المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - المناظرات - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٣

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الأول

- ‌الفصل الأوّلالحياة السياسية

- ‌1 - الثورة العباسية

- ‌2 - بناء بغداد ثم سامرّاء

- ‌3 - النظم السياسية والإدارية

- ‌4 - العلويون والخوارج

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثانىالحياة الاجتماعية

- ‌1 - الحضارة والثراء والترف

- ‌2 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌3 - المجون

- ‌4 - الشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد

- ‌الفصل الثالثالحياة العقلية

- ‌1 - الامتزاج الجنسى واللغوى والثقافى

- ‌2 - الحركة العلمية

- ‌3 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة

- ‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ

- ‌5 - العلوم الدينية وعلم الكلام والاعتزال

- ‌الفصل الرابعازدهار الشعر

- ‌1 - ملكات الشعراء اللغوية

- ‌2 - طوابع عقلية دقيقة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - موضوعات جديدة

- ‌[5 - ]التجديد فى الأوزان والقوافى

- ‌الفصل الخامسأعلام الشعراء

- ‌1 - بشار

- ‌2 - أبو نواس

- ‌3 - أبو العتاهية

- ‌5 - أبو تمام

- ‌الفصل السادسشعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الدعوة العباسية

- ‌ أبو دلامة

- ‌[2 - ]شعراء الشيعة

- ‌ السيد الحميرى

- ‌دعبل

- ‌ ديك الجن

- ‌3 - شعراء البرامكة

- ‌ أبان بن عبد الحميد اللاحقى

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌أبو الشيّص

- ‌ على بن جبلة

- ‌الخريمىّ

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ أبو عيينة المهلّبى

- ‌الفصل السّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ العباس بن الأحنف

- ‌ربيعة الرّقى

- ‌2 - شعراء المجون والزندقة

- ‌ حماد عجرد

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌ عبد الله بن المبارك

- ‌4 - شعراء الاعتزال

- ‌ العتابى

- ‌ بشر بن المعتمر

- ‌النظام

- ‌5 - شعراء النزعات الشعبية

- ‌ أبو الشمقمق

- ‌الفصل الثامنتطور النثر وفنونه

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطب والوعظ والقصص

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية والعهود والوصايا والتوقيعات

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التاسعأعلام الكتّاب

- ‌خاتمة

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار

الفصل: ‌3 - المناظرات

‌3 - المناظرات

قلما عنى مؤرخو الأدب العباسى بالحديث عن المناظرات التى احتدمت بين المتكلمين والفقهاء وأصحاب الملل والنحل لهذا العصر مع أنها كانت من أهم الفنون النثرية وكانت تشغل الناس على اختلاف طبقاتهم، لسبب بسيط وهو أنها كثيرا ما كانت تنعقد فى المساجد، وقد مرّ بنا أن مجالس البرامكة والمأمون كانت تكتظ بهذه المناظرات، وأنه كان وراء مجالسهما مجالس صغرى كثيرة، يجتمع فيها المتناظرون من الشيعة والزنادقة والمتكلمين، ويتحاورون فى المسائل العقيدية وغير العقيدية، وقد يخوضون فى بعض المسائل الفلسفية، على نحو ما كانت تخوض مجالس البرامكة، وبالمثل كان يتناظر الفقهاء، ومناظرة الشافعى ومحمد بن الحسن الشيبانى مشهورة.

والمعتزلة أهمّ طوائف المتناظرين حينئذ، فقد وقفوا أنفسهم على جدال طوائف المتكلمين من مخالفيهم فى أصولهم الخمسة التى تحدثنا عنها فى غير هذا الموضع وجدال من كانوا يعتنقون التشيع الغالى مثل شيطان الطاق وهشام بن الحكم وجادلوا جدالا عنيفا أرباب الملل السماوية والنحل غير السماوية من الدهرية والمانوية، ومن أشهرهم فى الجدال والمناظرة أبو الهذيل العلاف المتوفى فى حوالى سنة 230 للهجرة، وفيه يقول ابن خلكان:«كان حسن الجدال قوى الحجة كثير الاستعمال للأدلة والإلزامات» . وروى الخطيب (1) البغدادى والمرتضى (2) فى أماليه وبعض المراجع القديمة طائفة من مناظراته. من ذلك مناظرته فى حداثته ليهودى ورد البصرة، وتعرّض لمتكلميها يقول لهم ألا تقرّون بنبوة موسى عليه السلام؟ حتى إذا اعترفوا بها قال: نحن على ما اتفقنا عليه إلى أن نجتمع على ما تدّعونه.

