المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - أبو نواس - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٣

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الأول

- ‌الفصل الأوّلالحياة السياسية

- ‌1 - الثورة العباسية

- ‌2 - بناء بغداد ثم سامرّاء

- ‌3 - النظم السياسية والإدارية

- ‌4 - العلويون والخوارج

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثانىالحياة الاجتماعية

- ‌1 - الحضارة والثراء والترف

- ‌2 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌3 - المجون

- ‌4 - الشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد

- ‌الفصل الثالثالحياة العقلية

- ‌1 - الامتزاج الجنسى واللغوى والثقافى

- ‌2 - الحركة العلمية

- ‌3 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة

- ‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ

- ‌5 - العلوم الدينية وعلم الكلام والاعتزال

- ‌الفصل الرابعازدهار الشعر

- ‌1 - ملكات الشعراء اللغوية

- ‌2 - طوابع عقلية دقيقة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - موضوعات جديدة

- ‌[5 - ]التجديد فى الأوزان والقوافى

- ‌الفصل الخامسأعلام الشعراء

- ‌1 - بشار

- ‌2 - أبو نواس

- ‌3 - أبو العتاهية

- ‌5 - أبو تمام

- ‌الفصل السادسشعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الدعوة العباسية

- ‌ أبو دلامة

- ‌[2 - ]شعراء الشيعة

- ‌ السيد الحميرى

- ‌دعبل

- ‌ ديك الجن

- ‌3 - شعراء البرامكة

- ‌ أبان بن عبد الحميد اللاحقى

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌أبو الشيّص

- ‌ على بن جبلة

- ‌الخريمىّ

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ أبو عيينة المهلّبى

- ‌الفصل السّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ العباس بن الأحنف

- ‌ربيعة الرّقى

- ‌2 - شعراء المجون والزندقة

- ‌ حماد عجرد

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌ عبد الله بن المبارك

- ‌4 - شعراء الاعتزال

- ‌ العتابى

- ‌ بشر بن المعتمر

- ‌النظام

- ‌5 - شعراء النزعات الشعبية

- ‌ أبو الشمقمق

- ‌الفصل الثامنتطور النثر وفنونه

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطب والوعظ والقصص

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية والعهود والوصايا والتوقيعات

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التاسعأعلام الكتّاب

- ‌خاتمة

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار

الفصل: ‌2 - أبو نواس

أن يصيب أساليبه ضعف أو وهن، إذ كان يفقه أسرار اللغة فقها دقيقا وكل ما يتصل بلك الأسرار من رونق وبهاء وجمال.

‌2 - أبو نواس

(1)

إذا مضينا بعد بشار إلى الجيل الذى خلفه رأينا تأثره بالحضارة الفارسية المادية يزداد اتساعا كما تزداد ثورته على العرف والخلق والدين الحنيف، حتى لتتحول فى بعض جوانبها إلى صياح وعجيج وضجيج، وطبيعى أن ذلك لم يكن عامّا بحيث يشمل الجيل كله، فقد كان هناك الفقهاء والوعاظ وأهل الصلاح، إنما كان ذلك يسرى بين نفر من الشعراء الذين كانوا يختلفون إلى دور النخاسة وحانات المجون وبيوت اللهو والعبث، فإن تركوها فإلى دورهم التى حوّلوها إلى مقاصف للخمر والغناء يتطارحون فيها أشعارهم المعبرة عن غرائزهم وكل ما اقترن بها من شذوذ الغزل بالغلمان.

وأبو نواس الحسن بن هانئ هو أهم شاعر يصور هذا الفساد الخلقى من جميع نواحيه، وهو فارسى الأم والأب أيضا، وقد انبهم أمر أبيه وجنسه على بعض الرواة حين رأوه ينتسب لآل الحكم بن الجراح من بنى سعد العشيرة اليمنيين ويتكنى بكنية يمنية هى أبو نواس، وكذلك حين رأوا فى أخبار هذا الأب أنه كان من جند مروان ابن محمد آخر الخلفاء الأمويين، مما جعل بعض المعاصرين يظن أن أباه من أهل الشام بينما ذهب بعض الأقدمين إلى أنه عربى، وتمادوا فصنعوا له نسبا فى بنى سعد

(1) راجع فى أبى نواس وترجمته وشعره الشعر والشعراء ص 770 وطبقات الشعراء لابن المعتز ص 193 والأغانى (طبع الساسى) 18/ 2 وتاريخ بغداد 1/ 436 وتاريخ دمشق لابن عساكر 4/ 254 وابن خلكان فى الحسن بن ابن هانئ ونزهة الألبا ص 99 وشذرات الذهب 1/ 345 ومرآة الجنان 1/ 449 والموشح المرزبانى ص 263 وأخبار أبى نواس لابن منظور ولأبى هفان وأبو نواس لعبد الرحمن صدق وله أيضا فى خمرياته كتاب ألحان الحان طبع دار المعارف وانظر أيضا «أبو نواس الحسن بن هانئ» للعقاد نشر مكتبة الأنجلو المصرية ومقالات طه حسين عنه فى حديث الأربعاء الجزء الثانى وديوانه طبعة آصاف، وقد طبع عدة طبعات.

