المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌5 - أحداث مختلفة - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٣

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الأول

- ‌الفصل الأوّلالحياة السياسية

- ‌1 - الثورة العباسية

- ‌2 - بناء بغداد ثم سامرّاء

- ‌3 - النظم السياسية والإدارية

- ‌4 - العلويون والخوارج

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثانىالحياة الاجتماعية

- ‌1 - الحضارة والثراء والترف

- ‌2 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌3 - المجون

- ‌4 - الشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد

- ‌الفصل الثالثالحياة العقلية

- ‌1 - الامتزاج الجنسى واللغوى والثقافى

- ‌2 - الحركة العلمية

- ‌3 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة

- ‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ

- ‌5 - العلوم الدينية وعلم الكلام والاعتزال

- ‌الفصل الرابعازدهار الشعر

- ‌1 - ملكات الشعراء اللغوية

- ‌2 - طوابع عقلية دقيقة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - موضوعات جديدة

- ‌[5 - ]التجديد فى الأوزان والقوافى

- ‌الفصل الخامسأعلام الشعراء

- ‌1 - بشار

- ‌2 - أبو نواس

- ‌3 - أبو العتاهية

- ‌5 - أبو تمام

- ‌الفصل السادسشعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الدعوة العباسية

- ‌ أبو دلامة

- ‌[2 - ]شعراء الشيعة

- ‌ السيد الحميرى

- ‌دعبل

- ‌ ديك الجن

- ‌3 - شعراء البرامكة

- ‌ أبان بن عبد الحميد اللاحقى

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌أبو الشيّص

- ‌ على بن جبلة

- ‌الخريمىّ

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ أبو عيينة المهلّبى

- ‌الفصل السّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ العباس بن الأحنف

- ‌ربيعة الرّقى

- ‌2 - شعراء المجون والزندقة

- ‌ حماد عجرد

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌ عبد الله بن المبارك

- ‌4 - شعراء الاعتزال

- ‌ العتابى

- ‌ بشر بن المعتمر

- ‌النظام

- ‌5 - شعراء النزعات الشعبية

- ‌ أبو الشمقمق

- ‌الفصل الثامنتطور النثر وفنونه

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطب والوعظ والقصص

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية والعهود والوصايا والتوقيعات

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التاسعأعلام الكتّاب

- ‌خاتمة

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار

الفصل: ‌5 - أحداث مختلفة

وبعث بهم جميعا إلى المهدى، فأمر بقتلهم وصلبهم (1)، وثار بقنسرين عبد السلام الخارجى وقضى عليه بعض (2) القواد. وفى عهد الرشيد ثار الوليد بن طريف الشيبانى بالجزيرة واشتدت شوكته، فوجه إليه إبراهيم بن خازم بن خزيمة ففتك به، وسار إلى أرمينية وكثرت بها جموعه، فجرّد له الرشيد يزيد بن مزيد فى جيش كثيف، فمحقه محقا (3). وعاث حمزة الشارى فى خراسان ولقى حتفه (4)، كما عاث ثروان الحرورى فى ضواحى البصرة ولقى نفس المصير (5). وفى عهد المأمون خرج مهدى بن علوان الحرورى بسواد العراق وباءت ثورته بالفشل (6) على نحو ما باءت ثورة بلال الشارى (7). ولا نسمع بعد ذلك عن ثورات للخوارج إلا ما كان من ثورة محمد بن عمرو الشيبانى بديار ربيعة وقضاء أبى سعيد محمد بن يوسف الثغرى عليه (8). وعلى هذا النحو كان الخوارج لا يلبثون-حين يثورون-أن يقضى عليهم، وفرق بعيد بين ثوراتهم فى هذا العصر وثوراتهم فى العصر الأموى، فقد أخذت دعوتهم تضعف ضعفا شديدا، ولعلها من أجل ذلك لم تترك أثرا واضحا حينئذ فى الحياة الأدبية إذ قلما نجد لهم شاعرا معروفا.

‌5 - أحداث مختلفة

لم تطل مدة أبى العباس السّفّاح إذ سرعان ما توفى سنة 136 وخلفه أبو جعفر المنصور، وهو يعدّ المؤسس الحقيقى للدولة العباسية، فهو الذى أصّلها «وضبط المملكة ورثّب القواعد وأقام الناموس» (9) ولم يكد يتسلم مقاليد الحكم حتى ثار عليه عمه عبد الله فى شمالىّ سوريا وكان يقود جيشا ضخما لحرب البيزنطيين،

(1) طبرى 6/ 358 واليعقوبى 3/ 130 والنجوم الزاهرة 2/ 27.

