المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ عبد الله بن المبارك - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٣

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الأول

- ‌الفصل الأوّلالحياة السياسية

- ‌1 - الثورة العباسية

- ‌2 - بناء بغداد ثم سامرّاء

- ‌3 - النظم السياسية والإدارية

- ‌4 - العلويون والخوارج

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثانىالحياة الاجتماعية

- ‌1 - الحضارة والثراء والترف

- ‌2 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌3 - المجون

- ‌4 - الشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد

- ‌الفصل الثالثالحياة العقلية

- ‌1 - الامتزاج الجنسى واللغوى والثقافى

- ‌2 - الحركة العلمية

- ‌3 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة

- ‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ

- ‌5 - العلوم الدينية وعلم الكلام والاعتزال

- ‌الفصل الرابعازدهار الشعر

- ‌1 - ملكات الشعراء اللغوية

- ‌2 - طوابع عقلية دقيقة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - موضوعات جديدة

- ‌[5 - ]التجديد فى الأوزان والقوافى

- ‌الفصل الخامسأعلام الشعراء

- ‌1 - بشار

- ‌2 - أبو نواس

- ‌3 - أبو العتاهية

- ‌5 - أبو تمام

- ‌الفصل السادسشعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الدعوة العباسية

- ‌ أبو دلامة

- ‌[2 - ]شعراء الشيعة

- ‌ السيد الحميرى

- ‌دعبل

- ‌ ديك الجن

- ‌3 - شعراء البرامكة

- ‌ أبان بن عبد الحميد اللاحقى

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌أبو الشيّص

- ‌ على بن جبلة

- ‌الخريمىّ

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ أبو عيينة المهلّبى

- ‌الفصل السّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ العباس بن الأحنف

- ‌ربيعة الرّقى

- ‌2 - شعراء المجون والزندقة

- ‌ حماد عجرد

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌ عبد الله بن المبارك

- ‌4 - شعراء الاعتزال

- ‌ العتابى

- ‌ بشر بن المعتمر

- ‌النظام

- ‌5 - شعراء النزعات الشعبية

- ‌ أبو الشمقمق

- ‌الفصل الثامنتطور النثر وفنونه

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطب والوعظ والقصص

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية والعهود والوصايا والتوقيعات

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التاسعأعلام الكتّاب

- ‌خاتمة

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار

الفصل: ‌ عبد الله بن المبارك

الرّزق عن قدر، لا الضعف ينقصه

ولا يزيدك فيه حول محتال

والفقر فى النفس لا فى المال تعرفه

ومثل ذاك الغنى فى النفس لا المال

وفى كل مكان يلقانا كثيرون يفرغون للنسك والتبتل والعبادة، مما دفع لظهور مقدمات التصوف فى هذا العصر أو بعبارة أخرى إلى ظهور الحب الإلهى الذى يتجرد عن كل مادة وحسّ والذى يستغرق فيه المتصوفة مشغوفين بالحقيقة الإلهية، وما ترسله على الكون من أضواء الحق والخير والجمال المطلق، ومن أروع ما يصوّر ذلك أبيات رابعة العدوية المشهورة (1):

أحبّك حبّين: حبّ الهوى

وحبّا لأنك أهل لذاكا

فأما الذى هو حبّ الهوى

فشغلى بذكرك عمن سواكا

وأما الذى أنت أهل له

فكشفك لى الحجب حتى أراكا

فلا الحمد فيذا ولا ذاك لى

ولكن لك الحمد فى ذا وذاكا

وهى تميز بين حبين: حب الله شكرا لإنعامه المتواصل على الإنسان فى دنياه، وحبه لجماله وجلاله القدسى الذى رفعت الحجب والأستار بينها وبينه، وهو الحب الصوفى المحرد الذى يفنى فيه المتصوفة فناء يحقق لهم السعادة. ومن المحقق أن التصوف لا يزدهر فى هذا العصر، إنما يزدهر الزهد، ومن أجل ذلك نقف عند ثلاثة من كبار الزهاد، لتتضح لنا المعانى التى كانوا يرددونها فى أشعارهم، وهم‌

‌ عبد الله بن المبارك

ومحمد بن كناسة ومحمود الوراق.

