المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أبو دلامة - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٣

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الأول

- ‌الفصل الأوّلالحياة السياسية

- ‌1 - الثورة العباسية

- ‌2 - بناء بغداد ثم سامرّاء

- ‌3 - النظم السياسية والإدارية

- ‌4 - العلويون والخوارج

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثانىالحياة الاجتماعية

- ‌1 - الحضارة والثراء والترف

- ‌2 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌3 - المجون

- ‌4 - الشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد

- ‌الفصل الثالثالحياة العقلية

- ‌1 - الامتزاج الجنسى واللغوى والثقافى

- ‌2 - الحركة العلمية

- ‌3 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة

- ‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ

- ‌5 - العلوم الدينية وعلم الكلام والاعتزال

- ‌الفصل الرابعازدهار الشعر

- ‌1 - ملكات الشعراء اللغوية

- ‌2 - طوابع عقلية دقيقة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - موضوعات جديدة

- ‌[5 - ]التجديد فى الأوزان والقوافى

- ‌الفصل الخامسأعلام الشعراء

- ‌1 - بشار

- ‌2 - أبو نواس

- ‌3 - أبو العتاهية

- ‌5 - أبو تمام

- ‌الفصل السادسشعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الدعوة العباسية

- ‌ أبو دلامة

- ‌[2 - ]شعراء الشيعة

- ‌ السيد الحميرى

- ‌دعبل

- ‌ ديك الجن

- ‌3 - شعراء البرامكة

- ‌ أبان بن عبد الحميد اللاحقى

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌أبو الشيّص

- ‌ على بن جبلة

- ‌الخريمىّ

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ أبو عيينة المهلّبى

- ‌الفصل السّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ العباس بن الأحنف

- ‌ربيعة الرّقى

- ‌2 - شعراء المجون والزندقة

- ‌ حماد عجرد

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌ عبد الله بن المبارك

- ‌4 - شعراء الاعتزال

- ‌ العتابى

- ‌ بشر بن المعتمر

- ‌النظام

- ‌5 - شعراء النزعات الشعبية

- ‌ أبو الشمقمق

- ‌الفصل الثامنتطور النثر وفنونه

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطب والوعظ والقصص

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية والعهود والوصايا والتوقيعات

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التاسعأعلام الكتّاب

- ‌خاتمة

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار

الفصل: ‌ أبو دلامة

المأمون حين خلع طاعته على شاكلة قوله (1):

خلافة الله قد توارثها

آباؤه فى سوالف الكتب

فهى له دونكم مورّثة

عن خاتم الأنبياء فى الحقب

وقوله (2):

من رأى الناس له الفض

ل عليهم حسدوه

مثل ما قد حسد القا

ئم بالملك أخوه

وكان المأمون ممدّحا مثل أبيه الرشيد، ومن مدّاحه-وهو لا يزال ولىّ عهد- منصور النّمرى وأشجع السّلمىّ وأبو محمد اليزيدى مؤدبه، وممن تغنّوا بمديحه فى خلافته أبو تمام وإبراهيم بن المهدى عمه ودعبل وعبد الله بن أيوب التيمى ومحمد بن عبد الملك الزيات وابن البواب ومحمد بن وهيب، ومدائحهم فيه مبثوثة فى أخبارهم بكتاب الأغانى. ومرّ بنا فى الفصل السالف تنويه أبى تمام بالمعتصم وانتصاراته المدوية، ومن مدّاحه ابن الزيات ومحمد بن وهيب والحسين بن الضحاك ومخلد بن بكار الموصلى وخالد الكاتب. وممن نوهوا بالواثق أبو تمام وله فيه قصائد بديعة. ولعل من الخير أن نقف قليلا عند نفر من مداح هؤلاء الخلفاء، هم‌

‌ أبو دلامة

ومروان بن أبى حفصة وسلم الخاسر.

أبو دلامة (3)

هو زند بن الجون، كوفى أسود، من موالى بنى أسد، كان أبوه عبدا فأعتقه رجل منهم، وهو من مخضرمى الدولتين الأموية والعباسية، ولم يكن له فى أيام الدولة الأولى شأن يذكر، غير أن الدولة العباسية لم تكد تظله حتى أخذ نجمه

(1) أغانى (ساسى) 18/ 120.