فتقدم إليه، وقال له: أسألك أم تسألنى؟ فقال له اليهودى: بل أسألك فقال: ذاك إليك، فقال اليهودى: أتعترف بأن موسى نبىّ صادق أم تنكر ذلك فتخالف صاحبك، فقال له أبو الهذيل: إن كان موسى الذى تسألنى عنه هو الذى بشّر بنبيىّ

(1) تاريخ بغداد 3/ 366 وما بعدها.

(2)

أمالى المرتضى 1/ 178 وما بعدها.

ص: 457

عليه السلام وشهد بنبوته وصدّقه فهو نبى صادق، وإن كان غير من وصفت فذلك شيطان لا أعترف بنبوته. فورد على اليهودى ما لم يكن فى حسبانه. ولم يلبث أن سأل أبا الهذيل: أتقول إن التوراة حق؟ فقال: هذه المسألة تجرى مجرى الأول، إن كانت هذه التوراة التى تسألنى عنها هى التى تتضمن البشارة بنبى عليه السلام فتلك حق، وإن لم تكن كذلك فليست بحق ولا أقرّ بها.

فبهت اليهودى وأفحم ولم يدر ما يقول. وناظر يوما مجوسيّا فسأله ما تقول فى النار؟ قال: بنت الله، قال فالبقر؟ قال: ملائكة الله قصّ أجنحتها وحطّها إلى الأرض يحرث عليها، قال: فالماء؟ قال: نور الله، قال أبو الهذيل فما الجوع والعطش؟ قال: فقر الشيطان وفاقته، قال أبو الهذيل: فمن يحمل الأرض؟ قال: بهمن الملك. حينئذ قال أبو الهذيل: فما فى الدنيا شر من المجوس أخذوا ملائكة الله فذبحوها، ثم غسلوها بنور الله ثم شووها ببنت الله، ثم دفعوها إلى فقر الشيطان وفاقته، ثم سلخوها على رأس بهمن الملك أعز ملائكة الله. فانقطع المجوسى وخجل مما لزمه. وقال له المعذّل بن غيلان يوما إن فى نفسى شيئا من القول بالاستطاعة وأن الإنسان حرّ حرية مطلقة فى أعماله فبيّن لى ما يذهب الريب عنى، فقال له: خبّرنى عن قول الله تعالى: ({وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اِسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)} هل يخلو من أن يكون أكذبهم لأنهم مستطيعون الخروج وهم تاركون له، فلاستطاعة الخروج فيهم وليسوا يخرجون قال {(إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)} أى هم يستطيعون الخروج وهم يكذبون فيقولون: لسنا نستطيع، ولو استطعنا لخرجنا، فأكذبهم الله على هذا الوجه. أو يكون على وجه آخر يقول:{(إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)} أى إن أعطيتهم الاستطاعة لم يخرجوا، فتكون معهم الاستطاعة على الخروج ولا يخرجون.

وعلى كل حال قد كانت الاستطاعة على الخروج ثابتة لهم. ولا يعقل للآية معنى ثالث غير الوجهين اللذين وصفنا. وبذلك أقام الحجة القاطعة على الاستطاعة من لفظ القرآن الكريم، حتى ينقض ما يستشهد به أصحاب الجبر وتعطيل إرادة الإنسان وحريته من بعض آيه التى لا تعطيهم الدلالة البينة الملزمة. وكان يتعمق ببعض مناظراته فى مسائل فلسفية كقوله إن حركات أهل

ص: 458

الجنة والنار لا تبقى بل تنقلب إلى سكون دائم. تجتمع فيه اللذات لأهل الجنة ويجتمع العذاب لأهل النار، إلى غير ذلك من الآراء، المبسوطة فى الملل والنحل للشهرستانى وفى مقالات الإسلاميين للأشعرى.

