المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - أبو العتاهية - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٣

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الأول

- ‌الفصل الأوّلالحياة السياسية

- ‌1 - الثورة العباسية

- ‌2 - بناء بغداد ثم سامرّاء

- ‌3 - النظم السياسية والإدارية

- ‌4 - العلويون والخوارج

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثانىالحياة الاجتماعية

- ‌1 - الحضارة والثراء والترف

- ‌2 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌3 - المجون

- ‌4 - الشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد

- ‌الفصل الثالثالحياة العقلية

- ‌1 - الامتزاج الجنسى واللغوى والثقافى

- ‌2 - الحركة العلمية

- ‌3 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة

- ‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ

- ‌5 - العلوم الدينية وعلم الكلام والاعتزال

- ‌الفصل الرابعازدهار الشعر

- ‌1 - ملكات الشعراء اللغوية

- ‌2 - طوابع عقلية دقيقة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - موضوعات جديدة

- ‌[5 - ]التجديد فى الأوزان والقوافى

- ‌الفصل الخامسأعلام الشعراء

- ‌1 - بشار

- ‌2 - أبو نواس

- ‌3 - أبو العتاهية

- ‌5 - أبو تمام

- ‌الفصل السادسشعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الدعوة العباسية

- ‌ أبو دلامة

- ‌[2 - ]شعراء الشيعة

- ‌ السيد الحميرى

- ‌دعبل

- ‌ ديك الجن

- ‌3 - شعراء البرامكة

- ‌ أبان بن عبد الحميد اللاحقى

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌أبو الشيّص

- ‌ على بن جبلة

- ‌الخريمىّ

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ أبو عيينة المهلّبى

- ‌الفصل السّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ العباس بن الأحنف

- ‌ربيعة الرّقى

- ‌2 - شعراء المجون والزندقة

- ‌ حماد عجرد

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌ عبد الله بن المبارك

- ‌4 - شعراء الاعتزال

- ‌ العتابى

- ‌ بشر بن المعتمر

- ‌النظام

- ‌5 - شعراء النزعات الشعبية

- ‌ أبو الشمقمق

- ‌الفصل الثامنتطور النثر وفنونه

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطب والوعظ والقصص

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية والعهود والوصايا والتوقيعات

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التاسعأعلام الكتّاب

- ‌خاتمة

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار

الفصل: ‌3 - أبو العتاهية

فى الحياة وعواقبها وفى البعث والنشور والموت والفناء، وكان من حين إلى حين ينيب إلى ربه، مما جعله يردد أنغاما مختلفة فى الزهد والدعوة إلى الانصراف عن الشهوات ومتاع الحياة الزائلة والإعداد للآخرة بالتقى والعمل الصالح من مثل قوله (1):

يا طالب الدنيا ليجمعها

جمحت بك الآمال فاقتصد

والقصد أحسن ما عملت له

فاسلك سبيل الخير واجتهد

واعمل لدار أنت جاعلها

دار المقامة آخر الأبد

وكان يدعو الله ويبتهل له ابتهالات كثيرة. وكنا نتمنى لو اختلط مثل هذا التفكير فى الحياة والموت ومصير الإنسان والقدر وما ينزله بالناس من خير وشر بمجونياته وخمره ونشوته بها، إذن لما انتظرنا طويلا حتى يوجد عمر الخيام ولكان أبو نواس خياما آخر ولوجد من مسائل الحياة الكبرى: مسائل المقادير والشقاء والسعادة والموت والفناء ما يشغله عن فسقه ومجونه وفحشه وهزله وعبثه الوقح مع الغلمان والجوارى. ومرّ بنا فى الفصل السابق أنه عنى فى بعض أشعاره بقالب الرباعيات والمسمطات غير أنه لم يتسع بذلك، وكان أهم ما وفّر له عنايته صفاء النغم وعذوبته. ولعل ذلك هو الذى دفعه إلى الإكثار من الأوزان القصيرة والمجزوءة

‌3 - أبو العتاهية

(2)

ولد أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان فى «عين التّمر» بالقرب من الأنبار سنة 130 للهجرة، وكان أبوه نبطيّا من موالى بنى عنزة، أما

(1) الديوان ص 193.

(2)

راجع فى ذى العتاهية وأخباره وأشعاره أغانى (طبع دار الكتب) 4/ 1 وطبعة الساسى فى ترجمة والبة 16/ 142 وترجمة سلم الخاسر 21/ 73 والشعر والشعراء لابن قتيبة ص 765 وابن المعتز ص 228 وما بعدها و 364 وتاريخ بغداد 6/ 250 وابن خلكان والموشح ص 254 ومرآة الجنان 2/ 49 وشذرات الذهب 2/ 25 ومروج الذهب للمسعودى 3/ 240، 274، 358 وزهر الآداب للحصرى 2/ 34 وما بعدها وأبو العتاهية لمحمد أحمد برانق (نشر لجنة البيان العربى بالقاهرة). ونشرت ديوانه مطبعة الآباء اليسوعيين ببيروت سنة 1886 م.

ص: 237

أمه فكانت من موالى بنى زهرة القرشيين. وكان أبوه يشتغل بالحجامة ويظهر أن سبل العيش ضاقت به فى بلدته، فانتقل منها إلى الكوفة بأسرته، ومعه ابناه الصغيران: زيد وأبو العتاهية، ولا يكاد يشبّ ثانيهما، حتى نراه ينتظم فى سلك المخنثين ممن كانوا يخضبون أيديهم ويتزينون ويلبسون ملابس النساء حاملين لزوامل تميزهم (1). ولعل فى ذلك ما يدل على ما كان يحسه هذا الغلام من ضياع، إذ نشأ فى أسرة فقيرة مغمورا، لا يعتزّ بأى شئ فى دنياه من جاه أو حتى ثروة ضيقة، وكان دميم الوجه قبيح المنظر (2)، نزعت به نفسه إلى اللهو والمجون، فماذا يصنع؟ إنه لم يجد أمامه إلا أن ينخرط فى جماعة المخنّثين، وبذلك كتب عليه أن يكون سيّئ السيرة فى مطالع حياته. وكان أخوه زيد قد احترف عمل الخزف وبيع الجرار والفخار، فحاول أن ينقذه مما تردّى فيه، وما زال به حتى أشركه معه فى حرفته، وكان نبع الشعر قد أخذ يتدفّق على لسانه، فكان يأتيه الأحداث والمتأدبون فينشدهم أشعاره ويكتبونها على ما تكسّر من الخزف وما يشترونه من الجرار (3).

واشتهر أمر أبى العتاهية فى الكوفة وأخذ يختلط ببيئات المجّان من الشعراء أمثال مطيع بن إياس ووالبة، كما أخذ يختلف إلى حلقات العلماء والمتكلمين فى مساجد الكوفة، مما أتاح له إتقان العربية والوقوف على مذاهب أصحاب المقالات، وهو فى أثناء ذلك يكثر من نظم رقائق الغزل ومن الغدوّ والرواح إلى نوادى القيان والمغنين، ولم تلبث الصلة أن توثقت بينه وبين مغن ناشئ من النّبط دوّت شهرته فيما بعد هو إبراهيم الموصلى، وتعاقدا على أن ينزلا بغداد (4)، لعل بضاعتهما تروج فيها، وفتحت الأبواب لإبراهيم بينما سدّت فى وجه أبى العتاهية، فصمّم على العودة إلى الكوفة، وعرّج فى طريقه على الحيرة، ورأى بها نائحة تسمى سعدى كانت مولاة لبنى معز بن زائدة، وكانت ذات حسن وجمال، فشغفت قلبه حبّا، وأخذ ينظم فيها شعره، غير أنها أعرضت عنه، وتصدّى له مولاها عبد الله ابن معن، ونهاه أن يعرض لها، فعمد إلى هجائه هجاء مقذعا فأنزل به

(1) أغانى 4/ 7.

(2)

أغانى 4/ 75 وانظر المسعودى 3/ 360.

(3)

أغانى 4/ 9.

(4)

أغانى 4/ 4.

ص: 238

عقابا صارما إذ ضربه مائة سوط، وتوسط بينهما مواليه من عنزة، وكفّ أبو العتاهية لسانه (1).

ويمّم الكوفة غير أن مقامه لم يطل بها، فإن إبراهيم الموصلى صديقه أقبلت عليه الدنيا حين ولى الخلافة المهدى (158 - 169 هـ) وقرّبه مع من قرّب من المغنين، فأرسل إليه أن يلحق به، ليقدمه للخليفة، وطار إليه أبو العتاهية، وأعجب الخليفة بمديحه، وأخذ يغدق عليه جوائزه (2)، وأوسع له فى مجالسه حتى أصبح أثيرا عنده مقدّما له على كثير من الشعراء، وحتى نراه يقبل شفاعته فى أحد وزرائه وقد أمر بسجنه (3). ويعظم شأن أبى العتاهية ويتهادا كبار رجال الدولة ووجوهها وفى مقدمتهم خال المهدى يزيد بن منصور الحميرى وقائده وواليه على طبرستان عمر بن العلاء ممدوح بشار، وله يقول من قصيدة:

إنى أمنت من الزمان وريبه

لما علقت من الأمير حبالا

ويقال إنه وصله على القصيدة بسبعين ألف درهم (4).

وتمر الأيام بأبى العتاهية باسمة، غير أن سحابة لا تلبث أن تنعقد فى سمائها، فقد تعلّق بجارية من جوارى زوجة المهدى رائطة بنت السفاح، وهى عتبة، وكانت تزدريه كما ازدرته سعدى من قبل، ومضى لا يكفّ عن غزله بها ولا يرعوى، فعرّفت مولاتها خبره وأثارتها عليه، فحدّلت المهدى بشأنه، فغضب لتعرضه لحرمه وجوارى قصره، وأمر بضربه مائة سوط وسجنه، ولم يلبث يزيد بن منصور الحميرى أن شفع له لدى المهدى، فعفا عنه وردّ إليه حريته، ويقول الرواة إنه لم يكن يحبها حبّا صادقا إنما كان يريد الشهرة فى الأوساط الأدبية بذكرها وأنه امتحن فى حبها وأثبت الامتحان كذبه وأنه إنما كان يتكلف هذا الحب تكلفا (5)، وقد ظل يذكرها ويتغنّى باسمها طويلا، ولعل ذلك هو الذى جعل المهدى يقول له إنك إنسان معتّه، فاستوى له بذلك لقبه «أبو العتاهية» وغلب على اسمه (6).