ص: 220

العشيرة (1). والصحيح أنه كان مولى فارسيّا من موالى الجراح بن عبد الله الحكمى (2) والى خراسان لعهد عمر بن عبد العزيز، ويظهر أنه انتظم فى جند الخلافة (3)، وقد نزل مع فريق منهم بالأهواز لعهد مروان بن محمد (127 - 131 هـ) وهناك تعرّف على جارية فارسية تسمى جلبّان كانت تغزل الصوف وتنسجه، فاقترن بها ورزق منها عدة أولاد (4)، منهم أبو نواس، واختلف الرواة فى السنة التى ولد فيها، والراجح أنها سنة مائة وتسع وثلاثين للهجرة (5)، ولم يكد يبلغ السادسة من عمره حتى توفى أبوه، فنقلته أمه إلى البصرة، وقامت على تربيته، وسرعان ما دفعته إلى الكتّاب، فحفظ القرآن وأطرافا من الشعر، وتفتّحت موهبته، فأخذ يلهج ببعض الأشعار، وكان مليحا صبيحا (6)، ويقال إن صبية وضيئة الوجه مرت به فمازحته ساعة، ثم رمت إليه بتفاحة معضّضة، فقال على البديهة من أبيات (7):

ليس ذاك العضّ من عيب لها

إنما ذاك سؤال للقبل

وشبّ الغلام فأخذ يختلف إلى حلقات المسجد الجامع يتزود من الدراسات اللغوية والدينية ومن الشعر القديم ومعانيه غير أن أمه رأت أن تلحقه بأحد العطارين، فكان يذهب فى العشىّ إلى المسجد يستمع من أبى عبيدة أخبار العرب وأيامهم، ويلتقط من أبى زيد غرائب اللغة ومن خلف الأحمر نوادر الشعر (8) وساقه القدر ليتعرّف على والبة بن الحباب أحد مجان الكوفة المشهورين، ويقال إن هذه المعرفة نشأت فى البصرة، ويقال بل إن عامل الأهواز طلب صاحبه العطار، فوافقه، وكان عنده والبة، فلم تكد تقع عينه على أبى نواس حتى استظرفه، فحثّه على أن يصطحبه معه إلى الكوفة، ولم يتردد الغلام، فمضى معه (9)، ويقال إن الذى أرغبه

(1) انظر أخبار أبى نواس لابن منظور ص 3.

(2)

الاشتقاق لابن دريد (نشر الخانجى) ص 406 وابن المعتز ص 194 وأبو هفان ص 109، 121.

(3)

وقيل: بل كان كاتبا من كتاب الخراج وقيل بل كان حائكا. انظر ابن منظور ص 4.

(4)

ابن المعتز ص 194 وابن منظور ص 4 وما بعدها.

(5)

ابن المعتز ص 194 وانظر ابن منظور ص 5.

(6)

راجع ابن منظور ص 6 وابن المعتز ص 208 وذيل زهر الآداب للحصرى ص 94.

(7)

ابن المعتز ص 208.

(8)

ابن منظور ص 23 وما بعدها وأبو هفان ص 109.

(9)

ابن المعتز ص 194 وابن منظور ص 7 وما بعدها وتاريخ بغداد 13/ 487. وأبو هفان ص 109.

ص: 221

فيه حسن شعره وما سمعه على لسانه من قوله (1):

ولها ولا ذنب لها

حبّ كأطراف الرماح

فى القلب يجرح دائما

فالقلب مجروح النواحى

وربما كان من دوافع رحلته معه وإغراقه-فما بعد-فى المجون أنه كانت تؤذيه سيرة أمه فى البصرة (2)، فارتحل معه، وأخذ يعبّ من الخمر كى ينسى أمه، وكان كالمستجير من الرمضاء بالنار، فقد وقع فى حبائل شيطان كبير، غمسه فى كل ما كان يقع فيه من خطايا وآثام هو ورفاقه مجّان الكوفة من أمثال مطيع بن إياس وحماد عجرد، وكأنما كتب القدر عليه أن يصبح ضريبة الفسق والمجون لعصره. وثاب قليلا إلى رشده، فخرج إلى بادية بنى أسد، وظل بينهم حولا كاملا يتزود من ينابيع اللغة (3)، وعاد، ولكنه ولّى وجهه نحو موطنه، وأخذ يفد على المربد بألواحه للقاء الأعراب الفصحاء (4)، كما أخذ ينهل من دروس اللغويين ومحاضراتهم وخاصة خلفا الأحمر الذى حثّه على حفظ الشعر القديم وحفظ المئات من أراجيزه، وكان خلف من أشعر رواة عصره وأعلمهم فحمل عنه أدبا واسعا، وفيه يقول فى بعض مراثيه له (5):

أودى جماع العلم إذ أودى خلف

من لا يعدّ العلم إلا ما عرف

كنا متى ما ندن منه نغترف

رواية لا تجتنى من الصّحف

ولم يكتف بالشعر واللغة فقد طلب الفقه والتفسير والحديث حتى قالوا إنه:

«كان عالما فقيها عارفا بالأحكام والفتيا بصيرا بالاختلاف صاحب حفظ ونظر ومعرفة بطرق الحديث، يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه» (6).

وطلب أيضا علم الكلام عند النظام وغيره من المتكلمين، ومرّ بنا فى الفصل السابق كيف كان يستظهر مصطلحاتهم فى أشعاره، وبلغ من إتقانه لهذا العلم أن أكّد بعض الرواة أنه بدأ متكلما ثم انتقل إلى نظم الشعر (7). وقد وصله هذا العلم

(1) ابن المعتز ص 208.

(2)

ابن منظور ص 32 وما بعدها.

(3)

ابن منظور ص 12.

(4)

الحيوان 6/ 239.

