المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٣

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الأول

- ‌الفصل الأوّلالحياة السياسية

- ‌1 - الثورة العباسية

- ‌2 - بناء بغداد ثم سامرّاء

- ‌3 - النظم السياسية والإدارية

- ‌4 - العلويون والخوارج

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثانىالحياة الاجتماعية

- ‌1 - الحضارة والثراء والترف

- ‌2 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌3 - المجون

- ‌4 - الشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد

- ‌الفصل الثالثالحياة العقلية

- ‌1 - الامتزاج الجنسى واللغوى والثقافى

- ‌2 - الحركة العلمية

- ‌3 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة

- ‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ

- ‌5 - العلوم الدينية وعلم الكلام والاعتزال

- ‌الفصل الرابعازدهار الشعر

- ‌1 - ملكات الشعراء اللغوية

- ‌2 - طوابع عقلية دقيقة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - موضوعات جديدة

- ‌[5 - ]التجديد فى الأوزان والقوافى

- ‌الفصل الخامسأعلام الشعراء

- ‌1 - بشار

- ‌2 - أبو نواس

- ‌3 - أبو العتاهية

- ‌5 - أبو تمام

- ‌الفصل السادسشعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الدعوة العباسية

- ‌ أبو دلامة

- ‌[2 - ]شعراء الشيعة

- ‌ السيد الحميرى

- ‌دعبل

- ‌ ديك الجن

- ‌3 - شعراء البرامكة

- ‌ أبان بن عبد الحميد اللاحقى

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌أبو الشيّص

- ‌ على بن جبلة

- ‌الخريمىّ

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ أبو عيينة المهلّبى

- ‌الفصل السّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ العباس بن الأحنف

- ‌ربيعة الرّقى

- ‌2 - شعراء المجون والزندقة

- ‌ حماد عجرد

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌ عبد الله بن المبارك

- ‌4 - شعراء الاعتزال

- ‌ العتابى

- ‌ بشر بن المعتمر

- ‌النظام

- ‌5 - شعراء النزعات الشعبية

- ‌ أبو الشمقمق

- ‌الفصل الثامنتطور النثر وفنونه

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطب والوعظ والقصص

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية والعهود والوصايا والتوقيعات

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التاسعأعلام الكتّاب

- ‌خاتمة

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار

الفصل: ‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ

‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ

عنى-منذ أواخر عصر بنى أمية-جمهور كبير من العلماء فى البصرة والكوفة بجمع ألفاظ اللغة وأشعار العرب فى الجاهلية والإسلام، وكان من أهم الأسباب فى هذه العناية حاجة الشعوب الأجنبية التى دخلت فى الإسلام إلى تعلم لغة القرآن الكريم، ثم ما كان من شيوع اللحن على ألسنة الموالى المستعربين، وعلى ألسنة بعض العرب أنفسهم بسبب اختلاطهم بالعناصر الأجنبية وما حدث من ضعف سلائقهم بسبب تحضرهم، وكان كثيرون منهم قد نشأوا فى حجور أمهاتهم من الإماء فضعفت عندهم الملكة اللغوية وأخذ اللحن يفشو فى كلامهم. وكانت هناك لهجات كثيرة تتفاوت قربا وبعدا من الفصحى وتدور على ألسنة العرب الذين نزلوا واستوطنوا البلدتين الكبيرتين.

ولكل هذه الأسباب انبرى علماء البصرة والكوفة يجمعون ألفاظ اللغة وأشعارها حتى لا تفنى العربية فى لغات الشعوب المستعربة، وحتى تسلم لها مقوماتها الأصلية، وحتى تنفى عنها وتطرح شوائب اللهجات القبلية. وقد اشترطوا على أنفسهم أن لا يأخذوا اللغة من عربى حضرى وأن يرحلوا فى طلبها إلى باطن الجزيرة حيث ينابيعها الصافية. وكانوا يقصدون بذلك إلى غايتين، أولاهما أن يقوّموا ألسنتهم ويكتسبوا السليقة اللغوية السليمة، وثانيتهما أن يلتقطوا من الأفواه مباشرة مادتهم اللغوية الصحيحة التى يعرضونها على الناشئة وفى حلقات المساجد، ويصوّر أبو نصر الفارابى صنيعهم فى هذا الجانب فيقول: «والذين عنهم نقلت العربية وبهم اقتدى وعنهم أخذ اللسان العربى من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتّكل فى الغريب وفى الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم، وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضرى قط ولا عن سكّان البرارى ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم

ص: 118

يؤخذ لا من لخم ولا من جذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسّان وإياد لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب والنمر فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر لمجاورتهم للنبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عمان لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بنى حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم (1)».