وكانت بغداد لعهد المهدى قد جذبت إليها شعراء كثيرين من الكوفة والبصرة

(1) انظر القصة فى الأغانى 4/ 22 وما بعدها.

(2)

انظر ابن المعتز ص 231 والمسعودى 2/ 240 وزهر الآداب 2/ 38.

(3)

أغانى 4/ 56.

(4)

زهر الآداب 2/ 34 وانظر الأغانى 4/ 38.

(5)

انظر فى قصته مع عتبة ابن المعتز ص 230 وزهر الآداب 2/ 35 وتاريخ بغداد 6/ 254 وما بعدها.

(6)

أغانى 4/ 2.

ص: 239

قصد المعاش والتكسب، وخرج إليها فيمن خرجوا جماعة المجان من أمثال مطيع ابن إياس ووالبة وأبى نواس، واختلط بهم أبو العتاهية وأخذ يعبّ معهم من كئوس الخمر واللهو فى دور القيان والمجانة بالكرخ من أمثال دار القراطيسى (1) وفى الأديرة من مثل دير أشمونى (2). ويفسد الأمر بينه وبين والبة، فيصليه نارا حامية من هجائه بمثل قوله يعرّض باعتزائه المزيف للعرب، إذ كان ينسب نفسه فى بنى أسد (3):

أوالب أنت فى العرب

كمثل الشّيص فى الرّطب

هلمّ إلى الموالى الصّي

د فى سعة وفى رحب

فأنت بنا لعمر الل

هـ أشبه منك بالعرب

وما زال به حتى فضحه فعاد إلى الكوفة كالهارب وخمل ذكره (4).

ويتوفّى المهدى فيخلفه الهادى (169 - 170 هـ) ويلزمه أبو العتاهية ينشده مدائحه فى كل مناسبة وعطاياه تهطل عليه كالغيث المنهمر، ولا يلبث أن يعتلى الرشيد أريكة الخلافة (170 - 193 هـ) وكان منقطعا إليه ملازما له أيام أبيه المهدى، فاتصل ما انقطع فى مدة الهادى القصيرة، وأصبح لا يفارقه فى سفر ولا حضر «وكان يجرى عليه فى كل سنة خمسين ألف درهم سوى الجوائز والصلات السنية» (5) وكثيرا ما كانت تبلغ فى المرة الواحدة مائة ألف درهم (6). وينال جوائز كثيرة من كبار رجال الدولة حينئذ وعلى رأسهم يزيد بن مزيد الشيبانى، ويقال إنه أجازه فى إحدى مدائحه فيه بعشرة آلاف درهم (7) ويظهر أنه دقّ أبواب البرامكة طويلا، ولكنهم لم يفتحوها له، إذ كانوا مشغولين عنه بشعرائهم من أمثال أبان وأشجع السّلمى.

وظل يعيش اللهو والقصف، حتى كانت سنة 180 للهجرة، وهى السنة التى نزل فيها الرشيد الرّقّة فإذا هو يتحول من حياة اللهو والمجون إلى حياة الزهد والتقشف وليس الصوف. ويحاول الرشيد أن يعود به ثانية إلى حياته القديمة وإلى ما كان يصنع له من رقائق الغزل، فيمتنع ويضيق الرشيد بامتناعه، ويأمر بضربه وحبسه

(1) أغانى (ساسى) 20/ 88.

(2)

الديارات الشابشى ص 31.

(3)

أغانى (ساسى) 16/ 143 والشيص: أردأ التمر.

(4)

أغانى 16/ 142.

(5)

أغانى (دار الكتب) 4/ 63.

(6)

أغانى 4/ 74.

(7)

أغانى 4/ 100.

ص: 240

فى دار موسّعا عليه حتى يصدع لأمره، ويسترسل أبو العتاهية فى استعطافه بمثل قوله (1):

إنما أنت رحمة وسلامه

زادك الله غبطة وكرامه

لو توجّعت لى فروّحت عنى

روّح الله عنك يوم القيامة

ويرق له الرشيد ويأمر بإطلاقه، ويأخذ منذ هذا التاريخ فى الإكثار من شعر الزهد وذكر الموت والفناء والثواب والعقاب والدعوة إلى مكارم الأخلاق.

وقد تشكك معاصروه فى هذا الزهد الذى طرأ عليه، وردّته كثرتهم إلى عناصر مانوية، حتى أوشك حمدويه صاحب الزنادقة المانويين أن ينزل به العقاب الصارم الذى كان ينزله بأمثاله، لولا أن موّه عليه بالقعود لحجامة الفقراء والمساكين (2)، ويقال إن منصور بن عمّار هتف به فى بعض وعظه، وقال: إنه زنديق مستدلا على ذلك بأنه يكثر من ذكر الموت فى شعره ولا يذكر الجنة والنار (3).

وهى ملاحظة دقيقة، ذلك أن أبا العتاهية يذكر الثواب والعقاب فى الآخرة حقّا، ولكنه لا يفصل الحديث فيهما تفصيل القرآن الكريم، ومن المعروف أن المانوية كانوا يدعون للزهد فى الدنيا والعمل للآخرة كما كانوا يدعون إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش (4)، ومن هنا يختلط الموقف على من يقرأ أشعار أبى العتاهية الزاهدة، وخاصة أنه استقى فيها كثيرا من آى الذكر الحكيم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، غير أن من يتعمق فى هذه الأشعار يجد أبا العتاهية مشغولا بما كان يراه المانوية من أن العالم نشأ عن أصلين هما النور والظلمة، ومن النور نشأ كل خير ومن الظلمة نشأ كل شر، وأن أجناس الخير خلاف لأجناس الشر، وفى كل حاسة من حواس الإنسان جنس قائم بنفسه من النوعين، جنس مستقل عما يماثله فى الحواس الأخرى (5)، وفى ذلك يقول أبو العتاهية (6):

لكل شئ معدن وجوهر

وأوسط وأصغر وأكبر

(1) الشعر والشعراء ص 767.

(2)

أغانى 4/ 7.

(3)

أغانى 4/ 34.

(4)

طبرى 6/ 433.

(5)

انظر الحيوان 4/ 441 والشهرستانى ص 188.

(6)

أغانى 4/ 37.

ص: 241

وكلّ شئ لاحق بجوهره

أصغره متصل بأكبره

الخير والشرّ هما أزواج

لذا نتاج ولذا نتاج

لكل إنسان طبيعتان

خير وشرّ وهما ضدّان

والخير والشر إذا ما عدّا

بينهما بون بعيد جدّا

وكان المانوية يضيفون إلى ذلك إيمانا بأن للعالم إلهين: إله النور وإله الظلمة، وبذلك فارقوا أصحاب الديانات السماوية، ويظهر أن أبا العتاهية لم يكن يجرى فى العقيدة إلى آخر الشوط، إذ كان يدين بالتوحيد على نحو ما يمثل ذلك قوله (1):

فيا عجبا كيف يعصى الإل

هـ أم كيف يجحده الجاحد

وفى كل شئ له آية

تدلّ على أنه واحد

وكأنه حاول أن يمزج بين عقيدة الإسلام وعقيدة المانوية، وفى ذلك يقول أحمد بن حرب:«كان مذهب أبى العتاهية القول بالتوحيد وأن الله خلق جوهرين متضادين لا من شئ، ثم إنه بنى العالم هذه البنية منهما. . وكان يزعم أن الله سيردّ كل شئ إلى الجوهرين المتضادين قبل أن تفنى الأعيان جميعا (2)» وهو يقصد بالجوهرين طبعا النور والظلمة أو الخير والشر.

وابن حرب يضع فى يدنا المفتاح لحل مشكلة أبى العتاهية، فهو ليس مانويّا ثنويا يؤمن بأن للعالم إلهين، كما ظن ابن المعتز (3) وبعض معاصريه، إنما هو مانوى من نمط جديد، إذ يمزج بين المانوية والإسلام، إلا إذا كان قد موّه عن مانويته الخالصة بادعائه وحدانية ربه. ومر بنا فى الفصل الثانى أن تعاليم مانى كانت مزيجا من الزرادشتية والنصرانية والبوذية، ونرى أبا العتاهية يصور لنا فى بعض شعره الزاهد الناسك فى صورة بوذا المشهورة إذ يقول (4):

يا من تشرف بالدنيا وزينتها

ليس التشرّف رفع الطّين بالطين

إذا أردت شريف الناس كلّهم

فانظر إلى ملك فى زىّ مسكين

(1) أغانى 4/ 35.

(2)

أغانى 4/ 5.

(3)

ابن المعتز ص 228، 364.

(4)

الديوان ص 274.

ص: 242

ومعروف أن بوذا-عند الهنود-كان ملكا أو ابن ملك خلع ثياب ملكه وساح فى العالم عابدا ناسكا. وخصلة عند أبى العتاهية لا يمكن تفسيرها إلا على أساس نزعته المانوية، ذلك أنه كان مع دعوته إلى الزهد شحيحا شحّا شديدا مع كثرة ما كان يكتنز من الذهب والفضة وتروى فى شحه نوادر كثيرة (1)، تدلّ على حرصه البالغ، حتى ليأبى أن يتصدّق بدانق، وتفسير ذلك أن المانوية كانوا يؤمنون بأن المانوى الصادق ينبغى أن يعيش على المسألة فلا يأكل إلا من كسب غيره الذى عليه غرمه ومأثمه (2)، فهو يحرّم ماله على نفسه وعلى غيره ويعيش على السؤال والاستجداء. وفعلا ظل أبو العتاهية على الرغم من نسكه الظاهر يمدح الرشيد وينال جوائزه، فهو يمدحه حين يعهد عهد، المعروف لبنيه الثلاثة (3) سنة 186 وهو يمدحه حين يهزم نقفور إمبراطور بيزنطة ويستولى على هرقلة (4) سنة 191. وحين يتوفّى الرشيد يبادر إلى مديح الأمين بمثل قوله (5):

يا عمود الإسلام خير عمود

والذى صيغ من حياء وجود

إن يوما أراك فيه ليوم

طلعت شمسه بسعد السّعود

وينال جوائزه وجوائز أمه زبيدة. ولما قتل الأمين وقلّد المأمون العراق الحسن ابن سهل أسرع يدقّ بابه، فأمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب وأجرى له كل شهر ثلاثة آلاف درهم (6)، وقدم المأمون فاستقبله بمثل قوله (7):

لخير إمام قام من خير عنصر

وأفضل راق فوق أعواد منبر

ويقول الرواة إنه كان يجرى عليه فى كل عام عشرين ألف درهم غير ما كان يغدق عليه من جوائزه فى الحين بعد الحين (8). ومعنى ذلك أن زهده إنما كان زهدا فى الظاهر، أما فى الباطن والواقع فقد ظل من طلاب الدنيا ومتاعها الزائل، وظل يطلبها ويلح فى الطلب إلحاحا شديدا وسجّل عليه سلم الخاسر ذلك فى بعض أشعاره (9)

(1) أغانى 4/ 16 وما بعدها.