(2)

طبرى 6/ 372 وانظر النجوم الزاهرة 2/ 41، 42.

(3)

طبرى 6/ 465 والنجوم الزاهرة 2/ 92، 95

(4)

طبرى 6/ 472.

(5)

طبرى 6/ 425.

(6)

طبرى 7/ 142.

(7)

طبرى 7/ 189 والنجوم الزاهرة 2/ 209.

(8)

اليعقوبى 3/ 207

(9)

انظر ابن الطقطقى ص 11.

ص: 33

فوجه إليه المنصور أبا مسلم الخراسانى فى جيش جرار، فهزمه هزيمة منكرة فرّ على إثرها إلى البصرة عند أخيه سليمان بن على واليها، فأخذ يستعطف له هو وأخوه عيسى ابن على والى الأهواز المنصور حتى رضى أن يكتب له كتاب أمان، وتولى ابن المقفّع كتابته فشدد فيه العهد والميثاق على المنصور حتى أحفظه عليه. ومازال المنصور يمكر بعمه حتى وفد على بابه، فحبسه مدة إلى أن مات فى حبسه (1).

ولم يكن همّ المنصور بعد القضاء على ثورة عمه إلا أخذ أبى مسلم الخراسانى وكان قد عزم بعد هزيمته لعبد الله بن علىّ أن يعود إلى خراسان، وخشى المنصور أن تحدثه نفسه بخلعه حين يرجع إلى موطنه، إذ كان كل منهما يجد على صاحبه موجدة شديدة، فكتب إليه بالقدوم عليه، وخشى أبو مسلم مغبة قدومه، فكتب إليه بالطاعة وأنه متوجه إلى خراسان. وقلق المنصور، وكان مدبرا داهية، فكتب إليه يؤكد له حسن رأيه فيه ذاكرا خدماته لدولتهم، وأرسل له رسلا يزينون له المثول بين يديه، فما زالوا به حتى قدم عليه، وكان بالقرب من المدائن، فلما دخل إليه لقيه بالتوبيخ والتقريع، ولم يلبث أن قتله، وبادر إلى من كانوا معه من القواد فأعطاهم جوائز سنية وفرّق فى جنده أموالا كثيرة، فرضخوا للواقع ورضوا به (2).

وغضب أتباع أبى مسلم فى خراسان حين علموا بمصيره، ولم يلبث أن ظهر بينهم سنباذ، فقادهم معلنا أن أبا مسلم لم يمت وإنما اختفى وسيعود ليرفع الظلم وينشر العدل، وتابعه كثيرون مكونين فرقة المسلمية أو الخرّمية (3)، وقدم بهم إلى الرّى فغلب عليها، والتقى به المنصور بن جمهور العجلى فى جيش كثيف، فقضى عليه وعلى ثورته (4)، ولكنه لم يقض على عقيدة فرقته، فقد أخذت تسرى فى نفوس كثير من الخراسانيين والايرانيين مختلطة بالعقائد المزدكية.

وكان السفاح قد جعل ولاية العهد بعد المنصور لعيسى بن موسى فرأى المنصور أن يحولها عنه إلى ابنه المهدى وما زال به حتى خلع نفسه منها، فصيّرها فى ابنه،

(1) الجهشيارى ص 103 واليعقوبى 3/ 104 والطبرى 6/ 124، 145، 269 والمسعودى 3/ 230 والنجوم الزاهرة 2/ 7.

(2)

طبرى 6/ 130 واليعقوبى 3/ 102 والمسعودى 3/ 217.

(3)

انظر فى الخرمية وعقيدتهم المسعودى 3/ 220 والفرق بين الفرق (طبع مصر) ص 251.

(4)

الطبرى 6/ 140 والمسعودى 3/ 220 وابن الطقطقى ص 125.

ص: 34

وبايعه الناس (1)، وأقرّت بذلك بلدان الخلافة ما عدا باذغيس إذ ثار بها شخص يسمى أستاذ سينس ادّعى النبوة وتبعه خلق كثير وتفاقم شره، فتصدى له خازم ابن خزيمة التميمى وفضّ جموعه، وحمله إلى المنصور أسيرا، فأمر بقتله (2).

