الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع
أعلام الكتّاب
1 -
ابن (1) المقفع
فارسى الأصل، اسمه روزبه بن داذويه، كان أبوه من قرية إيرانية تسمى جور، نزل البصرة، وظل على دينه مجوسيا مانويا، غير أنه استعرب سريعا، لاختلاطه بمواليه آل الأهتم التميميين، وهم يشتهرون باللسن والفصاحة والخطابة، ولم يلبث أن عمل فى دواوين الخراج للحجاج، وظهرت عليه خيانة فى أموال الدولة، فضربه الحجاج ضربا مبرّحا تقفّعت (يبست) منه يده، فسمّى من حينئذ المقفّع، ولم يسلم، بل مات على دينه، وعليه نشأ ابنه، ويظهر أنه عنى عناية شديدة بتأديبه، حتى أتقن اللغتين الفارسية والعربية، وقد مضى يتكسّب بصناعة أبيه، فاشتغل، فى دواوين العراق آخر زمن بنى أمية، إذ كتب لعمر بن هبيرة والى العراق لهشام بن عبد الملك، وكتب لابنه يزيد فى ولايته العراق لمروان بن محمد، ولابنه الثانى داود فى ولايته على كرمان بإيران وأفاد منهما أموالا كثيرة. ولما قامت الدولة العباسية كتب لسليمان بن على عم المنصور وواليه على البصرة، ولأخيه عيسى بن على والى الأهواز وعلى يديه أعلن إسلامه وتكنى بأبى محمد، ويقال إنه حين حاول اعتناق الإسلام طلب إليه عيسى أن
(1) انظر فى ترجمة ابن المقفع وأخباره الفهرست ص 172 والجهشيارى ص 103، 109 وفى مواضع متفرقة وأمالى المرتضى 1/ 134 وثلاث رسائل للجاحظ (طبعة فنكل) ص 42 و 47 والبيان والتبيين 1/ 115 وفى مواضع متعددة (انظر الفهرس) والحيوان 1/ 76، 6/ 330 ومروج الذهب للمسعودى 4/ 242 واعجاز القرآن الباقلانى ص 18 وزهر الآداب 1/ 181 والأغانى (طبعة الساسى) 18/ 200 وغرر الخصائص الواضحة للوطواط (طبعة بولاق) ص 408 وخزانة الأدب للبغدادى 3/ 495 وتحقيق ما للهند من مقولة (طبعة ليبزج) ص 76 ومقدمة كليلة ودمنة لعبد الوهاب عزام (طبع دار المعارف) وضحى الإسلام لأحمد أمين 1/ 195 ومن حديث الشعر والنثر لطه حسين (طبع دار المعارف) ص 46.
يؤجل ذلك إلى الغد حتى يكون إعلان إسلامه فى حفل عظيم، وحدث أن حضر طعام العشاء، فلاحظ عيسى أنه يأكل ويزمزم، أو بعبارة أخرى يدعو بأدعية المجوس، فسأله عيسى: أتصنع ذلك وأنت على نية الإسلام، فأجابه: كرهت أن أبيت على غير دين. وظل بعد إعلانه الإسلام يعمل فى دواوينه.
واتفق أن خرج عبد الله بن على عم المنصور وواليه على الشام، إذ أعلن ثورته عليه، غير أن جيوش المنصور هزمته، ففرّ إلى أخويه سليمان وعيسى، فطلبه المنصور منهما، فأبيا أن يسلماه إليه إلا إذا كتب له أمانا، فقبل ما عرضاه، وكلفهما كتابته، فأمرا ابن المقفع أن يكتبه، فكتبه، وتشدّد فيه تشددا أغضب المنصور وأحفظه وملأه موجدة، إذ طلب إليه أن يكتب فى أسفل الأمان هذا التوقيع (1):
واحتدم المنصور غيظا حين قرأ هذا الأمان وسأل عن كاتبه، فقيل له ابن المقفع كاتب عيسى بن على عمك، فقال: أما أحد يكفينيه؟ وأوعز إلى سفيان بن معاوية المهلبى عامله على البصرة حينئذ أن يقتله، وتصادف أن كان يضطغن عليه، فانتهز فرصة قدومه إليه ذات مرة، وأمر بتنّور، فملئ وقودا
(1) الجهشيارى ص 104.
حتى إذا حميت ناره أخذ يقطعه جزءا جزءا ويرمى بكل جزء فى التنور حتى أتى عليه. ويقال إن المنصور إنما أمر بقتله لما ثبت عنده من زندقته وكيده للإسلام، ويبدو أن التعليل الأول لمقتله هو الصحيح، لما صعّب فى صيغة الأمان على المنصور تصعيبا امتهن فيه كرامته ووطئها بالأقدام، إذ طلب إليه أن يكتب بخط يده أنه إن غدر بعمه أو بأحد ممن معه فنساؤه طوالق وعبيده أحرار ودوابّه محرمة عليه والمسلمون فى حل من بيعته بل عليهم أن يحاربوه حتى يعطى عن يد وهو صاغر، وأيضا فإنه إن فعل يكون كافرا خارجا من جميع الأديان. فكان طبيعيّا أن يثور المنصور لكرامته وأن يوعز إلى سفيان بقتله، ويقول الجاحظ إن ابن المقفع أغرى عبد الله بن على بالمنصور، ففطن له وقتل، وأغلب الظن أنه لا يريد بإغرائه لعبد الله بن على سوى صيغة هذا الأمان المشئوم، واختار الرواة فى السنة التى قتل فيها، فقيل سنة 142 وقيل سنة 143 وقيل سنة 145 للهجرة.
وليس معنى استظهارنا أن يكون الأمان السالف هو السبب الحقيقى فى قتل ابن المقفع أننا ننفى عنه الزندقة، فقد شهد بها كثيرون من معاصريه ومن جاءوا بعده، وكان المهدى يقول:«ما وجدت كتاب زندقة قط إلا وأصله ابن المقفع» (1) ويقول المسعودى: «أمعن المهدى فى قتل الملحدين. . لما انتشر من كتب مانى وابن ديصان ومرقيون مما نقله عبد الله بن المقفع وغيره ويترجم من الفارسية والفهلوية إلى العربية» (2) ويقال إنه مرّ ببيت نار للمجوس بعد إسلامه، فلما رآه أحسّ بحنين شديد إلى دينه المانوى القديم، وأنشد بيتى الأحوص (3):
يا بيت عاتكة الذى أتعزّل
…
حذر العدا وبك كّل
إنى لأمنحك الصدود وإننى
…
قسما إليك مع الصدود لا ميل
وقد يكون فى ذلك ما يشير إلى أنه ظل على اعتقاده المانوى القديم فهو يظهر الإسلام ويضمر مانويته، وقد مضى ينقل ديانات قومه المجوسية ومذاهب الملحدين
(1) أمالى المرتضى 1/ 135.
(2)
مروج الذهب 4/ 242.
(3)
أمالى المرتضى 1/ 135.
مثل ابن ديصان ومرقيون. مما جعل العرب يتنبهون إلى غايته من هذا النّقل وما كان يتصل به من ترجمة الحكم الفارسية، فقالوا إنه إنما كان يريد على الأقل ببعض ترجماته وتصنيفاته معارضة الذكر الحكيم، وعرض لذلك الباقلانى فقال:
«وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن، وإنما فزعوا إلى الدرة اليتيمة، وهى كتابان: أحدهما يتضمن حكما منقولة. . والآخر فى شئ من الديانات (1)» وقد ألف القاسم بن إبراهيم بن طباطبا المتوفى سنة 246 للهجرة كتابا فى نقض زندقته سماه «كتاب الرد على الزنديق اللعين ابن المقفع عليه لعنة الله» . وذكر فى أوائله أن ابن المقفع وضع كتابا عاب فيه المرسلين وافترى الكذب على رب العالمين (2)، ولذلك تصدى له يهدم مزاعمه هدما. وشك أحمد أمين فى هذا الكتاب الذى نسبه ابن طباطبا إلى ابن المقفع، ولا ينفى هذا الشك عنه زندقته فقد شهد بها معاصروه ومن تلاهم ممن قرءوا كتاباته، وكثير منها سقط من يد الزمن.
وكان-مع زندقته-نبيل الخلق وقورا يترفع عن الدّنايا ولا يجعل للهوى سلطانا على عقله، وكان يأخذ نفسه بكل ما يمكن من خصال المروءة والشعور بالكرامة، ويقول الجهشيارى إنه «كان سريّا سخيّا يطعم الطعام ويتسع على كل من احتاج إليه. . وكان يجرى على جماعات من وجوه أهل البصرة والكوفة ما بين الخمسمائة إلى الألفين فى كل شهر» . وتروى عنه حكايات مأثورة تدل على كرمه الفياض، كما تروى عنه أخبار تدل على دقة حسه، من ذلك أن عيسى بن على دعاه يوما للغداء فاعتذر بأنه مزكوم، والزكمة قبيحة الحوار، مانعة من عشرة الأحرار (3). وكان يلفت معاصريه بأدبه الجم، فسأله سائل: من أدّبك؟ فقال: نفسى! إذا رأيت من غيرى حسنا أتيته، وإن رأيت قبيحا أبيته». وكان بقدر الأخوة والصداقة حق قدرهما، وقد بنى عليهما كثيرا من حكمه ونصائحه فى الأدبين: الصغير والكبير وكان ذكيّا ذكاء مفرطا حتى قال ابن سلام: «سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد
(1) إعجاز القرآن (طبع مطبعة الإسلام) ص 18.
(2)
كتاب الرد على الزنديق اللعين (نشر جويدى) ص 8.
(3)
أمالى المرتضى 1/ 136.
الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع، ولا كان فى العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع» (1). وكان يرى أن الذكاء لا يعمر القلوب ولا يثمر الثمرة المرجوة بدون العلم، وإلا كان كالأرض الطيبة الخراب. ولعله لذلك دأب على التثقف بكل ما استطاع من الآداب الفارسية وما ترجم إلى لغته من الهندية وكذلك ما ترجم إليها من اليونانية زمن كسرى أنو شروان.
وبذلك كان ابن المقفع يجمع بين الثقافات العربية والإسلامية والفارسية والهندية واليونانية، وقد نقل إلى العربية عن لغته خير ما عرف من الثقافات الأخيرة، وكان للثقافة الفارسية الحظ الأكبر، فقد نقل عنها كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع كتابا فى تعاليم مزدك وكتاب «خداى نامه» وهو فى سير الملوك الإيرانيين، وعليه اعتمد الفردوسى فى نظم «الشاهنامه» وكذلك نقل كتاب التاج فى سيرة أنوشروان.
ونقل عنها فى أنظمة الملك وتدبير السياسة والحكم كتاب «آيين نامه» ورسالة «تنسر» وفى عيون الأخبار منهما ومن كتاب التاج نقول مختلفة. وكان فى الفهلوية أدب أخلاقى كثير نما فى بلاط الساسانيين، وكان يراد به إلى تثقيف الفرس بما يوضح لهم سبل الحياة العامة عن طريق الأمثال وما تشفع به من الحكم، ونقل من ذلك ابن المقفع مادة غزيرة فى الأدب الصغير والأدب الكبير واليتيمة ورسالة الصحابة. وعمد إلى خير أثر فى لغته للهنود وهو كتاب كليلة ودمنة فنقله إلى العربية، كما نقل عن لغته بعض ما ترجم إليها عن اليونانية من كتب أرسطو فى المقولات والقياس المنطقى.
وما نقله عن أرسطو من لغته مفقود، ولم يصلنا ما نقله عن الفهلوية من الكتب الخمسة الأولى إلا ما اقتبسه ابن قتيبة مما يتصل ببعض وصايا الفرس السياسية وأنظمتهم فى الملك والقضاء وفنون الحرب. ونحن نقف قليلا عند الأدبين الصغير والكبير واليتيمة ورسالة الصحابة.
والأدب الصغير رسالة قصيرة (2) فى نحو ثلاثين صحيفة تتضمن طائفة من
(1) مراتب النحويين لأبى الطيب اللغوى (طبعة مكتبة نهضة مصر) ص 28.
(2)
انظر الأدب الصغير فى رسائل البلغاء لمحمد كرد على (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص 1 وما بعدها.
الوصايا الخلقية والاجتماعية التى ترشد الناس إلى صلاح معاشهم فى أنفسهم وفى علاقاتهم بعناصر المجتمع من أهل السلطان ومن الأصدقاء ومن غيرهم، ونراه يقول فى أوائلها:«قد وضعت فى هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفا، فيها عون على عمارة القلوب وصقالها وتجلية أبصارها، وإحياء للتفكير، وإقامة للتدبير، ودليل على محامد الأمور ومكارم الأخلاق» ومن قوله فى تضاعيفها:
وأكثر وصايا الأدب الصغير على هذا النحو من القصر وقلما يطّرد فيها
(1) ثلم: جمع ثلمة وهى الخلل.
(2)
مقارفة: ارتكاب.
(3)
عقيرا: جريحا.
(4)
خلخل: وضع فى رجله خلخال.
السياق. أما الأدب (1) الكبير فرسالة أكثر طولا إذ تمتد إلى نحو مائة صحيفة، موزعة بين موضوعين كبيرين، هما السلطان وما يتصل به من السياسة والحكم، والصداقة وما يتصل بها من صفات الصديق الصالح. ونراه يصرح فى تقديمه لهذه الرسالة بما صرّح به فى أوائل الأدب الصغير من أنه يفيد فى وصاياها من أقوال الأسلاف القدماء، إذ يقول: «منتهى علم عالمنا فى هذا الزمان أن يأخذ من علمهم وغاية إحسان محسننا أن يقتدى بسيرتهم، وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر فى كتبهم، فيكون كأنه إياهم يحاور ومنهم يستمع. . .
ولم نجدهم غادروا شيئا يجد واصف بليغ فى صفة له مقالا لم يسبقوه إليه».
ويشير مع ذلك إلى أنه بقيت فى وجوه الأدب وضروب الأخلاق أشياء من لطائف الأمور تشتقها الفطن السليمة من حكم الأولين وأقوالهم، وأنه سيضمّن كتابه أو رسالته منها أطرافا. ومعنى ذلك أن وصايا الرسالة إما نقل عن القدماء ممّا قرأه فى الأدب الساسانى السياسى والأخلاقى، وإما استنباطات وصل إليها على هديهم، وهو يستهلّ رسالته بالحديث عن أصول الأدب ويريد به التهذيب الخلقى والاجتماعى والسياسى، ثم يورد بعض الوصايا لمن يتقلد شيئا من أمور السلطان وينصحه فيما يتولاه أن يرضى ربه ومن فوقه من أصحاب السلطان ومن تحته من صالحى الرعية، ويقول له: لا تلتمس رضا الناس جميعا، لأن ذلك شئ لا يدرك، إذ بينهم من رضاه الجور ومن رضاه الضلالة، فيكفيك رضا الأخيار منهم والعقلاء، ومن طريف ما يوصيه به قوله:
«لا تتركنّ مباشرة جسيم أمرك، فيعود شأنك صغيرا، ولا تلزم نفسك مباشرة الصغير فيصير الكبير ضائعا، واعلم أن رأيك لا يتسع لكل شئ ففرّغه للمهم. . وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجتك وإن دأبت فيهما، وأنه ليس إلى أدائها سبيل مع حاجة جسدك إلى نصيبه من الدعة فأحسن قسمتهما (2) بين دعتك وعملك، واعلم أنك ما شغلت من رأيك فى غير المهم أزرى بالمهم. .
وما شغلت من ليلك ونهارك فى غير الحاجة أزرى بك فى الحاجة. واعلم أن من
(1) انظره فى رسائل البلغاء ص 39 وما بعدها.
(2)
قسمتهما. أى قسمة الليل والنهار.
الناس ناسا كثيرا يبلغ من أحدهم الغضب إذا غضب أن يحمله ذلك على الكلوح (1) والتقطيب فى غير من أغضبه، وسوء اللفظ لمن لا ذنب له، والعقوبة لمن لم يكن يهم بعقوبته، وشدّة المعاقبة باليد واللسان لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك. ثم يبلغ به الرضا إذا رضى أن يتبرّع بالأمر ذى الخطر (2) لمن ليس بمنزلة ذلك عنده، ويعطى من لم يكن يريد إعطاءه ويكرم من لا حق له ولا مودة فاحذر هذا الباب الحذر كله».
ويسترسل ابن المقفع فى مثل هذه الوصايا للوالى، ويتحدث عن صحبة السلطان وواجباتها وآدابها وكذلك صحبة الولاة والحكّام، ثم ينتقل إلى الصديق والصداقة، ويصور الخلال التى ينبغى أن يتصف بها فى رأيه الصديق الحق حتى ليرى من واجب الصديق على الصديق أن يبذل له ماله ودمه وأن يلقاه بالتواضع والحياء وأن يمدّ له يد العون فى الشدة. ويستطرد إلى الحديث عن جار السوء وعشير السوء وجليس السوء، كما يستطرد إلى الحديث عن العدو وما ينبغى من استعمال الدهاء معه والعمل على القضاء عليه أو اجتنابه والبعد عنه، ويفيض فى الأخلاق الحميدة والأخلاق السيئة التى تنفّر الناس من صاحبها فضلا عن الصديق، ومما يسوقه فى الطرفين قوله:
«انظر من صاحبت من الناس من ذى فضل عليك بسلطان أو منزلة ومن دون ذلك من الخلصاء والأكفاء والإخوان فوطّن نفسك فى صحبته على أن تقبل منه العفو، وتسخو نفسك عما اعتاص عليك مما قبله غير معاتب ولا مستبطئ ولا مستزيد، فإن المعاتبة مقطعة للود، وإن الاستزادة من الجشع، وإن الرضا بالعفو والمسامحة فى الخلق مقرب لك كلّ ما تتوق إليه نفسك مع بقاء العرض والمودة والمروءة. . ولا تلتمس غلبة صاحبك والظفر عليه بكل كلمة ورأى، ولا تجترئن على تقريعه وتبكيته بظفرك إذا استبان وحجّتك إذا وضحت.
وتعلّم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم، حتى يقضى حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب، والإقبال بالوجه والنظر إلى المتكلم، والوعى لما يقول. . واعلم أن المستشار ليس بكفيل وأن الرأى ليس بمضمون، بل
(1) الكلوح والتقطيب: العبوس.
(2)
الخطر: الشرف.