عبد الله (2) بن المبارك

هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح التميمى ولاء، التركى

(1) قوت القلوب للمكى 3/ 84 واحياء علوم الدين للغزالى 4/ 267.

(2)

انظر فى ترجمة ابن المبارك وأشعاره الأنساب للسمعانى 179 وتاريخ بغداد برقم 5306 وصفة الصفوة 4/ 109 وتذكرة الحفاظ للذهبى (طبع حيدر أباد) 1/ 354 والتهذيب لا بن حجره 5/ 384 والنجوم الزاهرة 2/ 103 وكتاب الورقة لابن الجراح ص 14. وحلية الأولياء لأبى نعيم 8/ 279 ومختصر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (طبعة الموسوعات) ص 85.

ص: 402

المروزى أبا، الخوارزمى أمّا، ولد سنة ثمانى عشرة ومائة للهجرة، ورحل فى طلب الحديث والعلم سنة إحدى وأربعين ومائة، فلقى المحدثين، وروى عن جماعة كثيرة وروى عنه خلائق لا تحصى، وهو يعدّ من كبار الحفاظ فى عصره وأحد من كانت تشدّ إليه الرحال للنهل من معين علمه وفضله، وكان يجمع بين حفظ الحديث والفقه على مذهب أبى حنيفة والأدب والنحو واللغة والشعر والفصاحة. واشتهر شهرة مدوية بنسكه وزهده، حتى قال سفيان الثورى:«لو جهدت جهدى أن أكون فى السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك لم أقدر» . وكان يخرج مع الجيوش الغازية للروم يجاهد فى سبيل الله من جهة، ومن جهة ثانية يعظ الجنود ويحمسهم للقتال ويلقى على الناس الحديث فى الثغور من مثل طرسوس. وهو بذلك يصحح فكرة شاعت عن زهاد المسلمين وعبادهم هى أنهم كانوا سلبيين لا يشاركون فى الواجبات الوطنية وهى إحدى الأفكار التى أشاعها المستشرقون ظانين أن زهد المسلمين كان يفصلهم عن الحياة على شاكلة زهد الديانة المسيحية وما ارتبط بها من رهبانية، وهو ظن واهم فإن زهاد المسلمين-وخاصة الأولين-لم ينفصلوا عن الحياة بل كانوا يتصلون بها، ليكسبوا قوتهم، ويعيشوا من كسبهم، لا مما يلقى إليهم من فتات الموائد، ولذلك كنا نجدهم يتجرون ويحترفون حرفا كثيرة على نحو ما سنرى عند محمود الوراق فإنه كان يحترف النخاسة وبيع الجوارى والإماء، وكان عبد الله بن المبارك يتجر ليكسب معاشه. وكانوا يلبون دائما نداء الوطن ويتقدمون الصفوف المجاهدة طلبا للاستشهاد فى سبيل الله. وكانوا يعدون هذا الجهاد أروع وأعظم عند الله من نسك النساك، ويقدم لنا ابن المبارك نفسه وثيقة طريفة توضح ذلك أتم توضيح، فقد روى الرواة أنه أملى وهو بطرسوس رسالة شعرية وجّه بها إلى الفضيل ابن عياض الناسك المشهور فى سنة سبع وسبعين ومائة، وكان مجاورا بمكة:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا

لعلمت أنك فى العبادة تلعب

من كان يخضب جيده بدموعه

فنحورنا بدمائنا تتخضّب

أو كان يتعب خيله فى باطل

فخيولنا يوم الصّبيحة تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا

وهج السّنابك والغبار الأطيب

ص: 403

ولقد أتانا من مقال نبيّنا

قول صحيح صادق لا يكذب

لا تستوى أغبار خيل الله فى

أنف امرئ ودخان نار تلهب (1)