وعلى هذا النحو كان اللغويون يتوغلون فى نجد حيث المادة اللغوية الفصيحة التى يجمعونها من هنا وهناك ويملئون بها حقائبهم، وعن أبى عمرو بن العلاء شيخ البصرة:«لا أقول قالت العرب إلا ما سمعت من عالية السافلة وسافلة العالية» يقصد الجزء الغربى من نجد وما يترامى إليه من السفوح الشرقية لجبال الحجاز.

وسرعان ما أقبل من أغوار نجد إلى البصرة والكوفة ثم بغداد بعض الأعراب الفصحاء ليتكسبوا برواية الأشعار وتلقينها للناشئة وبعض العلماء اللغويين مثل ثور بن يزيد الذى أخذ عنه ابن المقفع الفصاحة (2)، وأبى سوّار الغنوى أستاذ أبى عبيدة (3)، ويسوق ابن النديم أسماء (4) طائفة كبيرة من هؤلاء الأعراب.

وقد تعاقبت فى هذا العصر ثلاثة أجيال من علماء البصرة والكوفة تجمع اللغة والشعر، ورأس الجيل الأول فى البصرة أبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154 وقيل سنة 159 وهو أحد القرّاء السبعة المقدّمين الذين أخذت عنهم قراءات القرآن الكريم، وكان حجة ثبتا صدوقا، وفيه يقول الجاحظ:«كان أعلم الناس بالغريب والعربية وبالقرآن والشعر وبأيام العرب وأيام الناس (5)» . وأشهر أفراد الجيل التالى له خلف الأحمر المتوفى سنة 180 والأصمعى المتوفى سنة 213 وفى تعيين سنة وفاته اختلاف كبير وأبو زيد الأنصارى المتوفى سنة 214 وأبو عبيدة المتوفى سنة 210.

وكان الأصمعى ثقة ثبتا ومجموعته الشعرية الملقبة بالأصمعيات بعيدة الشهرة،

(1) المزهر للسيوطى (طبعة الحلبى) 1/ 211.

(2)

الفهرست ص 67.

(3)

نفس المصدر والصفحة.

(4)

الفهرست ص 65 وما بعدها.

(5)

البيان والتبيين 1/ 321.

ص: 119

ورويت عنه دواوين كثيرة أشهرها مجموعة الدواوين الستة: دواوين امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة وعنترة وعلقمة بن عبدة. وكان أبو زيد مثله صدقا وأمانة وصبّ عنايته على جمع اللغات الشاذة كما يتضح فى كتابه «النوادر» فى اللغة.

وأبو عبيدة ينزل عنه وعن الأصمعى درجات فى الثقة به إذ كان شعوبيّا ذميما ومن أشهر مصنفاته شرح نقائض جرير والفرزدق وكتاب المجاز فى القرآن. وأهم أفراد الجيل الثالث من لغويّى البصرة محمد بن سلام الجمحى صاحب «طبقات فحول الشعراء الجاهليين والإسلاميين» وهو كتاب نفيس إذ يصير عمل المدرسة البصرية فى توثيق الشعر القديم ووضع شعرائه فى طبقات وفصائل حسب جودتهم الفنية.