الرأى كله غرر (1)، لأن أمور الدنيا ليس شئ منها بثقة، ولأنه ليس شئ من أمرها يدركه الحازم إلا وقد يدركه العاجز، بل ربما أعيى الحزمة (2) ما أمكن العجزة، فإذا أشار عليك صاحبك برأى فلم تجد عاقبته على ما كنت تأمل، فلا تجعل ذلك عليه لوما وعذلا بأن تقول: أنت فعلت هذا بى، وأنت أمرتنى، ولولا أنت لم أفعل، ولا جرم لا أطيعك فى شئ بعدها، فإن هذا كله ضجر ولؤم وخفة. وإن كنت أنت المشير، فعمل برأيك أو تركه فبدا صوابك فلا تمتنّ ولا تكثرنّ ولا تكثرنّ ذكره إن كان فيه نجاح، ولا تلمه عليه إن كان استبان فى تركه ضررا بأن تقول: ألم أقل، ألم أفعل، فإن هذا مجانب لأدب الحكماء. . واعلم أن من تنكّب الأمور ما يسمى حذرا، ومنه ما يسمى خورا فإن استطعت أن يكون تجنّبك من الأمر قبل مواقعتك إياه فافعل، فإن ذلك هو الحذر، ولا تنغمس فيه ثم تتهيبه، فإن ذلك هو الخور، وإن الحكيم لا يخوض نهرا، حتى يعلم مقدار قعره».
وردّد محمد كرد على فى نشرته للأدب الكبير بكتابه رسائل البلغاء بين هذا العنوان وعنوان ثان هو الدرة اليتيمة، وهما كتابان لا كتاب واحد، كما يشهد بذلك كلام الباقلانى عن اليتيمة الذى سبق أن نقلناه عنه، وفيه أنها قسمان قسم فى الحكم المنقولة، وقسم فى شئ من الديانات، وليس فى الأدب الكبير حديث عن الديانات، إنما هو حديث كما رأينا عن السلطان والصداقة. ومما يقطع بأن الدرة اليتيمة ليست هى الأدب الكبير أن ابن طيفور احتفظ فى كتابه «اختيار المنظوم والمنثور» بقطعة طويلة من صدرها لا توجد فى الأدب الكبير، ونرى ابن المقفع يذكر فيها أن الناس قد سألوه أسئلة، وأنه سيجيبهم عما سألوا، واحتفظت القطعة بالسؤال الأول، وهو يدور على الزمان، وقد أجابهم بأن الزمان الناس، وهم رجلان، وال ومولّى عليه. وقسم الأزمنة على أساس الوالى والرعية أربعة أقسام: قسم هو خير الأزمنة لصلاح الحاكم والمحكومين، وقسم ثان يليه وفيه يصلح الحاكم ويفسد المحكومون، وقسم ثالث يصلح فيه المحكومون ويفسد الحاكم،
(1) غرر: خداع.
(2)
الحزمة: جمع حازم
وقسم رابع هو شر الأزمنة لفساد الحاكم والمحكومين جميعا، وفى الأول يقول (1):
ويظهر أن الأسئلة الأولى فى الرسالة كانت تخوض فى السياسة، وتلتها أسئلة كانت تخوض فى شئون الديانات، ولعل ذلك هو الذى جعل الدرة اليتيمة تسقط من يد الزمن، وكأن الناس تحاموا تداولها. أما رسالة الصحابة (5) فهى فى صحابة السلطان وبطانته ومن يستعين بهم فى حكمه من جنده وما ينبغى له فى سياسته إزاء رعيته، كتب بها إلى المنصور، وكأنه يضع له دستورا للحكم، وقد استهلّها بمدحه وبيان فضله على خلفاء بنى أمية وما تحلّى به من تشجيع ذوى النصح والرأى على الإدلاء بنصائحهم وآرائهم فيما يعود على الأمة بالنفع والخير. ثم أخذ فى تصوير الدستور الذى يريد من المنصور اتباعه فى حكمه، واصفا حسن سياسته، إذ اقتلع الولاة والأعوان المفسدين، واجتمعت حوله قلوب الرعية لما اشتمل عليه من حسن العفو واللين. ولم يلبث أن تحدث عن الجند، ومعروف أن الجند حينئذ كانوا خراسانيين فى جمهورهم، ومن ثمّ أخذ يشيد بجند خراسان وأنه لم يدرك مثلهم فى الإسلام لما امتازوا به من الطاعة والفضل والعفاف والكف عن الفساد والإعطاء عن يد للولاة والحكام، ومن أجل ذلك كانت تجب العناية
(1) جمهرة رسائل العرب 3/ 49.
(2)
البيضة: حوزة كل شئ وساحة، القوم والمراد بلدهم.
(3)
الأود: الاعوجاج.
(4)
لابسين هنا: مقدمين، وأصل لبس القوم التمل بهم زمنا.
(5)
انظر فى هذه الرسالة رسائل البلغاء ص 117 وجمهرة رسائل العرب 3/ 25.
بهم بوضع قانون لهم، يوضح فى دقة واجباتهم وما ينبغى أن يفعلوه وما ينبغى أن يذروه ويتجنبوه، وأن مثلهم مثل الخليفة ينبغى أن يطيعوا الدين وأوامره ونواهيه، كما يطيعون الخليفة فى الأحداث المتجددة من إعلان حرب أو مهادنة أو تنظيم أمور حادثة. ومما ينظر فيه لصلاح الجند أن لا يولّى أحد منهم على شئ من الخراج فإن ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة، إذ يخرجهم عن وظيفتهم الحربية، ويشغلهم بأمور المال والدراهم والدنانير. ولفت المنصور إلى أن من عليهم من هم خير من قادتهم. ولذلك ينبغى أن يعيد النظر فيمن جعلهم منهم قادة، فيردّ بعضهم عن القيادة ويوليها الكفء المجهول من الجند. وطلب إليه أن يعنى بتعليمهم القرآن والتفقه فى السنة وأن يتحلوا بالأخلاق الفاضلة من الأمانة والعفاف والتواضع والبعد عن الهوى وأن يجتنبوا الترف فى المطعم والملبس، كما طلب إليه تعيين مواقيت محددة لأرزاقهم ورواتبهم وأن يتفصّى أحوالهم بثقات لا يكتمون عنه منها شيئا. وانتقل ابن المقفع من الجند إلى أهل العراق عامة وأهل البصرة والكوفة خاصة، لأنهم شيعة العباسيين. وتحدث عن تفوق أهل العراق على غيرهم فى الفقه والعفاف والعقول والفصاحة، وهم لذلك خير من يستعين بهم المنصور فى دولته، وكان الأمويون قد حرموهم من تدبير الحكم مع أنهم أهله ومستحقوه.
وأوصاه-كما أوصاه فى الجند-أن يتتبع خيارهم من المجاهيل عنده، فيسند إليهم شئون الدولة، ويردّ عنها من وقع فيهم الخطأ ومن اختيروا دون تثبت وفحص كاف. وسرعان ما يعرض لفوضى القضاء الناشئة عن كثرة الاختلافات بين الفقهاء، حتى ليحكم فى القضية الواحدة بحكمين مختلفين أو أحكام مختلفة لا فى البلاد المتباعدة بل فى البلد الواحد، واقترح لدرء هذه الفوضى أن يضع المنصور قانونا يلتزمه القضاة على اختلاف منازعهم الفقهية، سواء أكانوا ممن يقدّمون الرأى ويعتدّون به أو كانوا ممن يقدمون السنة ويعتدّون بها، ويسخر من الأخيرين، إذ تمادوا فى الأخذ عن التابعين وخلفاء بنى أمية مسمّين ذلك سنّة، مما دفع إلى هذا الاضطراب الواسع فى الأقضية، يقول:
«ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين (البصرة والكوفة) وغيرهما من الأمصار والنواحى اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التى قد بلغ اختلافها
أمرا عظيما فى الدماء والفروج والأموال، فيستحلّ الدم والفرج بالحيرة، وهما يحرّمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف فى جوف الكوفة، فيستحلّ فى ناحية منها ما يحرّم فى ناحية أخرى. غير أنه على كثرة ألوانه نافذ على المسلمين فى دمائهم وحرمهم، يقضى به قضاة جائز أمرهم وحكمهم، مع أنه ليس ممن ينظر فى ذلك من أهل العراق وأهل الحجاز فريق إلا قد لجّ بهم العجب مما فى أيديهم والاستخفاف بمن سواهم، فأقحمهم ذلك فى الأمور التى يتبيّغ (1) بها من سمعها من ذوى الألباب. أما من يدّعى لزوم السنة منهم فيجعل ما ليس له سنّتة سنّة، حتى يبلغ ذلك به إلى أن يسفك الدم بغير بينة ولا حجّة على الأمر الذى يزعم أنه سنة، وإذا سئل عن ذلك لم يستطع أن يقول: هريق (2) فيه دم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أئمة الهدى من بعده، وإذا قيل له: أىّ دم سفك على هذه السنة التى تزعمون؟ قالوا: فعل ذلك عبد الملك ابن مروان أو أمير من بعض أولئك الأمراء. وربما يأخذ بالرأى، فيبلغ به الاعتزام على رأيه أن يقول فى الأمر الجسيم من أمر المسلمين قولا، لا يوافقه عليه أحد من المسلمين، ثم لا يستوحش لانفراده بذلك وإمضائه الحكم عليه، وهو مقرّ بأنه رأى منه، لا يحتجّ بكتاب ولا سنّة. فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسنن المختلفة فترفع إليه فى كتاب، ويرفع معها ما يحتجّ به كل قوم من سنّة أو قياس، ثم نظر فى ذلك أمير المؤمنين وأمضى فى كل قضية رأيه الذى يلهمه الله، ويعزم عليه عزما، وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتابا جامعا لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكما واحدا صوابا، ورجونا أن يكون اجتماع السّنن قرينة لاجتماع الأمر برأى أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام آخر، آخر الدهر، إن شاء الله».
ومضى ابن المقفع يذكر أن اختلاف الأحكام إذا كان يرجع إلى سنن مأثورة غير مجمع عليها فينبغى الأخذ بما هو أشبه بالعدل، وإذا كان يرجع إلى استخدام الرأى والقياس، فإن القياس قد يخطئ، وليس المدار على القياس فى حد ذاته،
(1) يتبيغ: يهيج.
(2)
هريق: لغة فى أريق.
وإنما المدار على ما يقود إليه فإن قاد إلى حسن أخذ به وإن قاد إلى قبيح ترك، إذ المراد ليس عين القياس، وإنما المراد إحقاق الحق لأهله. ولعل هذه الدعوة إلى إصلاح التشريع وجمع السنن والأحكام والأقضية ووضع قانون عام للقضاء هى التى دفعت المنصور ليطلب إلى مالك أن يؤلف فى الفقه كتابه «الموطأ» قد قال له: إنى أريد أن ترسل لى به لأكتب منه نسخا يرجع إليها الناس فى الأمصار، غير أن مالكا لم يرتض الفكرة، لأن المسلمين فى كل بلد رووا من السنة النبوية ما دانوا به، غير أنه ألف «الموطأ» وذاعت أحكامه الفقهية فى الحجاز، وفى كثير من الأمصار وخاصة فى مصر والمغرب والأندلس. ويدعو ابن المقفع بعد ذلك المنصور إلى العطف على أهل الشام مع ما يكنّونه للدولة من عداوة، لسلبها السلطان منهم، وأن يصطنع خيارهم، فيتبعهم فى محبة الدولة غيرهم، وتأخذ دائرة هذه المحبة فى الاتساع. ويطلب إليه أن يردّ عليهم فيئهم، حتى يذعنوا للدولة عن رضا، وحتى تهدأ نفوسهم فلا تكون منهم وثبات ولا ثورات. ويتحول ابن المقفع إلى بطانة الخليفة ورجال دولته ويطلب إليه أن يعيد النظر فيهم، فإن بينهم كثيرين ليسوا بذوى بلاء ولا فيهم غناء، بل بينهم من اشتهروا بالفجور والأعمال القبيحة، مع أن منهم من يصرّف أمور الدولة ومن يعمل فى دواوينها. . وحرى بالخليفة أن يجعل أساس اختياره لحاشيته الأمانة، والعدالة وجودة الرأى وأن لا يقرّب منه إلا من صنع مكرمة عظيمة أو أبلى بلاء حسنا، أو عرف بأصالة رأيه وحصافته أو كان عالما ينتفع الناس بعلمه، وعليه أن يجعل لكل منهم اختصاصا فى عمله لا يتعداه. ونصحه بأن يستخدم أهل بيته ويسند إليهم جسام الأمور والأعمال. ثم وقف عند الخراج أو بعبارة أخرى الضرائب المفروضة على الأراضى والضياع فى الدولة، ولفت المنصور إلى ما فيها من فوضى، إذ ليست هناك قواعد مقررة، وكل عامل يفرض الضريبة حسب مشيئته، ودعاه إلى وضع وظائف ثابتة على كل أرض وكل ضيعة، وبذلك يقف ظلم العمال ويأمن الزراع على عمارة ضياعهم وأراضيهم، كما دعاه إلى تخير عمّال الخراج وتفقّدهم واستبدال من تظهر عليه خيانة. وتحدث عن أهل الجزيرة العربية من الحجاز واليمن ومن وراءهم من البدو، وطلب إلى
المنصور أن تسخو نفسه عن أموالهم من الصدقات وغيرها مما يجبى منهم، وكأنه نظر فى ذلك إلى فقر بلادهم وجدبها وأنهم كانوا مادة الإسلام والفتوح. ودعاه إلى أن يولى عليهم الخيار من أهل بيته. وطلب إليه أخيرا أن يعين فى الأمصار طائفة من الفقهاء والمحدثين النابهين تكون مهمتهم تأديب العامة وتبصيرها الخطأ ومنعها من البدع والفتن، وبذلك رشّح ابن المقفع لقيام وظيفة المحتسب فى الدولة العباسية، وكان يعهد إليه بمراقبة الأسواق والحكم فيما ينشأ فيها من منازعات وجنايات وما يكون من خطأ فى البيع والشراء أو نقص فى المكاييل والموازين.
وقد يكون ابن المقفع تأثر فى هذه الرسالة ببعض أنظمة الحكم الساسانية وبما سمعه عن قانون جوستنيان الرومانى ولكن من المحقق أنه صدر فيها عن فطنة وقوة ملاحظة لأحوال الدولة الإسلامية فى عصره وما حذقه من شئون السياسة التى استوحاها مما قرأه عند الأوائل. ودائما لا نستطيع أن نخليه فى كتاباته من التأثر بالثقافات الأجنبية إذ كان أكبر من اطلعوا عليها فى عصره، وكان ذهنه من الخصب، بحيث يستنبط كثيرا من الآراء والأفكار وخاصة ما يتصل بالإصلاح الاجتماعى والسياسى. ولعل هذا الإصلاح الذى كان ينشده للدولة العباسية هو الذى دفعه إلى ترجمة القصص الخيالى الهندى، أو بعبارة أخرى ترجمة كليلة ودمنة، ويقال إنها نقلت فى عهد كسرى أنو شروان من الهندية إلى الفهلوية، وقد عثر الباحثون على بعض أصولها الهندية، من مثل «بنج تانترا» ومثل «هتو بادشا» ووجدوا منها بعض أصول فى «المهابهارتا» مما يؤكد أنها هندية الأصول، بل يثبته إثباتا قاطعا (1). ورجّح كثير من الباحثين أن ابن المقفع زاد فى الكتاب بعض الفصول والقصص، ولكن ربما زاد ذلك بعض من جاء بعده، إذ ترجم الكتاب مرارا، شعرا ونثرا، وأكبر الظن أن ابن المقفع لم يزد إلا الفصل الذى وضعه بين يدى القصص وسماه «عرض الكتاب» وذكر البيرونى قديما أنه زاد أيضا باب برزويه «قاصدا تشكيك ضعفى العقائد فى الدين وكسرهم للدعوة إلى مذهب المنانية، وإذا كان متهما فيما زاد لم يخل عن مثله فيما نقل (2)»
(1) مقدمة كليلة ودمنة (طبع دار المعارف) ص 35 وما بعدها.
(2)
تحقيق ما للهند من مقولة ص 86.
غير أن أبحاث المحدثين أثبتت أن هذا الفصل كان موجودا فى الأصل الفارسى مما يجعلنا نظن أن أصحاب الدعوة المانوية من الفرس استغلّوا الكتاب قبل نقله إلى العربية فى الدعوة لمذهبهم المانوى.
ومثل ابن المقفع فى ترجمة هذا الكتاب مثله فى ترجمة الحكم والآداب الفارسية السياسية والاجتماعية والخلقية يصبّ فى دقة المعنى الذى يترجمه فى القوالب العربية التى تلائمه وتلائم الذوق العربى، بحيث خيّل إلى كثير من القدماء أن كل تلك الترجمات من تأليفه وتصنيفه، إذ لم يجدوا أى فارق فى الصياغة بين ما يترجمه وينشئه. وحقّا حمل عليه الجاحظ فى ترجمته لمنطق أرسطو، إذ لا حظ فى ألفاظه قصورا أحيانا عن أداء المعانى المنطقية (1)، وهو قصور منشؤه صعوبة أداء هذه المعانى لأول مرة فى العربية، ومهما يكن فلو فضل الرائد. وهو إن فاته التوفيق فى نقل المنطق الأرسططاليسى فإنه لم يفته فى بقية ترجماته، وأمامنا كليلة ودمنة التى لا تعدّ آية من آيات بلاغته فحسب بل تعد آية من آيات البلاغة العباسية على الإطلاق. وفى رأينا أن غضّ الجاحظ من ترجمته لمنطق أرسطو هو الذى دفع طه حسين فى كتابه «من حديث الشعر والنثر» إلى التشكك فى مقدرته على أداء المعانى الدقيقة العميقة حتى ليقول عنه:«له عبارات من أجود ما تقرأ فى العربية وبنوع خاص فى الأدب الكبير وفى كليلة ودمنة، ولكنه عند ما يتناول المعانى الضيقة التى تحتاج إلى الدقة فى التعبير يضعف، فيكلف نفسه مشقة ويكلف اللغة مشقة» (2) ويبلغ من إزرائه عليه أن يقول إنه «كان مستشرقا كغيره من المستشرقين يحسن اللغة العربية فهما، وربما أعياه الأداء فيها» ويستشهد لذلك بأمثلة من رسالة الصحابة والأدب الكبير، كل ما يلاحظ عليها اضطراب فى بعض الضمائر، وكأنه نسى أن الرسالتين تداولتهما أيدى النساخ بعد ابن المقفع وأنه ربما دخلها هذا الارتباك من أيديهم.
والحق أنه أسرف فى إزرائه عليه وفى عده مستشرقا كالمستشرقين الغربيين فى عصرنا، فهؤلاء لا ينشأون فى بيئات عربية كبيئة البصرة التى نشأ فيها ابن المقفع، وهم لا ينقلون إلى العربية آثار قومهم الأدبية على نحو ما كان ينقل ابن المقفع عن
(1) الحيوان 1/ 76.