هذا كتاب الله ينطق بيننا

ليس الشهيد بميّت لا يكذب

وواضح أن ابن المبارك يرفع الجهاد فوق العبادة درجات، حتى ليدعوها بالقياس إليه ضربا من اللعب. وهو يصور الهوة التى تفصل بينهما، فالناسك يقدم لربه دموعه والمجاهد يقدم دماءه، متخذا الخيل العاديات لا فى لهو وإنما فى التضحية والاستشهاد طلبا لرضوان الله، متطيبا بطيب أكثر شذى وعطرا من الطيب الحقيقى، طيب غبار الحرب وسنابك الخيل وهى تقدح الأرض قدحا. ويقول إن الإسلام أعلى الجهاد على النسك والعبادة مشيرا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا يجتمع غبار فى سبيل الله ودخان جهنم فى جوف عبد أبدا» كما يشير إلى ما جاء فى الذكر الحكيم من أن شهيد الجهاد لا يموت، بل يظل حيا عند ربه حيّاة خالدة:

(ولا تحسبنّ الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) وفى موضع آخر من التنزيل: (ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون). وهى ميزة خصّ بها الله سبحانه المستشهدين فى سبيله دون سائر المؤمنين من نساك وغير نساك، إذ جعلهم يحيون فى قبورهم حياة برزخية خاصة لا يعلم حقيقتها سواه.

ولابن المبارك موقف ثان يصور كيف كان الزهاد من العلماء والمحدثين يتعففون فى مثل هذا العصر عن الوظائف ومناصب الدولة خوفا على أنفسهم من أن تغرهم الدنيا فينحرفوا عن الجادّة، فقد ذكروا أن أحد أصحابه وهو إسماعيل بن عليّة ولى الصدقات بالبصرة، فكتب إليه يذكر ذلك ويقول له: أحب أن تبعث إلىّ إخواننا من القرّاء لنشغلهم، فأجابه: القرّاء ضربان: قوم طلبوا هذا الأمر (أى قراءة القرآن) لله فأولئك لا حاجة لهم فى لقائك، وقوم طلبوه للدنيا فأولئك أضرّ على الناس من الشّرط، وألحق بجوابه هذه الأبيات:

(1) الأغبار: جمع غبرة، وهى الغبار.

ص: 404

يا جاعل الدين له بازيا

يصطاد أموال المساكين

احتلت للدنيا ولذّاتها

بحيلة تذهب بالدين

وصرت مجنونا بها بعد ما

كنت دواء للمجانين

أين رواياتك فيما مضى

عن ابن عون وابن سيرين

أين رواياتك فى سردها

فى ترك أبواب السّلاطين

إن قلت أكرهت فذا باطل

زلّ حمار العلم فى الطّين

وكان كثيرا ما يستشهد بقول المسيح عليه السلام: «كما ترك لكم الملوك الحكمة فاتركوا لهم الدنيا» ، ونظم ذلك شعرا قائلا:

أرى أناسا بأدنى الدين قدقنعوا

ولا أراهم رضوا بالعيش بالدّون

فاستغن بالدّين عن دنيا الملوك كما اس

تغنى الملوك بدنياهم عن الدين

وهو كثير التنفير من الدنيا ومتاعها الذى يزول وتبقى تبعاته، بل إنه ليحمل بين طيّاته من السموم ما يجعل العاقل يرى فيه حيّة ليّنا مسّها قاتلا سمّها:

حلاوة دنياك مسمومة

فما تأكل الشّهد إلا بسمّ

وهى خدّاعة غرور، لا يكاد يطمئن شخص فيها إلى سرور حتى يهجم عليه حزن مفجع أو مصيبة موجعة، فمن جرّعته يوما حلاوتها جرّعته أياما مرارتها:

دنيا تداولها العباد ذميمة

شيبت بأكره من نقيع الحنظل

وبنات دهر لا تزال ملمّة

فيها فجائع مثل وقع الجندل

وإنه لواجب على كل إنسان أن يعصى هوى نفسه، فانها إمارة بالسوء، وإن هو أطاعها حملته ما لا يطيق من الذنوب والآثام، عاصفة منه بسلطان العقل موردة له موارد الهلاك:

رأيت الذنوب تميت القلوب

ويخترم العقل إدمانها

يبيع الفتى نفسه فى رداه

وأسلم للنفس عصيانها

ص: 405

وعلى هذا النحو كان ابن المبارك يكثر من النظم فى الدعوة إلى التقوى واجتناب الآثام والشهوات كما كان يكثر من الدعوة إلى الزهد وذم الدنيا فإنها لا تمس أحدا بفرح حتى تملأه بترح، والحازم من تزود من يومه لغده ومن حياته لآخرته. وقد لبى نداء ربه سنة احدى وثمانين ومائة للهجرة.

محمد (1) بن كناسة

كناسة لقب أبيه واسمه عبد الله بن عبد الأعلى من بنى أسد، وقد ولد ونشأ بالكوفة فى بيت صلاح وتقوى، إذ كان خاله إبراهيم بن أدهم أحد من تذكر أسماؤهم فى نشأة التصوف. ونراه يختلف إلى حلقات المحدثين اختلافا أتاح له أن يحمل الحديث عنه، وأن يعدّ فى رجاله. ويظهر أن موهبته الشعرية تفتحت مبكرة، غير أنه كان-كما يقول أبو الفرج-امرءا صالحا فلم يتصدّ لأحد بمدح ولا هجاء، بل قصر شعره على الزهد وما يتصل به من رياضة النفس على ترك الهوى والاتعاظ بالدنيا وفناء لذاتها وبقاء تبعاتها، فنعمها دائما زائلة ونقمها نازلة، ومهما طال عمر الإنسان فيها فإلى بلى وفناء وإلى كوارث وفواجع، فكلنا يجرى إلى غاية ينتهى عندها أجله، ومن عجب أن تتعلق قلوبنا بها، ونحن كل يوم نقطع مسافة إلى تلك الغاية المحتمة، بل إن منا من يضل طريق الرشاد فيتبع نفسه وهواها، وكان حريّا به أن يقهرها ويدفع عن نفسه بادرة سطوتها حتى يصون دينه، يقول:

ومن عجب الدّنيا تبقّيك للبلى

وأنك فيها للبقاء مريد

وأىّ بنى الأيام إلا وعنده

من الدهر ذنب طارف وتليد

ومن يأمن الأيام أما اتّساعها

فخطر وأما فجعها فعتيد (2)

إذا اعتادت النفس الرضاع من الهوى

فإن فطام النفس عنه شديد

(1) انظر فى ابن كناسة وأخباره وأشعاره الأغانى (طبعة دار الكتب) 13/ 337، والفهرست لابن النديم ص 105، والنجوم الزاهرة 2/ 185.

(2)

اتساعها: نعيمها. خطر هنا: متقطع. محتيد: مهيئ حاضر.

ص: 406

وهو يكرر الحديث عن فطام النفس من الشهوات واللذائذ وأنه ثقيل وأن السعيد من عصى هواه فى طاعة ربه، فاجتنب المحارم والماثم، ويلاحظ أن من الناس من يلوك الأحاديث فى عواقب اتباع الهوى، وكأنه يقول بفمه ما ليس له ظل فى قلبه، أو كأنه يعظ ولا يتعظ، وفى ذلك يقول:

ما من روى أدبا ولم يعمل به

ويكفّ عن زيغ الهوى بأديب

حتى يكون بما تعلّم عاملا

من صالح فيكون غير معيب

ولقلما تغنى إصابة قائل

أفعاله أفعال غير مصيب

فالكلمة إن لم تصدر من القلب لم يكن لها تأثير فى القلوب، وعظة الواعظ إن لم تشفع يعمله كان هو أول من لا ينتفع بها، وكانت كالسراج يضئ الدار ويحرق نفسه.