وولى المهدى بعد أبيه سنة 158 وفى عهده تحركت الخرّمية حركتين، أما أولاهما فحركة رجل من أتباع أبى مسلم يسمى حكيما من أهل مرو، وقد أعلن ثورته فى سنة 161 واتخذ لوجهه قناعا من ذهب ركبّه عليه حتى لا يرى، ولذلك اشتهر باسم المقنّع الخراسانى. وكان يقول بتناسخ الأرواح، فزعم أنه نبى وأنه التجسد الجديد للذات الإلهية بعد أبى مسلم. وبايعه خلق عظيم أضلهم واستغواهم حتى كانوا يسجدون إلى ناحيته، ووثب بهم على بعض ما وراء النهر، فوجه إليه المهدى القواد وعلى رأسهم سعيد الحرسىّ، فاعتصم منهم بقلعة من أعمال كش على مقربة من جرجان، ولما يئس من المقاومة أضرم نارا عظيمة أحرق بها كل ما فى القلعة من دواب وثياب ومتاع وألقى فيها بنفسه وأولاده ونسائه، ويقال: بل مصّ سمّا وأسقى نساءه وأولاده فتلف وتلفوا، وبذلك خمدت حركته (3). أما الحركة الثانية فكانت فى سنة 162 إذ ظهرت طائفة من الخرمية بجرجان تسمى المحمّرة لحمرة راياتها، وكان على رأسهم شخص يسمى عبد القهار، فقتلوا وأفسدوا وعاثوا فى الأرض، فسار إليه من طبرستان عمر بن العلاء ممدوح بشار، وقتله ودمّر جنده (4).

وعظمت-فى عهد المهدى-حركة الزندقة ببغداد والعراق، ورأى المهدى فيها شرّا مستطيرا يتهدّد كيان الدولة والإسلام جميعا، فجدّ فى طلب الزنادقة منذ سنة 166 (5) وقيل بل منذ سنة 163 واتخذ لهم ديوانا يتعقبهم، جعل عليه عمر الكلواذانىّ (6)، وأخذ يقتلهم ويصلبهم نكالا لغيرهم، وكان ممن قتله عبد الله ابن وزيره أبى عبيد الله وبشار بن برد وتوفّى الكلواذانى سنة 168 فخلفه على الديوان حمدويه (7) وهو محمد بن عيسى من أهل ميسان.

(1) اليعقوبى 3/ 115 والطبرى 6/ 271 وابن الطقطقى ص 126 والنجوم الزاهرة 2/ 7، 53.

(2)

اليعقوبى 3/ 115.

(3)

طبرى 6/ 367، وابن الطقطقى ص 132 والنجوم الزاهرة 2/ 38، 45.

(4)

اليعقوبى 3/ 130 والطبرى 6/ 373 والنجوم الزاهرة 2/ 42.

(5)

الجهشيارى ص 153 وقارن بالنجوم الزاهرة 2/ 45.

(6)

الجهشيارى ص 156 والكاواذانى نسبة إلى كاواذا وهى قرية على بعد فرسخين من بغداد.

(7)

اليعقوبى 3/ 133 والطبرى 6/ 391 والنجوم الزاهرة 2/ 55، 56.

ص: 35

وفى عهد المهدى أغار الروم على سميساط (1) ونكّلوا بأهلها، فجرّد إليهم جيشا ضخما بقيادة العباس بن محمد فبلغ أنقرة. وتوالى غزو الروم حتى إذا كانت سنة 163 تولى هرون الرشيد قيادة الجيوش الغازية، فعصف بهم عصفا، حتى إذا كانت سنة 165 بلغ خليج القسطنطينية دون مقاومة تذكر، وامتلأ الروم هولا ورعبا وفزعا، فتعهدوا أن يؤدوا الجزية كل عام سبعين ألف دينار وهم صاغرون (2).

ومما يؤثر للمهدى إجراؤه الرواتب على المجذّمين. وتوفى سنة 169 فخلفه ابنه الهادى، وسار على سنته فى تتبع الزنادقة وقتلهم، وفى عهده خرج دحية بن المصعب ابن الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان بناحية أهناس فى صعيد مصر وملك أكثر بلاده، وهزم جيوش الولاة مرارا، وأخيرا قضى عليه فى سنة 169 (3). واعتزم الهادى خلع الرشيد من ولاية عهده، ولكن يحيى البرمكى عرف-كما قدمنا-كيف يصرفه عن ذلك، وسرعان ما توفى بعد أربعة عشر شهرا من خلافته.