(2)
من حديث الشعر والنثر ص 48 وما بعدها
الفارسية، ثم هم لم يوظّفوا فى الدواوين العربية ولم يعملوا فيها كتّابا يكتبون الرسائل السياسية الرسمية، على نحو ما وظّف ابن المقفع. ولم يكن كاتبا فحسب بل كان أيضا يحسن صوغ الشعر العربى، وقد أجمع معاصروه على أنه كان آية فى البلاغة، وجعلوه على رأس البلغاء العشرة الذين سمّوهم فى هذا العصر (1)، وبلغ من إعجابهم به أنهم كانوا يكثرون من أسئلته عن البلاغة، على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، ونفس الجاحظ يقول فى بعض رسائله إن الكتاب الناشئين كانوا يتدارسون آثاره ليحذقوا البيان وليلقحوا عقولهم وألسنتهم بخير لقاح (2).
ولم يكن ابن المقفع بليغا فحسب، بل كان أكبر بلغاء عصره، إذ استطاع أن يملأ أوانى العربية بمادة أجنبية غزيرة، دون أن يحدث فيها انحرافا من شأنه أن يجرّ ضربا من الازدواج اللغوى، إذ من المعروف أن لكل لغة صياغتها وأنماطها الخاصة فى التعبير، ولها أيضا صورها وأخيلتها التى قد تستعصى على الأداء فى لغة أخرى. وشئ من ذلك لا يصادفنا عند ابن المقفع، فقد استطاع أن يحتفظ للعربية فى ترجماته بمقوماتها الأصيلة، كما استطاع الملاءمة بين الأخيلة والصور الفارسية وذوق اللغة العربية، بحيث لا نحسّ عنده نبوّا ولا انحرافا، مما يشهد له بقدرته البيانية وأنه استطاع أن يحوز لنفسه السليقة العربية التامة بكل شاراتها وسماتها اللغوية.
والحق أنه كان آية فى البلاغة وجزالة القول ورصانته مع سهولته، وقد نصح مرة لبعض الأدباء، فقال له:«إياك والتتبع لوحشىّ الكلام طمعا فى نيل البلاغة فإن ذلك هو العىّ الأكبر» . ولعل خير ما يصف بلاغته إجابته لسائل سأله عن البلاغة فقال: «هى التى إذا سمعها الجاهل ظنّ أنه يحسن مثلها» .
والمسألة لا تقف عند وصفه بالبلاغة، فهى أوسع من ذلك وأبعد مدى، إذ كان من أوائل من ثبّتوا الأسلوب الكتابىّ العباسىّ المولّد، وهو أسلوب يقوم على الوضوح وأن تشفّ الألفاظ عن معانيها وأن تخلو من كل غريب وحشىّ ومبتذل
(1) الفهرست ص 182.
(2)
ثلاث رسائل للجاحظ (طبعة فنكل) ص 42.
عامى. ولم يقصر ابن المقفع هذا الأسلوب على ما ينشئه من رسائل ديوانية أو إخوانية، بل عممه فى ترجماته، وبذلك وطّده أقوى توطيد ومكّن له أوسع تمكين، إذ جعله أسلوب النثر العام فى العصر مهما اختلفت فنونه. وكانت غزارة معانيه سببا فى أن يتميز هذا الأسلوب عنده بالإيجاز والاقتصاد الشديد، فالألفاظ بقدر المعانى لا تنقص ولا تزيد، والمعانى تؤدّى أداء فصيحا رصينا، دون قصد إلى الجمال التعبيرى من سجع أو ترادف صوتى. ويظهر أنه على الرغم من زندقته كان يبهره جمال القرآن وصياغاته فاستعار من ألفاظه وأساليبه كثيرا فى جوانب كتاباته حتى فى القصص الحيوانى قصص كليلة ودمنة، وطبيعى أن تبلغ هذه الاستعارة عنده الغاية فى تحميداته التى كان يفتتح بها الرسائل السياسية الرسمية والتى كان يعظّم فيها الدين الحنيف على نحو ما نرى فى هذا التحميد (1):
«الحمد لله ذى العظمة القاهرة، والآلاء الظاهرة، الذى لا يعجزه شئ ولا يمتنع منه، ولا يدفع قضاؤه ولا أمره:({إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).} والحمد لله الذى خلق الخلق بعلمه، ودبّر الأمور بحكمه، وأنفذ فيما اختار واصطفى منها عزمه بقدرة منه عليها وملكة (2) منه لها {(لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)} ولا شريك له فى شئ من الأمور {(يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ)} وما كان للناس الخيرة فى شئ من أمورهم ({سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ)}. والحمد لله الذى جعل صفوة ما اختار من الأمور دينه الذى ارتضى لنفسه ولمن أراد كرامته من عباده، فقام به ملائكته المقرّبون، يعظّمون جلاله ويقدسون أسماءه ويذكرون آلاءه لا يستحسرون (3) عن عبادته ولا يستكبرون ({يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)} وقام به من اختار من أنبيائه وخلفائه وأوليائه فى أرضه يطيعون أمره ويذبّون عن محارمه، ويصدّقون بوعده، ويوفون بعهده ويأخذون بحقه ويجاهدون عدوّه. وكان لهم عند ما وعدهم من تصديقه قولهم وإفلاجه (4) حجّتهم وإعزازه دينهم وإظهاره حقهم وتمكينه لهم، وكان لعدوه وعدوهم عند ما أوعدهم من خزيه وإحلاله بأسه، وانتقامه منهم وغضبه عليهم. مضى على ذلك أمره ونفذ فيه قضاؤه
(1) جمهرة رسائل العرب 3/ 53.
(2)
ملكة: ملك.
(3)
يستحسر بالشئ: يعيا به.
(4)
إفلاجه: نصره.
فيما مضى، وهو ممضيه ومنفذه على ذلك فيما بقى ({يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)} و ({لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).} والحمد لله الذى لا يقضى فى الأمور ولا يدبّرها غيره، ابتدأها بعلمه وأمضاها بقدرته، وهو وليّها ومنتهاها، وولىّ الخيرة فيها والإمضاء لما أحبّ أن يمضى منها ({يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ).} والحمد لله الفتاح العليم العزيز الحكيم، ذى المنّ والطّول (1) والقدرة والحول (2)، الذى لا ممسك لما فتح لأوليائه من رحمته، ولا دافع لما أنزل بأعدائه من نقمته، ولا رادّ لأمره فى ذلك وقضائه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. والحمد لله المثيب بحمده ومنه ابتداؤه، والمنعم بشكره وعليه جزاؤه، والمثنى بالإيمان وهو عطاؤه».
والآيات المقتبسة من الذكر الحكيم كثيرة فى هذا التحميد، وقد وضعناها بين أقواس لتتضح مواضعها، ووراءها ألفاظ كثيرة مستمدة من القرآن الكريم. وبدا عنده هنا شئ من السجع الذى يأتى عفوا سمحا، وكأنما ابتغى هنا التنميق بأكثر مما كان يبتغيه فى ترجماته. ونحن نسوق طائفة من رسائله الإخوانية ليتضح لنا ما كان يبذل فيها من جهد فنى، وأول ما نذكر منها تهنئة بمولودة لأحد أصدقائه على هذا النمط (3):
واقتبس هنا من القرآن كلمة ({الْباقِياتُ الصّالِحاتُ)} وعنى بالإيجاز والاقتصاد الشديد، ومما كتب به فى التعزية عن ولد (4):
(1) الطول: الإنعام.
(2)
الحول: القوة.
(3)
جمهرة رسائل العرب 3/ 57.
(4)
جمهرة رسائل العرب 3/ 58.
(5)
المرزءتين: المصيبتين.
والدقة المنطقية واضحة فى هذه الرسالة مع ما يجرى فيها من طرافة التفكير، فقد جعل الجزع على الولد فجيعة لا تقل عن فجيعة فقده، بل جعلها أعظم وأنكى، إذ تحرم صاحبها الثواب. وتلطّف فدعا لصاحبه أن يعوضه الله من ولده ويخلف عليه بخير منه؛ ومن رسائله الإخوانية البديعة ما كتب به إلى بعض إخوانه يستقضيه حاجة (1):
ودقة التفكير واضحة فى الرسالة، فقد جعل قضاء أخ لأخيه حاجة ليس ممّا يؤديه إليه، وإنما يؤديه إلى نفسه، لقيامه بحقوق أخيه ونهوضه بواجبه نحوه.
ويتحدّث عن بذل المعروف، ويتبادر إليه جحود بعض الناس، فيقول إن المعروف غرس لا بد من حصاده حتى عند من يجحدون ولا يشكرون. ومرت بنا فى الفصل السالف رسائل إخوانية تحوّل بها بعض الكتّاب إلى ما يشبه رسائل أدبية تصف الأخوة والصداقة من حيث هما مفصّلة صفاتهما وشرائطهما، ولابن المقفع قطعة أدبية بديعة فى وصف أحد إخوانه، وفى رأينا أنه لم يصف فيها أخا بعينه، إنما وصف المثل الأعلى للأخ الكامل، أو بعبارة أدق للرجل الفاضل، وهى تمضى على هذه الشاكلة (2):
«إنى مخبرك عن صاحب لى كان أعظم الناس فى عينى، وكان رأس ما عظّمه عندى صغر الدنيا فى عينه. كان خارجا من سلطان بطنه فلا يشتهى ما لا يجد، ولا يكنز إذا وجد. وكان خارجا من سلطان فرجه، فلا يدعو إليه ريبة، ولا يستخفّ له رأيا ولا بدنا، وكان لا يبأشر (3) عند نعمة، ولا يستكين عند
(1) جمهرة رسائل العرب 3/ 60.
(2)
انظر هذا الوصف فى آخر الأدب الكبير. وفى زهر الآداب 1/ 179 وفى جمهرة رسائل العرب 3/ 56.
(3)
يأشر: يبطر.
مصيبة وكان خارجا من سلطان لسانه، فلا يتكلم بما لا يعلم ولا يمارى (1) فيما علم. وكان خارجا من سلطان الجهالة فلا يقدم إلا على ثقة بمنفعة. وكان أكثر دهره صامتا، فإذا نطق بذّ القائلين. وكان يرى ضعيفا مستضعفا، فإذا جدّ الجدّ فهو اللّيث عاديا. وكان لا يدخل فى دعوى، ولا يشارك فى مراء، ولا يدلى بحجة، حتى يرى قاضيا فهما وشهودا عدولا. وكان لا يلوم أحدا على ما قد يكون العذر فى مثله، حتى يعلم ما اعتذاره. وكان لا يشكو وجعا إلا إلى من يرجو عنده البرء، ولا يستشير صاحبا إلا من يرجو عنده النصيحة.
وكان لا يتبرّم، ولا يتسخّط، ولا يتشكّى، ولا يتشهّى. وكان لا ينقم على الولىّ ولا يغفل عن العدو، ولا يخصّ نفسه دون إخوانه بشئ من اهتمامه وحيلته وقوته. فعليك بهذه الأخلاق إن أطقتها، ولن تطيق، ولكنّ أخذ القليل خير من ترك الجميع».
وواضح أن هذا الوصف للرجل الكامل وخصاله يعد درة ثمينة من درر البلاغة العباسية، ومن الخطأ البين أن يقال عن صاحبه وصاحب النصوص التى أسلفناها إنه كان كأحد المستشرقين يتعثر فى أساليبه وتضطرب لغته، ويعييه أحيانا الأداء السليم ويستعصى عليه استعصاء، فقد كانت اللغة العربية تستقيم له، وكان أعجوبة زمانه فى البيان والبلاغة مع الجزالة والنصاعة حينا، وحينا آخر مع العذوبة والرشاقة.
2 -
سهل بن (2) هرون
هو سهل بن هرون بن راهبونى كما جاء فى البيان والتبيين، وفى كتاب البخلاء
(1) يمارى: يجادل.
(2)
انظر فى ترجمة سهل وأخباره البيان والتبيين 1/ 52، 89، 196، 238، 346، 3/ 29 والحيوان 2/ 374، 3/ 66 و 466، 5/ 653، 7/ 202 والفهرست ص 174 وزهر الآداب 2/ 257 - 259 والتنبيه والإشراف للمسعودى (طبع ليدن) ص 76 وعيون الأخبار 3/ 25، 138، 4/ 112 وشرح قصيدة ابن عبدون لابن يدرون (طبعة دوزى) ص 243 والعقد الفريد 5/ 58 وفى مواضع متفرقة (انظر الفهرس) وفوات الوفيات 1/ 181 وسرح العيون فى شرح رسالة-
«راهبون» وفى الفهرست «رامنوى» وفى حياة الحيوان للدميرى «راهويه» . وهو فارسى الأصل، وعلى نحو ما اختلف الرواة فى اسم جده اختلفوا فى مسقط رأسه، فقيل إنه من أهل دستميسان، وهى كورة بين البصرة وواسط والأهواز، وقيل إنه من أهل ميسان قرية بتلك الكورة، وقيل إنه من أهل نيسابور. ولا يعرف تاريخ مولده، وأغلب الظن أنه ولد حوالى منتصف القرن الثانى الهجرى، وقد ترك مسقط رأسه مبكرا إلى البصرة، وأقبل على التزود من ينابيع الثقافة التى كانت منبثّة بها، وخاصة علم الكلام وما نقل عن الأجانب من مختلف الترجمات فارسية ويونانية وهندية، وأخذ هو نفسه يشارك فى ترجمة بعض الرسائل عن لغته الأصلية.
وتجذبه بغداد إليها آملا أن ينال بها شيئا من المجد والشهرة، وسرعان ما يقرّبه يحيى البرمكى وزير الرشيد منه، فيلحقه بالدواوين، حتى إذا أسس الرشيد دار الحكمة عين بها للإشراف على بعض الكتب وبعض ما كان يترجم فيها من الآداب الأجنبية، إذ كان أحد النقلة النابهين من لسانه الفارسى إلى العربية.
وفى أثناء صلته بالبرامكة وبعد نكبتهم سنة 187 للهجرة انعقدت صداقة وثيقة بينه وبين الفضل بن سهل مدبر شئون المأمون ومستشاره وكاتبه، فقدّمه إلى المأمون، فأعجب ببلاغته وصحة منطقه وذكائه، حتى إذا تحوّلت الخلافة إليه وأخذ يعنى بشئون دار الحكمة عنايته الواسعة المعروفة، إذ حولها إلى ما يشبه أكاديمية ضخمة، جعله قيّما على خزائن كتب الفلسفة التى جلبت من قبرص، ليشرف على نقلها إلى العربية. وكان يلزم المأمون فى مجالسه وندواته التى كان يعقدها لكبار العلماء والمتكلمين. وما زال خازنا بدار الحكمة حتى توفى سنة 215 للهجرة.
واشتهر سهل فى زمانه بالحكمة والبلاغة حتى سماه معاصروه بزرجمهر الإسلام، إشارة إلى أنه يحل فى العربية محل بزرجمهر فى الفارسية وما أثر عنه من حكم وأمثال كثيرة، ووصفه الجاحظ فقال: «كان سهل سهلا فى نفسه عتيق الوجه (1)، حسن الشارة، بعيدا من الفدامة (2)، تقضى له بالحكمة قبل الخبرة
= ابن زيدون لابن نباتة (نشر دار الفكر العربى) ص 242 وحياة الحيوان للدميرى 1/ 513 وحولية الجامعة التونسية العدد الأول سنة 1964.
(1)
عتيق الوجه: جميل.
(2)
الفدامة: العى.
وبرقة الذهن قبل المخاطبة وبدقة المذهب قبل الامتحان، وبالنبل قبل التكشف (1)» ووصفه الحسن بن سهل وزير المأمون فقال:«وازن العلم، واسع الحلم، إن حودث لم يكذب، وإن موزح لم يغضب، كالغيث أين وقع، وكالشمس حيث أولت، أحيت، وكالأرض ما حمّلتها حملت، وكالماء طهور لملتمسه وناقع لغلّة من حرّ (2) إليه، وكالهواء الذى تقطف منه الحياة بالتنسم، وكالنار التى يعيش بها المقرور، وكالسماء التى قد حسنت بأصناف النور» . ويقول ابن النديم إنه كان «شعوبى المذهب، شديد العصبية على العرب، وله فى ذلك كتب كثيرة ورسائل فى البخل» وكأنه أراد بتلك الرسائل أن ينقض فضيلة الكرم العربية. وكان البخل سجية وطبعا ركّب فيه، ورويت عنه فى ذلك نوادر كثيرة، منها أن شخصا لقيه، فقال له:
هب لى ما لا ضرربه عليك، فقال: وما هو يا أخى، قال: درهم، فقال سهل:
لقد هوّنت الدرهم، وهو طائع الله فى أرضه لا يعصى، وهو عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف دية المسلم، ألا ترى إلى أين انتهى الدرهم الذى هوّنته، وهل بيوت الأموال إلا درهم على درهم. فانصرف الرجل، ولولا انصرافه لم يسكت سهل. ومن حكاياته العجيبة فى البخل ما حكاه دعبل، قال: «كنا عنده يوما، فأطلنا القعود ولم نبرح، حتى كاد يموت جوعا، فلما اضطررناه قال: يا غلام ويلك غدّنا، فأتاه بصحفة فيها مرق تحته ديك هرم لا تحزّ فيه السكين ولا تؤثر فيه الأضراس، فاطّلع فى الصحفة وقلّب بصره فيها، ثم أخذ قطعة خبز يابس، فقلّب جميع ما فى القصعة، حتى فقد الرأس من الديك. فبقى مطرقا ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام، فقال: أين الرأس؟ فقال: رميت به، قال سهل: ولم رميت به؟ قال: لم أظنك تأكله، قال: ولأى شئ ظننت أنى لا آكله؟ فو الله إنى لأمقت من يرمى برجليه، فكيف من يرمى برأسه، ثم قال له: لو لم أكره ما صنعته إلا للّطيرة (التشاؤم) والفأل لكرهته، الرأس رئيس وفيه الحواس الخمس، ومنه يصبح الديك، ولولا صوته ما أريد، وفيه فرقه الذى يتبرّك به، وعينه التى يضرب بها المثل، يقال شراب
(1) البيان والتبيين 1/ 89.
(2)
حر: عطش، والصفة حران.
كعين الديك فى الصفاء، ودماغه عجيب لوجع الكلية، ولم أر عظما قط أهش تحت الأسنان من عظم رأسه، فهلا إذ ظننت أنى لا آكله ظننت أن العيال يأكلونه؟ وإن كان بلغ من نبلك أنك لا تأكله فإن عندنا من يأكله، أما علمت أنه خير من طرف الجناح ومن الساق والعنق؟ انظر أين هو؟ قال: والله ما أدرى أين رميت به، قال سهل: لكنى أدرى أنك رميت به فى بطنك، والله حسيبك».
