الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بشر (1) بن المعتمر
شيخ معتزلة بغداد ورئيسهم، يقال إنه كوفى الأصل ولعله تحوّل منها أولا إلى البصرة موطن المعتزلة، ثم استوطن بغداد، وقد اتخذ النخاسة حرفة له، مثله فى ذلك مثل محمود الوراق، وكان أيضا مثله زهدا ونسكا وعبادة. ولا نعرف بالضبط متى نزل بغداد، غير أننا نجد اسمه يلمع فيها منذ عصر الرشيد والبرامكة وقد توثقت الصلة بينه وبين الأخيرين وخاصة منهم الفضل بن يحيى البرمكى، وربما كان السبب الحقيقى فى توثق هذه الصلة ما عرف عن بشر من نزعة شيعية، وكان البرامكة يتشيعون سرّا، ففسحوا له فى مجالسهم، ونصّ كثيرون على هذه النزعة، يقول النوبختى إنه كان يوافق الشيعة فى الحكم على علىّ بأنه كان مصيبا فى حربه لطلحة والزبير ومعاوية وأن جميع من قاتله كان على خطأ، وأيضا كان مصيبا فى قبوله التحكيم. ويقول ابن أبى الحديد: «كان
بشر بن المعتمر
من قدماء شيوخنا رحمه الله تعالى يقول بتفضيل على عليه السلام (أى على أبى بكر وعمر) ويقول كان أشجعهم وأسخاهم، ومنه سرى القول بالتفضيل إلى أصحابنا (من المعتزلة) البغداديين قاطبة وفى كثير من البصريين». وقد روى له ابن لمرتضى أبياتا من أرجوزة يقول فى بعض شطورها «نبرأ من عمرو ومن معاوية» خصمى على فى صفّين، فتشيعه لا مرية فيه ولا شك يعتريه.
وقد عرضنا فى الفصل الرابع للنحلة الاعتزالية التى تكونت حول آرائه، والتى سميت البشرية نسبة إليه وذكرنا أن من أهم الأصول التى كان يعتنقها نظرية التولد، وكان يذهب فيها إلى أن كل ما يتولد من أفعالنا فينا أوفى غيرنا فهو فعلنا. وذكرنا أيضا أنه كان ينكر فكرة وجوب الأصلح على الله، إذ لا نهاية لطبقات الأصلح عند الذات العلية، ومن أجل ذلك يكون الذى يجب عليه
(1) انظر فى بشر وأخباره وأشعاره الحيوان 4/ 239 و 6/ 62، 90، 284 وما بعدها و 405، 455 والبيان والتبيين 1/ 135 وما بعدها وأمالى المرتضى 1/ 186 ولسان الميزان 2/ 33 وفهرس الانتصار لابن الخياط المعتزلى والأنساب للسمعانى: الشرى وفرق الشيعة للنوبختى ص 35، 37 وشرح نهج البلاغة لا بن أبى الحديد (طبعة الحلبى) 3/ 316 والملل والنحل للشهرستانى ص 44 والمواقف للإيجى (طبع بولاق) ص 622 والفرق بين الفرق 141 وضحى الإسلام 3/ 141 والمنية والأمل لابن المرتضى ص 31.
حقّا هو تمكين العبد بما أودع فيه من القدرة والاستطاعة. وكان ينصر القياس العقلى نصرة شديدة، كما كان يجل العقل إجلالا بعيدا حتى ليرفعه إلى مرتبة مقدسة، وقد مرّت بنا فى الفصل الرابع أبياته التى يشيد فيها به إشادة بالغة، لما أودع الله فيه من المعرفة الفطرية التى تجعل الإنسان يميز الشر من الخير، ويدرك الحسن فيعتنقه والقبيح فيتجنبه، ويقول لولاه لذهب الإدراك والتمييز، بل لفقد الإنسان جوهر إنسانيته. وله مصنفات مختلفة تتصل باعتزاله سجلها ابن النديم فى فهرسته.
وكان حسن الجدال قوى الحجة، وهو يعدّ فى الذروة من فصحاء المتكلمين وبلغائهم، وقد جعله الجاحظ أكثر المعتزلة رواية للشعر، وروى عنه فى بيانه صحيفة طويلة فى البلاغة، تجعله واضع أصولها الأولى فى صورتها الدقيقة، وقد حللناها فى كتابنا «البلاغة (1): تطور وتاريخ». وهى تشهد له ببصره النافذ فى معرفة طبقات الكلام والملاءمة بينها وبين طبقات السامعين.
ولم يكن يروى الشعر فحسب، بل كان أيضا بارعا فى نظمه، غير أنه لم ينظمه فى الأغراض الغنائية التى تعود الشعراء أن ينظموا فيها، بل نظمه فى الاتجاه التعليمى الذى كان أبان بن عبد الحميد قد برع فيه، غير أنه لم يتجه به وجهة من القصص والتاريخ والفقه والمنطق، وإنما اتجه به إلى الرد على أهل المقالات والنحل من خصوم المعتزلة، كما اتجه به إلى ذكر عجائب الله فى صنوف خلقه، مما يمكن أن يدخل فى التاريخ الطبيعى، ويذكر الجاحظ أنه لم ير أحدا أقوى منه على المخمسّ والمزدوج وأنه يفوق أبانا. وليس بين أيدينا شئ من مخمساته، أما مزدوجاته فيذكر ابن المرتضى أن له مزدوجة ردّ فيها على جميع المخالفين للمعتزلة بلغت أربعين ألف بيت، وقد اقتبس منها قطعة أعلن فيها براءته من معاوية كما أسلفنا وكذلك ابن العاص. وأكبر الظن أن القطعة التى أنشدها له صاحب الانتصار فى التبرؤ من الجهمية وصاحبهم جهم مقتبسة هى الأخرى من تلك الأرجوزة وفيها يقول:
ننفيهم عنا ولسنا منهم
…
ولا هم منا ولا نرضاهم
(1) انظر كتاب البلاغة: تطور وتاريخ (طبع دار المعارف) ص 41 وما بعدها.