وولى الرشيد سنة 170 وامتدت خلافته إلى سنة 193 ويعدّ عصره العصر الذهبى للخلافة العباسية بما بلغته من أبهة الملك وفخامته، ولا تزال ذكراه حيّة فى نفوس العرب إلى اليوم، وربما كان للقصص المحكية عنه فى «ألف ليلة وليلة» أثر فى ذلك فإن مترجميها وواضعى بعض قصصها رأوا أن يدخلوه فى ثنايا القصص حتى يصوروا ما بلغته بغداد من الرّفه والترف والبذخ. وحفلت حينئذ بالعلماء من كل صنف والمترجمين والأطباء والشعراء والمغنين والمغنيات والجوارى من كل جنس وعلى كل لون. وكان الرشيد كلفا بالسماع والمتاع بنعيم الحياة مع إعطاء الدين حقوقه، يقول ابن الطقطقى: «كان الرشيد من أفاضل الخلفاء وفصحائهم وعلمائهم وكرمائهم، وكان يحج سنة ويغزو سنة كذلك مدة خلافته إلا سنين قليلة، وكان يصلى فى كل يوم مائة ركعة، وحجّ ماشيا، وكان إذا حجّ حجّ معه مائة من الفقهاء وأبنائهم. . ولم ير خليفة أسمح منه بالمال، وكان يحب الشعر

(1) سميساط: مدينة غربى الفرات فى طرف بلاد الروم.

(2)

اليعقوبى 3/ 135 والطبرى 6/ 379 والنجوم الزاهرة 2/ 47.

(3)

اليعقوبى 3/ 137 والنجوم الزاهرة 2/ 49، 50، 57.

ص: 36

والشعراء ويميل إلى أهل الأدب والفقه» (1) وكان إذا لم يحجّ أحجّ ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة، وكان يتصدّق من صلب ماله فى كل يوم بألف درهم بعد زكاته (2)، وكانت أيامه تشبّه بأيام العروس لما امتازت به من بهاء وجمال.

ولم تخل أيامه من الفتن والثورات، وقد ذكرنا آنفا ما كان من حركات بعض العلويين والخوارج، وفى عهده هاجت العصبية بالشام بين اليمنية والمضرية وأطفأ نائرتها جعفر بن يحيى البرمكى (3)، وثار أهل الحوف بمصر وقضى على ثورتهم هرثمة بن أعين كما قضى على ثورة أخرى بإفريقية (4). وثار المحمّرة بجرجان وفضّ جموعهم على (5) بن عيسى بن ماهان، وانتقض الخزر فى انقوقاز وأرمينية وقلم أظافرهم خازم (6) بن خزيمة ويزيد بن مزيد الشيبانى. وثار الخرّمية بأذربيجان وعصف بهم عبد الله (7) بن مالك، وثارت بلاد الزاب جنوبى الجزائر، وأعاد الأمن إلى نصابه هناك إبراهيم بن الأغلب فكافأه الرشيد بكتابة عهد له على إفريقية نظير خراج يؤديه سنويّا، فأنشأ هناك دولة الأغالبة، واتخذ حاضرة له «العباسة» التى بناها جنوبى القيروان.

وامتنع نقفور إمبراطور بيزنطة عن أداء الجزية التى فرضت على بلاده فى عهد المهدى، كما أسلفنا، ولم يكتف بذلك فقد كتب إلى الرشيد يطالبه برد ما أدّوه منها فى السنوات الماضية، وكتب إليه الرشيد على ظهر كتابه:«بسم الله الرحمن الرحيم، من هرون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام (8)» وشخص إليه على رأس حملة قوية اخترق بها آسيا الصغرى وغنم مغانم كثيرة وافتتح هرقلة، فارتاع نقفور وفزع فزعا شديدا وتعهد بأداء الجزية صاغرا (9). ورأى الرشيد-فيما يقال-أن يصطنع شارلمان ملك الفرنجة فى غربى أور با حتى يؤيده ضد إمبراطور

(1) ابن الطقطقى ص 143.