ولعل فى هذه النادرة وسابقتها ما يدل على ظرفه، وهو ظرف كان يشوبه بالفكاهة الحلوة أحيانا، وأحيانا بالسخرية المرة، من ذلك أنهم قصّوا عنه أنه حدّث بعض الأمراء، فقال له كذبت، فأجابه على البديهة: إن وجه الكذاب لا يقابلك، يعنى أن الأمير هو الكذاب، لأن وجه الإنسان لا يقابله. وطلب إليه أبو الهذيل العلاّف المتكلم المشهور أن يكتب له رسالة إلى الحسن بن سهل يوصيه فيها به، فلبّى طلبه، ولما تقدم بها إلى الحسن وفضّها وقرأ ما فيها أغرب فى الضحك، إذ وجد سهلا ينهاه عن أن يمدّ لأبى الهذيل العون بأبيات تتحيّفه وتقبض يد قارئها عن مساعدته، استهلّها بقوله:
إن الضمير-إذا سألتك حاجة
…
لأبى الهذيل-خلاف ما أبدى
فامنحه روح اليأس ثم امدد له
…
حبل الرّجاء بمخلف الوعد
حتى إذا طالت شقاوة جدّه
…
وعنائه فاجبهه بالرّدّ
وقال الحسن: هذه صفته لا صفتنا، وأمر لأبى الهذيل بمال، فعاد إليه، وعاتبه، فقال سهل: ترى أين عزب عنك الفهم، أما سمعت قولى: «إن الضمير خلاف ما أبدى، فلو لم يكن ضميرى الخير ما قلت هذا. وهى مغالطة واضحة، غير أنها تدل على قدرته العقلية فى الإتيان بالحجة الصحيحة تارة، والحجة المدخولة تارة ثانية.
وكان سهل يحسن القول نثرا وشعرا، وفيه يقول الجاحظ: «ومن الخطباء الشعراء الذين جمعوا الشعر والخطب والرسائل الطوال والقصار والكتب الكبار المجلدة والسّير الحسان المدّونة والأخبار المولّدة سهل بن هرون بن راهبونى الكاتب صاحب كتاب ثعلة وعفراء فى معارضة كتاب كليلة ودمنة، وكتاب الإخوان وكتاب المسائل
وكتاب المخزومى والهذلية وغير ذلك من الكتب». وذكر ابن النديم من كتبه أيضا «كتاب النّمر والثعلب، وكتاب الوامق والعذراء، وكتاب ندود وودود ولدود وكتاب الضربين وكتاب الغزالين وكتاب أدب أسل بن أسل وكتاب إلى عيسى ابن أبان فى القضاء وكتاب تدبير الملك والسياسة» . وذكر ابن نباتة كتابا له فى سيرة المأمون.
ويظهر أنه عنى فى كثير من كتبه بالقصص على ألسنة الحيوان، مشاكلة لكتاب كليلة ودمنة، وكان من أهم ما وضعه فى ذلك كتاباه:«ثعلة وعفراء» و «النمر والثعلب» وقد أشاد المسعودى بأولهما وقال إنه يزيد على كليلة ودمنة بحسن نظمه. وقد اتخذ من الحيوان وسيلة للعظة والتربية الاجتماعية والسياسية بما يفصّل من الكلام وضرب الحكم والأمثال بالضبط كما صنع واضع كليلة ودمنة، ولم يبق لنا من كتاب ثعلة وعفراء سوى هذه النصيحة:
ويقول الحصرى بعد ذكره لهذه النصيحة: إن هذا الكتاب مملوء حكما وعلما.
وعثر السيد عبد القادر المهيرى حديثا على كتاب النمر والثعلب، ونشر مقتطفات منه مع مقدمة فى العدد الأول من حولية الجامعة التونسية، والكتاب، أو بعبارة أدق القصة تدور على ثلاث شخصيات هى الثعلب الحكيم والذئب الجحود والنمر الطاغى، وتتسلسل القصة تسلسلا دقيقا، فالثعلب كان يعيش مع زوجه فى واد غبر عليه زمان فيه وهو حسن الحال رخى البال، ومر به ثعلب آخر، فأنكر موضع جحره من الوادى ونصحه أن يتحول عنه، مخافة أن يهجم عليه السيل، واستشار زوجه، فأبت عليه التحول، ولم يلبث أن جاء طوفان من السّيل حمله وحده إلى جزيرة لم يسمع بها حسيسا، ولم ير أنيسا، فبات ليلته طاويا حتى أصبح، وبينما يتلفت من حوله إذا ذئب يمرّ به، فتعارفا، وسرعان ما عرف منه أن الجزيرة تمتلئ بالظباء وبقر الوحش غير أنه لا يستطيع أن يصيدها ولا أن
يقربها ولا أن يتجاوز موضعه، لخضوع الجزيرة وكل ما بها من وحش لملك طاغ باغ هو النمر الذى تجبّر وتكبر. وقال له: إننى لا أكلمك الآن إلا فزعا مرتعبا خشية أن يرانا، فلننصرف، ولنلتق غدا فى مكان خفىّ، فالتقيا، وأشار عليه الثعلب أن يقدم على النمر فيتلطف له ويطلب منه ولاية فى الجزيرة يقوم على حكمها ويشاطره خيراتها، ويتخذ منه وزيرا يعينه على إدارتها. ويبدى الذئب خوفه من لقاء الملك الباطش، وما يزال يشجّعه حتى يلقاه. ويعجبه حديثه وما عرض عليه، فيعيّنه واليا على مناهل الظباء. ونحن نسوق هذه القطعة من القصة لندل على أسلوب سهل وطريقته فى هذا القصص الحيوانى الخيالى، وهى تحكى ما حدث بعد لقاء الثعلب للذئب فجأة واتفاقهما على اللقاء، وما كان بينهما من حوار فى هذا اللقاء، وما أثمر الحوار للذئب من الولاية وللثعلب من الوزارة:
«انصرف الثعلب حزينا مغتمّا لما حزره من عداوة النمور وعدم القوت، ثم فكر فقال: إنما يعرف فضل عقل المرء فى شدائد الأمور ونوازل الخطوب، فأما عند الرخاء فما أقرب الجاهل من العالم والأحمق من العاقل، وذلك أن مساعدة الدنيا للجاهل ساترة لنقصه عن زيادة العاقل وحاجبة عن التمييز بينه وبين اللبيب وليس لمثلى قوة على صيد الظباء وبقر الوحش، وإنما يصيد كل امرئ [على] قدره، وليس ههنا إلا طلب الحيلة. فلما أصبح الصبح قصد المكان الذى وعد الذئب فيه والتقيا هنالك عن رقبة (تحفظ) من النمر، فقال له الثعلب» يا أبا الفرّاء كنت مهموما بنفسى، فزادنى اهتماما ما أبثثتنى من حديثك وألقيت إلىّ من سوء حالك، وههنا تدبير إن أعنتنى عليه بهمة صادقة، فلعله أن يعود إلى صلاح، فقال الذئب: وما هو؟ قال الثعلب: ائت النمر، فسله أن يوليك ولاية تردّ عليك نفعا وتردّ لك ذكرا وتكسبك حمدا، قال الذئب: فأين ما أخبرتك عن بخله وشراسة خلقه، وإنه لكما قال القائل: سواء هو والعدم، قال الثعلب: فأعلمه أنك لا تفيد شيئا إلا بعثت إليه بشطره فإن لك فيما يبقى منتفعا وصلاحا، فإن أجابك فلن تعدم منى معونة حسنة وقاما بالذى يجب، وكن كما قال الشاعر:
وليس الرزق عن طلب له حثيث
…
ولكن ألق دلوك فى الدّلاء
تجئك بملثها طورا وطورا
…
تجئ بحمأة وقليل ماء (1)
قال الذئب: يا أبا الصّباح إنه كان يقال: اتقوا مقارفة (2) الحريص الغادر، فإنه إن رآك فى القوة رأى منك أخبث حالاتك. وإن رآك فى الفضول (3) لم يدعك وفضولك، قال الثعلب: يا أبا الفراء: إنه ليس الرأى. . من عاش غير خامل الذكر والمنزلة إذا أفضل على نفسه وأصحابه فهو وإن قلّ عمره طويل العمر، ومن كان عيشه فى ضيق وقلّ خيره على نفسه وعلى الناس فهو وإن طال عمره قصير العمر. قال الذئب: إنه كان يقال: أمور ثلاثة لا يجترئ عليها إلا أهوج ولا يسلم منها إلا قليل: صحبة السلطان وائتمان النساء على الأسرار وشرب السمّ على التجربة. قال الثعلب: قد يبلغ الخضم بالقضم (4)، ويركب الصعب من لا ذلول له. وليس يواظب على باب السلطان أحد، فيلقى عن نفسه الأنفة ويتحمل الأذى ويكظم الغيظ ويرفق بالناس إلا خلص إلى حاجته من السلطان. قال الذئب: إنه كان يقال: لا تغتبط بسلطان من غير عدل، ولا بغنى من غير فضل، ولا ببلاغة من غير صدق، ولا بجود من غير إصابة، ولا بحسن عمل من غير خشية. قال الثعلب: إنه ينبغى للعاقل أن يدارى الزمان مداراة الرجل السابح فى الماء الجارى، وقال المتمثل: أرضى من المركب بالتعلق. قال الذئب: السبب الذى يدرك به العاجز حاجته هو السبب الذى يحول بين الحازم وطلبته. قال الثعلب: المال زيادة فى القوت والرأى، وليس الإخوان والأهل والأعوان إلا مع المال، ولا يظهر المروءة إلا المال، لأن من لا مال له إذا أراد أن يتناول أمرا قعد به العدم فقصّر عنه. قال الذئب: إنّ للسلطان سكرات، فمنها الرضا عن بعض من يستوجب السخط، والسخط عمن يستوجب الرضا، ولذلك قيل: قد خاطر من لجّج فى البحر، وأشدّ منه مخاطرة من صاحب السلطان. قال الثعلب: من لم يركب الأهوال على صعوبتها لم ينل الرغائب، ومن ترك الأمر الذى لعله أن يبلغ فيه حاجته مخافة ما لعله يوقّاه فليس ينال
(1) الحمأة: الطين الأسود.
(2)
مقارفة: مخالطة.
(3)
الفضول: جمع فضل وهو النعمة.
(4)
مثل معناه أن الغاية البعيدة قد تدرك بالرفق. وأصل الخضم الأكل بجميع الفم، والقضم: الأكل بأطراف الأسنان.
جسيما، وقد كان يقال: أعمال ثلاثة لا أحد يستطيعها إلا بمعونة ارتفاع همة وعظم خطر: صحبة الملوك وتجارة البحر ومناجزة العدو. فأعجب الذئب كلامه، فأتى النمر، فشكر له، وأقام بين يديه، وكان لا يعرفه بمثل هذه الذلة. فافتتح الكلام، فقال: أيها الملك إنى لما أنا عليه من المناصحة والموالاة تأملت باب الملك فوجدته خاليا من صالحى الأعوان وثقات الخدم، ولما رأيت الملك كثير الكلف عظيم المؤن رحب الفناء جزل العطاء، وليس له من عبيده من يعينه على مئونته ويكفيه المهم من عمله ندبت نفسى للذى رأيتنى أقوى عليه من حسن السياسة وضبط الناحية التى أتولاها وردّ المنفعة على الملك منها، فأعجب النمر كلامه وطمع فيما وعده، فقال له: صدقت وبررت، وأنا مستكفيك ومقلّدك، فأنظر كيف يكون ضبطك وكفايتك وغناؤك ووفاؤك بما شرطت على نفسك.
اكتب له يا غلام عهده على مناهل الظباء، واجمع له أعمال ما هنالك، فخرج الذئب إلى عمله، واستخلف الثعلب وأحلّه محل الوزير الكاتب».
ومضى الذئب إلى ولايته مستصحبا وزيره، حتى إذا دانت له رعيته واستتبّ أمره وتمكن سلطانه أمسك بما كان يرسله للنمر من الخيرات والطيبات، وراسله النمر وذكّره بعهوده ووعوده، ولكنه ظل سادرا فى غيّه، فكتب إليه يحذره وينذره بالعقاب والنكال، وكان الذئب قد صمم على التمرد ونقض الطاعة، فردّ على النمر بهذه الرسالة العنيفة:
«بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد النبى الكريم، أما بعد فإن كتاب الملك-أمتع الله به-وصل إلىّ بما حذّر فيه وأنذر، وقدّم وأخّر، وفهمته، وقد كان الملك-حفظه الله-أسند إلىّ أمر هذا الثغر المخوف على حين انتشار من العدوّ به، وانقطاع من سبله، واختلاف من الكلمة بين أهله وتفرق من الأهواء فيه، فرأبت (1) صدع الآفة، وجمعت شمل الطاعة وكشفت دجية (2) الفتنة وأسغت الريق بعد الشّجا (3)، وقمعت أولى العداوة والبغضاء، وأقمت حقّا كان معلمه (4) متروكا، ودمغت ضلالة كان طريقها
(1) رأيت: أصلحت.
(2)
الدجية: الظلمة.
(3)
الشجا: الغصة وما يعترض فى الحلق.
(4)
معلمه: مفرد معالمه.
مسلوكا، ألتمس بذلك جزيل الثواب وكريم المآب ورضا الملك والزلفة عنده، فعاد ما عملته هباء، ولم أجد منه شيئا مشكورا، وما يقعقع لمثلى بالشّنان (1) وإنى لألوى بعيد المستمرّ (2) فإن يستتم الملك صنيعته ويربّ (3) نعمته فأنا بين العصا ولحائها (4)، وإلا فسيجدنى جذل حكاك (5) إذا نكأت (6) قرحة أدميتها، أحمر (7)، ضرابا بالسيف، والسلام».
فلما قرأ النمر الرسالة عرف أنه عزم على الانتقاض عليه فجمع وزراءه، وكانوا ثلاثة، فاستشارهم فى أمره، فأشار الأول بالكتابة إليه فى إيجاز لتبيّن دخيلة أمره وحقيقة موقفه إن سلما فسلم وإن حربا فحرب، وأشار الثانى بالصفح عن زلّته، فإن الحرب سجال، وهى حتى على الظافر خسارة فى الأموال والرجال، وأشار الثالث بمحاربته قبل استفحال أمره وحتى لا يظن غيره من الولاة أن بالنمر ضعفا، فيحاكوه ويسقطوا عن ظهورهم فرائض السلطان وخراجه، وأخذ النمر بقول الوزير الأول، فكتب إلى الذئب رسالة، نسختها:
ولجّ الذئب فى عصيانه، ونشبت بينه وبين النمر معارك حامية الوطيس، انتهت بمقتله والقبض على الثعلب وزيره ومدبر أموره، وكاد أن يقتل لولا ما لا حظ النمر من ذكائه ودقة تفكيره، مما جعله يعده أن يبقى على حياته إن هو أحسن الإجابة على ما يلقى عليه من أسئلة. وتتوالى الأسئلة فى الإنسان والعقل وحظ العقلاء منه وتفاضلهم فيه وفى مكانة العقل من العلم وأثره فى سلوك الإنسان وشيمه الخلقية وما يصيبه من خير أو شر. وتلقانا فى هذه الإجابات طرافة تفكير سهل
(1) الشنان: جمع شن وهو الجلد اليابس. وقعقع: ضرب. وكانوا إذا ضربوا عليه نفرت الإبل، ويضرب ذلك مثلا لمن لا يرهبه وعيد ولا إنذار ولا تخويف.
(2)
ألوى: عسر، يلتوى على خصمه. بعيد المستمر: قوى فى الخصومة.
(3)
يرب: ينمى ويزيد.
(4)
لحاء العصا: قشرها. والكناية واضحة.
(5)
الجذل: أصل الشجرة. حكاك من الحك وهو الدلك. وجذل حكاك: مثل يضرب لمن يستشفى برأيه.
(6)
نكأ القرحة: قشرها قبل أن تبرأ.
(7)
كنى بالحمرة عن البأس الشديد
ودقته وتعمقه، ومن خير ما يصور ذلك حديثه عن تفاضل العقول والعقلاء ونزولهم فى درجات متفاوتة تفاوتا بعيدا، ومع ذلك يطلق عليهم جميعا اسم واحد، يقول موردا السؤال والإجابة، ومنتهيا إلى أن العقل الكامل من صفات الله وحده.
«أخبرنى عن العقل أهو شئ إذا نال الإنسان أدناه فقد بلغ أقصاه أم الناس فى نيله مستوون أم متفاضلون؟ قال: بل متفاضلون. قال: فكيف دعى ذو الحظ اليسير منه باسم ذى الحظ الكبير، فقيل لهما عاقلان وهما فى العقل متباينان؟ فهل يقع اللقب الواحد على ذوى الدرجات الشتى؟ قال: نعم، وليس ذلك بخطأ من القائل، لأن هذه الدرجات الشتى من جنس واحد، واللغة تضيق عن هذا وما أشبهه أن يدعى كل ذى درجة من درجات الجنس الواحد بلقب غير لقب الآخر، ولو كلّفت اللغة ذلك لطال الكلام. . . لتوزع المعنى المستوجب للاسم ولكنها شملتها كلها باللقب الواحد ودعت المختلفين فيه باسم واحد. قال: فكيف يعرف الناقص من الزائد وقد جمعهما اسم واحد؟ . قال:
بالتمييز وكشف المعرفة، ومثل ذلك فى اللغة ما يدعى به أهل صناعة من الاسم الواحد وهم فى تلك الصناعة متباينون فى التفاوت، إذ يقال: بناة ونجّارون وتجار وخياطون، ولكل منهم على صاحبه فضل أو عليه له فضل. فالناس كلهم مستوون فيما يلحقهم من النقص فى العقل، وهم فيما أتوا منه متفاضلون، أحدهم فيه أكثر حظّا منه. قال: كيف مدّت هذه الغاية ومنع ذوو العقل بلوغها؟ قال: لأن الغاية كمال، والكمال صفة لا تصح إلا للخالق، ولا يستوى الخالق والمخلوق فى صفته، تعالى الله عن ذلك».