ورأس الجيل الأول من لغويى الكوفة حماد الراوية المتوفى سنة 156 وقيل بل سنة 164 وكان عالما بالشعر والغريب غير أنه كان ماجنا فاسقا زنديقا، فشاب روايته بالوضع والانتحال على ألسنة العرب، مما جعل علماء البصرة وعلماء الكوفة أنفسهم من مثل المفضل الضبى معاصره يسقطونها ويزيفونها. وكان المفضل ثقة صدوقا وحجة فى الغريب، ومجموعته الشعرية الملقبة بالمفضليات أنفس مجموعات الشعر القديم. وأشهر أفراد الجيل الثانى فى الكوفة أبو عمرو الشيبانى المتوفى سنة 213 ويقال إنه دخل البادية ومعه دستيجان (1) حبرا فما خرج حتى أفناهما بكتابة سماعه عن العرب الفصحاء، ويقال إنه كتب أشعار نيف وثمانين قبيلة. ولا يقلّ عنه شهرة معاصرة ابن الأعرابى المتوفى سنة 231 وقد رويت عنه دواوين كثيرة، وهو إلى أن يكون فى جيل الكوفة الثالث أقرب منه إلى أن يكون فى جيلها الثانى.

ومن أهم أفراد الجيل الثالث أبو عبيد القاسم بن سلام، ويقال إن الناس لم يكتبوا فى اللغة أصح من كتبه ولا أكثر فائدة، وله مصنفات كثيرة من أشهرها غريب الحديث والغريب المصنف.

ومن ينعم النظر فيما سجلت كتب طبقات اللغويين والنحويين لهؤلاء العلماء من مصنفات يجدها تتطور من التأليف فى موضوعات جزئية مفردة مثل كتاب الفرس وكتاب الإبل إلى تأليف المصنفات المطولة حتى لتتحول إلى معاجم لغوية على

(1) الدستيج: إناء.

ص: 120

شاكلة كتاب الغريب المصنف لأبى عبيد، وسترى الخليل بن أحمد يضع منهج أول معجم لغوى فى العربية. وينبغى أن نعرف أن الطريقة الأولى التى تعنى بالجزئيات المفردة ظلت غالبة على محاضرات اللغويين طوال القرون: الثانى والثالث والرابع على نحو ما يصور ذلك الكامل للمبرد ومجالس ثعلب وأمالى القالى.

وإذا تركنا جمع اللغة ورواية الشعر إلى النحو وجدنا البصرة تسبق الكوفة إلى وضع قواعده ومصطلحاته وصبغها بالصبغة العلمية، وقد حاول بعض المستشرقين أن يربطوا بين النحو العربى والنحو اليونانى أو السريانى، محاولين أن يثبتوا وجوها من الصلة بينهما وبين النحو العربى، وكأنه نشأ على هديهما (1). وأكبر الظن أنه وليد العقل العلمى العربى الذى استوى على سوقه فى القرن الثانى، ودفع دفعة إلى وضع علوم عربية كبيرة، منها اللغوى ومنها الدينى.

وجاء فى بعض المصادر القديمة أن أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلى المتوفّى سنة 69 وشبّه على بعض القدماء والمحدثين أنه وضع شيئا من قواعد النحو، والحقيقة أنه لم يضع منها شيئا، إنما الذى وضعه حقّا وكان أول واضعيه نقط المصحف نقطا يعيّن حركات أواخر الكلم فيه أو بعبارة أدق يعين حركات الإعراب (2)، فكان يضع نقطة فوق الحرف الأخير للكلمة إشارة إلى الفتحة، ونقطة بين يديه إشارة إلى الضمة، ونقطة تحته إشارة إلى الكسرة، وإذا تبع شيئا من هذه الحركات غنة أو تنوين نقط الحرف نقطتين. واختلط التعبير عن هذا الصنيع بكلمة العربية على بعض أصحاب كتب الطبقات فظنوا أنه وضع بعض أبواب النحو أو بعض مسائله.

وأول نحاة البصرة الحقيقيين عبد الله بن أبى إسحق الحضرمى المتوفى سنة 117 وعيسى بن عمر الثقفى المتوفى سنة 149. أما ابن أبى إسحق فيقال إنه أول من نهج النحو ومدّ القياس وشرح العلل، وأما عيسى بن عمر فإنه أول من وضع الكتب فى النحو إذ ألف فيه مصنفين هما الإكمال والجامع، ويقال إن الأخير أصل كتاب سيبويه، زاد فيه وحشاه. ويعد الخليل بن أحمد المتوفّى فى سنة 175 هو الواضع الحقيقى لعلم النحو فى صورته النهائية التى أدّاها عنه تلميذه سيبويه فى

(1) راجع فى ذلك تاريخ الأدب العربى لبروكلمان 2/ 124. ونولدكه فى مجلة الجمعية الشرقية الألمانية، المجلد 59 ص 414.