(2)

الحيوان 4/ 459.

(3)

أغانى 4/ 104.

(4)

أغانى (طبع الساسى) 17/ 46.

(5)

أغانى (طبع الساسى) 21/ 11.

(6)

أغانى (طبع دار الكتب) 4/ 89.

(7)

أغانى (ساسى) 21/ 13.

(8)

أغانى (دار الكتب) 4/ 53.

(9)

أغانى (ساسى) 21/ 76 وانظر أغانى (دار الكتب) 4/ 76.

ص: 243

وهكذا ظلّ يسترفد الخلفاء والوزراء، حتى وافته منيته سنة مائتين وإحدى عشرة وقيل سنة اثنتى عشرة أو ثلاث عشرة.

ولعل فيما قدمنا ما يدلّ دلالة بينة على أن طبيعة أبى العتاهية كانت معقدة، فهو نبطى أحسّ غير قليل من المسكنة منذ نشأته، وقاده هذا الإحساس أولا إلى أن يصبح مخنثا، ثم ماجنا، وقاده أخيرا إلى أن يصبح زاهدا على طريقة المانويين من سؤال الناس ومما طابت به أنفسهم له. وتدل نزعته المانوية على أنه اضطرب بين أصحاب المقالات، ويؤكد ذلك عنده ما يقال من أنه كان على مذهب الشيعة الزيدية البترية (1)، ونؤمن-مع نيكلسون (2) -بأنه لم يعش هذا المذهب حقّا، إذ يشيد فى أشعاره بأبى بكر وعمر وعثمان (3)، إنما هو ضرب من الاضطراب بين أصحاب النحل سرعان ما زايله. وقد دفعته صلته بالمانويين إلى الاطلاع الواسع على الآداب الفارسية، ونقل كثيرا من حكمها إلى أشعاره. ومن خير ما يصور ذلك قصيدته «ذات الأمثال» التى صور فيها نظرية الخير والشر المانوية والتى أنشدنا منها الأبيات السالفة. ويظهر أنه قرأ كثيرا مما ترجم عن فلاسفة اليونان، ومن ثمّ وصل بعض معاصريه بينه وبينهم (4)، ومرّ بنا فى الفصل السابق نقله لجوانب من مراثى فلاسفة اليونان للإسكندر فى رثائه لصديقه على بن ثابت، وكان من رءوس (5) الزنادقة، ولعله هو الذى دفعه فى هذا الطريق. وكان إلى ذلك مثقفا ثقافة إسلامية واسعة، وهى تتضح فى كثرة ما نقله إلى رهدياته من آى الذكر الحكيم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أيضا مثقفا ثقافة عربية دقيقة جعلته يتقن اللغة ويبرع فى الشعر، حتى أصبح له طبعا.

وكل هذه العناصر التى اصطلحت على تكوين طبيعة أبى العتاهية جعلتها أبعد الأشياء عن البساطة كما جعلتها خصبة واسعة الخصب. وكل من يقرأ أشعاره يلاحظ أنها تمثل حياته وما حدث فيها من انقلاب أوضح تمثيل، فهو فى شطر منها يتغزل ويصف الخمر، وهو فى الشطر الثانى يكف عن الغزل ووصف الخمر

(1) أغانى 4/ 6.

(2)

انظر التاريخ الأدبى للعرب لنيكلسون ص 297.

(3)

الديوان ص 104.

(4)

أغانى 4/ 2.

(5)

الفهرست لابن النديم ص 473.

ص: 244

مستبدلا بهما الزهد ونثر الحكم والدعوة إلى محاسن الأخلاق. وإذا كنا لاحظنا عند أبى نواس وبشار أنهما كانا يحافظان إلى حد كبير فى مدائحها على الأوضاع والتقاليد الموروثة فى الصياغة وفى التمسك بوصف الأطلال وبكاء الديار ونعت الصحراء وإبلها وحيوانها وكل ما يتصل بها فإن أبا العتاهية يخطو إلى الإمام خطوة بمدائحه إذ يتنحّى عن الصحراء والأطلال إلا ما قد يأتى عرضا، وأيضا فإنه لا يتمسك غالبا بالأسلوب القديم الجزل الرصين، وكأنه يريد أن يفسح لأساليب عصره اللينة الخفيفة، ومن خير ما يمثّل ذلك مدحته اللامية للمهدى، وفيها يقول (1):

أتته الخلافة منقادة

إليه تجرّر أذيالها

ولم تك تصلح إلا له

ولم يك يصلح إلا لها

ولورامها أحد غيره

لزلزلت الأرض زلزالها

ولو لم تطعه بنات القلوب

لما قبل الله أعمالها (2)

وإن الخليفة من بغض لا

إليه ليبغض من قالها

والقصيدة من بحر المتقارب الخفيف، وألفاظها تسيل نعومة وعذوبة. وأكبر خليفة عنى بمديحه هرون الرشيد فقد كان يمدحه فى سلمه وحربه وفى كل المناسبات من مثل توليته العهد لبنيه، وفى هذه التولية يقول (3):

وشدّ عرى الإسلام منه بفتية

ثلاثة أملاك ولاة عهود

وكان يحرص دائما على مديحه بالتقوى والانصراف عن الدنيا متعرضا لوصف جيوشه وذبّه عن حمى الإسلام وما ينزل بأعدائه من موت يمحقهم محقا، على شاكلة قوله (4):

وهرون ماء المزن يشفى به الصّدى

إذا ما الصّدى بالرّيق غصّت حناجره (5)

وأوسط بيت فى قريش لبيته

وأوّل عزّ فى قريش وآخره

(1) أغانى 4/ 33.

(2)

بنات القلوب: النيات.

(3)

أغانى 4/ 104.

(4)

أغانى 4/ 15.

(5)

المزن: السحاب المطر. الصدى: بفتح الدال: العطش وبكسرها العطشان.

ص: 245

وزحف له تحكى البروق سيوفه

وتحكى الرعود القاصفات خوافره

إذا نكب الإسلام يوما بنكبة

فهرون من بين البريّة ثائره

ومن ذا يفوت الموت، والموت مدرك

كذا لم يفت هرون ضدّ ينافره

والأسلوب هنا جزل رصين، ولكنه لا يبعد فى جزالته ورصانته، إذ كان يعنى باختيار ألفاظه من المعجم اليومى أو بعبارة أدق مما يقاربه سهولة. وقد نظم استعطافات كثيرة للرشيد حين حبسه، وهى لا تمتاز بالأسلوب السهل اليسير فحسب، بل تمتاز أيضا بشدة التضرع، حتى ليبادر الرشيد بالعفو عنه كما أسلفنا لمثل قوله (1):

أنا اليوم لى، والحمد لله، أشهر

يروح علىّ الهمّ منكم ويبكر

تذكّر أمين الله حقّى وحرمتى

وما كنت تولينى لعلك تذكر

وهو لا يكثر من الهجاء غير أن ما خلّفه فيه يدل على إحكامه لسهامه، حتى لنرى والبة بن الحباب يفرّ على وجهه منه إلى الكوفة، ومن أوائل هجائه أشعاره فى عبد الله بن معن مولى محبوبته الأولى سعدى النائحة، وقد صّوره فى بعض هذه الأشعار صورة ندى لها وجهه طويلا، إذ أخلاه من العقل والشجاعة بل أيضا من الرجولة، حتى ليقول على لسانه (2):

أنا فتاة الحىّ من وائل

فى الشّرف الشامخ والنّبل

ما فى بنى شيبان أهل الحجى

جارية واحدة مثلى

قد نقّطت فى وجهها نقطة

مخافة العين من الكحل

إن زرتموها قال حجّابها

نحن عن الزّوّار فى شغل

وكان يعرف كيف يرمى مهجويه يمثل هذه النبال المصمية، فمن ذلك أن الأمور فسدت بينه وبين سلم الخاسر، فما هو إلا أن قال فيه:

تعالى الله يا سلم بن عمرو

أذنّ الحرص أعناق الرجال

(1) أغانى 4/ 63.

(2)

أغانى 4/ 22.

ص: 246

حتى سار البيت مسير الأمثال، وحتى أنّ منه سلم طويلا (1). ويقول ابن المعتز إنه «أتى باب أحمد بن يوسف كاتب المأمون، فحجب عنه، فقال:

متى يظفر الغادى إليك بحاجة

ونصفك محجوب ونصفك نائم

فسار بيته هذا فى الآفاق، وجعل الناس يتناشدونه، فاعتذر إليه ابن يوسف (2)» وجلا من أن يتمادى فى هجائه.

وبين أيدينا له مراث مختلفة، لعل أحرّها مراثيه فى صديقه على بن ثابت الزنديق، وقد أنشدنا منها أطرافا فى الفصل السابق، وقد ظل يبكيه ويندبه طويلا ندبا كله لوعة وحرقة وأسى عميق من مثل قوله (3):

فتى لم يملّ النّدى ساعة

على عسره كان أو يسره

أتته المنيّة مغتالة

رويدا تخلّل من ستره

فخلّى القصور لمن شادها

وحلّ من القبر فى قعره

وأصبح يهدى إلى منزل

عميق تؤنّق فى حفره

أشدّ الجماعة وجدا به

أشدّ الجماعة فى طمره

وليس له خمريات كثيرة وكأنما عصفت بخمرياته يد الزمن فيما عصفت به من شعره، ونراه يقدم لإحدى مدائحه للهادى بنعت مرقص للخمر وندمانها وساقيها ومن يلمّ بهم من الجوارى الحسان، يقول وقد طافت به بعض ذكرياته الماجنة فى الكوفة (4):

لهفى على الزّمن القصير

بين الخورنق والسّدير (5)

إذ نحن فى غرف الجنا

ن نعوم فى بحر السّرور

فى فتية ملكوا عنا

ن الدهر أمثال الصقور

(1) أغانى 4/ 75 وطبعته الساسى 21/ 76.