وواضح ما أودعه سهل هذه القصة الحيوانية من تصوير لحكم الملوك المتجبرين والولاة المتمردين وحيل الوزراء الدهاة، مستخلصا فى ثنايا ذلك كثيرا من العظات وناثرا كثيرا من الحكم والأمثال. وهو يبتغى بذلك نفس الغاية التى ابتغاها واضع كليلة ودمنة من نصح الملوك والحكام عن طريق ما يجرى على ألسنة الحيوان من مقت الظلم والبغى وسوء السيرة ومحبة العدل والإنصاف. وهو يتعمق أكثر مما تعمق صانع كليلة ودمنة، إذ يعرض للعلم والجهل والعقل وإرشاده الإنسان إلى الخير وصرفه عن طريق الشر. والقصة مشوفة لا بما فيها من حوار فحسب، بل بطرافة الحوار
وما يجرى فيه من حيل وأفكار دقيقة نادرة. وفى أسماء كتب سهل التى ذكرناها آنفا ما يدل على أنه أجرى بعض قصصه على ألسنة الإنسان مباشرة على نحو ما يدل على ذلك اسم كتابه «المخزومى والهذلية» واسم كتابه الثانى: «الوامق والعذراء» .
واحتفظ الجاحظ فى أول كتابه البخلاء برسالة طويلة له يحتج فيها للبخل وينصره على الكرم، ومرّ بنا ما يقال من أنه كتبها شعوبية على العرب، إذ حاول فيها أن يهدم فضيلة الكرم العربية هدما. ويذكر الرواة أنه قدمها إلى الحسن ابن سهل يرجو مكافأته عليها، فكتب له على ظهرها:«وصلت رسالتك ووقفنا على نصيحتك وقد جعلنا المكافأة عنها القبول منك والتصديق لك» . ونراه فى فاتحتها يتوجّه بالحديث فيها إلى بنى عمه، وظن القدماء أنه يريد بنى عمه الحقيقيين من آل راهبون، وأغلب الظن أنه يقصد العرب. وقد مضى يذكر أنه إنما يقصد هدايتهم وأنه إن أخطأه سبيل إرشادهم فلن يخطئه سبيل حسن النية، ثم أخذ يورد دفاعه عن البخل ومحاسنه، مستعينا بقدرته على الجدل وصنع الحجج المنطقية وبما حفظ من بعض أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وهم إنما كانوا يريدون الاقتصاد وعدم الشطط فى الإسراف، أما البخل فلا يرضاه التابعون ولا الصحابة فضلا عن الرسول الكريم الذى حضّ على البذل والإيثار والسخاء بكل ما فى اليد، كما حضّ القرآن الكريم لا على الصدقات فحسب، بلى على الاتساع بالإطعام وتقديم الماعون، وصوّر المثل الأعلى فى ذلك فقال جلّ شأنه:({وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)}. وكل ذلك كان يعرفه سهل معرفة دقيقة، غير أنه كان يريد الدفاع عن البخل، فاختار من أقوال الرسول صلى الله عليه والصحابة والتابعين ما قد يشهد له، وهو إنما يشهد على زهادتهم فى الدنيا وصغر متاعها فى أعينهم حتى بعد إقبالها عليهم، وفرق بين الزهد والبخل والحرص والشح، ونحن نسوق قطعة من هذه الرسالة، لنطلع من جهة على قدرته فى الجدل والحجاج، ومن جهة ثانية على قدرته البيانية، يقول:
«وعبتمونى حين ختمت على سدّ (1) عظيم وفيه شئ ثمين من فاكهة نفيسة
(1) السد: السلة.
ومن رطبة (1) غريبة على عبد نهم (2) وصبى جشع وأمة لكعاء (3) وزوجة خرقاء (4). وليس من أصل الأدب ولا فى ترتيب الحكم ولا فى عادات القادة ولا فى تدبير السّادة أن يستوى فى نفيس المأكول وغريب المشروب وثمين الملبوس وخطير المركوب والناعم من كل فن واللباب من كل شكل التابع والمتبوع والسيد والمسود كما لا تستوى مواضعهم فى المجالس ومواقع أسمائهم فى العنوانات وما يستقبلون به من التحيات. . وعبتمونى بخصف (5) النعال وبتصدير (6) القميص، وحين زعمت أن المخصوفة من النعل أبقى وأوطأ (7) وأقوى وأنفى للكبر وأشبه بالنّسك، وأن الترقيع من الحزم، وأن الاجتماع مع الحفظ. وأن التفرق مع التضييع. وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويقول:«لو أتيت بذراع لأكلت، ولو دعيت إلى كراع (8) لأجبت» ولقد لفقت (9) سعدى بنت عوف إزار طلحة (10) وهو جواد قريش، وهو طلحة الفياض، وكان فى ثوب عمر رقاع أدم وقال: من لم يستحى من الحلال خفّت مؤونته وقلّ كبره، وقالت الحكماء: لا جديد لمن لم يلبس الخلق (11). . فترقيع الثوب يجمع مع الإصلاح التواضع، وخلاف ذلك يجمع مع الإسراف التكبر، وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكسبين، كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارين. . وعبتمونى حين قلت: لا يغترّنّ أحدكم بطول عمره وتقوس ظهره ورقة عظمه ووهن قوته وأن يرى أكرومته (12) فيدعوه ذلك إلى إخراج ماله من يديه وتحويله إلى ملك غيره وإلى تحكيم السّرف فيه وتسليط الشهوات عليه فلعله أن يكون معمّرا وهو لا يدرى، وممدودا له فى السنّ وهو لا يشعر، ولعله أن يرزق الولد على اليأس أو يحدث عليه بعض مخبّآت الدهور، مما لا يخطر على البال ولا تدركه العقول فيسترده ممن لا يرده، ويظهر الشكوى إلى من لا يرسمه أضعف ما كان عن
(1) الرطبة: التمر المرطب.
(2)
نهم: شره.
(3)
لكعاء: لئيمة.
(4)
خرقاء: حمقاء.
(5)
خصف النعال: ترقيعها وإصلاحها
(6)
تصدير القميص: ترقيع صدره.
(7)
أوطأ: ألين.
(8)
الكراع: مستدق الساق.
(9)
لفقت: ضمت جانبا منه إلى آخر وخاطتهما.
(10)
هو طلحة بن عبيد الله كان غيثا مدرارا فى الكرم فلقب بالفياض.
(11)
الخلق: البالى.
(12)
الأكرومة: فعل الكرم.
الطلب، وأقبح ما يكون به الكسب، فعبتمونى بذلك وقد قال عمرو بن العاص:
اعمل لدنياك عمل من يعيش أبدا، واعمل لآخرتك عمل من يموت غدا. . وعبتمونى حين زعمت أنى أقدّم المال على العلم، لأن المال به يقاد العلم، وبه تقوم النفوس قبل أن تعرف فضل العلم، فهو أصل والأصل أحق بالتفضيل من الفرع، وأنى قلت: إن كنا نستبين الأمور بالنفوس فإنا بالكفاية نستبين وبالخلة (1) نعمى (2).
وقلتم: كيف تقول هذا وقد قيل لرئيس الحكماء ومقدّم الأدباء: العلماء أفضل أم الأغنياء؟ قال: بل العلماء، قيل: فما بال العلماء يأتون باب الأغنياء أكثر مما يأتى الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: لمعرفة العلماء بفضل الغنى ولجهل الأغنياء بفضل العلم. فقلت: حالهما هى الفاصلة بينهما، وكيف يستوى شئ ترى حاجة الجميع إليه وشئ يغنى بعضهم فيه عن بعض. . وعبتمونى حين قلت إن فضل الغنى على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون فى الدار، إن احتيج إليها استعملت، وإن استغنى عنها كانت عدّة. . وقال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى فلو لم يكن لك فيه إلا أنه عزّ فى قلبك وذلّ فى قلب عدوك لكان الحظ فيه جسيما والنفع فيه عظيما. ولسنا ندع سيرة الأنبياء وتعليم الخلفاء وتأديب الحكماء لأصحاب الأهواء».
وبمثل هذه الحجج دافع سهل عن البخل، وهى حجج يستمد فيها من المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وعن حكماء الأمم القديمة وخاصة حكماء أمته الفارسية، مما يدل على اتساع ثقافته. وليس هذا ما يلفتنا وحده فى تلك الحجج فإنه يلفتنا فيها أيضا قدرته المنطقية التى تتضح فى إيراد الأقسام المتقابلة إيرادا مستقصيا، كما تتضح فى استخدام الأقيسة وتصحيح الأدلة استخداما دقيقا، وفى تضاعيف ذلك تتضح غزارة فكره وكأنه يستمد من معين لا ينضب، كما يتضح إلحاحه على المعانى حتى لكأنه يريد أن يحصرها ويحيط بكل دقائقها، وتأمل فى رده على من يستحثّ الهرم على إنفاق ماله على الناس وفى الملذات، وفى الوجوه التى وضعها تحت عينه مخوّفا له ومحذرا من تضييع ماله، فستراه يجمع هذه الوجوه فى استقصاء وتفصيل دقيق، فهو قد يعمّر، وقد يرزق الولد، وقد
(1) الخلة: الحاجة والفقر.
(2)
نعمى: نضل.
تنزل به بعض الكوارث، وحينئذ إما أن يحاول استرداد ماله من بعض من أعطاه لهم. ويردّ خائبا محسورا. وإما أن يشكو إلى بعض الناس قلته ولكن لن يرحموه، وفى الحالين يكون قد ضعف عن الكسب وطلب الرزق وبذلك ضيّق سهل الأبواب على من يتسع فى العطاء والإنفاق حين تتقدم به السن، بل لقد أغلقها إغلاقا إلا بابا واحدا فتحه على مصاريعه هو باب الشح. وتؤديه غزارة معانيه وأفكاره وحججه وأدلته إلى أن يثير موضوعا طريفا، هو الموازنة بين العلم والمال وأيهما أفضل من صاحبه، ويورد من الأدلة ما يجعل المال يفضل العلم، ويقتبس من الفقهاء حديثهم عن الأصول والفروع، فيجعل المال الأصل والعلم والفرع، ولا يستوى فرع وأصل. وسهل فى ذلك كله يرينا تطور العقل فى العصر العباسى ومدى ما أصابه من رقى ومن نمو ومن ثراء ومن قدرة على الحجاج وبسط الأدلة، حتى ليتحول الكاتب بإزاء بعض الموضوعات إلى ما يشبه مناظرا جدلا، لا يزال يورد من الحجج والأدلة المنطقية ما يحاول به أن يفحم خصمه ويقهره. ويظهر أن هذه الطريقة استقرّت فى نفس سهل بتأثير المتناظرين من المتكلمين فى عصره وكثرة مناظراتهم فى كل شئ، فى العقيدة وغير العقيدة، وكان يرى الناس من حوله يعجبون بالظافر المنتصر على خصمه، وخاصة حين يدافع عن رأى ضعيف، فينصره نصرا مؤزرا، على نحو ما نصر البخل على الكرم، ومن أجل ذلك نفتح الباب للظن بأنه ربّما لم ينصره شعوبية على العرب، وإنما نصره إظهارا لقوة جدله ومقدرته فى صوغ الأدلة وتأليف الحجج والبراهين، أو على الأقل كان بيان قدرته على الدفاع عن البخل الأثيم أقوى فى نفسه من الطعن على فضيلة الكرم العربية. ومما يوضع هذا الجانب عنده أن نراه يفضل الزجاج على الذهب فى رسالة طويلة وكان سبب كتابته لها أن رأى النظّام يذم الزجاج، كما رأى شدادا الحارثى يطنب فى وصف الذهب، فكتب هذه الرسالة معارضة لهما ونصرة للزجاج الضعيف، وقد سقطت من يد الزمن إلا قطعة منها رواها صاحب سرح العيون، وهى تمضى على هذا النمط:
«الزجاج مجلوّ نورى، والذهب متاع سائر، والشراب فى الزجاج أحسن منه فى كل معدن، ولا يفقد معه وجه النديم، ولا يثقل اليد، ولا يرتفع فى
السّوم (1) واسم الذهب يتطيّر منه، ومن لؤمه سرعته إلى اللئام، وهو فاتن فانك (2) لمن ضانه، وهو أيضا من مصايد إبليس، ولذلك قالوا: أهلك الرجال الأحمران (3).
والزجاج لا يحمل الوضر (4)، ولا يداخله الغمر (5) ومتى غسل بالماء وحده عاد جديدا، وهو أشبه شئ بالماء، وصفته عجيبة، وصناعته أعجب»
ولسهل بجانب رسائله الأدبية الطويلة رسائل إخوانية يتضح فيها جمال التعبير ودقة التفكير على نحو ما نرى فى الرسالة التالية (6)، وقد كتب بها إلى صديق تماثل للشفاء من مرض:
وواضح ما فى هذه الرسالة الموجزة من الغوص على المعانى، فهو يقابل بين خبر المرض وخبر الشفاء، وكيف شغلته حركة القلق مع الخبر الأول عن السكون وراحته مع الخبر الثانى، وكيف أذهلته الحيرة وكربها أولا عن المسرة ومتعتها ثانيا. ويقول إن ما دخله من تغير فى الحالين يقاس بارتياعه مع بدء العلة وارتياحه مع انحسارها. وهو فى جميع جوانب كتاباته شديد الغوص والتدقيق فى معانيه، وجاء السجع على لسانه فى أكثر هذه الرسالة، وهو إنما يجئ عنده أحيانا عفوا.
وليس معنى ذلك أنه لم يكن يعنى بتوفير الجمال لأساليبه فهو من هذه الناحية يتقدم ابن المقفع خطوات. إذ يعنى ببسط عباراته، حتى يجرى فيها ضروبا من التقطيعات والتوقيعات الصوتية ومن أجل ذلك يكثر عنده الترادف، حتى يصل إلى ما يريد من ازدواج وإيقاعات متقابلة، ودائما حين نقرؤه يلذ عقولنا بغزارة معانيه ودقتها كما يلذ أسماعنا بجرس كلامه وحسن أدائه وما يكفل له من تلوينات صوتية بديعة.
(1) السوم: المساومه فى البيع.
(2)
فانك: غالب.
(3)
الأحمران: الذهب وطيب الزعفران.
(4)
الوضر: الوسخ.
(5)
الغمر: الدسم.
(6)
انظرها فى سرح العيون ص 245.
(7)
الفترة: الوعكة والضعف.
3 -
أحمد (1) بن يوسف
هو أحمد بن يوسف بن صبيح الكاتب الكوفى مولى بنى عجل، وقد ألممنا بأبيه فى الفصل الماضى وقلنا إنه كان يكتب فى دواوين الكوفة لولاة بنى أمية، ثم لما تحولت مقاليد الخلافة إلى العباسيين كتب لعبد الله بن على ثم التحق بدواوين المنضور، وظل يكتب فى دواوين المهدى والهادى، ولمع نجمه فى عصر الرشيد والبرامكة، فكان يخلف يحيى البرمكى على الدواوين فى قصره وقصر الرشيد.
ولا نعرف بالضبط متى ولد له ابنه أحمد، ويغلب أن يكون ميلاده حول منتصف القرن الثانى للهجرة، ويظهر أنه عنى بتأديبه عناية واسعة، كى يصلح للعمل فى الدواوين على شاكلته، فأخذه بثقافة عربية دقيقة حتى غدا شاعرا يحسن نظم الشعر وصوغه، كما أخذه بثقافة إسلامية واسعة، حتى يعرف الحدود وأحكام أهل الذمة وأصول الدين وفروعه، وأخذه أيضا بثقافة رياضية واسعة تعينه فى الخراج وشئونه.
ولا بد أن يكون قد أخذه بثقافات العجم مما يتصل بآداب السياسة وبكتب الفلسفة والحكمة، ولا بد أن يكون أيضا قد أخذه بآداب اللياقة حتى يحسن مخاطبة الخلفاء والوزراء، وحتى الخطّ نراه يوجهه إلى إتقانه مما جعله يشتهر مع فصاحته وبلاغته بحسن خطه، ويروى أن قائلا قال له يوما: ما أدرى ممّ أعجب، مما وليه الله من حسن خلقك أو مما وليته من تحسين أخلاقك.
وعلى هذا النحو أعدّ أحمد بن يوسف ليكون مثالا للكاتب الحاذق النابه، وأغلب الظن أن أباه ألحقه بالدواوين معه، وأنه كتب بين يديه فى دواوين الرشيد، وأعجبت الفضل بن سهل مدبر شئون المأمون نجابته، فالتقطه وحثّه على التحول معه ومع المأمون إلى مرو حين اتخذها قاعدة لولايته على شرقى الدولة كى يكتب فى
(1) انظر فى ترجمة أحمد بن يوسف وأخباره كتاب الأوراق للصولى (قسم الشعراء) ص 143، 206 وكتاب بغداد لطيفور فى مواضع متفرقة (انظر الفهرس) وتاريخ بغداد للخطيب البغدادى 5/ 216 والأغانى (طبعة الساسى) 20/ 56 وزهر الآداب 2/ 130 والفخرى ص 169 ومعجم الأدباء لياقوت 5/ 161 وغرر الخصائص الواضحة للوطواط ص 109 وانظر الجهشيارى ص 304 والعقد الفريد 2/ 145
دواوينه، وأذعن لرغبته، وظل يعمل فى الدواوين هناك، حتى بعث طاهر بن الحسين فى سنة 198 إلى المأمون برأس أخيه الأمين؛ فلما رآها تأثر، وقال للفضل ابن سهل: ينبغى أن تأمر الكتّاب بكتابة رسالة عن طاهر يخبرنى فيها بهذا الخبر، مع الاحتيال للاعتذار منه، لتقرأ على الناس، فكتب الكتّاب عدة كتب لم يرضها الفضل واستطالها. ولم يلبث أحمد بن يوسف أن كتب رسالة محكمة موجزة فى شبر من قرصاس كما يقول بعض الرواة، فلما عرضها على الفضل رجّع نظره فيها مستحسنا متعجبا من بلاغته ودقة بيانه، ثم قال له: ما أنصفناك وأمر بصلات وفرش وكسى وآلات. وقال له: إذا كان الغد فاقعد فى الديوان وليقعد جميع الكتاب بين يديك، واكتب بذلك إلى الآفاق.
ويدور العام، فيجعل المأمون الحسن بن سهل نائبه على بغداد، نميصطحبه معه، وكأنّ أخاه الفضل آثره به، ليعينه فى عمله، ويكتب له فى دواوينه.
ويقدم المأمون إلى بغداد بعد خمس سنوات، فيصبح كاتبه على ديوان الرسائل كما يصبح أثيرا عنده قريبا من نفسه، لظرفه ورقته. وكان فيه ميل شديد إلى الترف فعاش عيشة يحفها النعيم فى الفرش وأوانى الطعام وألوانه. وشارك فى متاع عصره من الشراب والسماع للقيان، ولكن دون إغراق ومع الاحتفاظ بمروءته وكرامته.