(2)

انظر المحكم فى نقط المصاحف لأبى عمرو الدانى (طبع دمشق) ص 4 وما بعدها.

ص: 121

مصنفه الملقب باسم «الكتاب» وهو فى كثير من صفحاته يحكى آراءه وقد ذكره فى نحو ثلاثمائة وسبعين موضعا، ويقول السيرافى:«كل ما قال سيبويه: سألته أو قال من غير أن يذكر قائله فهو الخليل (1)» ويقول إنه كان الغاية فى استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس فيه، ويقول الزبيدى: إنه استنبط من علل النحو ما لم يستنبطه أحد وما لم يسبقه إلى مثله سابق (2)».

فالخليل هو المؤسس الحقيقى لصرح النحو العربى، بل هو المقيم لقواعده والمشيد لبنيانه وأركانه، وكانت المادتان الأساسيتان اللتان اعتمد عليهما فى رفع هذا الصرح إلى عنان السماء-كما يوضح ذلك كتاب تلميذه سيبويه-القياس والعلل، أما القياس فيتضح فى ضبطه القواعد واطرادها بحيث تنفى الشواذ، وأما العلل فمقدمات القياس التى تثبت صحته بما تقدمه من أدلة عقلية سديدة.

ويظهر أن الخليل كان يتقن المنطق الذى ترجمه صديقه ابن المقفع وما يتصل به من القياس، وأيضا فإنه كان يتقن العلوم الرياضية (3)، وهو إتقان جعله يقف على ما يصنعه أصحاب الحساب والرياضيات فى مسائلهم الفرضية لترسخ ملكة هذه العلوم فى عقول الناشئة. وعلى ضوء من هذا الصنيع مدّ القياس فى التصريف والنحو، فتولدت له ألفاظ جديدة وفروض فى الصيغ بقصد تمرين لتلاميذ وتدريبهم وهى ما يسميه النحاة بالتمارين غير العملية. وقد تمثل تمثلا دقيقا فكرة المعادلات والتوافيق والتباديل التى هيأت عند الخوارزمى لنشأة علم الجبر، وهى تلاحظ عنده فى الميزان الصرفى وفى الخطة التى وضعها لصنع المعجم المعروف باسم «العين» إذ دفع تلميذه الليث بن نصر بن سيار أن يقلب كل الصيغ الثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية على حروف الهجاء وبذلك حصر جميع الكلمات مما نطقت به العرب ومما لم تنطق مع نصه فى المعجم على الطرفين. وجعله يرتبه على مخارج الحروف بالضبط كما ترتّب عند الهنود حروف السنسكريتية (4)، وفى ذلك ما يشير إلى إطلاعه على بعض الأبحاث الهندية فى الأصوات، ولعل ذلك ما جعله

(1) أخبار النحويين البصريين للسيرافى (طبعة كرنكو) ص 40.

(2)

طبقات النحويين واللغويين للزبيدى (انشر الخانجى) ص 43.

(3)

الزبيدى ص 43 وإنباه الرواة 1/ 346.

(4)

انظر ترجمة الخليل فى دائرة المعارف الإسلامية.

ص: 122

يعنى بالهمز والتشديد والروم والإشمام (1). ويبلغ تطبيقه لفكرة التباديل والتوافيق الرياضية الغاية فى وضعه لعلم العروض، لا من حيث ما اقترحه فيه من تفاعيل فقط، بل أيضا من حيث ما وضعه فيه من دوائر، إذا قدّمت فيها أجزاء التفعيلات بعضها على بعض خرجت الأوزان التى استعملها العرب وأوزان أخرى أهملوها ولم يستعملوها، وبذلك فتح الأبواب واسعة أمام العباسيين كى يجدّدوا فى الأوزان حسب إرادتهم الفنية.