(2)

ابن المعتز ص 233.

(3)

الديوان ص 124.

(4)

أغانى 4/ 60.

(5)

الخورنق والسدير: قصران قديمان بالقرب من الكوفة.

ص: 247

ومقرطق يمشى أما

م القوم كالرّشا الغرير (1)

بزجاجة تستخرج السّ

رّ الدفين من الضمير

زهراء مثل الكوكب ال

دّرّىّ فى كفّ المدير

ومخصّرات زرننا

بعد الهدوّ من الخدور (2)

يرفلن فى حلل المحا

سن والمجاسد والحرير (3)

والمقدمة تكتظ على هذا النحو بغير قليل من مشاعر الفرح والبهجة.

وقد مرّ بنا تدلهه بعتبة، وله فيها غزل كثير، وهو فيه رقيق رقة بالغة، وأكبر الظن أن رقته فيه جاءته من تخنثه القديم، حتى ليقول ابن قتيبة إن غزله يشاكل طبائع النساء، وكأنما سرت فيه مشاعرهن، وهى مشاعر تقترن عنده بالتذلل والتضرع على شاكلة قوله:

بسطت كفّى نحوكم سائلا

ماذا تردّون على السائل

إن لم تنيلوه فقولوا له

قولا جميلا بدل النائل

أو كنتم العام على عسرة

ويلى فمنّوه إلى قابل

ويقول ابن المعتز معلقا على هذه الأبيات: «لهذا الشعر من قلوب النساء موقع الزلال البارد من الظمآن لرقته (4)» . وعلى نفس هذا المثال قوله فى عتبة أيضا (5):

كأنها من حسنها درّة

أخرجها اليمّ إلى السّاحل

كأن فى فيها وفى طرفها

سواحرا أقبلن من بابل

لم يبق منى حبّها ما خلا

حشاشة فى بدن ناحل

يا من رأى قبلى قتيلا بكى

من شدّة الوجد على القاتل

(1) مقرطق: يلبس القرطق وهو ثوب ذو طاق واحد.

(2)

مخصرات: دقيقات الحصور. الهدو من الليل: أوائله.

(3)

يرفلن: يتبخترن. المجاسد: القمصان الداخلية الرقيقة.

(4)

ابن المعتز ص 230.

(5)

أغانى 4/ 45.

ص: 248

ودائما يشكو مسكنته وأن صاحبته لا تنيله كثيرا ولا قليلا وأنها استرقته ولا تردّ عليه حريته، وأنها أضنته وأسقمته، وأنها تزهد فيه وهو المحب الوامق الذى يرسل الدموع مدرارا على من ظلمته، وإنه ليستجير ولا مجير ويتصبّر ولا صبر إلا النواح الطويل

وينتقل أبو العتاهية من مرحلة غزله وخمره إلى مرحلة جديدة تعدّ انقلابا فى حياته، فقد تحول من حياة اللهو إلى حياة الزهد، وظل نحو ثلاثين عاما يتغنى بالكأس الخالدة كأس الموت الدائرة على الخلق، فالكل مصيره إلى الفناء والكل وشيك الزوال، والكل سيصبح ترابا فى تراب، يقول (1):

لدوا للموت وابنوا للخراب

فكلّكم يصير إلى تباب (2)

ويقول (3):

الناس فى غفلاتهم

ورحى المنيّة تطحن

ويقول (4):

كل حىّ عند ميتته

حظّه من ماله الكفن

ويقول (5):

بين عينى كلّ حىّ

علم الموت يلوح

نح على نفسك يا مس

كين إن كنت تنوح

وهكذا يمضى ينعى الحياة إلى أهلها ويبكيها ويندبها، مهولا رقدة الموت الأبدية، ومنغصا على من يسمعه كل لذة له وكل نعيم، فالأجل قصير والمنايا راصدة، والقدر أزلى ونحن آلات بأكفه. ولعله من أجل هذا الإحساس آمن بالجبر والاضطرار (6)، وإنه ليصرخ من أعماق قلبه: ليس هناك إلا الفناء وإلا الأسى والكآبة، وهى نظرة سوداء جاءته من مانويته، إذ الإسلام لا ينعى إلى

(1) الديوان ص 23.

(2)

تباب: هلاك.

(3)

الديوان ص 267.

(4)

الديوان ص 252.

(5)

أغانى 4/ 103.

(6)

أغانى 4/ 6.

ص: 249

الناس حياتهم ولا يصورها لهم فى كروب أبى العتاهية التى تخنق الأنفاس والتى تجعله يقف طويلا عند سكرات الموت وما يعانيه المحتضر من آلام كما تجعله يقف عند نزلاء القبور والقبور نفسها يسألها عن أصحابها، مسجّلا أن ذوى السلطان يستوون مع السوقة فى الموت وأن الطبيب كثيرا ما يسبق مريضه إلى ساحته، يقول (1):

وقبلك داوى الطبيب المريض

فعاش المريض ومات الطبيب

وهو يضيف إلى حديثه الطويل عن الموت والقبور حديثا عن البعث والنشور، ولكنه لا يسترسل فى ذكر عذاب الجحيم ونعيم الجنان، كما أشرنا إلى ذلك آنفا، بل يلم إلماما بالبعث والحساب على شاكلة قوله (2):

فلو أنا إذا متنا تركنا

لكان الموت غاية كلّ حىّ

ولكنا إذا متنا بعثنا

ونسأل بعده عن كل شىّ

ويتسع أبو العتاهية فى أشعاره الزاهدة، حتى لتؤلف وحدها ديوانا كاملا، وفعلا جمع منها ابن عبد البرّ النّمرى الأندلسى ديوانا مستقلا، وقد بنى اليسوعيون على هذا الديوان نشرتهم لأشعار أبى العتاهية باسم «الأنوار الزاهية فى ديوان أبى العتاهية» ضامين إلى رواية النمرى ما تيسر جمعه من أشعار الشاعر وقصائده.

وأبو العتاهية فى زهدياته، كما رأينا، يطيل الحديث عن الحياة والموت والفناء ومصير الإنسان، ويتحول بجانب ذلك إلى ما يشبه واعظا، وهو فى عظاته يستمد من القرآن الكريم والحديث النبوى ووعظ الوعاظ من أمثال الحسن البصرى، كما يستمد من أشعار سابقيه، وقد وقف المبرد عند موعظة له يستهلها بقوله:

يا عجبا للناس لو فكروا

وحاسبوا أنفسهم أبصروا

وردّها إلى بعض الأحاديث النبوية وإلى كلام الحسن البصرى وعلى بن أبى طالب وإلى معانى بعض الشعراء مثل الخليل بن أحمد (3). وهو فى جوانب من مواعظه يلتقى بآى الذكر الحكيم فى اتخاذ العبرة من الأمم الداثرة والقرون الخالية

(1) الديوان (طبعة سنة 1909) ص 18.

(2)

الديوان ص 402.

(3)

الكامل للمبرد (طبعة رايت) ص 230 وما بعدها.

ص: 250

وفى تصوير الموت وسكراته، وقد يسوق ذلك بلفظ القرآن الكريم من مثل قوله (1):

يا عجبا كلّنا يحيد عن ال

حين وكلّ لحينه لاقى

كأن حيّا قد قام نادبه

والتفّت الساق منه بالساق (2)

واستلّ منه حياته ملك ال

موت خفيّا وقيل: من راق (3)

وطبيعى أن يطبع أسلوبه فى الزهد بطوابع الأسلوب الوعظى من التكرار وكثرة النداء والاستفهام والأمر. ونراه يشيع فى زهدياته أدعية وابتهالات لربه من مثل قوله (4):

سبحان من لا شئ يحجب علمه

فالسّرّ أجمع عنده إعلان

سبحان من هو لا يزال مسبّحا

أبدا وليس لغيره السّبحان

وقوله (5):

إلهى لا تعذّبنى فإنّى

مقرّ بالذى قد كان منّى

ومالى حيلة إلا رجائى

لعفوك إن عفوت وحسن ظنّى

وبجانب ذلك نراه يذيع دعوة واسعة إلى محاسن الأخلاق كما يذيع حكما وأمثالا كثيرة مقتبسا لها من الآداب الفارسية كما أسلفنا، ومما روى عن حكماء العرب مثل لقمان (6)، وأفرد لها-كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع-قصيدته «ذات الأمثال» التى يقال إنها امتدت إلى أربعة آلاف بيت.

وكانت عامة بغداد تتعلق بحكمه ووعظياته وزهدياته، وفى أخباره أن بعض الملاحين غنوا الرشيد فى إحدى نزهاته على صفحات دحلة بعظة من عظاته (7)، وفى ذلك ما يدل على ما كان لأشعاره الزاهدة من صدى عميق فى نفوس الطبقة

(1) البيان والتبيين 3/ 185.

(2)

الشطر الثانى اقتباس من الآية رقم 29 من سورة القيامة. والتفاف الساق بالساق كناية عن فقدهما للحركة.

(3)

آخر البيت اقتباس من الآية 27 من سورة القيامة، والقائل إما أهل الميت حين ييأسون منه ويطلبون له الراقى أو الطبيب، وإما الملائكة حين يسألون من يرقى به إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب.

(4)

الديوان ص 258.

(5)

الديوان ص 263.

(6)

البيان والتبيين 2/ 76.

(7)

أغانى 4/ 102 وما بعدها.