(5)

الديوان ص 133.

(6)

ابن المعتز ص 201.

(7)

ابن المعتز ص 272 وانظر الحيوان 4/ 450

ص: 222

بالثقافات التى كان يتصل بها المتكلمون، ومرت بنا أمثلة تصور أخذه من الثقافات الهندية، ولا شك فى أن اتصاله بالثقافتين الفارسية واليونانية كان أكثر عمقا فقد كان فارسى الأصل، وكان يحسن الفارسية إحسانا بعيدا جعله يلوك كثيرا من كلماتها فى أشعاره، ولا بد أنه نظر فيما ترجمه ابن المقفع وغيره من آدابها المختلفة، وأيضا لا بد أنه نظر فى الفلسفة اليونانية وما اتصل بها من منطق بحكم تثقفه بعلم الكلام، إذ كان المتكلم لا يتمكن فى هذا العلم ولا يجمع أفكاره «حتى يكون الذى يحسن من كلام الدين فى وزن الذى يحسن من كلام الفلسفة» (1). وفى خمرياته ما يدل دلالة واضحة على أنه وقف وقوفا دقيقا على طقوس المجوس واليهود والنصارى وعقائدهم (2). وتفرّغ للنوادر والملح وحفظ منها شيئا كثيرا (3)، وتصادف أن كان خفيف الروح ظريفا (4)، مما أعدّه لتكثر مطايباته ومداعباته، وليكون سميرا للخلفاء والوزراء ويصف ذلك من نفسه ليحيى بن خالد البرمكى، فيقول:(5)

كم من حديث معجب لى عندكا

لو قد نبذت به إليك لسرّكا

إنى أنا الرجل الحكيم بطبعه

ويزيد فى علمى حكاية من حكى

أتتبّع الظرفاء أكتب عنهم

كيما أحدّث من أحبّ فيضحكا

وعلى الرغم من ظرفه لم يكن قريبا من نفس المرأة التى عاصرته، فقد كانت تزدرى فيه غلامياته وسيرته الشاذة، وكانت أول امرأة شغفته حبا، وهو لا يزال فى البصرة يختلف إلى المربد وحلقات العلماء؛ جنان جارية الثقفيين، وعقد أبو الفرج فصلا فى أغانيه (6)، لأشعاره فيها وأخباره معها، ونراه يرسل لها بغزلياته، وترسل له بسبّها وشتمها، وهو يزداد بها شغفا، حتى ليقول (7):

أتانى عنك سبّك لى فسبّنى

أليس جرى بفيك اسمى فحسبى

وقولى ما بدا لك أن تقولى

فماذا كلّه إلا لحبّى

وغزله فيها غزل عفيف لا فحش فيه. وجذبته بغداد فيمن جذبت من شعراء

(1) الحيوان 2/ 134.

(2)

انظر الفن ومذاهبه فى الشعر العربى ص 123 وأبا هفان ص 25 والديارات للشابشى (طبع بغداد) ص 131.

(3)

ابن المعتز ص 201.

(4)

ذيل زهر الآداب ص 94.

(5)

ذيل زهر الآداب ص 22.

(6)

أغانى (طبع الساسى) 18/ 2 وما بعدها.

(7)

الديوان ص 362.

ص: 223

البصرة، ففارق موطنه إلى غير رجعة لا باكيا عليه ولا آسفا، إذ كانت حياته فيه سلسلة من الإخفاق فى علاقته بجنان وعلاقته بالرفاق حتى كان يشعر كأنه سليب الحرية، وفى ذلك يقول (1):

أيا من كنت بالبصر

ة أصفى لهم الودّا

ومن كانوا موالىّ

ومن كنت لهم عبدا

ومن قد كنت أرعاه

وإن ملّ وإن صدّا

شربنا ماء بغداد

فأنساناكم جدّا

فلا ترعوا لنا عهدا

فما نرعى لكم عهدا

ولم يلبث حين قدم بغداد أن قدّمه هرثمة بن أعين إلى الرشيد فمدحه ونال جوائزه، وأخذ ينفقها فى مباذلة، غير تارك حانة بالكرخ أو فى ضواحى بغداد إلا ارتادها، ملمّا من حين لآخر بدير من الأديرة المنبثّة على شواطئ دجلة، وكأنما تحولت حياته إلى حانة كبيرة يقترف فيها كل ما لذّ له من إثم وفجور، وارتقى ذلك إلى سمع الرشيد فحبسه مرارا لعله يزدجر (2)، ولكنه كان سرعان ما يعود إلى سيرته السيئة حين تردّ له حريته. وقد غضب عليه غضبا شديدا حين رآه يهجو عدنان ويفتخر بقحطان ومواليه اليمنيين، فأطال حبسه (3)، ثم عاد فعفا عنه، وربما كان للبرامكة أثر فى هذا العفو المتكرر، فقد كانوا يقربونه منهم ويغدقون عليه من برّهم ونوالهم الغمر، ونراه يحزن عليهم حزنا عميقا حين ينكبهم الرشيد سنة 187 للهجرة ويرثيهم بمثل قوله (4):

لم يظلم الدهر إذ توالت

فيهم مصيباته دراكا

كانوا بجيرون من يعادى

منه فعاداهم لذاكا

ويولّى وجهه نحو الفسطاط بمصر. ليمدح والى الخراج بها الخصيب بن عبد الحميد، وكان فارسيّا مثله. وقد استقبله استقبالا حافلا، وأضفى عليه من

(1) الديوان ص 166.