وكان ابن أخته النظام لا يقل عنه قوة فى الجدل والإقناع وإفحام الخصوم، ومرّ بنا فى غير هذا الموضع كيف أفحم أبا شمر الجبرى المرجئ وقطعه بالبراهين الساطعة، حتى زحف إليه وأمسك بيديه ليسكت. ويقول ابن النديم إنه ما زال يناظر الحسين النجار فى الجبر وحرية الإرادة، حتى انصرف محموما مغموما وكان ذلك سبب علته التى مات فيها (1). وهو يعدّ أكبر من جادلوا الدهرية والمانوية وغيرهما من أصحاب النحل غير الإسلامية لعصره، حتى ليقول الجاحظ على نحو ما مر بنا فى ترجمتنا له بين الشعراء:«لولا مكان المتكلمين لهلكت العوامّ من جميع الأمم، ولولا مكان المعتزلة لهلكت العوام من جميع النحل، فإن لم أقل ولولا أصحاب إبراهيم (النظام) وإبراهيم لهلكت العوام من المعتزلة، فإنى أقول إنه قد أنهج لهم سبلا وفتق لهم أمورا واختصر لهم أبوابا ظهرت فيها المنفعة وشملتهم بها النعمة (2)» .

وحكى الجاحظ كثيرا من جداله وروده على الدهرية والمنّانية والدّيصانية، وفى الجزء الخامس من كتاب الحيوان مادة من ذلك كثيرة، نراه فيها يرد على من يقولون بأن أصل العالم ضياء وظلام وأن الحرارة والبرودة واللون والطعم والصوت والرائحة إنما هى نتائج على قدر امتزاجها، ويلاحظ أنهم يقفون عند حاسّة اللمس فقط دون غيرها من الحواس. ويبحث مباحث واسعة فى النار وأنها حر وضياء وأن الضياء ليس بلون لأنه إذا سقط على الألوان المختلفة كان عمله فيها واحدا. ويفيض فى ردود كثيرة على المجوس، واحتفظ أبو الحسين الخياط هو الآخر بكثير من هذه الردود، من ذلك قول المنانية بالنور والظلمة وأن النور هو مصدر كل خير والظلمة مصدر كل شر، فالصدق خير لأنه من النور والكذب شر لأنه من الظلمة، مما جعله يقول لهم:

«حدثونا عن إنسان قال قولا كذب فيه من الكاذب؟ قالوا الظلمة، قال: فإن ندم بعد ذلك على ما فعل من الكذب، وقال: قد كذبت وقد أسأت، من القائل: قد كذبت؟ فاختلطوا عند ذلك ولم يدروا ما يقولون، فقال لهم إبراهيم: إن زعمتم أن النور هو

(1) الفهرست لابن النديم ص 254.

(2)

الحيوان 4/ 206.

ص: 459

القائل: قد كذبت وأسأت فقد كذب لأنه لم يكن الكذب منه ولا قاله والكذب شر، فقد كان من النور شر وهو هدم قولكم، وإن قلتم إن الظلمة قالت: قد كذبت وأسأت فقد صدقت، والصدق خير، فقد كان من الظلمة صدق وكذب، وهما عندكم مختلفان، فقد كان من الشئ الواحد شيئان مختلفان: خير وشر على حكمكم، وهذا هدم قولكم بقدم الاثنين (1)» أى الخير والشر وإلهيهما اللذين يؤمنون بهما. وعلى نحو ما كان يناظر المنانية ويقطعهم كان يناظر الدهرية القائلين بالدهر وخلوده وأن حركات الأفلاك لا تتناهى، ويفحمهم بمنطقه وقوة نسجه للأدلة، من ذلك أنه تعرّض لهم يوما يجادلهم فيما يزعمون من عدم التناهى فى حركات الأفلاك، وكان مما قاله لهم:«ليس تخلو الكواكب من أن تكون متساوية الحركة، لا فضل لبعضها على بعض فى السبر والقطع أو بعضها أسرع قطعا وسيرا من بعض، فإن كانت متساوية القطع فقطع بعضها أقل من قطع جميعها، وإذا أضيف قطع بعضها إلى قطع البعض الآخر كان قطع الجميع أكثر من قطع الواحد، وإن كان بعضها أسرع من بعض قطعا، فقد دخلته القلة والكثرة وما دخلته القلة والكثرة متناه (2)» وهو تناه يدل على حدوث الحركة.