وخلفه على تراثه النحوى سيبويه المتوفى سنة 180 غير متجاوز للأربعين من عمره فى أرجح الأقوال، وقد أودع هذا التراث مصنفه الموسوم باسم «الكتاب» مضيفا إليه من أنظاره ما يدل دلالة بينة على فطنته ونفاذ بصيرته. والكتاب يعدّ آية خارقة من آيات العقل العربى حتى سماه بعضهم قرآن النحو، ويقول صاعد ابن أحمد الأندلسى:«لا أعرف كتابا ألّف فى علم من العلوم قديمها وحديثها اشتمل على جميع ذلك العلم وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب، أحدها المجسطى لبطليموس فى علم هيئة الأفلاك، والثانى كتاب أرسططاليس فى علم المنطق والثالث كتاب سيبويه البصرى النحوى، فإن كل واحد من هذه لم يشذ عنه من أصول فنه شئ إلا ما لا خطر له (2)» . وأهم من تلقى هذا الكتاب عن سيبويه من البصريين الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة المتوفى سنة 211 فكان الطلاب يقرءونه عليه ويشزحه لهم ويفسره، وله فى النحو مصنفات كان ينشر فيها ضربا من الغموض والتعقيد رغبة فى التكسب بها (3)، واشتهر بأنه أول من أملى غريب كل بيت من الشعر تحته كما اشتهر بإتقانه لعلم العروض وتأليفه فيه.

ولم يكن النشاط النحوى منذ أوائل هذا العصر خامدا فى الكوفة، فقد كان بها طائفة من النحاة غير أنهم لم يبرعوا فى النحو براعة البصريين، ومن أجل ذلك كانوا يكثرون من الرحلة إليهم والتلمذة عليهم، حتى إذا تقدم العصر أخذوا يستقلون عن نظرائهم فى البصرة بمذهب نحوى خاص بهم بحيث أصبح فى النحو مذهبان متقابلان: مذهب البصرة الذى يعنى بالقياس مستسدّا له من استعمال العرب الشائع، ومذهب الكوفة الذى يعنى بالسماع ويقدمه على القياس مهما كان شاذّا نادرا.

(1) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى (طبعة مطبعة حجازى بالقاهرة) 2/ 171.

(2)

معجم الأدباء 16/ 117.

(3)

الحيوان 1/ 91.

ص: 123

وأقدم نحاة الكوفة أبو جعفر الرّواسى تلميذ عيسى بن عمر أستاذ البصريين، وخلفه معاذ بن مسلم الهرّاء المتوفّى سنة 187 ويقال إنه هو الذى وضع علم الصرف غير أننا نشك فى ذلك لأن الصرف مندمج فى كتاب سيبويه المتوفى قبله. وأرسخ منه قدما فى الدراسات النحوية الكسائى المتوفى سنة 189 وقد تتلمذ للخليل وتلقى عن الأخفش كتاب سيبويه، ونراه يشيد بالقياس قائلا:

إنما النحو قياس يتّبع

وبه فى كل أمر ينتفع

ويقول بعض البصريين: «لولا أنه دنا من الخلفاء فرفعوا من ذكره لم يكن شيئا، وعلمه مختلط بلا حجج ولا علل (1)»

وأهم نحاة الكوفة فى العصر الفرّاء المتوفى سنة 207 وكان مثل أستاذه الكسائى يقدّم السماع على القياس، وأكثر من قراءة كتاب سيبويه، ليحاول تعقبه ومخالفته فى بعض ألقاب النحو، وقد صاغ منها كثيرا أشاعه فى كتابه «معانى القرآن» مثل الجحد بدلا من النفى والتكرير بدلا من البدل والتفسير بدلا من التمييز (2).

وهو الذى جسّم الخلاف بين المدرستين الكوفية والبصرية لقدرته على الحجاج والجدل، ويقال إنه كان مثقفا ثقافة فلسفية واسعة، وأنه كان يستخدم فى كتبه ألفاظ الفلاسفة، ويدل على ذلك كتابه «الحدود» فى النحو فإن اسمه يحمل صلة قوية بينه وبين مباحث الحدود فى المنطق، ومن أهم كتبه «معانى القرآن» وهو يكتظ بآرائه النحوية.