(2)

طبرى 6/ 530.

(3)

الجهشيارى ص 208 والطبرى 6/ 457، 466.

(4)

طبرى 6/ 461.

(5)

طبرى 6/ 466.

(6)

طبرى 6/ 471.

(7)

طبرى 6/ 524 والنجوم الزاهرة 2/ 139.

(8)

طبرى 6/ 501.

(9)

طبرى 6/ 509.

ص: 37

بيزنطة، وكان شارلمان يود لو أيده الرشيد ضد الأمويين فى الأندلس، وسفرت بينهما السفارات وتبادلا هدايا ثمينة (1).

وفى سنة 190 ثار رافع بن الليث بسمرقند وتفاقمت ثورته، فرأى الرشيد أن يسير إليه بنفسه فى سنة 192. ولكنه توفى فى طريقه إليه بطوس سنة 193، وتمت الغلبة بعد ذلك على رافع وشيعته. وكان الرشيد قد عقد ولاية العهد من بعده لابنه محمد سنة 173 ولقبه بالأمين، وضمّ إليه الشام ومصر، ثم عقد لابنه عبد الله ولاية العهد من بعد أخيه سنة 183 ولقبه بالمأمون، وضمّ إليه الولايات الشرقية، وأكّد هذا العقد بين الأخوين بتوقيعهما عليه وقسمهما على الوفاء به وتعليقه (2) فى الكعبة سنة 186 وفيها بايع الرشيد بولاية العهد لابنه القاسم بعد أخويه ولقبه المؤتمن وضم إليه الجزيرة والثغور وكان لا يزال صبيّا.

وكان هذا الصنيع من الرشيد نذير شؤم فإن بساطا قد يتسع لنوم عشرة من الناس، ولكن مملكة بأسرها لا تتسع لسلطان حاكمين. فلم يكد ينتقل الرشيد إلى جوار ربه حتى شجر الخلاف (3) بين الأمين والمأمون إذ أخذت حاشية الأمين تسوّل له أن ينقض العهد الموثق فى البيت الحرام. وشاءت الظروف أن يقع الأخوان فريسة للتنافس بين الحزبين: العربى والفارسى، وكان الحزب الأول يغلب على الأمين بينما كان الحزب الثانى يغلب على المأمون، وكانت أم الأمين هاشمية عربية فهى زبيدة بنت جعفر بن المنصور، بينما كانت أم المأمون أمة فارسية تسمّى مراجل. وما زال الحزب العربى-فيما يقال-يغوى الأمين بخلع أخيه وتولية ابنه موسى ولاية العهد من بعده، حتى استجاب له، وتردّدت المراسلات بينه وبين المأمون وأوشك أن يجيبه إلى ما يريد من خلع نفسه، ولكن الفضل بن سهل وزيره ردّه عن ذلك ونهض بأمره، واستمال له الناس، وضبط الثغور.

ولم يلبث الأمين أن أمر بقطع اسم المأمون من خطبة الجمعة وصنع المأمون صنيعه بخراسان، وأخذا فى إعداد الجيوش، وسارع الأمين فأنفذ على بن عيسى

(1) انظر تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمن (الترجمة العربية) 2/ 21 وقصة الحضارة لول ديورانت (الترجمة العربية) 13/ 94.

(2)

الطبرى 6/ 475 والمسعودى 3/ 270، 308 والنجوم الزاهرة 2/ 119.

(3)

انظر فى هذا الخلاف الطبرى 7/ 2 والمسعودى 3/ 302، 308 والجهشيارى ص 289 وابن الطقطقى ص 159.