ولما توفى أحمد بن أبى خالد وزير المأمون سنة 211 شاور الحسن بن سهل فيمن يخلفه على الوزارة فأشار عليه بابن يوسف، فاستوزره ورفع منزلته، فكان يعرض القصص أو رفاع الشكوى عليه، ويوقع عليها بما يلائمها من العبارات، غير أنه لم يلبث أن وافاه القدر سنة 213 للهجرة، ويقال إنه أشرف، وهو على وشك الاحتضار على بستان داره وكانت مطلة على دجلة، فظل يتأمله ويتأمل دحلة، ثم تنفس، وقال:
ما أطيب العيش لولا موت صاحبه
…
ففيه ما شئت من عيب لعائبه
وسرعان ما التقمه الموت. ولأخيه القاسم الشاعر رثاء له يتفجع فيه تفجعا، وكانت له جارية يقال لها نسيم كانت تحظى بحبه ويشغف بها شغفا شديدا، فقالت ترثيه:
ولو أن ميتا هابه الموت قبله
…
لما جاءه المقدار وهو هيوب
ولو أن حيّا قبله جازه الرّدى
…
إذن لم يكن للأرض فيه نصيب
وهو يعدّ فى الذروة من كتّاب الدواوين فى العصر العباسى الأول. لبلاغته ودقة تفكيره وحسن تأتيه فى الرسائل الديوانية السياسية والرسائل الإخوانية الشخصية، وأول ما نقف عنده رسالته التى أشرنا إليها آنفا، والتى كتبها للناس على لسان طاهر بن الحسين، وهى تجرى على هذه الصورة (1):
«أما بعد، فإن المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين فى النّسب واللّحمة (القرابة) فقد فرّق حكم الكتاب والسّنّة بينه وبينه فى الولاية والحرمة، لمفارقته عصمة الدين، وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين، يقول الله عز وجل فيما اقتصّ علينا من نبأ نوح وابنه:{(يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ)} ولا صلة لأحد فى معصية الله، ولا قطيعة ما كانت القطيعة فى ذات الله.
وكتبت إلى أمير المؤمنين، وقد قتل الله المخلوع وردّاه (2) رداء نكثه، وأحصد (3) لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له ما كان ينتظر من وعده، فالأرض بأكنافها (4) أوطأ مهاد لطاعته، وأتبع شئ لمشيئته. . . والحمد لله الآخذ لأمير المؤمنين بحقه، والكائد له من خان عهده ونكث عقده، حتى ردّ به الألفة بعد فرقتها، وجمع به الأمة بعد شتاتها، وأحيا به أعلام الدين بعد دروسها (5)، والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته».
ودقة التعبير واضحة فى الرسالة، وكذلك المهارة فى تصوير عصيان الأمين والربط بينه وبين عصيان ابن نوح وما وصفه به القرآن من دفعه عن بنوّة أبيه وقرابته. وبذلك لم تعد للأمين ولاية ولا حرمة، فقد خرج من أهله، وهو إنما تولى الخلافة ميراثا منهم، وقد نكث عهده فى الوفاء لأخيه بولاية العهد من بعده، هذا العهد الذى كتبه بيده وعلّقه أبوه هرون على الكعبة، حتى لا يستطيع الخروج منه، وقد نال الجزاء خيانته، وعادت الأمور إلى نصابها، فاجتمعت كلمة الأمة
(1) زهر الآداب 2/ 130 ومعجم الأدباء 5/ 167 والجهشيارى ص 304.
(2)
ردّاه: ألبسه.
(3)
أحصد: قوى وأحكم.
(4)
أكنافها: نواحيها.
(5)
دروسها: امحائها.
بعد فرقتها وردّ صولجان الحكم إلى صاحبه تحوطه عناية الله ورعايته. وكان توفيق أحمد بن يوسف فى هذه الرسالة دافعا لأن يطلب منه المأمون والفضل بن سهل أن يكتب رسالة الخميس، وهى الرسالة التى كان يوجهها خلفاء العصر العباسى الأول بمجرد توليهم الخلافة إلى أهل خراسان مادّة جيوشهم وغيرهم يبسطون فيها حقّهم فى الخلافة واستحقاق الخليفة القائم لها لما امتاز به من مناقب حميدة وما ينبغى على أهل خراسان من الولاء له. وأحكم ابن يوسف الرسالة إحكاما دقيقا، وطال فيها نفسه حتى بلغت نحو خمس عشرة صحيفة، وأعجب بها معاصروه إعجابا شديدا مما جعل ابن النديم يقول: «الكتب المجمع على جودتها: عهد أردشير، كليلة ودمنة، رسالة عمارة بن حمزة الماهانية، اليتيمة لابن المقفع، رسالة الخميس لأحمد بن يوسف، وقد استهلّها بتحميد طويل طريف على هذا النمط (1):
«من عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين إلى المبايعين على الحق والناصرين للدين، من أهل خراسان وغيرهم من أهل الإسلام: سلام عليكم فإن أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلى على محمد عبده ورسوله، أما بعد فالحمد لله القادر، القاهر، الباعث، الوارث، ذى العزّ والسلطان، والنور والبرهان، فاطر (2) السموات والأرض وما بينهما، والمتقدم بالمنّ والطّول (3) على أهلهما، قبل استحقاقهم لمثوبته، بالمحافظة على شرائع طاعته. الذى جعل ما أودع عباده من نعمته، دليلا هاديا لهم إلى معرفته، بما أفادهم من الألباب (4)، التى يفهمون بها فصل الخطاب، حتى أقيموا على موارد الاختبار، وتعقّبوا مصادر الاعتبار، وحكموا على ما بطن بما ظهر، وعلى ما غاب بما حضر، واستدلوا بما أراهم من بالغ حكمته، ومتقن صنعته، وحاجة متزايل (5) خلقه ومتواصله إلى القوم (6) بما يلمّه ويصلحه، على أن له بارئا (7) هو أنشأه، وابتدأه، ويسّر بعضه لبعض، فكان أقرب وجودهم ما يباشرون من أنفسهم فى تصرّف أحوالهم، وفنون انتقالهم، وما يظهرون (8) عليه من العجز عن التأتّى (9) لما تكاملت
(1) جمهرة رسائل العرب 3/ 377.
(2)
فاطر: خالق.
(3)
الطول: الإنعام.
(4)
الألباب: العقول.
(5)
متزايل: متفرق.
(6)
القوم: القيام.
(7)
بارئا: خالقا.
(8)
يظهرون: يطلبون.
(9)
التأتى: الترفق.
به قواهم، وتمت به أدواتهم، مع أثر تدبير الله عز وجل وتقديره فيهم، حتى صاروا إلى الخلقة المحكمة، والصورة المعجبة، ليس لهم فى شئ منها تلطّف يتيمّمونه، ولا مقصد يعتمدونه من أنفسهم، فإنه قال تعالى ذكره:{(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ).} ثم ما يتفكّرون فيه من خلق السموات، وما يجرى فيها من الشمس والقمر والنجوم مسخرات، على مسير من تصاريف الأزمنة التى بها صلاح الحرث والنّسل وإحياء الأرض ولقاح النبات والأشجار، وتعاور (1) الليل والنهار، ومرّ الأيام والشهور والسنين التى تحصى بها الأوقات. ثم ما يوجد من دلائل التركيب فى طبقات السقف (2) المرفوع، والمهاد (3) الموضوع، باتساق أجزائه والتئامها، وخرق الأنهار وإرساء الجبال. ومن البيان الساهد على ما أخبر الله عز وجل به من إنشائه الخلق حدوثه بعد أن لم يكن، مترقيا فى النماء، وثباته إلى أجله فى البقاء، ثم محاره (4) منقضيا إلى غاية الفناء. ولو لم يكن له مفتتح عدد، ولا منقطع أمد، ما ازداد بنشوء ولا تحيّفه نقصان، ولا تفاوت على الأزمان.
ثم ما يوجد عليه منفعته من ثبات بعضه لبعض وقوام كل شئ منه بما يسّر له فى بدء استمداده، إلى منتهى نفاده، كما احتج الله عز وجل على خلقه، فقال:
{(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً)} وقال عز وجل: {(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).} وكل ما تقدّم من الإخبار عن آيات الله عز وجل ودلالاته فى سمواته التى بنى، وأطباق الأرض التى دحا (5)، وآثار صنعه فيما برأ، وذرأ (6)، ثابت فى فطر العقول حتى يستجرّ أولى الزّيغ ما يدخلون على أنفسهم من الشّبهة فيما يجعلون له من الأضداد، والأنداد، جل عما يشركون. ولولا توحّده بالتدبير، عن كل معين وظهير، لكان الشركاء جدراء أن تختلف بهم إراداتهم فى الخلق، ولأمكن التخلف فيه من إثبات وإزالة فيخلو من أحد وجهيه، وأيهما كان فيه فالعجز والنقص فيما ذرأه وبرأه، جلّ البديع خالق الخلق ومالك الأمر عن ذلك، وتعالى
(1) تعاور: تداول.
(2)
السقف المرفوع: السماء.
(3)
المهاد الموضوع: الأرض.
(4)
محاره: رجوعه.
(5)
دحا: بسط.
(6)
برأ وذرأ: خلق.
علوّا كبيرا، كما قال سبحانه:{(مَا اِتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمّا يَصِفُونَ)} ».
وواضح أن أحمد بن يوسف تحوّل بهذا التحميد إلى ما يشبه مقالة من مقالات المتكلمين، فهو يورد فيه الحجج على وجود الله الذى أنشأ العالم وخلق الإنسان فى صورة مقدرة محكمة، وقد أعطاه من العقل ما يجعله إذا فكر فى خلق السموات والأرض يؤمن بأن للعالم إلها، لما يجرى فى أفلاكه من نظام دقيق لا بد له من منظم، أحكم تصاريف الأوقات التى يتم بها صلاح كل حى فى الأرض من إنسان وحيوان ونبات كما أحكم صنعة الكون فى عالم السماء وعالم الأرض بما مهد فيه من سهول وخطّ من أنهار وأرسى من جبال. ويتعمق فى الدلالة على وجود الخالق البارئ وإنشائه للخلق أنهم يحدثون بعد أن كانوا معدومين وأنهم لا يزالون يرقّون فى النمو حتى تمتد لهم يد الفناء، فلا بد من محدث لهم، وفرق واضح بينه وبين الحادث، فالحادث له أول وله آخر، أو كما يقول:«مفتتح عدد، ومنقطع أمد» أما المحدث فلا أول له فى الزمن ولا آخر. وهو مصدر الوجود وقوامه، وهو مدبّره ومصرّفه. ويقول إن كل ما ذكره من دلالات على وجود الله ثابت فى فطر العقول السليمة، وثابت معه أنه واحد أحد لا شريك له، إلا عند من زاغت عقولهم ممن يجعلون له الأضداد والأنداد كمجوس الفرس الذين آمنوا بأن للعالم إلهين: إلها للخير وإلها للشر، وكغيرهم ممن جعلوا له ندّين أو أكثر، ولو صح ذلك لتفاوتت إرادة الآلهة فى الخلق واختلفوا فيه بين الإثبات والإزالة، وبذلك يخلو الخلق من أحد وجهيه، ويتم العجز والنقص على الله فيما برأه عليه من الحدوث ثم العدم أو من الإثبات ثم الإزالة. وعلى هذا النحو يتطور التحميد عند أحمد بن يوسف فى رسالة الخميس إلى ما يشبه مبحثا كلاميّا فى الدلالة على وجود الله ووحدانيته وحدوث الخلق وفناء العالم. ونلاحظ أيضا فى هذا التحميد أن أحمد بن يوسف يحاول أن ينمق فيه ما وسعه التنميق وجرّه ذلك إلى الاتساع باستخدام السجع فيه، وهو لا يطّرد فى كل صياغات التحميد ولا فى بقية الرسالة، ولكنه يكثر، ونحسّ كأن ابن يوسف يقصد إليه قصدا، وخاصة حين نراه يسجع بين كلمة وكلمة. ويمضى فيتحدث عن نعمة الله على خلقه
بإرسال أنبيائه وتعاقبهم بالنور الساطع والبرهان القاطع مبشرين ومنذرين حتى ختمهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويصور جهاده فى سبيل دعوته ورسالته حتى أعزّ الله كلمته واستقام دينه ودخل الناس فيه أفواجا. ويتحدث عن حق العباسيين فى الخلافة، إذ ورثوها بحكم قرابتهم للرسول صلوات الله عليه، وكانوا أحق بميراثها من جميع آله، وبذلك يخوض فى تأييد الدعوة العباسية. وينتقل من ذلك إلى تأييد الدعوة للمأمون بادئا بتقرير موقفه من الأمين ومسترسلا فيما ينبغى على شيعته الخراسانيين من مواصلتهم نصرته. ويفيض فى وعظهم وما ينبغى عليهم من مجاهدة أعدائهم وأهوائهم ومن الشكر للمأمون الذى يحوطهم برعايته لما فيه خيرهم ورشدهم والذى ينتوى جزاءهم بالحسنى وحملهم على الطريقة المثلى.
وطلب إليه الحسن بن سهل حين ولاه المأمون وزارته بعد قتل أخيه الفضل سنة 202 للهجرة أن يكتب رسالة يشكر المأمون فيها على صنعه جبرا لمصابه، فكتب رسالة ضافية (1)، استهلها بتحميد الله وذكر آلائه واصطفائه محمدا لرسالته بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وتقفيته على آثار الأئمة الراشدين بالمأمون أمير المؤمنين. وأخذ يطنب فى الثناء على عدله وما منح الرعية من عطفه، وأشاد باختياره عليّا الرضا لولاية عهده ومؤازرة الفضل بن سهل له فى رعاية رعيته والقيام بدعوته وقمع أعدائه، حتى حمّ أجله شهيدا فقيدا من إمامه ومن الخاصة والعامة. ويتجه إلى شيعته وشيعة الحسن بن سهل بتصوير حرمة الفضل عند المأمون بعد موته وإكثاره من الترحم عليه. ويشكره بلسان الحسن بن سهل على ما منحه من الوزارة وسنىّ الرتبة. ويعود إلى بيان ما خصّ به الفضل فى حياته من المنزلة الرفيعة ومن رياسة الحرب ورياسة التدبير وتقليده سيفه وخاتمه وما خصّه فى وفاته من إكرام ومن حزن ممض وعبرات سائلة ومن حفظ لأصحابه وإقرار خاصّته وقوّاده وعمّاله وكتّابه على مراتبهم وما أولى الحسن أخاه من وزارته وعطفه.
ويفيض فى التنويه بالمأمون وقضائه على خصومه شرقا وغربا ورحمته بفقراء المسلمين وضعفائهم وما اقترن له من الملك والدين والقدرة والعفو، ويشكره عن الإسلام ونصرته له وعن المساجد وتأسيسها على التقوى وتلاوة القرآن وعن الرسول صلى الله
(1) انظرها فى جمهرة رسائل العرب 3/ 411.
عليه وسلم وحفظه لعترته وآله وعن القواد والأجناد وما رفع من منازلهم ووفّر من رواتبهم، وعن الأخلاق وما وطد من شيمها الرفيعة وعن المسلمين وما رعى من شئونهم وهزم من أعدائهم، ويختم الرسالة بالدعاء له دعاء كثيرا: أن يرأب الصدع وترتق الفتوق به وينكّل فى أعدائه.
ولأحمد بن يوسف رسالة فى تهنئة عبد الله بن طاهر بقضائه على ثورة عبيد الله ابن السّرى بمصر وأخرى فى تعنيت بعض العمال على ظلم أنزله ببعض الناس، ولكنهما لا تبلغان من التنميق ما بلغته الرسائل السابقة. ومن طريف رسائله الديوانية ما كتب به عن المأمون إلى عمال النواحى فى الاستكثار من القناديل بالمساجد فى شهر رمضان، وقد جاء فيها (1):
وكان يكتب أحيانا إلى المأمون فى بعض الشئون، فيتلطف غاية التلطف، ومما يروى له من ذلك أن طلاّب الصّلات كثروا بباب المأمون، وتأخرت صلاتهم، فلما طال ذلك عليهم كتب إليه (4):
فوقع المأمون فى كتابه: الخير متبع، وأبواب الملوك مغان (9) لطالبى الحاجات ومواطن لهم. وأمره أن يكتب أسماء من بالباب ومراتبهم ليصير لكل شخص منهم قدر استحقاقه.
(1) الصناعتين للعسكرى ص 23 وزهر الآداب 2/ 132.
(2)
المتهجدين: من التهجد وهو الصلاة فى جوف الليل.
(3)
السابلة: السالرون فى السبل ولا مأوى لهم.
(4)
زهر الآداب 3/ 131 ومعجم الأدباء 5/ 169.
(5)
الجدوى: العطية والنوال.
(6)
النائل: النوال والعطاء.
(7)
السيب: العطاء.
(8)
الطول: الإنعام.
(9)
مغان: منازل ومواطن.
وكان كثيرا ما يهدى إلى المأمون هدايا فى أيام النيروز (1)، ويرفقها برسالة رقيقة، تحمل سطرا أو سطرين من النثر وبعض أبيات من الشعر، فمن ذلك أن أهداه مرة-فيما يقول الرواة-سفط ذهب فيه قطعة عود هندى فى طوله وعرضه، وكتب معه (2):
«هذا يوم جرت فيه العادة، بإتحاف الناس السادة، وقد قلت:
على المرء حقّ وهو لا شك فاعله
…
وإن عظم المولى وجلّت فواضله (3)
ألم ترنا نهدى إلى الله ماله
…
وإن كان عنه ذاغنى فهو قابله
ولو كان يهدى للجليل بقدره
…
لقصّر عنه البحر يوما وساحله
ولكننا نهدى إلى من نجلّه
…
وإن لم يكن فى وسعنا ما يشاكله»
وروت كتب الأدب كثيرا من الرسائل الإخوانية لأحمد بن يوسف، وهو فيها يتروّى ويتأنق فى اختيار لفظه، مع حسن البيان ورصانة القول، من ذلك ما كتب به إلى بعض إخوانه يهنئه بمولود له (4):
وهو دائما فى التهنئة بالمواليد يتحدث عن أنها نعمة من الله وهبة، ويدعو للأب أن تقر عينه بابنه، وأن يبارك الله له فيه، ويجعله بارّا بأبويه، تقيّا زكيّا ميمونا سعيدا، وأن يشدّ به أزر الوالد ويكثر من أحفاده: أولاد هذا الولد الصالح.
وله من تهنئة لأحد إخوانه بإبلاله من مرضه (6):
«قد أذهب الله وصب العلة ونصبها (7)، ووفّر أجرها وثوابها،
(1) النيروز: من أعياد الفرس وهو أول يوم عندهم فى السنة.