إمامهم جهم وما لجهم
…
وصحب عمرو ذى التقى والعلم
ومعروف أن جهما كان يؤمن بالجبر وينفى استطاعة الإنسان وحرية إرادته مما كان يعتنقه المعتزلة وأساتذتهم أمثال عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وروى الجاحظ فى الجزء الرابع من حيوانه مقطوعة من إحدى أراجيزه، وربما كانت هى الأخرى من الأرجوزة السالفة، وكذلك ما روى فى الجزء السادس من تفضيله لعلى بن أبى طالب على الخوارج، إذ يقول:
ما كان فى أسلافهم أبو الحسن
…
ولا ابن عبّاس ولا أهل السّنن
غرّ مصابيح الدّجى مناجب
…
أولئك الأعلام لا الأعارب
كمثل حرقوص ومن حرقوص
…
فقعة قاع حولها قصيص (1)
ليس من الحنظل يشتار العسل
…
ولا من البحور يصطاد الورل (2)
هيهات ما سافلة كعاليه
…
ما معدن الحكمة أهل الباديه
وروى له الجاحظ فى الحيوان قصيدتين طويلتين قدم لهما بقوله: «أول ما نبدأ قبل ذكر الحشرات وأصناف الحيوان والوحش بشعر بشر بن المعتمر فإن له فى هذا الباب قصيدتين قد جمع فيهما كثيرا من هذه الغرائب والفرائد، ونبّه بهذا على وجوه كثيرة من الحكمة العجيبة والموعظة البليغة. . وإذا قسمنا ما عندنا فى هذه الأصناف على بيوت هذين الشعرين وقع ذكرهما مصنّفا فيصير حينئذ آنق فى الأسماع وأشدّ فى الحفظ» . وبشر يستهل القصيدة الأولى بحديثه عن طباع الإنسان وما ركب فيه من الطمع الذى يدفع الناس إلى أن يتواثبوا بعضهم على بعض تواثب الذئاب، ويفيض فى وصف الحيوان والحشرات وبعض الطير وبيان طباعها وعجائب خلقها، حتى إذا بلغ ما أراد من ذلك تحول إلى إباضية الخوارج ورافضة الشيعة ممن يؤمنون بكتاب الجفر، وهو كتاب يزعمون أنه عند أئمتهم فيه كل أصناف العلم وكل ما يكون إلى يوم القيامة، وسلك مع الرافضة
(1) حرقوص: من زعماء الخوارج لعهد على القصيص: شجر تنبت فى أصله الكمأة وهى الفقع. والقاع: الأرض المستوية، ويضرب الفقع مثلا للرجل الذليل لأن الإبل تدوسه بأر جلها.
(2)
يشتار: يستخرج. الورل: دابة صحراوية كالضب.
والإباضية الحشويّة، وهو اسم كان يطلقه المعتزلة على خصومهم من المجسمة والمشبهة ومن كانوا لا يؤولون آيات التشبيه فى القرآن وإن قالوا إن الله لا يشبه شيئا من المخلوقات، وفى ذلك يقول:
لست إباضيّا غبيّا ولا
…
كرافضىّ غرّه الجفر
كما يغرّ الآل فى سبسب
…
سفرا فأودى عنده السّفر (1)
لسنا من الحشو الجفاة الأولى
…
عابوا الذى عابوا ولم يدروا
لا تنجع الحكمة فيهم كما
…
ينبو عن الجرولة القطر (2)
أولئك الدّاء العضال الذى
…
أعيا لديه الصّاب والمقر (3)
وفى هجومه على الشيعة القائلين بكتاب الجفر ما يدل دلالة قاطعة على أنه لم يكن يعتنق مذهب الإمامية كما أشرنا إلى ذلك فى الفصل السادس، وقد استظهرنا هناك أنه ربما كان زيدى الهوى. وهو فى القصيدة الثانية يتحدث أيضا عن غرائب الخلق فى أوابد الوحش والحشرات والطير السابح فى الهواء، مستنبطا كثيرا من العظات، ومنوها بالعقل وساطع نوره الذى نكتشف به مثل هذه العجائب والعبر ونفصل بين الخير والشر والنافع والضار، ويعرض فى أثناء ذلك لأهل المقالات والنحل من غير المعتزلة، فيقول:
قد غمر التقليد أحلامهم
…
فناصبوا القيّاس ذا السّبر
فهو يأخذ عليهم أنهم يلغون عقولهم وأنهم لا يحكمون المنطق والقياس العقلى السديد الذى به تقاس الأشياء ويستبشر ويعرف غورها ومقدار ما فيها من الخطأ والصواب. وعلى هذا النحو ظل بشر مشغولا فى شعره التعليمى بالرد على خصوم المعتزلة وبيان عجائب الخلق الربانى حتى وافاه القدر فى سنة عشر ومائتين.
(1) الآل: السراب. السبسب: الفلاة. السفر: جماعة المسافرين.
(2)
الجرولة: الصخرة الملساء. ينبو: يزل ويسقط.
(3)
الصاب والمقر: نباتان شديدا الحرارة