ص: 38

ابن ماهان فى جيش جرار لمنازلة المأمون وجنده والتقى به فى الرىّ طاهر بن الحسين، فقتله ومزّق جيشه تمزيقا. وشغب الحسين بن على بن عيسى بن ماهان على الأمين فخلعه وحبسه، غير أن بعض العسكر خلصوه، ونعجب إذ نراه يعفو عنه ويوليه قيادة جيشه ويوجهه إلى طاهر، ويلقاه، غير أنه سرعان ما يفر ويقتل فى فراره، كما يقتل قواد آخرون أرسل بهم الأمين. وفى هذه الأثناء تدخل مكة والمدينة فى طاعة المأمون، ويحاصر قائداه طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين بغداد لنحو خمسة عشر شهرا ويرميانها بالمجانيق فيكثر بها الحرق والهدم وتفضى الحياة فيها إلى هول هائل، فتنهب الأموال وتقترف المنكرات، ويحاول سهل بن سلامة الأنصارى وابن الدريوش أن يقمعا الفساد وشذوذ الدّعّار (1) ولكن أنّى لهما أن يدفعا ما تردّت فيه بغداد من أهوال الشر، والنيران تأخذها من كل جانب أياما طوالا والمساجد قد عطلت والصلاة قد أهملت. ويبكى الشعراء من أمثال الخريمى بغداد بكاء مرّا، وتسقط محلاتها محلة إثر محلة فى يد الجيوش المحاصرة، ولا يجد الأمين أخيرا مفرّا من الاستسلام، فيسلم نفسه لأعدائه، ويقتل فى طريقه لخمس بقين من المحرم سنة 198 ويصبح الأمر خالصا للمأمون، وما توافى سنة 201 حتى يعزل أخاه القاسم من ولاية العهد ويولى عليها مكانه على الرضا كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، وتثور عليه أسرته ببغداد، وتبايع عمه إبراهيم بن المهدى فيعزم على المسير إلى دار السلام، ويدخلها فى شهر ربيع الأول سنة 204، فيتوارى عمه إبراهيم مدة ويعفو عنه كما أسلفنا.

وعصر المأمون من أزهى عصور الدولة العباسية، فقد كان حر الفكر شغوفا بالمعرفة، ولم يكد يستقر فى بغداد حتى جعل من مجلسه ندوة علمية كبيرة يتحاور فيها ويتناظر الفقهاء والمتكلمون والعلماء من كل صنف، وجعله اتصاله بعلماء الكلام وفى مقدمتهم ثمامة بن أشرس النمرى وبشر بن غياث المريسى يعنى بالفلسفة وعلوم الأوائل حتى مهر فيهما، وقد استطاعا أن يجرّاه إلى الاعتزال وإلى القول بأن القرآن مخلوق، وأن من لا يقول بذلك يدخل فى عداد المشبّهة، وما توافى سنة 212 حتى يجعل المأمون من فكرة خلق القرآن عقيدة رسمية للدولة، ويكتب إلى الآفاق

(1) طبرى 7/ 136 وما بعدها.

ص: 39

بامتحان (1) الفقهاء فيها، فمن لم يقر بأنه مخلوق ضرب وحبس وأشخص إلى بغداد.

وتوفّى ثمامة سنة 213 وتولى كبر هذه المحنة بشر المريسى المتوفى سنة 218 ثم أحمد ابن أبى دؤاد أحد رءوس المعتزلة، لا فى عهد المأمون فحسب، بل أيضا فى عهد المعتصم والواثق أى إلى نهاية هذا العصر. وأعظم سنة اشتدت فيها هذه المحنة سنة 218 إذ عنف المأمون بالفقهاء عنفا شديدا، فضرب من لم يقروا بأن القرآن مخلوق وأهينوا وردعوا بالسيف وغيره، وكان ممن ثبت على رأيه أحمد بن حنبل فقيّد وأمر المأمون بأن يحمل إليه هو ومن امتنع مثله عن الإقرار بخلق القرآن، وكان يغزو بأرض الروم شمالى الشام، فأوثقوا بالحديد، وحملوا إليه. وما إن وصلوا إلى الرقة، حتى جاء الخبر بنعى المأمون، فردّوا إلى بغداد، وعاد المعتصم إلى امتحان ابن حنبل، فثبت للمحنة ولم يرجع عن رأيه.

وقد حدثت فى عصر المأمون ثورات كثيرة كان يعهد فى إخمادها إلى قواده الأكفاء من مثل طاهر بن الحسين، وقد ولاّه خراسان فى سنة 205 فقضى على رءوس الفتن بها، ويقال إنه فكر فى خلع طاعة الأمون ولكن الموت عاجله، وجعل المأمون بعده ولاية خراسان لابنه طلحة فظل بها إلى وفاته سنة 213 وولى المأمون عليها من بعده أخاه عبد الله فأسس هناك الدولة الطاهرية التى ظلت نحو قرن من الزمان.