وكان أصدقاؤه من طلاب الدنيا لا يزالون يتلومونه على قعوده عن أبواب الحكام والأمراء، بينما هو يحسن نظم الشعر، ونظراؤه يكسبون به الألوف المؤلفة، وهو يعيش فى كفاف وبلغ وصبابة، فكان يردهم ردّا منكرا، إذ أعرض عن الدنيا مصمما، غير راغب فى متاعها، فحسبه متاع الآخرة الذى ينتظره والذى يحفظ على نفسه من أجله ماء وجهه ويصون كرامته، فلا يبتذلها لمخلوق، فضلا عن أن يمدحه ويداهنه ويطلب منه ما ينبغى أن لا يتجاوز فى طلبه ربه. إنه إن فعل طعن وجهه وحياءه طعنة نجلاء، بل طعن زهده وتقواه، إذ يصبح من طلاب الدنيا لا من طلاب الآخرة ومن يؤثرون نعيم العاجلة على نعيم الباقية، يقول مجيبا بعض لائميه:

تؤنّبنى-أن صنت عرضى-عصابة

لها بين أطناب اللئام بصيص (1)

يقولون لو غمّضت لازددت رفعة

فقلت لهم إنى إذن لحريص (2)

أتكلم وجهى-لا أبا لأبيكم-

مطامع عنها للكرام محيص (3)

معاشى دوين القوت، والعرض وافر

وبطنى عن جدوى اللشام خميص (4)

(1) الأطناب: حبال الخيام والاستعارة واضحة. بصيص: بريق.

(2)

غمضت: تساهلت. حريص: جشع

(3)

تكلم: تجرح.

(4)

الجدوى: العطية. خميص: ضامر.

ص: 407

سألقى المنايا لم أخالط دنيّة

ولم تسر بى فى المخزيات قلوص (1)

وكانت له جارية شاعرة مغنية تسمى دنانير وكان ذوو المروءة من أهل الأدب يقصدونها للمحادثة والمساجلة فى الشعر، وكان يقدرها لظرفها وسعة ثقافتها وقدرتها على المشاركة فى كل الأحاديث، واختطفها منه الموت، فحزن حزنا عميقا، صوّره فى قوله يرثيها، وقد استسلم لأمر ربه:

الحمد لله لا شريك له

يا ليت ما كان منك لم يكن

إن يكن القول قلّ فيك فما

أفحمنى غير شدّة الحزن

وله مرثية طريفة فى خاله إبراهيم بن أدهم، وهى ترسم صورة العابد الناسك فى العصر العباسى الأول وكيف كان يعيش على الكفاف قانعا به، مزدريا الدنيا ومتاعها، مقبلا على عبادة ربه، قامعا لدواعى الهوى فى نفسه، متحليا بالفضائل الرفيعة، لا يعرف الغضب ولا الطيش، إنما يعرف الحلم والمثل الخلقية العليا، يعيش صامتا مفكرا فى ملكوت ربه الأعلى، حتى إذا نطق استولى على القلوب والأفئدة ببيانه الرائع. وهو دائما مستكين خاضع لربه متواضع أروع ما يكون التواضع الذى لا يخدش مروءة ولا كرامة، حتى إذا رعدت الكتيبة بصواعق الموت تقدم الصفوف يناضل مناضلة الليوث الكواسر. وفى ذلك كله يقول مخاطبا بعض من لا يزالون يستزيدون من الغنى والثراء:

رأيتك ما يكفيك ما دونه الغنى

وقد كان يكفى دون ذاك ابن أدهما

وكان يرى الدنيا صغيرا عظيمها

وكان لحقّ الله فيها معظّما

أمات الهوى حتى تجنّبه الهوى

كما اجتنب الجانى الدّم الطالب الدّما

وللحلم سلطان على الجهل عنده

فما يستطيع الجهل أن يترمرما (2)

وأكثر ما تلقاه فى القوم صامتا

وإن قال بذّ القائلين وأحكما

يرى مستكينا خاضعا متواضعا

وليثا إذا لاقى الكتيبة ضيغما

(1) القلوص من النوق: الشابة.