ص: 251

العامة التى لم تكن تعرف ترفا ولا نعيما، إنما كانت تعرف الكدح وشظف العبش، وكأنما أحست عنده أنه يتغنى آلامها وبؤسها. ونراه يتعمقه الشعور بما هى فيه من ضنك، فإذا هو يرفع لبعض الخلفاء شكوى مريرة من غلاء الأسعار، يقول فى تضاعيفها (1):

من مبلغ عنى الإما

م نصائحا متتاليه

أنى أرى الأسعار أس

عار الرعيّة غاليه

وأرى المكاسب نزرة

وأرى الضرورة فاشيه

من يرتجى للناس غي

رك للعيون الباكيه

من مصبيات جوّع

تمسى وتصبح طاويه

من يرتجى لدفاع كر

ب ملمّة هى ماهينه

من للبطون الجائعا

ت وللجسوم العاريه

ألقيت أخبارا إلي

ك من الرعية شافيه

ولم يكن أبو العتاهية يقترب من العامة بزهده وما صوّر فيه من بؤسها وأوصا بها فحسب، بل كان يقترب منها أيضا بأسلوبه الذى كان يشتقه اشتقاقا من لغة الحياة اليومية ببغداد، وهو أسلوب ابتعد فيه عن الغرابة والتعقيد كما ابتعد عن العجمة، ولكنه بعد ذلك أجراه فى مستوى أفراد الشعب، بحيث لا يعزّ على أحد منهم أن يفهمه. ويؤثر عنه أنه كان يقول: «الصواب لقائل الشعر أن تكون ألفاظه مما لا تخفى على جمهور الناس مثل شعرى، ولا سيما الأشعار التى فى الزهد، فإن الزهد ليس من مذاهب الملوك ولا من مذاهب رواة الشعر ولا طلاّب الغريب، وهو مذهب أشغف الناس به الزهاد وأصحاب الحديث والفقهاء. .

والعامة، وأعجب الأشياء إليهم ما فهموه (2)» ومن الحق أنه ظلت فى أسلوب شعره منذ فاتحة حياته السهولة، حتى إذا أخذ فى الزهد ضاعفها وأكّدها تأكيدا شديدا

(1) الديوان ص 303.

(2)

أغانى 4/ 70.

ص: 252

حتى لتكاد تسقط منه بعض مقطوعاته، لما يجرى فيها من ضعف، وحتى ليقول صاحب الأغانى إنه كثير الساقط المرذول (1). وينبغى أن لا نبالغ مبالغة أبى الفرج، فقد كانت لأبى العتاهية أذن موسيقية دقيقة وقلما نجد عنده قافية غير متمكنة فى موضعها أو كلمة لم تحلّ فى نصابها، إذ كان الشعر عنده طبعا أو كالطبع (2)، حتى كان لا يسمع كلمة من مناد على بضاعة أو من بعض جلسائه تصلح أن تكون شطرا لبيت حتى يبادر بصنع الشطر الثانى توّا على البديهة (3). وبلغ من اقتداره على صنع الشعر وسهولته على لسانه أن اخترع-كما أسلفنا فى الفصل السابق-أوزانا جديدة لا تدخل فى بحور الشعر المستعملة، وكان إذا روجع فى ذلك وقيل له إن أشعارك لا تدخل فى عروض الخليل قال: أنا أكبر من العروض (4) يريد أن الشعر يجرى على لسانه قبل أن يضع الخليل عروضه، وهو لذلك أسنّ منه، ولا نشك فى أن ديوانه لو وصلنا كاملا لاستخرجنا منه أوزانا كثيرة طريفة ابتكرها ابتكارا، غير أن نبع الشعر عنده كان غزيرا، فكثر ما نظمه ولم تستطع الأجيال التالية أن تحمله تامّا لكثرته.

4 -

مسلم (5) بن الوليد

ولد فى الكوفة حوالى سنة 140 للهجرة لأب كان يشتغل بالحياكة، واختلفت المصادر القديمة فى تصحيح نسبته، فقيل إنه خزرجى من الأنصار، وقيل بل هو من مواليهم، وهو القول الصحيح، ويشهد له أنه كان من الصنّاع، ولم يكن العرب يقبلون على الصناعات حتى هذا التاريخ. وفى أخبار مسلم وأشعاره ما يدل على أنه كان شيخا صالحا، وأغلب الظن أنه كان من موالى الفرس، وولد قبل

(1) أغانى 4/ 2 وانظر رأى الأصمعى ص 40.

(2)

أغانى 4/ 13 والبيان والتبيين 1/ 115.

(3)

أغانى 4/ 39 والحيوان 5/ 137.

(4)

أغانى (دار الكتب) 4/ 13.

(5)

انظر فى أخبار مسلم وأشعاره الشعر والشعراء لابن قتيبة ص 808 وطبقات الشعراء لابن المعتز ص 235 وتاريخ بغداد 13/ 96 وترجمته بالأغانى الملحقة بديوانه وكذلك بقية المصادر الملحقة بنشرة سامى الدهان للديوان (طبع دار المعارف) وراجع مسلم بن الوليد لفؤاد ترزى (طبع بيروت).

ص: 253

مسلم ابن كان يكبره يسمى سليمان، وكان كفيفا، كما كان شاعرا مجيدا، ويجمع الرواة على أنه كان زنديقا وأن الذى لقّنه زندقته بشار (1)، ومن قول الجاحظ فيه:«كان من مستجيبى بشار الأعمى، وكان يختلف إليه وهو غلام، فقبل عنه ذلك الدين (2)» . وفى اختلافه إليه ما يدلّ على أنه نزل البصرة، ويظهر أنه نزلها مع أبيه، إذ كان لا يزال غلاما، وكان ضريرا، يحتاج إلى من يعينه ويعوله، وفى ديوان مسلم قصيدة طويلة (3) يذكر فيها مقامه أولا بالكوفة، ثم نزوله البصرة وذكرياته السعيدة بها، وذكريات الحب واللهو.

وفى ذلك كله ما يدل على أن مسلما نشأ بالكوفة، ثم انتقل إلى البصرة، ولا نرتاب فى أنه كان يختلف مع أخيه سليمان إلى بشار، وأن ذلك أتاح له أن يحمل عنه شعره، ولكنه لم يحمل عنه زندقته، كما حملها أخوه، إذ لم يعرف عنه شئ من الزندقة. ويظهر أنه مضى يثقف نفسه بكل معارف عصره وأنه عكف على قراءة كثير من الآداب المترجمة، ونراه يصرح بأن قوله:

دلّت على عيبها الدّنيا وصدّقها

ما استرجع الدهر مما كان أعطانى

قد أخذ معناه من التوراة (4). وفى أشعاره من التعمق فى الأفكار ما يدل دلالة قاطعة على أنه اختلف إلى متكلمى البصرة وحذق على أيديهم النظر والتفكير وتصحيح المعانى والخلوص إلى دقائقها وطرائفها وحدودها الخفية. وأيضا فى أشعاره ما يدل دلالة بينة على ثقافة واسعة بالشعر القديم: الجاهلى والإسلامى، فقد أشربته روحه لا بصياغاته فحسب، بل أيضا بجميع معانيه وصوره وخصائصه الموسيقية. والتحمت فى نفسه هذه الثقافة بشعر بشار ومعاصريه من شعراء الجيل العباسى الأول التحاما قويا خصبا.

ويظهر أن مواهبه الشعرية استيقظت فى نفسه مبكرة، وليس بين أيدينا أخبار

(1) انظر الحيوان 4/ 195 ومعجم الأدباء 11/ 255 ونكت الهميان ص 161 وفى الكتابين الأخيرين أنه ابن مسلم وهو خطأ، انظر فيه الحيوان والبيان والتبيين 3/ 202 حيث ينص الجاحظ على أنه أخوه، وقد توفى قبله بنحو ثلاثين عاما سنة 179 للهجرة.

(2)

الحيوان 4/ 195.

(3)

راجع الديوان (طبع دار المعارف) ص 225.

(4)

انظر ترجمة أبى الفرج لمسلم الملحقة بديوانه ص 373.

ص: 254

واضحة عن حياته فى موطنه الأول الكوفة ولا فى البصرة، غير أننا نراه يصطدم بشاعر بصرى يسمى ابن قنبر، عنى بأن يردّ على الطرماح الشاعر الأموى الخارجى أهاجيه فى قبيلته تميم، وأن يهجو طيئا والأزد وغيرهما من قبائل اليمن التى انتصر لها الطرماح، وامتعض مسلم لمواليه من الأنصار الأزديين اليمنيين، وزجّ بنفسه معه فى معركة هجاء عنيفة، وكان أقوى منه شاعرية، فهتكه ومزقه واضطره إلى أن يمسك عن مناقضته.

وجذبت بغداد مسلما فهاجر إليها، لعل بضاعته تروج فيها ويحظى بما حظى به أعلام الشعراء فى عصره من جوائز الخلفاء والأمراء والوزراء والولاة والقواد. ولا يعرف بالضبط تاريخ هجرته، ولكن فى أخباره أنه هاجر إليها مع أخيه سليمان وانقطعا لمديح يزيد بن مزيد ومحمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة، وقد توفى سليمان سنة 179 للهجرة. وفى أخبار مسلم أنه كان يمدح من دون الخليفة ولا يطمح إليه، فكان يقول: أرى نفسى تذوب حسرات من أنه يحوى جوائز الخلفاء من لا يوازينى فى أدب. ويدل ذلك على أنه ظل فى بغداد مدة قصرت همته فيها عن لقاء الرشيد ثم لقيه، ويقال إن منصور بن يزيد الحميرى خال الرشيد هو الذى أوصله إليه.

وتلتقى أخبار لقائه له بمدائحه ليزيد بن مزيد وقضائه على ثورة الوليد بن طريف الخارجى فى سنة 179 للهجرة، ومن حينئذ لمع اسمه وعلا نجمه بين شعراء بغداد ويظهر أن صلة انعقدت بينه وبين البرامكة، فقد كان وثيق الصلة بمحمد بن منصور كاتبهم، وله فيهم مدائح مختلفة.

وفى ديوانه قصائد أربع فى مديح الرشيد، ويظهر أن كثيرا من مدائحه فيه سقط من يد الزمن، ويقال إنه لما أنشده لاميته فيه، وأورد على سمعه قوله فى مقدمتها:

هل العيش إلا أن أروح مع الصّبا

وأغدو صريع الرّاح والأعين النّجل (1)

قال له: أنت صريع الغوانى، فلصقت به الكلمة، وأصبحت لقباله لا يعزف إلا به (2). ونراه دائما ينوه بانتصاراته على أعدائه، من مثل قوله (3):

(1) نجل: جمع نجلاء وهى الواسعة. الراح: الخمر.

(2)

ابن المعتز ص 235 والديوان ص 43.

(3)

الديوان ص 254.