وكان عبد الله قد أدّى للدولة خدمات جليلة، إذ ولاّه المأمون الرقة لحرب نصر بن شبث العقيلى وضيق عليه الخناق حتى ألقى له عن يد طالبا الأمان (2) لسنة 209 وكانت نار الفتنة مشتعلة (3) بمصر منذ حروب الأمين والمأمون، إذ ناصرت القيسية الأمين واليمنية المأمون، واشتبكت الفئتان فى حروب دامية ظلت مضطرمة، وظلت معها القلاقل، وزاد فيها نزول جموع من الأندلس فى الإسكندرية كان قد طردهم الحكم أمير قطرهم فولّوا وجوههم إليها واستولوا عليها. فرأى المأمون أن يولّى على مصر عبد الله بن طاهر حتى يقمع ما بها من فتن وحتى يرد الأندلسيين

(1) انظر فى هذه المحنة الطبرى 7/ 195 وما بعدها واليعقوبى 3/ 194 وكتاب بغداد لابن طيفور (طبع القاهرة) ص 181 والنجوم الزاهرة 2/ 212، 218 وما بعدها، 224.

(2)

اليعقوبى 3/ 187 والطبرى 7/ 171، وابن طيفور ص 77.

(3)

انظر فى أحداث مصر التالية الطبرى 7/ 171، 183، 189، والنجوم الزاهرة 2/ 210 - 216 واليعقوبى 3/ 187 - 192.

ص: 40

عن الإسكندرية، فدخلها فى ربيع الأول سنة 211 وهزم عبيد الله بن السرى وأعاد الأمن إلى نصابه، وأكره الأندلسيين على الانسحاب إلى جزيرة إقريطش (كريت) فنزلوها واستوطنوها لسنة 212، وعاد ابن طاهر إلى بغداد فى رجب من نفس السنة واستخلف عليها عيسى بن يزيد الجلودى فأقرّه المأمون على إمرتها، وعزله فى السة التالية وولّى عليها أخاه المعتصم، فاستخلف عليها عمير بن الوليد، وثار عليه القيسية واليمنية، وخرج لحربهم بالحوف فى ربيع الأول لسنة 214 غير أنه قتل فى المعركة، فاستخلف عليها المعتصم عيسى بن يزيد الجلودى ثانية، واشتبك مع اليمنية والقيسية وهزموه هزيمة منكرة، فخرج إليها المعتصم بنفسه، فقمع ما بها من فساد، وعاد إلى الموصل. وثار القبط فى مستهل سنة 216 وقضى على ثورتهم الأفشين، غير أن الفتن ظلت قائمة بمصر حتى دخلها المأمون لخمس خلون من المحرم سنة 217 فمهّدها ورتب أحوالها واستقرت، وقد ظل بها تسعة وأربعين يوما.

وكانت قد اندلعت فى أذربيجان منذ سنة 201 ثورة عنيفة للخرمية بقيادة بابك، فوجّه إليه المأمون محمد بن حميد الطوسى سنة 212 فواقعه مرارا منكّلا به وبأنصاره، حتى إذا كانت سنة 214 خانه الحظ فى بعض معاركه معه، فخرّ صريعا (1)، وكان لذلك رنّة حزن عميقة فى العالم العربى جعلت الشعراء يبكونه طويلا. وبعث المأمون إلى بابك من بعده على بن هشام وخالد بن يزيد الشيبانى، فاشتبكا معه فى غير موقعة، ولكنهما لم يستطيعا القضاء عليه. وعلم المأمون أن إمبراطور بيزنطة يعين بابك فى حروبه، فاستشاط غضبا، وأخذ منذ سنة 215 يقود بنفسه حملات عنيفة ضده وضد البيزنطيين (2)، يتقدمه قواده من أمثال أخيه المعتصم والأفشين وخالد بن يزيد الشيبانى وجعفر الخياط، ومضى فى بعض حملاته حتى بلغ أنقرة، فارتعدت فرائص تيوفيل إمبراطور بيزنطة وطلب الصلح والمهادنة، غير أن المأمون ظل يوالى حملاته حتى إذا كان فى آخر حملة له سنة 218 نزل به مرض شديد، ولم يلبث أن لبّى نداء ربه فى موضع يسمّى «البدندون»

(1) اليعقوبى 3/ 190 والطبرى 7/ 189 والنجوم الزاهرة 2/ 209.