وكان يكثر من مناظرة خاله أبى الهذيل ويعلو عليه بقوة حججه، مما جعله يراوغه كثيرا ويعتلّ عليه، حتى قال له بعض مستمعيهما:«إنك إذا راوغت واعتلك وأنت تكلم النظام فأحسن حالاتك أن يشك الناس فيك وفيه، فقال: خمسون شكّا خير من يقين واحد (3)» . ومر بنا فى غير هذا الموضع بعض آرائه الفلسفية وفى الحق أنه هو وخاله وغيرهما من المعتزلة غمسوا آراءهم وتفكيرهم فى الفلسفة غمسا.

ونراه يحوّل كل شئ إلى المناظرة، فهو يناظر فى الآراء العقيدية وفى الآراء الفلسفية مما ذكرناه فى ترجمته السابقة كما يناظر فى المسائل الطبيعية وفى الحيوان. ومناظرته لمعبد فى مساوئ الديك ومحاسنه ومنافع الكلب ومضاره مشهورة وقد شغلت نحو مجلد ونصف من كتاب الحيوان للجاحظ، إذ استقصيا جميع الجوانب المتصلة بذلك استقصاء يدل على مدى الرقى الفكرى الذى رقيه العقل العربى فى العصر

(1) كتاب الانتصار لأبى الحسين الخياط (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص 30.

(2)

انظر كتاب الانتصار ص 35.

(3)

حيوان 3/ 60.

ص: 460

العباسى. وهى وما يماثلها لم تكن تراد لنفسها وإنما كانت تراد للبرهنة على عجائب تدبير الله جل جلاله فى خلقه وما أودعه فيه من ذخائر الحكمة، كما كانت تراه للفرق بين مذاهب الدهرية ومذاهب الموحدين لا فى بحث عجائب الكون فى الحيوان فقط بل فى بحث كل صور الوجود أيضا وما يتصل بذلك من الآراء الفلسفية العميقة، ومن أجل ذلك آثر المعتزلة هذا الجدال العقلى على النسك والعبادة وجعلوه فوق الحج والجهاد (1).

وفى الحق أنهم بسطوا بهذا الجدال وما اتصل به من مناظرة العقل العربىّ إلى أبعد غاية، فقد أمدّوه بسيول من دقائق المعانى وخفيات البراهين، وجعلوه عقلا جدلا ما يزال ينقب عن خبيئات الأفكار، وما يزال يجلب من أعمق الأعماق دررها الباهرة. وقد تعاوروا على الأشياء المشهورة يصحّحونها ويسددونها، وتعاور معهم كثير من معاصريهم الذين مضوا يتقنون على شاكلتهم الحوار فى كل شئ.

ومن طريف ما يصوّر ذلك أن نجد الجاحظ يذكر أن شخصا يسمى جعفر بن سعيد كان يفضل الديك على الطاووس، كأنه يريد أن يعكس ما شاع عند الناس من جمال الطواويس، ويسوق الجاحظ ما كان يقوله فى ذلك على هذا النمط (2):

«كان جعفر بن سعيد يزعم أن الديك أحمد من الطاووس وأنه مع جماله وانتصابه واعتداله وتقلعه (3) إذا مشى سليم من مقابح الطاووس ومن موقه (4) وقبح صورته! ومن تشاؤم أهل الدار به ومن قبح رجليه ونذالة مرآته. وزعم أنه لو ملك طاووسا لألبس رجليه خفّا. وكان يقول: وإنما يفخر له بالتلاوين وبتلك التعاريج والتهاويل التى لألوان ريشه، وربما رأيت الديك النّبطى وفيه شبيه بذلك إلا أن الديك أجمل لمكان الاعتدال والانتصاب والإشراف وأسلم من العيوب من الطاووس. وكان يقول: ولو كان الطاووس أحسن من الديك النبطى فى تلاوين ريشه فقط لكان فضل الديك عليه بفضل القدّ والخرط وبفضل حسن الانتصاب وجودة الإشراف أكثر من مقدار فضل حسن ألوانه على ألوان الديك ولكان السليم من العيوب فى العين أجمل لاعتراض تلك الخصال القبيحة على حسن الطاووس

(1) حيوان 1/ 216.

(2)

حيوان 2/ 243.

(3)

التقلع: التحدر فى المشى.

(4)

الموق: الحمق.