(2)

يترمرم: لا يتحرك للكلام.

ص: 408

على الجدث الغربىّ من آل وائل

سلام وبرّ، ما أبرّ وأكرما (1)

ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور كيف كان ابن كناسة يصفى قلبه وعقله للزهد وكيف كان يمزجه بنفسه، وكيف كان يعيش له وبه مؤمنا بأنه الغاية العليا التى ينبغى أن يطمح إليها الإنسان ويقصر عليها حياته، حتى يفوز برضوان ربه، وقد لبّى نداءه لسنة سبع ومائتين للهجرة.

محمود (2) الوراق

ليس بين أيدينا أخبار كثيرة توضح حياة محمود، ويقال إنه كان نخاسا ببغداد يبيع الرقيق، ويبدو أنه كان فى فاتحة حياته يأخذ بحظ من اللهو، ثم كفّ نفسه وردعها، وأخلص وجهه لربه. وفى أخباره ما يدل على حسن عشرته لجواريه وأنهن كن لا يؤثرن عليه أحدا، وكانت جاريته سكن من بينهن من أحسن قريناتها وجها، وكانت تتقن الغناء وتنظم الشعر البارع، فملكت عليه لبّه وقلبه، وحدث أن رقّت حاله واختلت حياته، فرأى أن يبيعها حتى يوفّر لها خفض العيش عند غيره، وتنافس الناس فى اقتنائها، وعرض فيها أحد الطاهريين مائة ألف درهم، فمال محمود إلى بيعها، ولما عرض عليها ذلك بكت وذرفت الدموع، وقالت له إنى أختار عيشة الفقر معك، فرقّ لها وحرّرها وأصدقها داره، وكانت كل ما يملك.

ومن طريف ما يروى من أخبار جواريه اللائى كن ينعمن بعطفه أن المتوكل عرض له فى إحداهن من عشرة آلاف دينار، فأبى، فلما توفى اشتراها فى ميراثه بخمسة آلاف دينار. وذكر لها المتوكل ما كان من أمر محمود معه، فقالت: يا أمير المؤمنين إذا كانت الخلفاء تتربّص بلذاتها المواريث فسنشترى بأرخص مما اشتريت.

ولعل العصر العباسى الأول لم يعرف شاعرا أكثر من الحديث عن الزهد واعظا مذكرا كما أكثر محمود، وهو يتخذ لذلك مواقف متعددة، منها موقف وجوب الطاعة لله ولأوامره ونواهيه، فالمسلم الصحيح ينبغى أن لا يقترف إثما ولا يرتكب معصية. وإلا أوثقته ذنوبه ولم يجد من يخلصه من عذاب الله ووعيده، وحرى

(1) الجدث: القبر.

(2)

انظر فى محمود وأخباره وأشعاره تاريخ بغداد 13/ 87 وطبقات الشعراء لابن المعتز ص 367، 422 والبيان والتبيين 3/ 197 وما بعدها والعقد الفريد 1/ 228، 2/ 285، 3/ 179، 206، 209، 215 وما بعدها، 6/ 404 وفوات الوفيات 2/ 285 وعيون الأخبار 3/ 53.

ص: 409

بمن ألهته الدنيا، وتراكمت عليه الذنوب، أن لا يؤمل فى جنة ولا ثواب، فقد أستحق العقاب، يقول:

يا غافلا ترنو بعيى راقد

ومشاهدا للأمر غير مشاهد

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى

درك الجنان بها وفوز العابد

ونسيت أن الله أخرج آدما

منها إلى الدّنيا بذنب واحد

لا بد للمسلم إذن أن يبادر إلى العمل الصالح وأن يجافى الذنوب والآثام حتى يكون حقّا مطيعا لربه، وهى طاعة لاتتم معرفة الله وشكر نعمه بدونها، بل لا تتم محبته محبة صحيحة إلا إذا ألحّ الإنسان فى التماسها وابتغى إليها كل وسائل العبادة متحاميا المعاصى وكل ما يجر إلى العصيان، منقطعا إلى الله متبتلا له، يقول:

تعصى الإله وأنت تظهر حبّه

هذا محال فى القياس بديع

لو كنت تضمر حبّه لأطعته

إن المحبّ لمن أحبّ مطيع

فى كل يوم يبتليك بنعمة

منه وأنت لشكر ذاك مضيع

وموقف ثان هو موقف الرضا بقضاء الله، وهو موقف يملأ نفس الزاهد طمأنينة وراحة، بل تفاؤلا وأمنا، فلا يخشى شيئا، إذ لا يتمنى غير ما يحدث، وكل ما ينزل به يتقبله بنفس راضية، يقول:

قدر الله كائن

حين يقضى وروده

قد مضى فيك علمه

وانتهى ما يريده

وموقف ثالث هو التوكل الحق على الله والثقة به، والاعتماد عليه دون سواه من الناس، فهو الكافل والضامن، وهو الذى يقدّر ما يصيب الإنسان، ولن يستطيع الوصول إليه قبل موعده المقدور ولو طلبه بقوة السماء والأرض، وقد كفل له رزقه وضمن له حياته، فنعم الضامن الكفيل، يقول:

أتطلب رزق الله من عند غيره

وتصبح من خوف العواقب آمنا

وترضى بعرّاف (1)

وإن كان مشركا

ضمينا ولا ترضى بربّك ضامنا

(1) العراف: المنجم والناظر فى الغد.

ص: 410

ويقول:

أما عجب أن يكفل الناس بعضهم

ببعض فيرضى بالكفيل المطالب

وقد كفل الله الوفىّ بعهده

فلم يرض والإنسان فيه عجائب

عليم بأن الله موف بوعده

وفى قلبه شكّ على القلب دائب

وهذا الموقف أدّاه إلى موقف رابع هو القناعة، أو بعبارة أخرى أن يقنع الإنسان بما عند الله وما ادّخره له فى يومه وغده، وأن يقلع عن الطمع وإلا أصبح ما يكفيه لا يكفيه وإن أقبلت عليه الدنيا بحذافيرها، بل إن شدة الطمع تؤدى بصاحبها إلى أن يصبح أشد ضنكا من الفقير المحتاج، والغنى الحقيقى هو غنىّ النفس القانع لا غنىّ الثراء الجشع، وفى ذلك يقول:

من كان ذا مال كثير ولم

يقنع فذاك الموسر المعسر

وكلّ من كان قنوعا وإن

كان مقلاّ فهو المكثر

الفقر فى النفس وفيها الغنى

وفى غنى النفس الغنى الأكبر

ويكثر محمود من تقريع غنىّ المال فقير النفس، مصورا جشعه فى جمع الدراهم والدنانير وإلحاحه فى طلبها، واسترقاقها له، بل عبادته لها وهيامه بها الذى لا يقف عند حد، إذ فتنته عن نفسه وعن دينه وعن ربه. وكان يعجب عجبا شديدا كيف يجمع عبدة المال بينه وبين عبادة ربهم وهو قد استأثر بقاوبهم وعواطفهم وأهوائهم وملك عليهم كل شئ من أمرهم، يقول:

أظهروا للناس دينا

وعلى الدينار داروا

وله صاموا وصلّوا

وله حجّوا وزاروا

لو بدا فوق الثّريّا

ولهم ريش لطاروا

ودائما يقول ألا تبّا للغنى الذى يتملك الإنسان ويستعبده، ومرحى بالفقر وعيشة الكفاف التى يعيشها الزهاد، غير ملتمسين شيئا فوق ما يسد رمقهم ويدفع الحاجة عنهم، ويكفى فقر الزهاد سموا أنك لا تجد فقيرا يعصى الله ليفتقر، بينما يفتح الثراء على

ص: 411

أصحابه أبواب الحرص والطمع، بل إنهم يخوضون إليه أحيانا أبواب المعاصى ومن ورائها أبواب سقر، وفى ذلك يقول هذه الأبيات التى أنشدناها فى الفصل الرابع:

يا عائب الفقر ألا تزدجر

عيب الغنى أكثر لو تعتبر

من شرف الفقر ومن فضله

على الغنى إن صحّ منك النّظر

أنك تعصى كى تنال الغنى

وليس تعصى الله كى تفتقر

وموقف خامس هو الصبر عند فواجع الزمان فإن من حسنت عقيدته استقبل الكارثة كما يستقبل النعمة ولم تذهب نفسه حسرات إزاء صروف الدهر، بل تدرّع بالصبر الجميل درع العباد الناسكين الذين خبروا الحياة وعرفوا أنها همّ تلو همّ وأن كل شئ فيها إلى فناء، يقول:

يمثّل ذو الّلبّ فى نفسه

مصائبه قبل أن تنزلا

فإن نزلت بغتة لم ترعه

لما كان فى نفسه مثّلا

رأى الهمّ يفضى إلى آخر

فصيّر آخره أولا

وذو الجهل يأمن أيّامه

وينسى مصارع من قد خلا

فإن بدهته صروف الزمان

ببعض مصائبه أعولا

ولو قدّم الحزم فى أمره

لعلّمه الصّبر عند البلا (1)

وموقف سادس هو اتخاذه من الشيب نذيرا للموت، وأنه إذا دبّ السواد خلال البياض كان حريّا بالإنسان أن يقلع عن غيّه ويتزود لآخرته، فقد دقت أجراس الموت وملأت الفضاء من حوله، وجدير به أن يبكى ويتفجع على نفسه، فالحياة توشك أن تنقضى ويوشك ظلّها أن ينحسر عنه إلى غير مآب، كما انحسر عن الأفراد والأمم، يقول:

بكيت لقرب الأجل

وبعد فوات الأمل

(1) البلا: مقصور البلاء.

ص: 412

ووافد شيب طرا

بعقب شباب رحل

شباب كأن لم يكن

وشيب كأن لم يزل

طواك بشير البقاء

وحلّ بشير الأجل

طوى صاحب صاحبا

كذاك اختلاف الدّول

وموقف سابع هو العفو عن الظالم، فهو لا يلقى الإساءة بالإساءة إذ يجد فى ذلك وقودا لتهييجها، وإنما يلقاها بالعفو والرفق والبر والرحمة مطفئا نار الجهل بالحلم وموجدة الغضب بالصفح. وهى خصلة من خصال الإسلام الرفيعة حث عليها الذكر الحكيم بمثل قوله:{(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ)} وقوله: {(فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ)} وقوله: {(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)} . وإنما أراد الإسلام بذلك أن يزرع البرّ والمحبة فى قلوب المسلمين بعفو بعضهم عن بعض، مع وعده لهم على هذا الصنيع بالأجر والمثوبة الحسنة.

وعن كل ذلك صدر محمود فى تصوير عفوه عن بعض ظالميه قائلا:

إنى وهبت لظالمى ظلمى

وغفرت ذاك له على علم

ورأيته أسدى إلىّ يدا

لما أبان بجهله حلمى

رجعت إساءته عليه وإح

سانى إلىّ مضاعف الغنم

وغدوت ذا أجر ومحمدة

وغدا بكسب الظلم والإثم

وكأنما الإحسان كان له

وأنا المسئ إليه فى الحكم

ما زال يظلمنى وأرحمه

حتى رثيت له من الظّلم

وهذه المواقف الزهدية المختلفة لمحمود توضح غزارة فكره وأنه كان يستمد من معين عقلى وروحى لا ينضب، فهو تارة يرغب فى محاسن الأخلاق والشيم وتارة يعظ ويذكر ناصبا الموت أمام أعين الناس حاثّا لهم على الإعراض عن الدنيا ومتاعها الفانى والتوكل على الله والرضا بقضائه واتخاذ العدة للقائه، وقد توفى فى حدود المائتين والثلاثين أو بعدها بقليل.

ص: 413