(2)

أبو هفان ص 100 والموشح ص 287.

(3)

ابن منظور ص 15.

(4)

أبو هفان ص 121.

ص: 224

نواله كثيرا، كما أضفى عليه أبو نواس غير مدحة، وله يقول (1):

أنت الخصيب وهذه مصر

فتدفّقا فكلاكما بحر

النيل ينعش ماؤه مصرا

ونداك ينعش أهله الغمر

وسرعان ما أخذ يحنّ حنينا شديدا إلى بغداد حيث المجون قائم على قدم وساق، وصوّر هذا الحنين بصور مختلفة، من مثل قوله (2):

كفى حزنا أنى بفسطاط نازح

ولى نحو أكناف العراق حنين

وعاد إلى بغداد ولم يلبث الرشيد أن توفى وخلفه الأمين (193 - 198 هـ) وكان فيه ميل شديد إلى اللهو فحوّل قصر الخلافة إلى مقصف كبير للغناء والرقص، واتخذ أبا نواس نديما له يمدحه وينظم له ما شاء من غزل وخمر، واستغلّ ذلك المأمون حين عزم على حرب الأمين، فكان يعمل كتبا بعيوبه تقرأ على المنابر بخراسان، وكان مما عابه به أن قال إنه استخلص رجلا شاعرا ماجنا كافرا يقال له الحسن بن هانى ليشرب معه الخمر ويرتكب المآثم ويهتك المحارم، وهو القائل:

ألا فاسقنى خمرا وقل لى هى الخمر

ولا تسقنى سرّا إذا أمكن الجهر

وبح باسم من تهوى ودعنى من الكنى

فلا خير فى اللذات من دونها ستر

وكان يقوم رجل بين يديه فينشد أشعار أبى نواس فى المجون، فاتصل ذلك بالأمين فنهى أبا نواس عن الخمر ولم ينته، حينئذ أغراه الفضل بن الربيع وزيره بحبسه، فحبسه، وقد مضى فى حبسه يستعطف الفضل بأشعار مشيعا فيها روحه الفكهة بما يصوّر من نسكه وعلامات السجود فى جبهته وحمله للمسابيح أو السّبح فى ذراعه وللمصحف فى لبّته. (3) وعطف عليه الفضل فتلطف له عند الأمين وردّ إليه

(1) الديوان ص 102.

(2)

الديوان ص 399 وانظر ص 97.

(3)

الديوان ص 108.

ص: 225

حريته (1). وكانت قد تقدمت به السنّ وعلته كبرة وشيخوخة، فأخذ ينيب إلى ربه، وينظم أبياتا مختلفة فى الزهد، وفى أخباره ما يدل على أنه تنسك مرارا، ثم عاد إلى غيّه، وربما رقيت فترات هذا النسك إلى زمن الرشيد، وحين كان يلقى به فى السجن، إذ يقال إنه حجّ سنة 190 للهجرة (2)، وكأنما هى صحوات كان يفيق فيها ثم يرجع إلى خطاياه. وتوفى الأمين، ولم يلبث أن توفى من بعده، وقد اختلف الرواة فى تاريخ وفاته (3)، فمنهم من تقدم به إلى سنة 195 ومنهم من تأخر به إلى سنة 199 وقيل بل توفى بعد المائتين بقليل وفى ديوانه رثاء للأمين يشهد بأن وفاته لم تكن قبل سنة 198. واختلف الرواة أيضا فى سبب وفاته (4)، فقيل إنه توفى وفاة طبيعية وقيل بل هجا إسماعيل بن نوبخت هجاء مقذعا ذكر فيه أمه ورماه بالبخل والرفض، فدسّ له شربة من سمّ قتلته بعد أربعة أشهر، وقيل بل دسّ له من ضربه حتى مات.

ولعل فيما قدمنا ما يدل بوضوح على أن عناصر كثيرة اشتركت فى تكوين طبيعة أبى نواس، فقد كان فارسيّا حاد المزاج وثقف كل الثقافات التى عاصرها من عربية وإسلامية ومن هندية وفارسية ويونانية ومن مجوسية ويهودية ونصرانية، وغرق فى حضارة عصره المادية وفى آثامها وخطاياها، تدفعه إلى ذلك أزمته النفسية العنيفة إزاء سيرة أمه المنحرفة وكأنما اتخذ من المجون والفسق أداة، بل ملجأ، للهروب من أزمته ومن هموم الحياة وأحزانها، وتردّى فى أسوأ صور المجون ونقصد غزله الشاذ بالغلمان. ونراه أحيانا يعلن تمردا وإلحادا فى الدين، ولكنه إلحاد عابر، لا إلحاد عقيدة كإلحاد بشار، فقد كان بشار زنديقا، وكان يظهر زندقته حين لا يخشى على نفسه، ويبطنها حين يأخذه الخوف، أما أبو نواس فلم يكن يعتنق الزندقة إنما كان يعتنق المجون، ويتعبد لملاذ الحضارة التى عاشها، فصاح بالدين الحنيف كأنه يرى فيه عائقا عن خمره ومجونه وإثمه. وهو من هذه الناحية مضطرب

(1) زهر الآداب 2/ 111 وما بعدها وذيل زهر الآداب ص 136 وما بعدها والوزراء والكتاب الجهشيارى ص 295 وما بعدها.

(2)

أبو هفان ص 98 وانظر النجوم الزاهرة 2/ 156.