(2)

النجوم الزاهرة (طبعة دار الكتب) 2/ 161.

(3)

انظر فى ترجمة أبى دلامة وأشعاره وأخباره ابن المعتز ص 54 وابن قتيبة فى الشعر والشعراء (طبعة دار المعارف) ص 751 والأغانى (طبعة دار الكتب) 10/ 235 وابن حلكان وتاريخ بغداد 8/ 488 وشذرات الذهب 1/ 249 ومرآة الجنان لليافعى 1/ 341 والمؤتلف 131 ومعجم الأدباء 11/ 165 وذيل زهر الآداب للحصرى (طبعة القاهرة) ص 81 وما بعدها. وقد طبع ديوانه بالجزائر.

ص: 295

يتألّق إذ قرّبه منه السفّاح، وكانت فيه دعابة جعلته خفيف الظل على قلبه فاتخذه هو ومن وليه من الخلفاء نديما لهم يطرفهم بنوادره. ويقول أبو الفرج:«كان فاسد الدين ردئ المذهب مرتكبا للمحارم مضيعا للفروض مجاهرا بذلك، وكان يعلم هذا منه ويعرف به فيتجافى عنه للطف محله» . ولعل أبا الفرج بنى هذا الحكم على ما ساقه من أخباره إذ ذكر أن المنصور بلغه أنه معتكف على الخمر ولا يحضر صلاة ولا مسجدا، فأمره بلزوم الجماعة فى مسجد قصره، وطال عليه ذلك فاستعفاه بقصيدة يقول له فيها:

ألم تعلما أن الخليفة لزّنى

بمسجده والقصر مالى وللقصر!

وما ضرّه والله يغفر ذنبه

لو أنّ ذنوب العالمين على ظهرى

وضحك المنصور حين قرأ القصيدة وأعفاه من الحضور معه. وروى أبو الفرج فى موضع ثان أن المنصور أمره بالقيام معه فى ليالى شهر رمضان. وأنه شقّ عليه ذلك فكتب إلى ريطة زوجة ابنه المهدى شعرا يضحكها به ويستشفعها عند عمها المنصور. وفى خبر ثالث أن المنصور سجنه لسكره. وقد يكون فيه لهو وميل للمجون. أما أن يكون فاسد الدين مخلا بالفروض للخبرين الأولين وما يشبههما فإن ذلك يكون مبالغة فى الحكم إذ كان يذهب بذلك إلى الدعابة شأنه فى دعاباته الأخرى التى رواها أبو الفرج وغيره.

ويروى أنه انقطع فى بعض أيامه إلى روح بن حاتم بن قبيصة المهلبى. أما فى عامة أيامه فكان ملازما للخلفاء إذ كانوا يتخذونه نديما لهم يضحكهم بنوادره.

ويقال إنه لم يصل إلى أحد من الشعراء ما وصل إليه من المنصور خاصة، وكان أول ما جعله يسنى له الجوائز داليّته التى مدحه بها حين قتل أبا مسلم الخراسانى وفيها يقول:

أبا مجرم ما غيّر الله نعمة

على عبده حتى يغيّرها العبد

أفى دولة المهدىّ حاولت غدرة

ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد

وواضح أنه يلقب المنصور فى البيت الأخير بالمهدى، مستعيرا ذلك من الشيعة وما يردّدونه فى آثارهم عن صفاته وأنه المنقذ الذى يخلّص الناس من بلاياهم

ص: 296

ويملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما ويهدى الناس إلى الطريق السّوىّ المستقيم، وتذهب بعض الروايات السنية إلى أن الاسم الحقيقى للمهدى إنما هو محمد، ولعل المنصور لاحظ ذلك حين لقب ابنه محمدا بالمهدى، وكأنه كان يريد أن يوحى للناس بأنه المهدى المنتظر. على أن من الشعراء من مضى مثل أبى دلامة يلقبه هو نفسه بهذا اللقب، وكان ما يزال يرفع من شأنه هو وأسرته درجات فوق العالمين على شاكلة قوله:

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم

قوم لقيل اقعدوا يا آل عبّاس

ثم ارتقوا فى شعاع الشمس وارتفعوا

إلى السماء فأنتم سادة الناس

وكان يجيد الرثاء كما يجيد المديح وقد بكى السفاح طويلا. ولما توفى المنصور رثاه بقصيدة جيدة جمع فيها بين الحزن عليه والفرحة بتولية المهدى، والطريف أنه جمع المعنيين فى كل بيت من أبياتها على نحو ما نرى فى قوله:

عينان: واحدة ترى مسرورة

بإمامها جذلى وأخرى تذرف

تبكى وتضحك مرة ويسوءها

ما أبصرت ويسرّها ما تعرف

وله نوادر كثيرة ترويها كتب الأدب، منها ما يتصل بالخلفاء ونسائهم، ومنها ما يتصل بزوجته وبأولاده، وكان يعرف كيف يحيل بعض نوادره شعرا، إذ كان الشعر يتدفق على لسانه تدفقا، ويروى أنه بشّر ببنت له، فقال توّا مداعبا ومتفكها:

فما ولدتك مريم أمّ عيسى

ولم يكفلك لقمان الحكيم

ولكن قد تضمّك أمّ سوء

إلى لبّاتها وأب لئيم

وله بجانب ذلك أشعار فى وصف الشراب والرياض، وانقطع بعد المنصور إلى المهدى فكان يصله بالجوائز السنية ويستطيب مجالسته ونوادره إلى أن توفى سنة 161 للهجرة.

ص: 297

مروان (1) بن أبى حفصة

أصل جده من يهود خراسان، وكان مولى لمروان بن الحكم وهبه له عثمان بن عفان، ويقال إنه أبلى فى الدفاع عنه حين حوصر فى داره وقتل، فأعتقه مروان جزاء بلائه، ولما ولى المدينة لمعاوية ولاّه على خراج اليمامة، واقترن هناك بعربية أنجب منها ابنه يحيى، وكان شاعرا متوسطا، ويقال إنه تزوج بنت زياد بن هوذة وأنجب منها فيمن أنجب ابنه سليمان وكان هو الآخر يقرض الشعر، ورزق سليمان بابنه مروان سنة 105 للهجرة. وقد نشأ فى اليمامة حيث استقرت أسرته والشعر يجرى فى أعراقه فلم يلبث أن شدا به، غير أن اسمه لم يلمع إلا فى العصر العباسى، ونراه ينقطع لمعن بن زائدة الشيبانى، وكان جوادا مقداما وبطلا مغوارا، ولاه المنصور اليمن ثم سجستان. ويقال إن مروان أخذ منه مالا كثيرا، وخاصة حين مدحه بقصيدته اللامية، وفيها يقول عنه وعن عشيرته:

بنو مطر يوم اللقاء كأنهم

أسود لها فى بطن خفّان أشبل (2)

هم يمنعون الجار حتى كأنما

لجارهم بين السّماكين منزل

بها ليل فى الإسلام سادوا ولم يكن

كأولهم فى الجاهلية أول

هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا

أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا

وما يستطيع الفاعلون فعالهم

وإن أحسنوا فى النائبات وأجملوا

وله بجانب هذه القصيدة فيه قصائد كثيرة ملأ بها حجره من الأموال، ومن طريف مديحه فيه قوله يصور سيادته وشرفه وكرمه وشجاعته:

(1) انظر فى ترجمة مروان وأشعاره وأخباره ابن المعتز ص 42 وابن قتيبة ص 739 والأغانى (طبعة دار الكتب) 10/ 71 والموشح المرزبانى ص 251 والنجوم الزاهرة (طبعة دار الكتب) 2/ 106 وتاريخ بغداد 13/ 142 وشذرات الذهب 1/ 301 وابن خلكان 2/ 117 والوزراء والكتاب للجهشيارى، انظر الفهرس، وكذلك فهرس الأغانى ومرآة الجنان لليافعى 1/ 389 وحديث الأربعاء لطه حسين (طبعة الحلبى) 2/ 286.

(2)

خفان: مأسدة بالقرب من الكوفة. وسطر اسم جد معن، وهو مطر بن شريك الشيبانى.