(2)
صبح الأعشى 2/ 420.
(3)
الفواضل: النعم.
(4)
جمهرة رسائل العرب 3/ 438.
(5)
ملاك: متعك.
(6)
العقد الفريد 4/ 239.
(7)
النصب: التعب الشديد، والوصب: الوجع.
وجعل فيها إرغام العدو بعقباها (1)، أضعاف ما كان عنده من السرور بقبح أولاها».
وتأنقه فى العبارة واضح لا بما يجرى فيها من سجع فحسب، بل بما يوفر أيضا فى أوائلها من ترادف النصب مع الوصب والثواب مع الأجر، ليستتمّ الجمال الصوتى. ومن رسائله فى الشكر (2):
وسجعه المطرد فى هذه الرسالة ليس معناه أنه كان يسجع دائما، فهو يسجع حينا، وحينا لا يسجع، ولكنه يعنى كما قلنا بالترادف بين الألفاظ والعبارات، على نحو ما نرى فى هذه الرسالة إذ تلا كلمة «شاكر مثن» بكلمة «مادح مطر» وهى بنفس معناها، ليحكم لتعبيره التلاؤم الصوتى والتعادل الموسيقى، وهو ما كان يسميه القدماء بالازدواج، ودائما تتردد أساليبه بينه وبين السجع على شاكلة قوله فى المديح (4):
وعلى نحو ما كان يتفنن فى المدح والثناء كان يتفنن فى الذم والهجاء، وكان أحيانا يخز فيه وخز الإبر وأحيانا يطعن طعنات مدمية، من ذلك ما كتب به إلى آل سعيد بن سلم (8):
(1) عقباها: عاقبتها.
(2)
الأوراق للصولى (قسم الشعراء) ص 233.
(3)
الأفضال: النعم والأيادى.
(4)
الصولى ص 232.
(5)
تنثنى الخناصر: كناية عن أن الآمال تعقد به.
(6)
يستريث: يستبطئ.
(7)
الذرا: الكنف والظل.
(8)
زهر الآداب 2/ 132.
«لولا أن الله عز وجل ختم نبوته بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتبه بالقرآن لبعث لكم نبىّ نقمة، وأنزل فيكم قرآن غدر، وما عسيت أن أقول فى قوم: محاسنهم مساوى السّفلة، ومساويهم فضائح الأمم، وألسنتهم معقولة بالعىّ، وأيديهم معقودة بالبخل، وأعراضهم أغراض للذم، وهم كما قال الشاعر:
لا يكثرون وإن طالت حياتهم
…
ولا تبيد مخازيهم وإن بادوا»
وله معاتبات واعتذارات كثيرة، وكان يعرف فى الأولى كيف يتحدث عن رعاية حق الصديق، كما كان يعرف فى الثانية كيف يتسع بالحجة والفكرة اللبقة، حتى يستلّ من صاحبه عفوه ورضاه، من ذلك ما كتب به إلى أحد أصدقائه (1):
وتدور فى كتب الأدب له توقيعات طريفة كان يوقّع بها على رقاع الشكوى.
وكتب بعض العمال ورسائل الاستماحة وبذل المعروف، فمن ذلك ما حكى الرواة من أن رجلا غصب آخر ضيعة فى أثناء غيابه واستغلّها سنوات معدودة، فلما قدم طالبه بضيعته، فاشتكاه قائلا: الضيعة لى وفى يدى، واطّلع ابن يوسف على الشكوى، فوقّع عليها بقوله (5):
«الحق لا تخلق جدّته، وإن تطاولت بالباطل مدّته، فإن أنطقت حجّتك بإفصاح، وأزلت مشكلها بإيضاح-غير. «لى وفى يدى» فكثيرا ما أراها ذريعة الغاصب، وحجّة المغالب-وفّر حقك عليك، وسيق بلا كدّ إليك، وإن ركنت من البيان إليها، ووقفت عن الاحتجاج عليها كانت حجته بالبيّنة
(1) جمهرة رسائل العرب 3/ 452.
(2)
تطولك: تفضلك.
(3)
بالمعدلة: بالعجل
(4)
ماتة: صلة.
(5)
جمهرة رسائل العرب 4/ 458.
أعلى، وكان بما يدّعيه أولى، إن شاء الله».
ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور بلاغة أحمد بن يوسف وكيف أنها كانت تعتمد على غزارة فى الفكر وبراعة فى الأداء وهى براعة يتقدم بها من سبقوه من كتّاب الدواوين فى القرن الثانى الهجرى تقدما واسعا وخاصة فى الرسائل السياسية، إذ تأنق فى ألفاظها وعباراتها تأنقا جعله يتخللها بالسجع، فإن لم يواته تخلّلها بالازدواج والترادف الصوتى، وبذلك أسبغ عليها ضروبا من الجمال الموسيقى لم تكن مألوفة قبله إلا فى بعض الرسائل الإخوانية وبعض التوقيعات، على نحو ما مرّ بنا فى الفصل السابق عند ابن سيابة وجعفر بن يحيى البرمكى. ولا ننسى سهل بن هرون، فقد كان يعنى مثله بالازدواج والترادف والموسيقى غير أن ابن يوسف هو الذى أعدّ هذا الأسلوب وما طوى فيه من سجع ليشيع فى الكتابات الديوانية.
4 -
عمرو (1) بن مسعدة
كان جده الأعلى صول أحد ملوك جرجان، وكان من الترك الذين اعتنقوا المجوسية وتشبهوا بالفرس، وقد اعتنق الإسلام فى زمن بنى أمية، ودخل ابنه سعيد فى الدعوة العباسية، فلما نجحت صارت له منزلة فى الدولة إذ كان من دعاتها النابهين، ولم يلبث خالد البرمكى أن استخلص ابنه مسعدة للكتابة بين يديه فى وزارته للسفاح والمنصور، وظل يعمل فى دواوين الأخير حتى قلده وزيره أبو أيوب الموريانى رياسة ديوان الرسائل، ويولد له ابنه عمرو، فيعنى بتأديبه حتى يصلح للكتابة فى دواوين الدولة. ويظهر أنه مضى يتثقف ثقافة عربية وإسلامية واسعة، حتى غدا لسنا فصيحا، بل لقد غدا شاعرا ينظم الشعر، كما غدا يحسن شئون الفقه مما يتصل بالخراج، ووقف على العلوم الرياضية، وما يتصل بها من الحساب مما كان يشقفه الكتاب، كما وقف على آداب الفرس وكتاباتهم فى السياسة والأخلاق وتدبير الحكم، وربما وقف أيضا على شئ من
(1) انظر فى ترجمة عمرو بن مسعدة معجم الأدباء 19/ 127 ووفيات الأعيان لابن خلكان 1/ 492 وتاريخ بغداد للخطيب البغدادى 12/ 203 وزهر الآداب 3/ 249
الفلسفة اليونانية والحكمة الهندية. وكل تلك كانت أدوات ترشح الشخص لكى يعمل فى الدواوين لعصره، ويتقن العمل فيها، ويظفر بما يزيد من الإعجاب والترقى فى المراتب السنية.
وما نصل إلى زمن الرشيد والبرامكة حتى نجد جعفر بن يحيى البرمكى يستخلص عمرا لنفسه، ويتخذه كاتبا للتوقيع بين يديه، إذ حدّث عن نفسه قائلا:
«كنت أوقّع بين يدى جعفر بن يحيى فرفع إليه غلمانه ورقة يستزيدونه فى رواتبهم، فرمى بها إلىّ، وقال: أجب عنها، فكتبت: قليل دائم خير من كثير منقطع. فضرب بيده على ظهرى وقال: أىّ وزير فى جلدك! » . وأفاده عمله مع جعفر فى التوقيعات إفادة واسعة، إذ كان جعفر يعنى-كما قدمنا- بتنميق عباراته والاقتصاد فيها أشد ما يكون الاقتصاد، فطبع بطوابعه البلاغية على نحو ما سنرى عما قليل.
ونراه بعد ذلك متصلا بالفضل بن سهل القائم على تدبير شئون المأمون حين كان يحكم من مرو الولايات الشرقية، وقد اتخذه كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع وزيرا له وأسلم إليه مقاليد الحكم، فما زال بالأمين حتى قضى عليه كما قدمنا، وبايع الناس المأمون بالخلافة، وظلاّ جميعا بمرو حتى سنة 202 للهجرة، فبارحاها قاصدين إلى بغداد، وقتل الفضل فى الطريق، كما أسلفنا.
وإنما ذكرنا ذلك لما نظنه من أن عمرو بن مسعدة إذا كان عمل فى دواوين الفضل فلا بد أن يكون عمل بها فى مرو، مثله مثل أحمد بن يوسف، وكأن الفضل أعجب به، فأدناه منه واصطحبه معه هناك. وعاد إلى بغداد، فعمل فى دواوين أخيه الحسن وزير المأمون أو بعبارة أدق عمل فى دواوين الخلافة، ووقع من نفس المأمون موقعا حسنا فعهد إليه أحيانا تفتيش الولايات، وما زال يعجب به وببلاغته، حتى إذا رفع أحمد بن يوسف إلى مرتبة الوزارة أقامه على ديوان الرسائل، وكان يأنس له ويستطيب حديثه، فلما أخذ فى غزو الروم كان يستصحبه فى غزواته. ولعظم منزلته عنده ظن بعض الشعراء أنه استوزره، وذكر ذلك فى بعض مديحه له، إذ يقول:
لقد أسعد الله الوزير ابن مسعده
…
وبثّ له فى الناس شكرا ومحمده
وكان جوادا ممدّحا، كما كان فاضلا نبيلا حميد العشرة محببا إلى معاصريه، وما توافى سنة 217 للهجرة حتى يلبّى نداء ربه بأذنة فى غزوة مع المأمون.
ويروى أنه لما مات رفعت إلى المأمون رقعة فيها أنه خلّف ثمانين ألف ألف درهم، فوقّع فى ظهرها:
«هذا قليل لمن اتصل بنا، وطالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيما خلّف وأحسن لهم النظر فيما ترك» .
وكان عمرو بن مسعدة يروع معاصريه ببلاغته، وهى تعدّ امتدادا لبلاغة جعفر بن يحيى البرمكى، تتصف نصفتين أساسيتين بارزتين هما الإيجاز الدقيق والوضوح البالغ، وهما نفس الصفتين اللتين امتازت بهما بلاغة ابن مسعدة، أما الإيجاز فقد بلغ منه أنه كان يضرب به المثل فيه، كما كان يضرب بجعفر بن يحيى من قبله، وكان يقول للكتّاب: إذا استطعتم أن تجعلوا كتبكم كلها توقيعات فافعلوا. وكأنما استقر ذلك فى نفس عمرو فإذا هو يحيل كتبه فى مختلف الأغراض إلى ما يشبه التوقيعات اختصارا واقتصادا فى القول. وأما الوضوح فقد كان جعفر شديد الكلف به، وكثيرا ما كان يوصى به الكتّاب من حوله، ومرّ بنا فى الفصل الماضى وصف ثمامة بن أشرس المعتزلى لبلاغته ومدى ما كان يجرى فيها من بيان ووضوح وإيجاز شديد، ويروى أن الفضل ابن سهل وصف بلاغة ابن مسعدة فقال:«هو أبلغ الناس، ومن بلاغته أن كل أحد إذا سمع كلامه ظن أنه يكتب مثل كتبه فإذا رامها تعذرت عليه (1)» .
وهذا كما قيل لجعفر بن يحيى: ما حدّ البلاغة؟ فقال: التى إذا سمعها الجاهل ظن أنه يقدر على مثلها، فإذا رامها استصعبت عليه.
وليس هذا كل ما أخذه عمرو عن جعفر، فقد كان جعفر يتأنق فى اختيار لفظه، حتى لينمقه أحيانا بالسجع الرشيق، فحاكاه عمرو فى تنميقه وتأنقه وإشاعة السجع أحيانا فى كلامه، وخاصة إذا كان موجزا وطال نظره فيه، إذ كان لا يزال يبحث عن اللفظة الملائمة التى تروق فى السمع، كما يبحث عن المعنى الدقيق، فالكتابة عنده وخاصة إذا اتجه بها إلى الحسن بن سهل أو إلى المأمون أو كلّفاه بالكتابة عنهما لم تعد شيئا يجرى عفو الخاطر، بل أصبحت بحثا بأدق
(1) الصناعتين ص 61.
ما تدل عليه كلمة بحث، بحثا فى استقطار المعانى، بحيث لا يفوت المعنى على إيجازه الدلالة الواضحة البينة عن طائفة واسعة من الأفكار، وبحيث لا يفوت الألفاظ حمل المعنى وأداءه أداء يخلب الألباب. ولعل من الخير أن نسوق طائفة من رسائله نستشفّ منها خصائصه البلاغية، فمن ذلك ما كتب به إلى الحسن ابن سهل يستتم صنائعه عنده (1):
وواضح تأنقه فى الكتاب وتنميقه، حتى ليبنيه على السجع، وواضح أيضا تدقيقه فى اختيار الألفاظ، وأنه لا يعمد إلى الإطناب، إنما يعمد إلى الاقتصاد، مؤديا بصورتين كل ما فى نفسه، فصنائع الحسن عنده تشبه بناء، وضع أساسه، ولا بد من متابعة الإنفاق عليه حتى يرتفع فى الجو وتقوم أركانه، أو هى تشبه غرسا، لا بد له من تعهد بالماء والتربية حتى يشتد ويؤتى ثماره. ويقول إن الأساس قد أشرف على الامحاء والغرس قد أشرف على الذبول فلا تضن بالنفقة والتعهد عليهما حتى لا يضيع ما أنفقت وتعهدت أولا. أرأيت كيف أننا حين نعمد إلى فهم كلام ابن مسعدة نضطرّ إلى شئ من البسط والإطناب، وكأننا بإزاء صياغة تشبه صياغة الشعر الغنائى المركزة التى يشقلها ما تحمل من معان كثيرة فى عبارات مسرفة فى الإيجاز. ومع ذلك فالألفاظ واضحة غاية الوضوح، ولكنها مع وضوحها تحمل معانى غزيرة، مع قلة عدد الحروف والكلمات ومع سهولة الألفاظ وخفتها فى النطق.
وقال أحمد (4) بن يوسف: «دخلت على المأمون وفى يده كتاب، وهو يعاود قراءته مرة بعد مرة، ويصعّد فيه بصره ويصوّبه، فالتفت إلىّ وقد لحظنى فى أثناء قراءته للكتاب، وقال: يا أحمد أراك متفكرا فيما تراه منى! قلت:
نعم، وقى الله أمير المؤمنين من المكاره وأعاذه من المخاوف، قال: لا مكروه إن شاء الله، ولكنى أقرأ كتابا وجدته نظير ما سمعت الرشيد يقوله فى البلاغة،
(1) معجم الأدباء 16/ 130.
(2)
الدروس: الإمحاء.
(3)
مشف: مشرف.
(4)
انظر وفيات الأعيان 1/ 494 وقارن بزهر الآداب 3/ 249 والعقد الفريد 2/ 272.
فإنى سمعته يقول: البلاغة التباعد من الإطالة والتقرب من البغية والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى. وما كنت أتوهم أن أحدا يقدر على هذه البلاغة حتى قرأت هذا الكتاب من عمرو بن مسعدة إلينا، ورمى به إلىّ وقرأته، فإذا فيه:
فلما قرأته قال: إن استحسانى إياه بعثنى أن أمرت للجند قبله بعطائهم لسبعة أشهر، وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه من حلّ محله فى صناعته.
وفى رواية أخرى أنه قال لابن يوسف: لله درّ عمرو ما أبلغه! ألا ترى إلى إدماجه المسألة فى الإخبار، وإعفائه سلطانه من الإكثار».
ولا ريب فى أن عمرا تعب طويلا فى كتابة هذا الكتاب الموجز، حتى يقع على العبارات القليلة التى تؤدى إلى المأمون امتعاض القواد والجند من تأخّر رواتبهم، وقد أخذ يحتال لإنبائه بهذا الخبر بحيث لا يضيق بهم وبحيث لا يظن أنهم عمدوا إلى شغب أو ما يشبه الشغب، فذكر أولا أنهم مذللّون له منقادون، وأنهم مستمسكون بعرى طاعته استمساكا يستغرق قلوبهم كأحسن ما يكون استمساك جيش بطاعة خليفته، ثم أتبع ذلك بتأخر أرزاقهم ورواتبهم حتى أجهدهم ما تحملوه من هذا التأخر وحتى اضطربت أمورهم، ومثلهم-مع طاعتهم وانقيادهم- حرى أن يسدّ اختلالهم وأن يرعى لهم وفاؤهم، فتعجّل رواتبهم وأرزاقهم.
وكان للكتاب أثر بالغ فى نفس المأمون إذ أمر أن تصرف للجند والقادة فى الحال أعطياتهم، لا لشهر ولا لشهرين بل لسبعة أشهر متتابعة. ويقال إنه أمر بأن يعطى لعمرو أيضا راتبه لثمانية أشهر جزاء وفاقا لحسن عرضه للمسألة ودقة تلطفه فى إيرادها وتصويرها.
ويروى صاحب (2) زهر الآداب أنه قدم على المأمون رجل من أهل الشام على عدة سلفت له منه بتوليته بلده، فطال على الرجل انتظار خروج أمر المأمون بما وعده به، فقصد عمرو بن مسعدة، وعرض عليه المسألة، وسأله
(1) التاثت: اضطربت.
(2)
زهر الآداب 4/ 158.
إيصال رقعة إلى المأمون بها، فقال له: اكتب بما شئت، فإنى موصله، فتوسل إليه أن يتولى هو كتابة الرقعة عنه، حتى يكون له فضلان، فكتب عمرو:
فلما قرأ المأمون الرقعة دعا عمرا، فأطلعه عليها وجعل يعجب من حسن لفظها وإيجاز المراد فيها، فقال له عمرو: فما نتيجتها يا أمير المؤمنين؟ قال:
الكتابة له فى هذا الوقت بما سأل، لئلا يتأخر فضل استحساننا كلامه، وبجائزة تفى دناءة المطل».