(3)

ابن منظور ص 5 والشعر والشعراء ص 783.

(4)

أبو هفان ص 34.

ص: 226

أشد الاضطراب تارة يعلن دهريته وأنه لا يؤمن يبعث ولا نشور (1) وتارة يعلن أنه مؤمن عاص، وأنه على الرغم من جهره بعصيانه وفسقه يعتمد على عفو الله ومغفرته على نحو ما مرّ بنا فى الفصل السابق وحواره للنظام فى فكرة العفو التى قال بها المرجئة (2).

ولا بد أن نلاحظ مع ذلك كله عنصرا مهمّا فى مزاجه هو عنصر التندير والميل إلى الهزل والعبث، ولعل ذلك هو الذى جرّه إلى صياح كثير فى وجه الدين الحنيف، وكان إذا تلوّمه بعض معاصريه قال:«والله ما أدين غير الإسلام ولكن ربما نزا بى المجون حتى أتناول العظائم» (3) وهو بذلك يعترف أن جمهور هذا الصياح إنما كان ينظمه فى أثناء معاقرته للخمر هزلا وتعابثا ومجانة، ومن أجل ذلك ترددت نبراته فى خمرياته، إذ نراه فى ثناياها يهاجم الدين أو يهاجم العرب ووقوف شعرائهم على الأطلال، حتى إذا صحا وعادت إليه يقظته أوقف ثورته على الدين والعرب جميعا ومضى يقدم لمدائحه بوصف الأطلال وبكاء الديار ونعت رحلته فى الصحراء على ناقته أو بعيره.

وأبو نواس-على الرغم من مجونياته-يعدّ من أعاجيب عصره فى الشعر، إذ كان يحظى بملكات شعرية بديعة، وهى ملكات صقلها بالدرس الطويل للشعر القديم واللغة العربية الأصيلة، حتى قال الجاحظ:«ما رأيت أحدا أعلم باللغة من أبى نواس» (4) وأضاف إلى هذا العلم علما دقيقا بقوالب الشعر الجاهلى والإسلامى وما صارت إليه عند بشار وأضرابه من أوائل العباسيين، ومن خلال هذه القوالب جميعها أخذت شخصيته تنمو فى اتجاهين: اتجاه يحافظ فيه على التقاليد الموضوعة دون أن يشتط فى التجديد، واتجاه بجدد فيه تجديدا واسعا، يجدد فى معانيه وألفاظه.

ويمكن أن نسلك فى الاتجاه الأول مدائحه وأراجيزه ومراثيه، بينما نسلك فى الاتجاه الثانى أهاجيه وغزلياته وخمرياته وكل ما يتصل بعبثه ولهوه. أما المديح

(1) أبو هفان ص 37.

(2)

انظر الديوان ص 235.

(3)

أبو هفان ص 38.

(4)

تاريخ بغداد 7/ 437.

ص: 227

فكان كثيرا ما يحتفظ فيه بمقدماته القديمة وله فى ذلك قلائد بديعة مثل رائيته فى الخصيب (1):

أجارة بيتينا أبوك غيور

وميسور ما يرجى لديك عسير

وميميته فى الأمين (2):

يا دار ما فعلت بك الأيّام

لم تبق فيك بشاشة تستام (3)

ويلاحظ أنه لم يكن يطيل مثل بشار فى وصف رحلته بالصحراء وأنه كان يتعمق أكثر منه فى المبالغة حين يلم بنعت الممدوحين كقوله فى الرشيد (4):

وأخفت أهل الشّرك حتى إنه

لتخافك النّطف التى لم تخلق

وقوله أيضا فيه (5):

ملك تصوّر فى القلوب مثاله

فكأّنه لم يخل منه مكان

وقوله فى الأمين مخاطبا ناقته (6):

يا ناق لا تسأمى أو تبلغى ملكا

تقبيل راحته والرّكن سيّان

محمد خير من يمشى على قدم

ممّن برا الله من إنس ومن جان

ونراه فى هذه القصيدة يضفى على الأمين هالة كبيرة من القدسية والجلال حتى ليشبهه بالرسول صلى الله عليه وسلم على الرغم مما كان يتردّى فيه من لهو ومجون، واستطرد فى تضاعيف ذلك يقرر حق العباسيين فى الخلافة رادّا ردّا عنيفا على بنى عمهم العلويين. ومن مبالغاته الطريفة قوله فى بعض ممدوحيه (7):

تغطّيت من دهرى بظلّ جناحه

فعينى ترى دهرى وليس يرانى

فلو تسأل الأيام ما اسمى لمادرت

وأين مكانى ما عرفن مكانى

وجانب آخر فى بعض مدائحه يمتاز به من بشار فإنه كان يعمد كثيرا إلى

(1) الديوان ص 98.

(2)

الديوان ص 63.

(3)

تستام: ترى.

(4)

الديوان ص 62.

(5)

الديوان ص 59.

(6)

الديوان ص 65 وما بعدها.

(7)

الديوان ص 97.