ص: 298

معن بن زائدة الذى زيدت به

شرفا إلى شرف بنو شيبان

إن عدّ أيّام الفعال فإنما

يوماه يوم ندى ويوم طعان

وما زال يوالى مديحه له حتى توفى سنة 152 للهجرة، فأبّنه تأبينا حارّا، ومن رائع تأبينه له لاميته، وفيها يقول معبرا عن حزنه العميق وأساه:

أقمنا باليمامة بعد معن

مقاما لا نريد له زيالا

وقلنا: أين نرحل بعد معن

وقد ذهب النّوال فلا نوالا

ويقول من أخرى:

قل للمنية لا تبقى على أحد

إذ مات معن فما ميت بمفقود

ولما ولى المهدى بعد أبيه المنصور وفد عليه، ولم يكد يلقى بين يديه أولى قصائده فيه حتى بهره بمديحه، ولم يكن مديحا عاديّا بالكرم والشجاعة والخلال الكريمة التى يقدرها العرب دائما، بل كان أيضا مديحا سياسيّا، إذ عمد إلى الدفاع عن حقوق العباسيين فى الخلافة والرد على العلويين وما يدعونه من هذه الحقوق، ولعل شاعرا لم يبلغ فى هذا الدفاع مبلغه، إذ كان يعرف كيف ينقضّ على العلويين بالحجة القاطعة على نحو ما نرى فى قوله:

هل تطمسون من السماء نجومها

بأكفّكم أو تسترون هلالها

أو تجحدون مقالة عن ربكم

جبريل بلّغها النبىّ فقالها

شهدت من «الأنفال» آخر آية

بتراثهم فأردتم إبطالها

وهو يريد بآية الأنفال قوله تعالى: ({وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)} يشير بذلك إلى حق العباسيين فى وراثة الخلافة وأنهم مقدمون فى هذا الحق على أبناء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم فاطمة الزهراء إذ العم مقدم على الأسباط فى الوراثة، على نحو ما هو معروف فى الشريعة الإسلامية. وبلغ من

ص: 299

فرط إعجاب المهدى بالقصيدة أن سأل كم عدد أبياتها، فقال مروان: مائة، فأمر له بمائة ألف درهم، وكانت أول مائة ألف درهم أخذها شاعر فى أيام بنى العباس. ومضى مروان يردد فى مديحه للمهدى هذا الدفاع السياسى عن حق العباسيين فى وراثة الخلافة، وهو يغدق عليه عطاياه الجزيلة، ومن إحكامه لهذا الدفاع أبياته التالية التى يخاطب بها المهدى:

يا بن الذى ورث النبىّ محمّدا

دون الأقارب من ذوى الأرحام

الوحى بين بنى البنات وبينكم

قطع الخصام فلات حين خصام

ما للنساء مع الرجال فريضة

نزلت بذلك سورة الأنعام

أنّى يكون وليس ذاك بكائن

لبنى البنات وراثة الأعمام

وما زال يفد على المهدى حتى توفّى وخلفه ابنه الهادى فوفد عليه مع من وفدوا يهنئونه بالخلافة ويعزونه عن أبيه ودخل فأخذ بعضادتى الباب، ثم قال:

لقد أصبحت تختال فى كل بلدة

بقبر أمير المؤمنين المقابر

ولو لم تسكّن بابنه فى مكانه

لما برحت تبكى عليه المنابر

ومضى يفد على هرون الرشيد ويجزل له فى الصلات السنية، ووفد على البرامكة-شأنه فى ذلك شأن جميع شعراء الرشيد، إذ كانوا يجمعون بين مديحه ومديحهم-وله فى يحيى بن خالد البرمكى من قصيدة:

إذا بلّغتنا العيس يحيى بن خالد

أخذنا بحبل اليسر وانقطع العسر

فإن نشكر النّعمى التى عمّنا بها

فحقّ علينا-ما بقينا-له الشكر

ومن رائع قوله فى الفضل ابنه:

إذا أمّ طفل راعها جوع طفلها

غذته بذكر الفضل فاستعصم الطّفل

ليحيى بك الإسلام إنك عزّه

وإنك من قوم صغيرهم كهل

وليس له وراء المدح والرثاء شعر مذكور. وقد اشتهر ببخله وشدة حرصه وكان يلم ببغداد ثم يعود سريعا إلى اليمامة، ولذلك لم يتضح عنده التأثر بالحضارة العباسية

ص: 300

وما ترجم من ثقافات أجنبية، على أنه كان يحكم صنعته إحكاما بعيدا، ويروى عنه أنه كان يحوك القصيدة فى سنة، أما فى الأشهر الأربعة الأولى فكان ينظمها، وكان فى الأربعة الأشهر الثانية يصقلها وينقحها، أما فى الأربعة الأشهر الأخيرة فكان يعرضها على الرواة والنقاد حتى إذا وثق من جودتها أنشدها ممدوحيه، وما زال فى المحل المرموق من الشعر حتى توفى سنة 182 ويقال إنه مات مقتولا بيد شيعى انتقاما منه للعلويين.