وواضح مما قدمناه أن الكوفة لم تسهم مساهمة حقيقية فى وضع أصول النحو فقد سبقتها البصرة إلى ذلك محتكمة احتكاما شديدا إلى القياس (3)، وإلى نظرية العامل التى ينفرد بها نحونا العربى والتى تعدّ قوامه، وهى تدل على أن هذا النحو لم يوضع على أساس نحو أجنبى، فمحوره الذى تدور حوله بحوثه محور عربى خالص، إنما كل ما يمكن أن يقال إنه أفاد من العقلية العلمية الخصبة التى اكتسبها العرب فى العصر العباسى الأول من خلال تمثلهم للثقافات الأجنبية الفلسفية والعلمية.

(1) مراتب النحويين لأبى الطيب اللغوى (نشر مكتبة نهضة مصر) ص 74.

(2)

انظر معانى القرآن للفراء 1/ 51، 52، 225.

(3)

انظر مقدمتنا لكتاب الإيضاح فى علل النحو للزجاجى (طبع القاهرة).

ص: 124

ومما كان يعنى به النحاة واللغويون أنساب العرب وأخبارهم التى تؤديها أشعارهم، وهى عناية اقترنت بنمو الكتابة التاريخية حينئذ، وهو نمو ارتبط بالسيرة النبوية، وانضمت إليها مادة من تاريخ الرسل ومن تاريخ العرب ثم تاريخ الأمم المجاورة للجزيرة العربية وخاصة الفرس.

وكانت السيرة النبوية مثبوتة فيما يروى من الأحاديث، فأخذ كثيرون يستخلصونها منها، وعنوا بالقصص عن الأنبياء والرسل لتوضيح جوانب من القصص القرآنى والوعظ والتذكير بالله واليوم الآخر، وعنوا أيضا بكتابة أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها وملوكها. وما نكاد نتقدم فى العصر العباسى حتى تكثر الكتابة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومغازيه وبعوثه الحربية، ويلمع فى هذا الجانب اسم محمد بن إسحق المتوفى سنة 150 وقد وزّع السيرة النبوية على ثلاثة أقسام كبيرة، هى المبتدأ والمبعث والمغازى. ويتضمن المبتدأ تاريخ العرب القديم وقصص الأنبياء، ويتضمن المبعث حياة الرسول فى مكة، وتتضمن المغازى حياته فى المدينة. ولم يصلنا هذا الكتاب (1)، إنما وصلتنا رواية مهذبة له رواها عبد الملك بن هشام المتوفى بالفسطاط سنة 218.

ومن المؤرخين الكبار الذين عنوا بكتابة السيرة والمغازى النبوية فى هذا العصر محمد بن عمر الواقدى قاضى المأمون المتوفى سنة 207 وله مصنفات كثيرة فى الفتوح وتاريخ الخلفاء وأيام الناس، ونشرت له قطعة خاصة بالمغازى، وقد ضمّن كاتبه وتلميذه محمد بن سعد المتوفى سنة 230 كتابه «الطبقات الكبرى» سيرة مطولة للرسول عليه السلام.

وكان من أثر الاهتمام بالمدينة فى السيرة الزكية أن أخذت تفرد لها المصنفات على نحو ما هو معروف عن محمد بن الحسين بن زبالة المتوفى بعد المائتين، وكتابه الذى خصه بها هو الأصل الذى ألهم العلماء بعده التأليف فى تاريخ المدن.

وعنى كثير من المؤرخين بالكتابة فى أحداث الدولة العربية على نحو ما هو معروف عن أبى مخنف لوط بن يحيى الأزدى المتوفى سنة 158 وله كتب مختلفة فى الفتوح وفى حروب صفين، وسيف بن عمر التميمى المتوفى سنة 180 ويشتهر بمؤلفات

(1) توجد قطعة من هذا الكتاب فى مكتبة الرباط العامة بالمغرب.

ص: 125