ص: 228

الألفاظ العذبة الرشيقة التى تموج بالنعومة والخفة فيؤلف منها مدائحه على شاكلة سينيته فى الأمين وفيها يقول (1):

أضحى الإمام محمد

للدين نورا يقتبس

تبكى البدور لضحكه

والسيف يضحك إن عبس

وكان له حس دقيق وذوق مرهف، يعرف عن طريقهما كيف يختار أرق الألفاظ وأرشقها وأخفّها فى النطق وأحلاها فى السمع، وكان يدنو فى ذلك حتى يمس شغاف القلوب، إذ كان يحسن اختيار أسهل الألفاظ وأيسرها وأقربها إلى ما يجرى على ألسنة الناس فى حياتهم اليومية. ومن أجل ذلك كان يتجافى عن ألفاظ القدماء، حتى فى المديح، أو قل فى كثير منه، فإنه كان يبتغى فيه أو على الأقل فى بعضه أن يأخذ بألباب سامعيه بما يعرض عليهم من لغة عذبة تسيل خفة ورشاقة.

وأبو نواس فى أراجيزه ووصفه للصيد وأدواته وجوارحه أكثر تمسكا بالقوالب القديمة، وقد سبقه، كما مر بنا فى غير هذا الموضع، أبو نخيلة وأضرابه من شعراء العصر الأموى مثل الشّمردل إلى اتخاذ الرجز أداة لهذا الوصف، ومضى فى إثرهم يحاكيهم فى التمسك بهذا القالب وكل ما يتصل به من لفظ غريب. وقرن بهذه المحاكاة الشديدة ضروبا من التجديد فى المعانى والصور على شاكلة قوله فى إحدى طردياته (2):

لما تبدّى الصّبح من حجابه

كطلعة الأشمط من جلبابه (3)

وانعدل الليل إلى مآبه

كالحبشىّ افترّ عن أنيابه

هجنا بكلب طالما هجنا به

ينتسف المقود من كلاّبه (4)

كأن متنيه لدى انسرابه

متنا شجاع لجّ فى انسيابه (5)

(1) ابن المعتز ص 211.

(2)

الديوان ص 210 والحيوان 2/ 40.

(3)

الأشمط: الذى يخالط سواد شعره بياض الشيب.

(4)

ينتسف: ينتزع بقوة.

(5)

انسرابه: انسيابه وإسراعه. الشجاع هنا: الأفعى، متناه: مكتنف صلبه.

ص: 229

كأنما الأظفور فى قنابه

موسى صناع ردّ فى نصابه (1)

كأن نسرا ما توكّلنا به

يعفو على ما جرّ من ثيابه (2)

ترى سوام الوحش يحتوى به

يرحن أسرى ظفره ونابه (3)

وتمتلئ طردياته بمثل هذه الصور، وهى تعدّ ركنا هامّا فى شعره إذ كان يكثر من التشبيهات والاستعارات، وكان يعرف كيف يجدد فيها وكيف يأتى بالطريف النادر.

وكان يتخير لمراثيه أسلوبا جزلا مصقولا، وقد يكثر فيه من الغريب، وخاصة إذا كان من يبكيه من اللغويين مثل خلف الأحمر أستاذه، وقد يتخفف من ذلك، ولكنه على كل حال يظل محتفظا بالأسلوب الرصين. وهو فى مراثيه يمتاز بجرارة اللهجة وصدق العاطفة، وربما كان أجودها جميعا مراثيه فى الأمين، وهى تفيض باللوعة والحزن العميق من مثل قوله (4):

طوى الموت ما بينى وبين محمّد

وليس لما تطوى المنيّة ناشر

فلا وصل إلا عبرة تستديمها

أحاديث نفس مالها الدهر ذاكر

وكنت عليه أحذر الموت وحده

فلم يبق لى شئ عليه أحاذر

لئن عمرت دور بمن لا أودّه

لقد عمرت ممن أحبّ المقابر

ومن نفس هذا الأسلوب المتين المصقول أشعاره التى نظمها فى السجن يستعطف بها الرشيد والأمين ووزيره الفضل بن الربيع (5).

وإذا كان أبو نواس اعتدّ فى كل تلك الأغراض بسنن الأسلوب الموروثة، فإنه حاول أن يجدد فى الهجاء والغزل والمجون، وأهاجيه نوعان: نوع تمسك فيه بالأوضاع التقليدية، وذلك حين كان يهجو العدنانيين ويفخر بمواليه القحطانيين (6) وكأننا نستمع إلى قصائد من نمط نقائض جرير والفرزدق، فهى تعجّ بالمثالب

(1) الأظفور: الظفر، قنابه: غطاؤه. صناع: ماهر. نصابه: قرابه ومقبضه.

(2)

توكلنا به: اعتمدنا عليه. يعفو: يمحو.

(3)

سوام الوحش: الوحش المنطلقة فى الفيافى.

(4)

الديوان ص 129.

(5)

الديوان ص 106 وما بعدها.

(6)

الديوان ص 155 وما بعدها.

ص: 230

القبلية التى عرفها فى نقائضهما والتى طالما سمعها من أبى عبيدة وهو يحاضر فيها طلابه بالبصرة، ونوع ثان كان يجرى فيه فى نفس الدروب التى مهّدها من قبله بشار، إذ نراه يشغب على العرب من جهة، ويحاول أن يطلق على خصومه نفس السهام المسمومة التى كان يطلقها بشار وبعض من عاصروه. وأبو نواس لا يشغب على العرب شغب شعوبية كشعوبية بشار، فشعوبيته-إن صح هذا التعبير-من لون آخر، ذلك أنه لا يوازن بين خشونة البدو وحضارة الفرس كما يصنع بشار وغيره من الشعوبيين الحقيقيين، إنما يوازن بين تلك الخشونة والحضارة العباسية المادية وما يجرى فيها من خمر ومجون كان يعكف عليهما عكوفا، ويأخذ ذلك عنده شكل ثورة جامحة على الوقوف بالرسوم والأطلال وبكاء الديار، ودعوة جارة إلى المتاع بالخمر على شاكلة قوله (1):