ص: 461

فى عين الناظر إليه. وأول منازل الحمد السلامة من الذم. . والعامة لا تبصر الجمال، ولفرس رائع كريم أحسن من كل طاووس فى الأرض، وكذلك الرجل والمرأة. وإنما ذهبوا من حسنه إلى حسن ريشه فقط، ولم يذهبوا إلى حسن تركيبه وتنصّبه كحسن البازى وانتصابه، ولم يذهبوا إلى الأعضاء والجوارح وإلى الشيات والهيئة والرأس والوجه الذى فيه. وكان جعفر يقول: لما لم يكن فى الطاووس إلا حسنه فى ألوانه ولم يكن فيه من المحاسن ما يزاحم ذلك ويجاذبه وينازعه ويشغل عنه ذكر وتبين وظهر. وخصال الديك كثيرة وهى متكافئة فى الجمال».

وواضح أن هذه قدرة بارعة فى الجدل وفى تأليف الحجج والأدلة، وهى تدل على ما أصاب العقل العربى حينئذ من رقى جعله يستقصى ما يتحدث عنه أحسن استقصاء وأدقه، استقصاء يحرص فيه المتكلم على التدقيق والتعمق كأشد ما يكون التعمق والتدقيق وكان يصحب ذلك بكثير من الظرف ومن السفسطة التى تدل على ترف العقل وارتفاعه عن الآراء الشائعة، ويصوّر ذلك من بعض الوجوه ما حكاه الجاحظ فى فاتحة كتابه البخلاء عن مذهب من يسمّى باسم الجهجاه «فى تحسين الكذب فى مواضع وفى تقبيح الصدق فى مواضع وفى إلحاق الكذب بمرتبة الصدق وفى حطّ الصدق إلى موضع الكذب وأن الناس يظلمون الكذب بتناسى مناقبه وتذكّر مثالبه ويحابون الصدق بتذكّر منافعه وبتناسى مضاره وأنهم لو وازنوا بين مرافقهما وعدّلوا بين خصالهما لما فرّقوا بينهما هذا التفريق ولما رأوهما بهذه العيون» . ويتلو الجاحظ هذا المذهب بمذهب من يسمّى باسم صحصح «فى تفضيل النسيان على كثير من الذكر وأن الغباء فى الجملة أنفع من الفطنة فى الجملة وأن عيش البهائم أحسن موقعا فى النفوس من عيش العقلاء وأنك لو أسمنت بهيمة ورجلا ذا مروءة أو امرأة ذات عقل وهمة وأخرى ذات غباء وغفلة لكان الشحم إلى البهيمة أسرع وعن ذات العقل والهمة أبطأ، ولأن العقل مقرون بالحذر والاهتمام ولأن الغباء مقرون بفراغ البال والأمن، فلذلك البهيمة تقنو شحما فى الأيام اليسيرة، ولا تجد ذلك لذى الهمة البعيدة، ومتوقّع البلاء فى البلاء وإن سلم منه، والغافل فى الرجاء إلى أن يدركه البلاء» .

وقد يقال إن هذا التقبيح للأشياء المستحسنة والتحسين للأشياء المستقبحة عرف

ص: 462

فى الأدب الفهلوى القديم، وأن العباسيين تأثروا فى هذا الاتجاه بما كان منه فى هذا الأدب، ونحن لا ننفى ذلك، وإنما نلاحظ أنه حتى إن صح فإن العباسيين توسعوا فى هذا الاتجاه بتأثير مناظرات المتكلمين وما داخلها من سفسطة أحيانا، بحيث أصبح هذا التحسين والتقبيح نمطا من أنماط التفكير العباسى، وبحيث عمّ فى كل شئ، مما هيأ فيما بعد هذا العصر لظهور كتب المحاسن والمساوى. ونضيف أن المتكلمين تأثروا أيضا فى مناظراتهم بما كان فى التراث الفلسفى اليونانى من جدال وحوار، وبخاصة فى المسائل الفلسفية الخالصة، ومعروف أن أفلاطون كان يدير كثيرا من رسائله على الحوار والجدل بين نفر من الفلاسفة، على نحو ما هو معروف فى رسالته أو كتابه الذى سماه المأدبة وفيه جلب سقراط وبعض المتفلسفة ليتحاوروا فى عاطفة الحب، ومرّ بنا فى غير هذا الموضع أن يحيى البرمكى دعا من كانوا يتناظرون بمجالسه فى المسائل الفلسفية والكلامية إلى الحديث عن العشق، وكان حديثا طويلا تبادل هؤلاء المتناظرون آراءهم فيه، وأكبر الظن أنهم سمعوا بمأدبة أفلاطون إن لم يكن بعضهم قد اطلع عليها مترجمة، ولم ينقل لنا جميع هذا الحديث الطريف، إنما نقل بعض ما تحدّث به من شاركوا فى هذه المحاورة البديعة، نقله المسعودى فى كتابه مروج الذهب على هذه الشاكلة (1):