وأكبر الظن أن المأمون لم يستحسن كلام الرقعة لدقة إيجازها وتعبيرها السريع عن مقصودها فحسب، بل استحسنها أيضا للصورة المبثوثة فيها، وكان ابن مسعدة كثيرا ما يعنى بالتصوير فى كتابته على نحو ما مرّ بنا فى رسالته للحسن ابن سهل. وبذلك تحوّل فن الرسائل عنده إلى عبارة موجزة كعبارات التوقيعات وإلى صور نادرة تستهوى القلوب بطرافتها ودقتها فى التعبير عن المعنى الذى يريد تجسيمه. وكان يضيف إلى ذلك رقة فى الشعور، هى رقة الكاتب المتحضر الذى أرهف ذوقه، والذى عوّدته آداب اللياقة الاحتياط فيما يورده على سمع الخليفة والوزير، بحيث ينال إعجابه واستحسانه. ويروى صاحب المثل السائر (2) أن رجلا من بنى ضبّة ضرع إليه أن يشفع له عند المأمون فى الزيادة لمنزلته وراتبه المقدّر له، فكتب إلى المأمون مستشفعا له:
وأعجب المأمون بدقة عرضه لشفاعته وإخراجه لها فى معرض التعريض، تلطفا، وإشارة من طرف خفى إلى حرمته منه، وما يختصه بالعطف والحظوة عنده. وبذلك كانت أوكد وسيلة وأوثق ذريعة لإجابة طلبه وشفاعته، مما جعل
(1) ربقة: عروة.
(2)
المثل السائر ص 391.
(3)
تطولك: تفضلك.
المأمون يوقّع على الكتاب بقوله: «قد عرفنا توطئتك له، وتعريضك لنفسك، وأجبناك إليهما، ووافقناك عليهما» .
وكان إيجازه المفرط مع دقته فى أداء المعانى يروع المأمون روعة شديدة، ويروى أنه أحبّ يوما أن يرى مدى مقدرته فى هذا الإيجاز، فأمره أن يكتب إلى بعض العمال فى العناية بشخص والاهتمام بأمره، وأن يوجز كتابه ما أمكنه، بحيث لا يتجاوز ما يكتبه سطرا واحدا، فكتب (1):
«كتابى إليك كتاب واثق بمن كتب إليه، معنى بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقاية والعناية حامله. والسلام» .
ولا ريب فى أن هذا الكتاب القصير-بل المفرط فى القصر-يصور مدى ما كان يبذل ابن مسعدة من جهد عنيف فى جمع المعانى الكثيرة وتركيزها فى معنى يؤديها أجمل ما يكون الأداء، سواء بما يختار من لفظ أنيق أو صورة بديعة، وكأنه لا يصوغ كلاما، وإنما يقطّر من الكلام شذى فائحا شديد التأثير فى قارئه وسامعه.
وعلى هذا النحو تحوّلت الكتب عند ابن مسعدة إلى كلمات قصار، ككلمات التوقيعات، بل لعلها أشد قصرا، وأقوى منها حدة. وما نشك فى أنه تأثر فى هذا الاتجاه بالحكم الكثيرة التى ترجمت فى عصره، على نحو ما نرى فى الأدب الصغير والكبير لابن المقفع، وكأنه أراد أن يجعل كتبه أو على الأقل طائفة منها حكما وأمثالا تدور على ألسنة الكتّاب والأدباء. وروى له ابن خلكان رسالة طويلة مسجوعة كتب بها إلى بعض الرؤساء، وقد أهمّه وأحزنه زواج أمه، لينفّس عنه، وما إن قرأها حتى سحره بيانه واعتذاره عن أمه وذهب عنه الهم والحزن. وشكّ ابن خلكان فى الرسالة وقال إنها تنسب إلى ابن العميد، وهو محق فى شكه، لسبب بسيط، هو طولها الذى لا نألفه عند ابن مسعدة، فقد كان يقبض يده عنه ولا يبسطها إلا على حروف معدودة محكمة.
(1) وفيات الأعيان 1/ 493.
5 -
ابن (1) الزيات
هو محمد بن عبد الملك بن أبان بن حمزة، اشتهر بابن الزيات، لأن جده أبانا كان يجلب الزيت من مواطنه إلى بغداد متجرا فيه، وأصله من مقاطعة جيل جنوبى بغداد ومن قرية تسمى الدسكرة. وقد دفع ابنه عبد الملك إلى احتراف التجارة، وجدّ فيها حتى صار من تجار الكرخ (2) المياسير، وولد له محمد سنة 173 ونشأ يحب الأدب، فأقبل ينهل منه، كما ينهل من علوم اللغة ومن ينابيع الآداب الأجنبية الشائعة فى عصره، حتى شدا الشعر ونبغ فيه كما نبغ فى النثر. وحاول أبوه أن يصرفه عن هذا الاتجاه إلى التجارة المربحة فكان يصدّه، ويلزم الأدب وطلبه، ويلازم الدواوين محاولا أن يلفت من فيها إلى مهارته الأدبية، وقال له أبوه يوما: «والله ما أرى ما أنت ملازمه ينفعك وليضرّنك، لأنك تدع عاجل المنفعة وما أنت فيه مكفّى، ولك ولأبيك فيه مال وجاه، وتطلب الآجل الذى لا تدرى كيف تكون فيه، فقال: والله لتعلمنّ أينا ينتفع بما هو فيه:
أنا أم أنت، ثم شخص إلى الحسن بن سهل، فامتدحه بقصيدة، فأعطاه عشرة آلاف درهم، فعاد بها إلى أبيه فقال له أبوه: لا ألومك بعدها على ما أنت فيه».
ويقال إنه لما مدح ابن سهل ووصله بالدراهم المذكورة مثل بين يديه، وأنشده:
لم أمتدحك رجاء المال أطلبه
…
لكن لتلبسنى التّحجيل والغررا (3)
وليس ذلك إلا أننى رجل
…
لا أطلب الورد حتى أعرف الصّدرا (4)
يشير بذلك إلى مأربه من مديحه، وأنه لم يمدحه طلبا للمال، وإنما مدحه طلبا لتعيينه كاتبا بالدواوين، وعيّنه الحسن بن سهل، فحقّق له أملا طالما كان يراوده.
(1) انظر فى ترجمة ابن الزيات الأغانى (طبعة الساسى) 20/ 46 والفهرست ص 177 وتاريخ بغداد للخطيب البغدادى 2/ 342 والفخرى ص 175 والمسعودى 4/ 39 والطبرى 7/ 343 وغرر الخصائص الواضحة للوطواط ص 142، 410 ووفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 70.
(2)
الكرخ: محلة الأسواق والتجار ببغداد.
(3)
التحجيل: بياض فى قوائم الفرس. الغرر: جمع غرة، بياض فى وجهه والاستعارة واضحة
(4)
الورد: ورود الماء. الصدر: الصدور والرجوع عنه.
ومضى ابن الزيات يختلف إلى الدواوين وهو يتابع مدارسته لعلوم اللغة والنحو، ويظهر أنه تزوّد منها زادا وافرا، فقد ذكر الرواة أن أبا عثمان المازنى حين قدم بغداد كان أصحابه وجلساؤه يخوضون بين يديه فى مسائل علم النحو، فإذا اختلفوا فى مسألة يقع فيها الشك قال لهم: ابعثوا إلى هذا الفتى الكاتب-يعنى ابن الزيات-واسألوه واعرفوا جوابه، وكانوا يفعلون، ويعرضون ما يجيب به على المازنى، فيرى أنه الصواب الذى يرتضيه، ويشرحه لهم ويقفهم عليه.
وعلى نحو ما كان عالما باللغة والنحو كان شاعرا بارعا، ومرّت بنا فى حديثنا عن الشعر مرثية لزوجه، وهى من روائع المراثى، وله وراءها مراث أخرى فيها وأشعار كثيرة، كوّنت له ديوانا نشر فى القاهرة، ومن يرجع إليه يجد شاعريته فياضة، كما يجد الشعر مذللا له فى المواقف المختلفة التى قد يصعب فيها على غيره ولا يسلس قياده. ويقال إنه لما وثب إبراهيم بن المهدى على الخلافة حين عقد المأمون لعلى الرضا البيعة بولايد العهد، وتطورت الظروف على نحو ما قدمنا ولم يتم أمره استتر خوفا من المأمون وانتقامه، وظل مستخفيا سنوات لا يعرف موضعه، حتى إذا ظهر وعفا عنه المأمون طالبه التجار بأموالهم التى كان قد اقترضها منهم فكان يقول: إنما أخذتها للمسلمين وأردت قضاءها من فيئهم والأمر الآن إلى غيرى، وكان قد اقترض من عبد الملك بن أبان عشرة آلاف درهم، وكان إذا طالبه بماله لقيه بنفس الجواب، فنظم ابنه محمد قصيدة يصور فيها ثورته على المأمون مقارنا بينها وبين ثورة الأمين وما ناله من القتل جزاء غدره ونكثه، حتى يوغر صدر المأمون عليه، ويطير به طيرة بطيئا سقوطها. ومضى بالقصيدة إلى ابن المهدى، فأنشدها له، وقال: والله لئن لم تعطنى المال الذى اقترضته من أبى لأوصلنّ هذه القصيدة إلى المأمون، ففزع إبراهيم وجزع، وقال له متوسلا: خذ منى الآن بعض المال، واجعل الباقى أقساطا، ولا تظهر القصيدة، ووفى كل منهما لصاحبه.
وما زال ابن الزيات يعمل فى الدواوين حتى ولى مقاليد الخلافة المعتصم، فقرّبه منه ولم يلبث أن استوزره، ويقال إنه طلب حينئذ أن لا يلبس القباء (1) على
(1) القباء: ثوب فارسى قصير.
عادة الوزراء وأن يلبس الدّرّاعة (1) ويتقلّد عليها سيفا بحمائل، فأجيب إلى طلبه، ويحسّ بإقبال الدنيا عليه، فيفتح أبوابه للشعراء، ويجزل لهم فى العطاء، ومن أهم مدّاحه كما مرّ بنا أبو تمام، وأنشدنا فى غير هذا الموضع بعض أبيات من قصيدته التى وصف فيها قلمه وبلاغته. وكانت قد انعقدت أيام عمله فى الدواوين صلة وثيقة بينه وبين الحسن بن وهب، فلما ولى الوزارة قلّده ديوان الرسائل، وربما كان الجاحظ أهم أديب توثقت به صلته فى وزارته.
وتوفّى المعتصم وولى ابنه الواثق، فظل وزيرا له، ولعل من الغريب أن نجده فى وزارته لهما جميعا يعادى أحمد بن أبى دؤاد المعتزلى المشهور، وكان المعتصم جعله قاضى القضاة واتخذه كما اتخذه ابنه الواثق ناصحا ومشيرا، ودبّ التنافس بينه وبين ابن الزيات، حتى انقلب إلى عداوة وتهاج بالشعر، وكان ابن أبى دؤاد يحرّض الشعراء على هجائه ويصلهم، ويقال إنّ بعض الشعراء هجاه بقصيدة عدة أبياتها سبعون بيتا، فبلغ خبرها ابن أبى دؤاد، فقال:
أحسن من سبعين بيتا سدى
…
جمعك إياهن فى بيت
ما أحوج الناس إلى مطرة
…
تذهب عنهم وضر الزيت
وكان ابن الزيات لبراعته فى الشعر يكيل له الصاع صاعين، فاضطرمت العداوة بينهما اضطراما. وكانت فى ابن الزيات قسوة شديدة قلما تؤلف فى أمثاله من الأدباء الذين رزقوا دقة فى الحس، ورهافة فى الشعور، ويؤثر عنه أنه كان يقول:«الرحمة خور فى الطبيعة وضعف فى المنّة (2)، ما رحمت شيئا قط» . وبلغ من قسوته أن اتخذ تنّورا من حديد، وجعل فيه مسامير، ليعذّب به المطالبين بالأموال من أرباب الدواوين. وكان فى وزارته للواثق، يتجهم للمتوكل، وحاول أن يصرف الخلافة عنه إلى ابن الواثق، وطمح إلى إنفاذ ذلك بعد وفاته، بينما تحمس ابن أبى دؤاد للمتوكل، فلما ولى الخلافة استوزر ابن الزيات أربعين يوما ليطمئن، وظل ابن أبى دؤاد يغريه به لينكبه، حتى أصاخ له وقبض عليه وطالبه بالأموال، ولم يلبث أن أدخله التّنّور الذى صنعه، وقيّده فيه بخمسة عشر رطلا من حديد، وظل به أربعين يوما يعذّب عذابا شديدا،
(1) الدراعة: جبة فارسية.
(2)
المنة: القوة.
حتى مات، وكان موته فى آخر ربيع لسنة 233 للهجرة.
ولم تدر لابن الزيات رسائل كثيرة فى كتب الأدب، مع كثرة ما يدور فيها من رسائل موجهة إليه، ويظهر أنه وكل فى وزارته للحسن بن وهب كتابة الرسائل الديوانية والرد عليها، ومن القليل الذى احتفظت به تلك الكتب العهد للواثق على مكة، وقد كتبه بحضرة المعتصم على هذه الصورة (1):
وابن الزيات يشير فى هذا العهد المقتضب إلى قصة هاجر زوج إبراهيم عليه السلام حين ولدت ابنها إسماعيل منه، وغارت زوجه الثانية سارة، واضطرته أن ينزلهما منزلا بعيدا عنها، فأنزلهما بوادى مكة الجدب، وذكر ذلك القرآن الكريم فى قوله جلّ شأنه على لسان إبراهيم:{(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)} . وأعياهما أن يجدا ماء يستقيان منه، وبينما هاجر قد أخذها اليأس من وجوده إذا جبريل يهبط راكضا على موضع، لا تلبث بئر أن تتفجّر منه، هى بئر زمزم، فتستقى منه هاجر وإسماعيل. وتمر الأيام فتطمر البئر وتمحى معالمها وتظل مطمورة، حتى يلقى فى روع عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحفرها، وما إن ضرب بمعوله فيها حتى فاض الماء، واتخذها لسقاية الحجيج، وورث ابنه أبو طالب شرف هذه السقاية بعده وورثها عنه العباس أخوه جد العباسيين. وإلى كل هذه القصة يشير ابن الزيات فى عهد الواثق، وكأننا نلتقى عنده بأسلوب ابن مسعدة المبنى على الإيجاز والاقتصاد فى القول من جهة، وعلى التأنق فى التعبير من جهة ثانية، تأنقا يجره إلى السجع
ويظهر أن ابن الزيات لم يكن يعمد إلى السجع دائما، وكأنما كان يرى فيه مبالغة فى التكلف، فقد احتفظ له ابن عبد ربه برسالة إلى أحد العمال تخلو من السجع، وهى تجرى على هذا النمط (4):
(1) زهر الآداب 4/ 160.
(2)
يريد بأبيه الأقدم: إسماعيل عليه السلام.
(3)
يريد بجده الأكرم: إبراهيم الخليل.
(4)
العقد الفريد 4/ 241.
والقصد إلى الإيجاز واضح فى الرسالة ولكنه إيجاز من درجة ثانية غير درجة الإيجاز عند ابن مسعدة، فإيجاز ابن الزيات لا يتحول إلى ما يشبه التوقيعات والحكم والأمثال، إنما هو ضرب من الاقتصاد فى التعبير، مع الاتساع فى المعنى وبسط أطرافه قليلا، ليحيط بكل ما يدور فى نفس الكاتب، ومع الوفاء برصانة اللفظ وجزالته ومتانته، ومع الدقة فى انتخابه واختياره، دون تكلف لجمال صوتى يجرّ إلى السجع أو إلى الازدواج الذى كان يستخدمه أحمد بن يوسف وسهل بن هرون وأضرابهما من الكتّاب، ومما يصور ذلك عنده ما احتفظ به ابن عبد ربه من بعض فصوله مثل قوله (5):
فالفكرة تؤدّى فى عبارة موجزة تلمّ بأطراف المعنى ولكن دون إسهاب أو إطناب، ودون محاولة لتحقيق اللذة الفنية عن طريق السجع والازدواج وما ينحو نحوهما، على شاكلة قوله فى فصل آخر (6):
(1) اللائمة: اللوم.
(2)
مظاهرة: مساعدة.
(3)
النظرة: التأجيل.
(4)
أقلت: نهضت
(5)
العقد الفريد 4/ 240.
(6)
العقد الفريد 4/ 240.
والرغبة فى الإيجاز والاقتصاد فى القول واضحة فى هذا الفصل وخاصة فى كلماته الأخيرة. ولم تؤثر لابن الزيات رسائل شخصية نثرية، وكأنه كان يقدم الشعر على النثر فى هذه الرسائل، لمطاوعته له وسهولته عليه، إذ تروى له كتب الأدب بعض رسائل إخوانية شعرية كان يتبادلها مع بعض أصدقائه وخاصة الحسن بن وهب، وقلما تجاوزت أبياته فيها عدد أصابع اليدين. ويروى أن ابن وهب مرض أياما ولم يأته رسوله ولا تعرّف خبره، فكتب إليه رسالة شعرية يعاتبه فيها، وردّ عليه ابن الزيات برسالة شعرية أيضا، يعتذر إليه متنصلا من علمه بمرضه، وطالبا إليه التفضل بصفحه والتطوّل بعفوه، على هذه الشاكلة (1):
دفع الله عنك نائبة الدّه
…
ر، وحاشاك أن تكون عليلا
أشهد الله ما علمت وماذا
…
ك من العذر جائزا مقبولا
ولعمرى أن لو علمت فلا زم
…
تك حولا لكان عندى قليلا
فاجعلن لى إلى التعلق بالعذ
…
ر سبيلا إن لم أجد لى سبيلا
فقديما ما جاد بالصفح والعف
…
وو ما سامح الخليل الخليلا
ويقول صاحب الأغانى إنه كان بليغا حسن اللفظ إذا تكلم وإذا كتب، ويسوق شاهدا على ذلك أنه «جلس يوما للمظالم، فلما انقضى المجلس رأى رجلا جالسا، فقال له: ألك حاجة؟ قال الرجل: نعم تدنينى إليك، فإنى مظلوم، فأدناه، فقال: أبا مظلوم، وقد أعوزنى الإنصاف، قال: ومن ظلمك؟ .
قال: أنت، ولست أصل إليك فأذكر حاجتى، قال: ومن يحجبك عنى وقد ترى مجلسى مبذولا؟ قال الرجل: يحجبنى عنك هيبتى لك وطول لسانك وفصاحتك واطراد حجتك، قال: ففيم ظلمتك؟ قال الرجل: ضيعتى الفلانية أخذها وكيلك غصبا بغير ثمن، فإذا وجب عليها خراج أدّيته باسمى لئلا يثبت لك اسم فى ملكها، فيبطل ملكى، فوكيلك يأخذ غلّتها وأنا أؤدى خراجها».
وتمضى القصة فتذكر أن ابن الزيات ردّ على الرجل ضيعته ووهبه بعض المال ليستعين على عمارتها. وأبو الفرج إنما ساق القصة ليدل على ما شاع عند معاصرى ابن الزيات من فصاحته وبلاغته ولسنه وقوة حجته.
(1) أغانى (ساسى) 20/ 55.