عاج الشقىّ على رسم يسائله

وعجت أسأل عن خمّارة البلد (2)

يبكى على طلل الماضين من أسد

لا درّ درّك قل لى من بنو أسد؟

كم بين ناعت خمر فى دساكرها

وبين باك على نؤى ومنتضد (3)

دع ذا، عدمتك، واشربها معتّقة

صفراء تفرق بين الروح والجسد

ونحن نظلم أبا نواس إذا سمينا ذلك-كما ذهب بعض المعاصرين (4) -شعوبية حقة، إنما هو تماجن وإمعان فى التماجن. ولذلك لم يرفض هو نفسه البكاء على أطلال البادية، بل لقد بكاها كثيرا. وقد دفعته حدة مزاجه إلى الاصطدام بكثيرين من الشعراء وممن كان يمدحهم ويرعى على موائدهم مثل إسماعيل بن نوبخت وكان ما يزال يرميه بالبخل من مثل قوله (5):

خبز إسماعيل كالوش

ى إذا ما انشقّ يرفا

عجبا من أثر الصّن

عة فيه كيف يخفى

(1) الديوان ص 266.

(2)

عاج: عطف.

(3)

الدساكر: جمع دسكرة وهى القرية العظمة. النؤى: حفرة حول الخيمة لمنع السيول، منتضد: مكان تجمع الناس، يريد ديار الحبيبة.

(4)

حديث الأربعاء (طبعة سنة 1937) ص 113 - 114.

(5)

الديوان ص 172.

ص: 231

إن رفّاءك هذا

ألطف الأمة كفّا

وأهم شاعرين اصطدم بهما أبان بن عبد الحميد وفضل الرقاشى، أما أبان فكان البرامكة يقيمونه على ديوان الشعر والشعراء يقدر جوائزهم، فبخسه جائزته (1)، ويقال بل إن البرامكة طلبوا إلى أبى نواس أن ينقل لهم كليلة ودمنة شعرا، فنصح له أبان أن لا يصنع لما يجشمه ذلك من صعاب كثيرة، فاستعفى منه، وتخلّى به أبان فترجمه، وأعطاه البرامكة على ترجمته مالا جزيلا. وعرف ذلك أبو نواس وتبين له أنه احتال عليه، فهجاه ونشبت بينهما خصومة عنيفة (2)، كان أبو نواس ما يزال يرميه فيها بالزندقة واقتراف الآثام (3)، وكان من أشد ماهجاه به على نفسه نعته له بصفات لا تليق بمن يكون سميرا للوزراء من أمثال البرامكة، إذ يقول فى إحدى أهاجيه مصورا ثقله (4):

فيك ما يحمل الملوك على الخر

ق ويزرى بالسيد الجحجاح (5)

فيك تيه وفيك عجب شديد

وطماح يفوق كلّ طماح

بارد الظّرف مظلم الكذب تيّا

هـ معيد الحديث غثّ المزاح

وكانت هذه الأبيات سببا فى سقوط أبان عند البرامكة، وصار له كالعبد لا يلقاه ولا يذكر له إلا يجلّه. ويظهر أن اصطدامه بفضل الرقاشى يرجع إلى تقديم أبان والبرامكة له، وكان خليعا، فأتاه أبو نواس من هذا الجانب كثيرا.

وله يقول (6):

والله لو كنت جريرا لما

كنت بأهجى لك من أصلكا

وله أهاج كثيرة فى القيان والمغنين، وحتى من أكرموه مثل الخصيب والبرامكة لم يسلموا من هجائه، وهو فيه دائما يلتمس السيئات وكثيرا ما يفضى إلى فحش وإقذاع شديد.

ولأبى نواس غزل كثير فى المرأة والغلمان، وأروع ما له من غزل فى المرأة ما نظمه فى جنان، إذ يعبّر فيه عن مشاعر صادقة، ومن الغريب أنها كانت

(1) ابن المعتز ص 202.

(2)

ابن المعتز ص 241.

(3)

الديوان ص 180 وما بعدها.

(4)

ابن المعتز ص 203.

(5)

الخرق: الحمق. الجحجاح: الجواد.

(6)

الديوان ص 178.

ص: 232

تردّه ردّا منكرا عنيفا، وهو كلما ردّته ازداد بها غراما وعليها تهالكا، وكلف بها أشد الكلف، وله فيها مقطوعات بديعة من مثل قوله، وقد رآها تندب فى بعض المآتم (1):

يا قمرا أبصرت فى مأتم

يندب شجوا بين أتراب

أبرزه المأتم لى كارها

برغم دايات وحجّاب

يبكى فيذرى الدّرّ من نرجس

ويلطم الورد بعنّاب (2)

لا تبك ميتا حلّ فى حفرة

وابك قتيلا لك بالباب

لا زال موتا دأب أحبابه

وكان أن أبصره دابى (3)

وعبثا استطاع يوما أن يلقاها، مما جعله يصطلى حقّا بحبها وناره المحرقة، ويتعذب عذابا طويلا، بثّه فى كثير من أشعاره. ولعلها المرأة الوحيدة التى استأثرت بقلبه وملكت عليه كل شئ من أمره. ونراه فى بغداد يسوق غزلا كثيرا فى إمائها وجواريها، يشوبه بكثير من الفحش الذى ينبو عنه الذوق، حتى مع عنان جارية الناطفى، وكانت شاعرة ظريفة ولها أيام تستقبل فيها الشعراء وتطارحهم الشعر، ممعنة معهم فى كل ما يخوضون فيه من بذاءة تظرفا ومعابثة (4). وديوانه من هذه الناحية يصور الجوارى المبتذلات اللائى كان يجلبهن النخاسون إلى بغداد، وكانت كثيرات منهن يقبلن على الخلاعة والمجون، وقلما عرفن شيئا من العفة والطهارة.