(2)

انظر الطبرى 7/ 189 وما بعدها واليعقوبى 3/ 193 والنجوم الزاهرة فى السنوات 215 - 218 وكتاب العرب والروم لفازيلييف (نشر دار الفكر العربى) ص 89 وما بعدها.

ص: 41

وقد حمل منه جثمانه إلى طرسوس.

ويخلف المعتصم أخاه المأمون وتظل فى عهده محنة القول بخلق القرآن قائمة وإن كان قد خفّف من حدّتها كثيرا. وكان قد استكثر من الترك وآذوا العامة فى بغداد فبنى لهم سامرّاء، كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع. وفى أوائل عهده ثار الزّطّ بالبصرة وقضى على ثورتهم عجيف (1) بن عنبسة. وماتوا فى سنة 220 حتى يعد جيشا ضخما لحرب بابك بقيادة الأفشين ويمده بكثير من القواد أمثال أبى دلف العجلى ومحمد بن يوسف الثغرى، وتتوالى انتصارات هذا الجيش على بابك وشيعته، حتى إذا كانت سنة 22 سحققت جموعه سحقا، واستسلم صاغرا (2)، ولم يلبث أن أدخل إلى بغداد مقيدا مغلولا، فتعالى التكبير، وقتل وعلّقت رأسه وأحرق جسده عبرة ونكالا. وكان إمبراطور بيزنطة-كما ذكرنا آنفا-يضع يده فى يد بابك، وحدث أن أغار على زبطرة (3) وأعالى الفرات فأمر المعتصم بإعداد جيش جرّار لتأديبه قاده بنفسه، ووطئت جنوده بلدان (4) الروم فى آسيا الصغرى بقيادة الأفشين وجعفر بن دينار وخالد بن يزيد الشيبانى ومحمد بن يوسف الثغرى وغيرهم ممن ساموا البيزنطيين ذلاّ وصغارا، وقد أخربوا فيما أخربوا أنقرة وسلطوا مجانيقهم على عمورية حتى فتحت أبوابها عنوة. وعاد المعتصم قرير العين، وعلم فى عودته أن العباس ابن أخيه المأمون يدبر مؤامرة ضده، فأحبط مؤامرته.

وثار مازيار بطبرستان سنة 224 وحاءت به الجيوش التى حاربته مكبلا بالحديد إلى بغداد، فقتل وصلب (5). ثبت أن الأفشين كان يكاتبه سرّا آملا فى عودة دين آبائهما المجوس، فسجنه المعتصم سنة 225 وظل فى سجنه حتى مات وصلب بعد موته (6).

وتوفى المعتصم سنة 227 فخلفه ابنه الواثق، وقد أعاد محنة القول بخلق القرآن

(1) طبرى 7/ 225 واليعقوبى 3/ 198 والنجوم الزاهرة 2/ 233.

(2)

انظر الطبرى 7/ 226 وما بعدها واليعقوبى 3/ 201 والمسعودى 4/ 14 والنجوم الزاهرة 2/ 232 وما بعدها.

(3)

زبطرة: مدينة بين سميساط والحدث فى الطريق إلى بلاد الروم.

(4)

انظر فى هذه الجملة الطبرى 7/ 263 واليعقوبى 3/ 201 والمسعودى 4/ 14 والنجوم الزاهرة، 2/ 238 وفازيلييف ص 124 وما بعدها.

(5)

اليعقوبى 3/ 202 والمسعودى 4/ 16 والطبرى 7/ 302 والنجوم الزاهرة 2/ 240.

(6)

اليعقوبى 3/ 203 والطبرى 7/ 301 والمسعودى 4/ 16 والنجوم الزاهرة 2/ 242.

ص: 42

جذعة، إذ نراه يكتب إلى الولايات المختلفة بامتحان الفقهاء والعنف بمن لا يقرّون بأنه مخلوق. ولم تحدث فى سنواته الخمس فتوق كثيرة سوى ما كان من شغب بعض. الأعراب فى الحجاز وقد قضى على شغبهم بغا الكبير (1). وشغب بعض الأكراد وسحق شغبهم وصيف (2) التركى. وسرعان ما توفّى الواثق سنة 232 للهجرة.

(1) طبرى 7/ 322 وما بعدها واليعقوبى 3/ 205 والنجوم الزاهرة 2/ 257.

(2)

طبرى 7/ 331.

ص: 43