ص: 255

خليفة الله إن النّصر مقتصر

عليك مذ أنت مبلوّ ومختبر

أعددت للحرب سيفا من بنى مطر

يمضى بأمرك مخلوعا له العذر (1)

لا فى بنو قيصر لما هممت بهم

مثل الذى سوف تلقى مثله الخزر

لقد بعثت إلى خاقان جائحة

خرقاء حصّاء لا تبقى ولا تذر

أظلّهم منك رعب واقف بهم

حتى يوافق فيهم رأيك القدر

وهو يريد بسيف بنى مطر يزيد بن مزيد الشيبانى، وقد مضى يتحدث عن انتصارات الرشيد على الروم وظفره بخاقان ملك الترك، وكان شخص إليه الفضل بن يحيى البرمكى فى جيش ضخم سنة 178 للهجرة، فأسره واستباح عسكره وغنم أمواله (2). وفى أخباره أن الرشيد وصله صلات كثيرة، حتى ليقال إنه وصله مرة بمائتى ألف درهم (3). وتقرن أخباره إعجاب الرشيد به بإعجابه بمديحه لقائده يزيد ابن مزيد الشيبانى، وهو إعجاب نظن أن السياسة تتداخل فيه، فقد كان كل شئ فى الحكم بيد البرامكة الإيرانيين، وأكبّ عليهم الشعراء بمدائحهم إكبابا جعل الخليفة ينفس عليهم ذلك، وربما كان مما يؤذيه أنه لا يجد لقادته من العرب الخلّص من يمدحهم وينوه بهم، وكان البرامكة يقفون فى وجه بعض هؤلاء القادة ويحاولون إبعادهم عن الخليفة، وكان يضطر للنزول على إرادتهم لعلو نفوذهم، وكان ممن صنعوا به ذلك يزيد بن مزيد، فإنه لما قضى على ثورة الوليد ابن طريف وانصرف بالظفر حجب برأيهم وجاراهم الرشيد فأظهر سخطه عليه، فقال: «وحقّ أمير المؤمنين لأصيّفنّ وأشتونّ على فرسى أو أدخل، فارتفع الخبر بذلك إلى الرشيد، فأذن له، فدخل، فلما رآه ضحك وسرّ وأقبل يصيح:

مرحبا بالأعرابى، حتى دخل وأجلس وأكرم (4)» وأقبل الشعراء يمدحونه، ومدحه مسلم بقصيدته المشهورة (5):

(1) العذر: جمع عذار، وهو هنا العزيمة.

(2)

اليعقوبى 3/ 139 وقارن بالجهشيارى ص 190 وما بعدها.

(3)

انظر ترجمة الأغانى الملحقة بالديوان (طبع دار المعارف) ص 369.

(4)

أغانى (دار الكتب) 12/ 96 وما بعدها.

(5)

هى أولى قصائد الديوان.

ص: 256

أجررت حبل خليع فى الصّبا غزل

وشمّرت همم العذال فى العذل (1)

وارتفعت إلى سمع الرشيد، فطار سرورا بمدح قائده وبمادحه. ومن حينئذ توثقت الصلة بين الشاعر والخليفة من جهة وبينه وبين القائد من جهة ثانية، وأخذ يزيد يغدق عليه نواله الغمر، حتى ليقال إنه أعطاه فى إحدى وفاداته عليه مائة وتسعين ألف درهم، وأقطعه إقطاعات تغلّ مائتى ألف درهم. ولما ولّى الرشيد يزيد أرمينية وآذربيجان سنة 183 للهجرة صحبه وظل معه حتى توفى سنة 185. وقد احتفظ الديوان بقصيدته السابقة فيه وقصيدة ثانية ميمية ومقطوعة قصيرة، وهو فى القصيدة الأولى ينوّه بانتصاراته فى حروب الروم وظفره بيوسف البرم الثائر فى خراسان لعهد المهدى ثم الوليد بن طريف الخارجى الثائر بالجزيرة لعهد الرشيد. ونراه فى القصيدة الثانية وهى التى يستهلها بقوله (2):

طيف الخيال حمدنا منك إلماما

داويت سقما وقد هيّجت أسقاما

يتغنّى بانتصاره على الوليد بن طريف ويشيد بشجاعته وإقدامه.

وكان منذ نزوله بغداد يمدح محمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة، وكان خليفة الفضل بن جعفر البرمكى بباب الرشيد، وكان يسمى فتى العسكر لبلائه فى الحروب، ولمسلم فيه قصيدتان وبعض مقطوعات منثورة فى ديوانه، وهو فى إحدى قصيدتيه، وهى التى افتتحها بقوله (3):

عاصى الشباب فراح غير مفنّد

وأقام بين عزيمة وتجلّد (4)

يشيد طويلا بانتصاره فى بعض حروب الروم وفتكه بأحد بطارقتهم، كما ينوّه بانتصارات أبيه «منصور» على خوارج القيروان، ولعله كان فى عداد جيش يزيد بن حاتم المهلبى الذى فتك بهم فتكا ذريعا لعهد الخليفة المنصور (5). وقد وصله محمد بن منصور بن زياد بالبرامكة، وفى ديوانه بيتان فى مديح يحيى، وقصيدة ومقطوعة فى مديح ابنه جعفر، وهو فى القصيدة يشير إلى قضائه على فتنة

(1) أجررت حبل خليع كناية عن تركه يصنع ما يشاء.

(2)

الديوان ص 61

(3)

الديوان ص 230.

(4)

مفند: ملوم.

(5)

النجوم الزاهرة 2/ 21.

ص: 257

بالشام سيّره إليها الرشيد سنة 180 للهجرة (1)، يقول (2):

أعطى المقادة أهل الشام حين غشوا

من جعفر بهنات مالها حول

وأبدع قصائده فى البرامكة لاميته فى الفضل بن جعفر، وهى تعدّ من روائعه (3) وإذا صح أن من سماه إسماعيل فى قصيدته:«وإنى وإسماعيل يوم وداعه» (4) من البرامكة كانت هى الأخرى من درره فيهم. ونراه بعد وفاة يزيد بن مزيد يتصل بداود بن يزيد المهلبى أحد قواد الرشيد وولاته على إفريقية، وقد ولاه السند سنة 184 فرمّ ما فيها من شعث بين اليمنية والنزارية، وفتح كثيرا من مدنها، ويقال إنه «كان يجلس للشعراء فى السنة مجلسا واحدا فيقصدونه ذلك اليوم وينشدونه مدائحه، فوجّه إليه مسلم راويته بقصيدته فيه (5):

لا تدع بى الشّوق إنى غير معمود

نهى النّهى عن هوى البيض الرّعاديد (6)

فلما أنشدها بين يديه أمر له بعشرة آلاف درهم وأمر لمسلم بمائة ألف، وهى إحدى فرائده، ونراه فيها يتحدث عن انتصاراته فى «كرمان» وسجستان ومن فتك بهم من الخوارج والثوار، وكيف دانت له السند واستقامت أمورها خير استقامة.

ونرى مسلما يمدح جماعة من كتاب الدواوين والولاة وكبار رجال الدولة فى عهد الرشيد، وفى مقدمتهم يعقوب (7) بن سعدان، وكان سعدان كاتب زبيدة (8) زوج الرشيد، وسهل (9) بن الصباح المدائنى، وكان من مقدّمى رجال الدولة وأجوادهم (10)، والحسن (11) بن عمران الطائى والى الرشيد على دمشق (12)، وزيد ابن مسلم الحنفى أحد قواده، وقد نوّه به وبكرمه وشجاعته وبلائه فى الحروب فى

(1) الجهشيارى ص 208 والطبرى 6/ 457 و 466.

(2)

الديوان ص 250.

(3)

الديوان ص 260.

(4)

الديوان ص 332 وقارن بسط اللالئ 327 وكتاب الورقة لابن الجراح (طبع دار المعارف) ص 80.

(5)

الديوان ص 151.

(6)

معمود: عاشق. الرعاديد: المرتجات الأكفال.

(7)

الديوان ص 114، 336.

(8)

الجهشيارى ص 256.

(9)

الديوان ص 24 وانظر ص 326، 333، 337.

(10)

الجهشيارى ص 165 وما بعدها.

(11)

الديوان ص 257.

(12)

زهر الآداب 4/ 82.

ص: 258

قصيدتين (1) بديعتين. ونمضى معه إلى عصر الأمين فنراه بمدحه بقصيدته (2):

شغلى عن الدار أبكيها وأرثيها

إذا خلت من حبيب لى معانيها

ونراه يشيد بانتصاراته على أعدائه فى الشرق، وهو بلا ريب يشير إلى انتصار هرثمة بن أعين على رافع بن الليث الثائر بسمرقند سنة 194 (3). ولا يلبث الأمين أن ينقض عقد ولاية العهد من بعده لأخيه المأمون، ويأخذ من الناس البيعة لابنه موسى مما أدّى إلى تطاحن الأخوين وظفر المأمون بأخيه على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع. ويولّى مسلم وجهه شطر مرو حيث المأمون ووزيره الفضل بن سهل.

وتلقّاه الفضل بترحيب عظيم، إذ كان من ندمائه قبل وزارته للمأمون (4)، ونظن ظنّا أن الصلة توثقت بينهما منذ كان مسلم يغدو ويروح على البرامكة، وخاصة على الفضل بن جعفر البرمكى فقد كان ابن سهل يخدمه أولا ثم التحق بخدمة المأمون. ولم يكد مسلم يمثل بين يديه حتى أنشده قوله فيه:

لو نطق الناس أو أثنوا بعلمهم

ونبّأت عن معالى دهرك الكتب

لم يبلغوا منك أدنى ما تمتّ به

إذا تفاخرت الأملاك وانتسبوا

فأمر له عن كل بيت من هذه القصيدة بألف درهم (5). وقد سقطت من ديوانه، كما سقطت قصيدة كافية له فى المأمون لم يبق منها إلا هذان البيتان (6):

وردت على خاقان خيلك بعد ما

كره الطّعان وقد أطلن عراكا

حتى وردن وراء «شاش» بمنزل

تركت به نفلا له الأتراكا

وأيضا فقد سقطت له قصيدة ثالثة فى الفضل بن سهل لم يبق منها إلا بيت واحد (7)، وحظى عنده حظوة كبيرة جعلته يولّيه جرجان أو بعض ضياعها أو يريدها أو مظالمها أو ضياع أصبهان على اختلاف فى الروايات (8). ولعل

(1) الديوان ص 177، 200.

(2)

الديوان ص 216.

(3)

اليعقوبى 3/ 165.

(4)

ابن الطقطقى ص 166.

(5)

ترجمة مسلم فى الأغانى الملحقة بالديوان ص 380.

(6)

الديوان ص 331.

(7)

الديوان ص 307.

(8)

انظر ملحقات الديوان ص 353، 365، 373، 431، 444 وما بعدها.