سلم (1) الخاسر

من موالى تيم عشيرة أبى بكر الصديق، ولد بالبصرة وبها نشأ، واختلف الرواة فى سبب تلقيبه بالخاسر، فقيل إن أباه عمرو بن حماد خلّف له مالا كثيرا أنفقه على الشعر وفى اللهو فلقّب بذلك، وقيل بل لأنه اشترى بمصحف ورثه من أبيه طنبورا، وقيل أيضا إنه إنما لقّب بذلك لأنه باع مصحفا واشترى بثمنه دفتر شعر. ويقول أبو الفرج:«هو راوية بشار بن برد وتلميذه وعنه أخذ ومن بحره اغترف وعلى مذهبه ونمطه قال الشعر» وروى عنه أنه قال: «هل أنا إلا جزء من محاسن بشار، وهل أنطق إلا بفضل منطقه. . إنى لأروى له تسعة آلاف بيت ما يعرف أحد غيرى منها شيئا» ويقال إنه كان من أعرف الشعراء بأشعار الجاهلية.

ونراه فى مطالع حياته يمدح معن بن زائدة وعمر بن العلاء والى طبرستان وممدوح أستاذه بشار، وله يقول:

كم كربة قد مسّنى ضرّها

ناديت فيها عمر بن العلاء

ورثى معنا حين توفى رثاء حارّا، وبنفس اللوعة رثى أبا جعفر المنصور، وفيه يقول:

عجبا للذى نعى الناعيان

كيف فاهت بموته الشفتان

(1) انظر فى سلم وأخباره وأشعاره ابن المعتز ص 99 والأغانى (طبعة الساسى) 21/ 73 وتاريخ بغداد 9/ 146 وابن خلكان ومعجم الأدباء 11/ 236 والوزراء والكتاب للجهشيارى انظر الفهرس.

ص: 301

ليت كفّا حثت عليه ترابا

لم تعد فى يمينها ببنان

وتفتح له أبواب الخلافة منذ عصر المهدى، إذ كان يعطيه هو ومروان بن أبى حفصة عطية واحدة. ويقول ابن المعتز إنه كان يذهب به فى مديحه إلى أنه المهدى الذى وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم فى بعض ما نسب إليه من آثار، وله يقول فى بعض قصائده:

وإلى أمير المؤمن

ين محمد خير الأنام

فضل الملوك محمد

فضل الحلال على الحرام

ويقول:

ومهدى أمتّنا والذى

حماها وأدرك أوتارها

له شيمة عند بذل العطا

ء لا يعرف الناس مقدارها

وكان يقف بجانبه فى كل مناسبة، من ذلك أن نراه ينبرى حين اتخذ يعقوب ابن داود وزيرا له قائلا منوها به وبوزيره:

قل للإمام الذى جاءت خلافته

تهدى إليه بحقّ غير مردود

نعم المعين على التقوى أعنت به

أخوك فى الله يعقوب بن داود

ولما ماتت ابنته «البانوكة» حزن عليها هو وأمها الخيزران حزنا شديدا، وإذا بشاعره يقف بين يديه معزيا بل نادبا باكيا بمثل قوله:

أودى ببانوكة ريب الزمان

مؤنسة المهدىّ والخيزران

بانوك يا بنت إمام الهدى

أصبحت من زينة أهل الجنان

بكت لك الأرص وسكّانها

فى كلّ أفق بين إنس وجان

ويقال إنه بلغ المهدى أنه مدح بعض العلويين فتوعده وهمّ به، ولكنه استطاع أن يسلّ منه سخيمته بقصيدة بالغ فيها فى تصوير اعتذاره بمثل قوله:

وأنت كالدهر مبثوثا حبائله

والدهر لا ملجأ منه ولا هرب

ص: 302

والحق أنه كان خالصا للعباسيين، وقد مضى يمدح الهادى بعد المهدى مضفيا عليه نفس صفات القدسية والجلال من مثل قوله:

وجدناك فى كتب الأوّلي

ن محيى النفوس وقتّالها

لقد جعل الله فى راحتيك

حياة النفوس وآجالها

وله يقول من أخرى:

لولا هداكم وفضل أولكم

لم تدر ما أصل دينها العرب

ولم يكد الهادى يسمع منه هذا البيت حتى استخفه الطرب، وأمر له بثلاثمائة ألف درهم. وولى بعده الرشيد فوالى فيه سلم مدائحه، ووالى عليه هرون عطاياه الجزيلة، ومن قوله فيه حين جعل ولاية العهد فى ابنه الأمين:

قد بايع الثقلان فى مهدى الهدى

لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر

ويقال إن زبيدة وصلته من أجل هذه القصيدة بمائة ألف درهم. ولم يلبث الرشيد أن عقد العهد من بعد الأمين للمأمون فنوّه به كما نوّه بأخيه. وجذبه البرامكة إليهم، فأشاد بهم طويلا، ومن رائع قصائده فيهم لاميته التى مدح بها يحيى ابن خالد وفيه يقول:

بلوت الناس من عجم وعرب

فما أحد يسير كما تسير

فكلّ الأمر من قول وفعل

إذا علقت يداك به صغير

وفى كفّيك مدرجة المنايا

ومن جدواهما الغيث المطير

وأكثر من مديح الفضل بن يحيى، حتى كاد ينقطع له، ومن بارع مديحه فيه قوله مصورا شجاعته وكرمه:

له يومان: يوم ندى وبأس

كأن الدهر بينهما أسير

وقوله:

أقام الندى والجود فى كل منزل

أقام به الفضل بن يحيى بن خالد

ص: 303

وكان يمدح أيضا الفضل بن الربيع وزير الرشيد. ويظهر أن الفضل البرمكى أكثر من برّه ونواله عليه حتى حسده الشعراء وفى مقدمتهم صديقه أبو العتاهية، مما جعل كلا منهما يلمز صاحبه بعض اللمز، أما أبو العتاهية فوصفه بالحرص والشح فى بيته الذى أنشدناه فى الفصل السابق:

تعالى الله يا سلم بن عمرو

أذلّ الحرص أعناق الرجال

وأما سلم فاتهمه بأنه كاذب منافق فى زهده وتقشفه، وكان قد تحول إلى الزهد على نحو ما أسلفنا، ومع ذلك كان لا يزال يمدح ويستجدى وفى ذلك يقول له سلم:

ما أقبح التّزهيد من واعظ

يزهّد الناس ولا يزهد

لو كان فى تزهيده صادقا

أضحى وأمسى بيته المسجد

وفى أخباره ما يدل على أنه كان يهاجى والبة بن الحباب، غير أنه لم يكن يحسن الهجاء. ويظهر أنه كان يلم بشئ من اللهو والمجون فى مطالع حياته، غير أنه لم تتقدم به السّنّ حتى التزم جانب الوقار. وشعره يؤكد أن المديح لم يترك فيه بقية لفن آخر سواه. ولم يكن شحيحا كما وصفه أبو العتاهية، بل كان كريما سمحا إذ يقول ابن المعتز إنه كان ينفق ما يأخذه من الأموال على إخوانه وغيرهم من أهل الأدب. وفى أخباره ما يدل على أنه كان يتأنق تأنقا شديدا فى ملبسه ومظهره وأنه كان يحيا حياة مترفة ناعمة. وأشعاره مليئة بالرشاقة والعذوبة والنعومة، وله فى الهادى مدحة اشتهرت فى عصره وبعد عصره، إذ بنى شطورها من تفعيلة واحدة على هذا النمط:

موسى المطر عدل السّير

وقد جعلها على فافيه واحدة. وهى تفيض بالخفة والرشاقة، ومن حكمه البديعة:

لا تسأل المرء عن خلائقه

فى وجهه شاهد عن الخبر

وما زالت حياته تجرى رخاء حتى توفى سنة 186 للهجرة.

ص: 304