«قال على بن ميثم (المتكلم الشيعى): العشق ثمر المشاكلة وهو دليل على تمازج الروحين، وهو من بحر اللطافة ورقة الطبيعة وصفاء الجوهر، والزيادة فيه نقصان من الجسد.

وقال أبو مالك الحضرمى وهو خارجى المذهب: العشق نفث السحر، وهو أخفى وأحر من الجمر، ولا يكون إلا بازدواج الطبعين وامتزاج الشكلين، وله نفوذ فى القلب كنفوذ صيّب المزن فى خلل الرّمل تنقاد له العقول وتستكين له الآراء.

وقال أبو الهذيل العلاف المعتزلى: العشق يختم على النواظر ويطبع على الأفئدة مرتقى فى الأجساد ومسرعة فى الأكباد، وصاحبه منصرف الظنون متغير الأوهام لا يصفو له موجود، ولا يسلم له موعود، تسرع إليه النوائب. وهو جرعة من نقيع الموت، وبقية من حياض الثكل، غير أنه من أريحية تكون فى الطبع وطلاوة

(1) مروج الذهب 3/ 286.

ص: 463

توجد فى الشمائل وصاحبه جواد لا يصغو (يميل) إلى داعية المنع ولا يسنح به (يصرفه) نازع العذل.

وقال إبراهيم النظام بن يسار المعتزلى: العشق أرق من الشراب، وأدب من الشباب، وهو من طينة عطرة عجنت فى إناء من الحلى، حلو المجتنى ما اقتصد، فإذا أفرط عاد صلاّ قاتلا، وفسادا معضلا، لا يطمع فى إصلاحه. له سحابة غزيرة على القلوب، فتعشب شغفا وتثمر كلفا. وصريعه دائم اللوعة ضيق المتنفّس طويل الفكر إذا جنّه الليل أرق وإذا أوضحه النهار قلق، صومه البلوى، وإفطاره الشكوى.

ثم قال الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر ومن يليهم، حتى طال الكلام فى العشق بألفاظ مختلفة ومعان تتقارب وتتناسب، وفيما مرّ دليل عليه».

وكنا نتمنى لو أن المسعودى أورد كل ما قاله هؤلاء المتحاورون إذن لورثنا عن العباسيين مأدبة فى العشق تقابل مأدبة أفلاطون. والذى لا شك فيه-كما أسلفنا-أن هذه المأدبة كانت تحت أعين معاصريهم كما كانت تحت بصر من جاءوا بعدهم مثل المسعودى، وأن الشعراء استمدوا منها كثيرا من معانيهم فى العشق والغزل. ومضى المسعودى يذكر بعض ما أثر عن الفلاسفة والأطباء في العشق، مما يقطع بأن العباسيين إن لم يعرفوا مأدبة أفلاطون فقد سقطت إليهم آراء يونانية مختلفة فى الحب والهوى.

وواضح ما فى هذا الحوار عن العشق من دقة فى المعانى ومن حسن سبك وأداء، حتى ليعنى بعض المتحاورين بأن يكون كلامه مسجوعا، مما يدل دلالة بينة على أن المتناظرين كانوا لا يزالون يتعهدون كلامهم ويصوغونه صياغة باهرة، وبذلك أعدوا لتطور النثر تطورا واسعا فى مضامينه الجديدة التى لم يكن للعربية بها عهد وفى أساليبه وما شفعوها به من حسن السبك وجمال الصياغة والأداء.

وليس ذلك فحسب كل ما قدمه فن المناظرة للنثر فى هذا العصر، فقد جعل المتكلمون والمتناظرون وفى مقدمتهم المعتزلة يبحثون فى بلاغة القول ويكثرون من ملاحظاتهم فى هذا الاتجاه على نحو ما صوّرنا ذلك فى غير هذا الموضع، مما أعدّ لوضع أصول البلاغة العربية.

ص: 464