ص: 259

أولها أكثرها صحة. ويقال إنه كان يربح ألف ألف درهم فى العام، وما زال بجرجان حتى لبّى داعى ربه سنة 208 للهجرة.

وواضح أن مسلما أخذ يعيش فى هناءة ورغد منذ أواخر العقد الثامن من القرن الثانى، فقد انهالت عليه الدنيا وأخذ يظفر بجوائز ضخمة، وما زال يرقى به شعره حتى تولّى جرجان. وفى أخباره وأشعاره ما يدل على أنه كان يقبل على اللهو والطرب، ويفسح فى حياته للحب والغزل، ولكن يظهر أنه لم يكن ينغمس فى ذلك انغماس أبى نواس وأخذانه، فقد كان فيه وقار، وإحساس غير قليل بكرامته.

وكل شئ يؤكد أن حياته فى أسرته كانت تجرى رخاء، فقد رزق ابنة وولدين هما مخلد وخارجة، وسبقته زوجته إلى دار البقاء، فحزن عليها حزنا شديدا، ولعل فى حزنه عليها ما يدل على أنها كانت له شديدة الوفاء والإخلاص.

وفيما قدمنا ما يدل دلالة بيّنة على أن ديوان مسلم لم يحتفظ بكثير من قصائده، فأشعاره فى المأمون والفضل بن سهل مفقودة كما أسلفنا، إلا البيت بعد البيت، وحتى من رويت له فيهم بعض قصائده يظهر أن وراءها قصائد له فيهم سقطت من يد الزمن. ومما يجعلنا نقطع بذلك أننا نجد ابن المعتز يشيد بلاميته السائرة التى أنشدها الرشيد والتى لقّبه كما مر بنا من أجل أحد أبياتها باسم «صريع الغوانى» ويقول إن الرشيد كتبها بماء الذهب (1)، ومع ذلك لم يبق منها فى الديوان إلا مقدمتها، ويصفها ابن المعتز بأنها «مشهورة سائرة جيدة عجيبة» . وكأن ديوانه مختارات تتضمن بعض قصائده وبعض مقطوعاته. ويظهر أن العبث بالديوان قديم، حتى ليروى بعض الرواة أن مسلما تغافل راويته يوما وبيده دفتر ديوانه، فقذف به فى بحر! ولهذا قلّ شعره ولم يبق منه بأيدى الناس إلا ما رواه بعض معاصريه العراقيين وإلا ما كان فى أيدى الممدوحين من مدائحه (2). وربما كان هو نفسه أول من حوّل ديوانه إلى مختارات، إذ كان شديد الحساب لنفسه، وكأنه أسقط كثيرا من أشعاره، حتى لا يبقى له فى أيدى الناس إلا عيون شعره.

ولعل القرن الثانى للهجرة لم يعرف شاعرا جهد نفسه فى صنع الشعر، كما

(1) ابن المعتز ص 235.

(2)

انظر ترجمة الأغانى الملحقة بالديوان ص 374.

ص: 260

جهدها مسلم، فقد أقبل يتمثل نماذج الشعر القديم: جاهليه وإسلاميه بكل معانيه وصوره وأساليبه، وأضاف إلى هذا التمثل تمثلا لا يقل عنه عمقا ولا دقة لنماذج الشعر العباسى عند بشار ومعاصريه. وبذلك التأم القديم والجديد فى نفسه، وعاش ينفق حياته الفنية فى المزج بينهما، مفكرا فى كل التراث الشعرى الذى سبقه وناقدا ومحللا مستنبطا. وهداه ذلك منذ أول الأمر إلى أن يستكشف فى وضوح أدوات البديع والتصنيع من جناس وطباق ومشاكلة وتصوير وأن يجعلها أساسا فى صنع شعره واعترف له القدماء بذلك حتى قالوا إنه «أول من قال الشعر المعروف بالبديع، وهو الذى أعطاه لقبه (1)» . وحقّا نجده مبثوثا فى أشعار بشار وأبى نواس وأضرابهما من سابقيه ومعاصريه، ولكنه يأتى عندهم فى الحين بعد الحين، أما عند مسلم فإنه يتخذه وكده وغايته من عمل الشعر. وقد حاول ابن المعتز فى كتابه «البديع» أن يردّ البديع إلى الشعر القديم والقرآن الكريم، فهو عربى الأصول. ولا يمكن لأحد أن يدعى أن مسلما حين استظهر مذهب البديع والتصنيع فى شعره لم يعتمد على أصول تزكّيه، فقد كان منبثّا فى العصور السابقة له، إذ كان الجاهليون والإسلاميون يأتون به فى خفة، ثم عنى به العباسيون منذ بشار، حتى ليجعله الجاحظ زعيم فن البديع، وبه اقتدى مسلم وحذا حذوه (2). ولا نستطيع أن نجرى مع الجاحظ فى ردّه مذهب البديع إلى بشار، لأنه لم يقصر فنه عليه، ولم يتخذه مذهبا يعيش له ويعيش به، أما مسلم فإنه اتخذه مذهبا له، وفرضه على شعره فرضا منحازا إليه واقفا نفسه على التفكير فيه تفكيرا متصلا معتمدا على حس دقيق وشعور رقيق وعقل مثقف ثقافة ممتازة.

وليس ذلك فحسب فقد أشربت روح مسلم صياغة الشعر القديم بأبنيتها الجزلة الضخمة الناصعة، وتحولت إليه هذه الصياغة بكل ما يجرى فيها من روعة وجمال، فإذا أساليبه معتدلة مستوية ليس فيها أى عوج أو انحراف إنما فيها التناسق الكامل الذى يفتن قارئه بدقته وباتساع جنباته ليبث فيه مسلم بديعه، ولينميه مع روح عصره، وليصبّ فيه نفسه وعقله وخياله، وهو فى ذلك يتكلف

(1) ترجمة الأغانى الملحقة بالديوان ص 364.

(2)

البيان والتبيين 1/ 51.

ص: 261

كل ما يستطيع من جهد عنيف وعناء شاق، مراجعا نفسه ومتأنيّا محتاطا، حتى يبلغ كل ما يريد من امتياز على أقرانه. ولعله لم يمنح موضوعا عنايته كما منح المديح وهو فيه يلاثم ملاءمة دقيقة بين ماضى الشعر وحاضره، فيستنفد ما قاله القدماء فى وصف الصحراء والنوق والتشبيب ملتفتا إلى إخراج العباسيين لهذه الموضوعات فى أشعارهم وما أضافوا إليها من وصف الخمر، أو وصف السفن فى طريقهم إلى ممدوحيهم.

حتى إذا خلص إلى المديح أخذ ينفذ من خلال معانيه القديمة والحديثة إلى عرض جديد رائع يصوّر زاده الأصيل من التراث الفنّى مضيفا كثيرا من المعانى والصور البديعة، واقرأ له هذه القطعة من لاميته الطويلة العجيبة فى يزيد بن مزيد وتصوير فروسيته وكرمه وما ينزل بالأعداء من تقتيل ساحق ما حق وما يتسم به من مروءة كاملة:

لولا يزيد لأضحى الملك مطّرحا

أو مائل السّمك أو مسترخى الطّول (1)

يغشى الوغى وشهاب الموت فى يده

يرمى الفوارس والأبطال بالشّعل (2)

موف على مهج فى يوم ذى رهج

كأنه أجل يسعى إلى أمل (3)

لا يرحل الناس إلا نحو حجرته

كالبيت يفضى إليه ملتقى السّبل (4)

يكسو السيوف دماء الناكثين به

ويجعل الهام تيجان القنا الذّبل (5)

قد عوّد الطّير عادات وثقن بها

فهنّ يتبعنه فى كل مرتحل

تراه فى الأمن فى درع مضاعفة

لا يأمن-الدهر-أن يدعى على عجل

لا يعبق الطّيب خدّيه ومفرقه

ولا يمسّح عينيه من الكحل (6)

فإنك تشعر بضخامة البناء وقوة الحبك وأن مسلما يتسلط على كلماته ومعانيه وصوره، فلا نبوّ ولا قصور وإنما ضبط وإحكام. وهو يستمد صورته فى البيت

(1) مطرحا: مخذولا. الطول: الحبال. وقد ضرب السمك والطول مثلا لاستقامة الأمر كاستقامة الخيمة حين يقوم عمودها وتشد حبالها.

(2)

شهاب الموت: السيف. وأراد بالشعل الهيب المتساقط من الشهاب.

(3)

المهج: الأرواح. الرهج: غبار الحرب.

(4)

يريد أن الطرق تلتقى براكبيها عند الممدوح لجوده الغمر.

(5)

الهام: الرءوس. الذبل: الرقيقة الحادة.

(6)

لا يمسح عينيه من الكحل: لا يكتحل.

ص: 262

الأول من البادية وخيامها وما يطوى فيها من حبال وأعمدة. وطالما شبه الشعراء السيوف بالشهب، غير أن مسلما يضيف إلى ذلك تشبيها بشعل النار وهى فى يد يزيد يرمى بها يمينا وشمالا. ومضى فى البيت الثالث يضيف إلى تصويره السابق جناسين واضحين. والتمس صورة سبقه إليها زهير فى بيته الرابع، إذ يقول فى مديح صاحبه هرم بن سنان:

قد جعل المبتغون الخير فى هرم

والسائلون إلى أبوابه طرقا

ومضى يصور فتكه بالأبطال تصويرا بديعا فى بيته الخامس، وكان القدماء يذكرون صحبة الطير للجيوش حين يصفونها كناية عما سنجد من أشلاء قتلاها، فاستغل ذلك فى بيته السادس وجعلها تتبع يزيد دائما فى رحلاته واثقة بما سيميرها به، حتى أصبح ذلك من عاداتها فهى دائما مرفرفة فوقه. ومثّله فى البيتين السابع والثامن شجاعا تام الشجاعة حتى لا يفارقه درعه فى أوقات أمنه وسلمه، وحتى لا يتعطر شأن المترفين اللاهين فعطره شجاعته وما يسيل على سيفه من دماء الأبطال.

