.

(2)

لسان الميزان 2/ 350.

(3)

الفرق بين الفرق البغدادى ص 349.

(4)

أمالي المرتضى 1/ 128.

(5)

طبرى؟ ؟ ؟ وما بعدها.

(6)

طبرى 6/ 444.

(7)

انظر أمالى المرتضى 1/ 132 والحيوان 4/ 448 والطبرى 6/ 444.

(8)

أغانى (طبع دار الكتب) 14/ 174 وأمالى المرتضى 1/ 146.

(9)

الحيوان 4/ 442.

ص: 82