واقرأ له هذه القطعة من مديح داود بن يزيد بن حاتم المهلى، وتصويره فيها لبسالته وبطولته:

موحّد الرأى تنشقّ الظنون له

عن كل ملتبس منها ومعقود (1)

كاللّيث بل مثله اللّيث الهصور إذا

غنّى الحديد غناء غير تغريد

يلقى المنيّة فى أمثال عدّتها

كالسّيل يقذف جلمودا بجلمود

يجود بالنفس إذ ضنّ الجواد بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

فإنك تحس قوة البناء ودقة التعبير وروعة التصوير، فداود محكم الرأى إذا فكر فى شئ انكشف له غامضه ومتشابهه، وهو كالليث فى انقضاضه على فريسته، بل اليث هو الذى بحاكيه ويتخذه قدوته، وإن بسالته لتتحول إلى ما يشبه موجا لا يزال يسقطه على الأبطال موجة فى إثر موجة كالسيل يدفع جلمودا بجلمود. وإن

(1) ملتبس: مشتبه. معقود: غامض.

ص: 263

شجاعته لضرب رائع من جوده وكأنما الجود شريعته حتى بروحه الزكية. ومن رائع مديحه قوله فى الفضل بن جعفر البرمكى:

تساقط يمناه النّدى وشماله ال

رّدى وعيون القول منطقه الفصل (1)

عجول إلى ما يودع الحمد ماله

يعدّ النّدى غنما إذا اغتنم البخل

بكفّ أبى العباس يستمطر الغنى

وتستنزل النّعمى ويسترعف النّصل (2)

والأبيات من طراز بنائه الضخم، وهى متينة السبك، قوية الحبك، وانظر فى البيت الأول كيف صوّر تصويرا بديعا كرم الفضل وشجاعته وبلاغة بيانه، وقد طابق فى البيت الثانى بين الكرم والبخل، وعاد فى البيت الثالث إلى تركيزه الشديد وتجميعه المعانى الكثيرة فى الألفاظ القليلة، مع قوة تجسيمها وتجسيدها. ومن بارع مديحه قوله فى إسماعيل البرمكى:

وإنى وإسماعيل يوم وداعه

لكالغمد يوم الرّوع فارقه النّصل

فإن أغش قوما بعده أو أزرهم

فكالوحش يدنيها من الأنس المحل (3)

يقول ابن المعتز: «وهذا معنى لا يتفق للشاعر مثله فى ألف سنة (4)» . وفى نفس هذه القوالب القوية كان يصوغ مراثيه على شاكلة قوله فى رثاء يزيد بن مزيد:

نفضت بك الآمال أحلاس الغنى

واسترجعت نزّاعها الأمصار (5)

أجل تنافسه الحمام وحفرة

نفست عليها وجهك الأحفار (6)

فاذهب كما ذهبت غوادى مزنة

أثنى عليها السّهل والأوعار (7)

والصورة فى البيت الأول دقيقة، فقد أراد أن يصور قعود المعتفين والسائلين عن الرحلة فى طلب نواله، فقال إن الآمال نفضت أحلاس الغنى، أى أنها لم تعد

(1) الندى: الكرم. الردى: الموت.

(2)

يسترعف: يقطر دما. النصل حد السيف.

(3)

الأنس: بفتح الهمزة كالأنس بضمها، المحل: الجدب.

(4)

ابن المعتز ص 236.

(5)

أحلاس جمع حلس وهو كساء يوضع على ظهر البعير تحت الرحل. نزاعها: الذين ينزعون إليه ويفتربون عن أوطانهم.

(6)

الحمام: الموت.

(7)

المزنة: السحابة الممطرة.

ص: 264

تهّيئ الإبل للارتحال نحوه. وجعل فى البيت الثانى الموت والقبر يتنافسان عليه، كل يريد أن يحوزه إليه، ولم يلبث أن جعل جميع القبور تنفس على قبره جسده الغالى. ودعا له متمثلا جوده الذى عمّ به الناس كما تعم السحابة بوابلها السهل والوعر. ومن دقائق معانيه فى الرثاء قوله:

ومخادع السمع النّعى ودونه

خطب ألمّ بصادق لا يخدع

وهو يصور فى البيت ذهول الصديق حين يأتيه نعى صديقه فيفزع إلى تكذيبه، ثم يثوب إلى رشده. وقد بدأ حياته بنقائض فى الهجاء ناقض بها ابن قنبر، وهو فى هذه النقائض يصدر عن روح النقائض القديمة عند جرير والفرزدق وما يطوى فيها من عصبيات، ويتكافّان فلا يعود إلى هذا النمط القديم، بل يأخذ فى النمط المستحدث الذى وصفناه فى غير هذا الموضع والذى كان يجرى فى أبيات قصيرة تشبه السهام المسمومة، كقوله فى دعبل تلميذه وقد فسد ما بينهما:

أما الهجاء فدقّ عرضك دونه

والمدح عنك كما علمت جليل

فاذهب فأنت طليق عرضك إنه

عرض عززت به وأنت ذليل

وتروى له أبيات فى هجاء يزيد بن مزيد، وأكبر الظن أنها منتحلة أو لعلها أضيفت إليه خطأ، ويظهر أنه مدح موسى بن خازم بن خزيمة وسعيد بن مسلم ابن قتيبة، فلم يبرّاه، واستشاط غضبا، فرماهما بسهام لاذعة من هجاء مرير، على شاكلة قوله فى موسى:

لو أنّ كنز البلاد فى يده

لم يدع الإعتذار بالعدم (1)

وقوله فى سعيد:

وأحببت من حبّها الباخل

ين حتى ومقت ابن سلم سعيدا (2)

إذا سيل عرفا كسا وجهه

ثيابا من اللّوم صفرا وسودا (3)

وكان لا يزال يدقق فى معانى الهجاء حتى يقع على معنى نادر يروع سامعيه،

(1) العدم: فقدان المال.

(2)

سيل: سئل، خفف. العرف: المعروف والجود.

(3)

ومقت: أحببت.

ص: 265

من مثل قوله يهجو رجلا بقبح وجهه وخلقه:

قبحت مناظره فحين خبرته

حسنت مناظره لقبح المخبر

وبنفس هذا النسيج من الصياغة وهذه الدقة فى المعانى والصور كان مسلم ينظم فى الحب والخمر، سواء أودعهما مقدمات مدائحه أو أفردهما ببعض المقطوعات، وهو يصور منزعه فيهما ومتعته بهما إذ يقول:

وما العيش إلا أن أبيت موسّدا

-صريع مدام-كفّ أحور أكحل (1)

وكان لا يزال يبقى فيهما على نفسه ولا يزال يحتفظ بغير قليل من كرامته. وهو فى غزله لا يمجن ولا يفحش، بل يقترب اقترابا شديدا من أصحاب الهوى العذرى الذى يصور آلام العاشق وحنينه ونيران شوقه وحبه الذى يلذع فؤاده من مثل قوله:

إن كنت تسقين غير الرّاح فاسقينى

كأسا ألذّ بها من فيك تشفينى

عيناك راحى، وريحانى حديثك لى

ولون خدّيك لون الورد يكفينى

وقوله:

ولما تلاقينا قضى اللّيل نحبه

بوجه كوجه الشمس ما إن له مثل

وخال كخال البدر فى وجه مثله

لقينا المنى فيه فحاجزنا البذل

وقوله:

وأقسمت أنسى الداعيات إلى الصّبا

وقد فاجأتها العين والسّتر واقع

فغطّت بأيديها ثمار نحورها

كأيدى الأسارى أثقلتها الجوامع (2)

والخمر عند مسلم تأتى غالبا فى مقدمات مدائحه، وفيها يحاول أن يستنبط المعانى النادرة والأخيلة المبتكرة من شاكلة قوله:

ومانحة شرّابها الملك قهوة

مجوسيّة الأنساب مسلمة البعل

(1) المدام: الخمر.

(2)

الجوامع: الأغلال والقيود.

ص: 266

قد استودعت دنّا لها فهو قائم

بها شفقا بين الكروم على رجل

شققنا لها فى الدّنّ عينا فأسبلت

كألسنة الحيّات خافت من القتل (1)

وقد جعلها فى البيت الأول من بنات المجوس كما جعل شاربها مسلما وسماه بعلا أو زوجا، لأنه اشتراها وخطبها وهو يعنى نفسه. أما فى البيت الثانى فقال إنها ظلت طويلا فى شجرة الكرم، وظلت واقفة بها شفقة لها وحنّوا عليها. وقال فى البيت الثالث إنهم شقّوا لها فى دنها ثقبا وهى تسيل منه حمراء مهتزة، كأنها ألسنة حيّات ترتجف من القتل، فهى لا تكف عن إرسالها لها خوفا وفزعا. ومسلم من أمهر الشعراء وأدقهم فى التصوير، وهى دقة تتراءى فى جميع جوانب ديوانه من مثل قوله مصورا سرعة النوق ونحوها لطول السّفر:

إلى الإمام تهادانا بأرحلنا

خلق من الرّيح فى أشباح ظلمان (2)

كأن إفلاتها والفجر يأخذها

إفلات صادرة عن قوس حسبان (3)

فقد جعل نوقهم كأنما خلقت من الريح لسرعتها، وصوّرها فى ضمورها كأنها ذكور نعام وهى تمرّ مسرعة مرور ظبية رماها صائد فأخطأها، فهى لا تنى عن الانطلاق والعدو الشديد. وقد نوّه القدماء طويلا بتصويره للسفينة بمثل قوله:

إذا أقبلت راعت بقنّة قرهب

وإن أدبرت راقت بقادمتى نسر (4)

أقلّت بمجدافين يعتورانها

وقوّمها كبح اللّجام من الدّبر (5)

كأن الصّبا تحكى بها حين واجهت

نسيم الصّبا مشى العروس إلى الخدر (6)

وهو يشبه فى البيت الأول صدرها برأس ثور وحشى كما يشبه مجدافيها بجناحى نسر، ويرسم صورتها فى البيت الثانى بمجدافيها وسكّانها الذى يقوّم جموحها.

(1) يقصد بالعين الثقب. أسبلت: سالت

(2)

تهادانا: تحملنا. أشباح: أشخاص. ظلمان: جمع ظليم وهو ذكر النعام.

(3)

إفلاتها سرعتها وانبعاثها فى السير. صادرة راجعة. قوس حسبان: ضرب مشهور فى عصرهم من القسى.

(4)

راعت: أفزعت. قنة قرهب: رأس ثور وحشى. قادمتا النسر: جناحاه، أراد بهما المجدافين.

(5)

أقلت: ارتحلت وسارت.

(6)

الخدر: البيت الذى تستتر فيه المرأة.

ص: 267