ويتسع الفحش فى غزل أبى نواس الشاذ بالغلمان، حتى ليصبح وصمة فى جبين عصره، وإن كان ابن المعتز يلاحظ أنه كان يتستّر بذلك عن فسقه الحقيقى بالجوارى الخليعات (5). وإذا صح ذلك يكون من الخطأ أن تفسّر نفسية أبى نواس على أساس هذه الآفة الشاذة التى كان يتظاهر بها ليخفى حقيقة سريرته وحياته الماجنة. وينبغى أن نلاحظ هنا ما أشرنا إليه فى حديثنا عن إلحاده، فإن كثيرا من غزله المفحش فى الغلمان والنساء جميعا كان ينظمه فى مجالس الخمر تعابثا

(1) أغانى 18/ 6 والديوان ص 361.

(2)

استعار الدر للدمع والنرجس للعين والورد للخد والعناب لأطراف الأصابع.

(3)

الدأب: الشأن والعادة.

(4)

العقد الفريد 6/ 57.

(5)

ابن المعتز ص 319.

ص: 233

ومجانة، على أننا كثيرا ما نقع فى ثنايا هذا الغزل على أبيات رائعة من مثل قوله (1):

يا من له فى عينه عقرب

فكلّ من مرّ بها تضرب

ومن له شمس على خدّه

طالعة بالسّعد ما تغرب

وهو أستاذ فن الخمرية فى الشعر العربى غير مدافع سواء من حيث الكمية أو من حيث الكيفية، فقد عاش للخمر يتغنّى بها، مجاهرا بالفسوق والمجون.

وكان شئ من ذلك قد أخذ يشيع على ألسنة الشعراء منذ ظهور الوليد بن يزيد، ونمّاه بشار ومطيع بن إياس ووالبة بن الحباب وعصاباتهم من المجان فى البصرة والكوفة، غير أن أبا نواس اتسع به اتساعا شديدا، فإذا الخمرية تتكامل صورتها وتفرد لها القصائد والمقطوعات وتصبح فنّا مستقلا، له وحدته الموضوعية، مستعينا فى ذلك بملكاته العقلية الخصبة التى أمدته بكثير من المعانى الدقيقة ومستعينا أيضا بملكاته الخيالية التصويرية البديعة التى رفدته بكثير من التشبيهات والاستعارات البارعة، وحتى إن فاته التصوير النادر والمعنى الدقيق أحيانا فإنه لم تكن تفوته حلاوة النغم ورشاقة اللفظ. وقد مضى يتحدث عن كئوسها ودنانها وعتقها وطعمها ورائحتها ومجالسها مصورا كلفه بها وهيامه وتهالكه على احتسائها من أيدى سقاتها بين آلات الطرب ورنّات القيان، يقول (2).

إنما العيش سماع

ومدام وندام

فإذا فاتك هذا

فعلى الدنيا سلام

فلا حياة فى رأيه سوى حياة الخمر والمجون فى بيوت القيان وفى الحانات، ومن ثمّ مضى يدعو فى خمرياته دعوة واسعة إلى العدول عن وصف الأطلال إلى وصف الخمر والمتاع بما يقترن بها من غناء وسقاة، على نحو ما يصور ذلك فى قوله (3):

لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند

واشرب على الورد من حمراء كالورد

كأسا إذا انحدرت فى حلق شاربها

أجدته حمرتها فى العين والخدّ (4)

(1) الديوان ص 407.

(2)

العقد الفريد 6/ 221.

(3)

الديوان ص 265.

(4)

أجدته: أفادته وأعطته.

ص: 234

فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة

فى كفّ جارية ممشوقة القدّ

تسقيك من يدها خمرا ومن فمها

خمرا فما لك من سكرين من بدّ

وأخذ يجدّف كثيرا ضد الدين الحنيف الذى يحرم الخمر وجملة الآثام التى كان يتردّى فيها، معلنا ذلك إعلانا صريحا بمثل قوله (1):

ترى عندنا ما يسخط الله كلّه

من العمل المردى الفتى ما عدا الشّركا

وقد يتمادى فى ذلك حتى ليعلن دهريته وأنه لا يؤمن ببعث ولا حساب ولا بجنة ولا نار، وهو فى ذلك كله إنما يتماجن ويتعابث.

وكان كثيرا ما يلمّ بالأديرة، فيصف معاقرته الخمر فيها وسقاتها من الرهبان والراهبات، وقد يلمّ بجانة لمجوسى أو ليهودى. وأتاح له ذلك أن يصف كل تلك البيئات بالإضافة إلى حانات الكرخ ببغداد وعلى ضفاف دجلة، وشعره من هذه الناحية ملئ بتصوير الحياة الاجتماعية لعصره.

وفى خمرياته فحش كثير، وكأنما وجد ليحمل ذنوب عصره وجميع خطاياه.

على أنه ينبغى أن نلاحظ أنه وضع عليه كثير من الشعر فى هذا الباب، إذ تحول إلى ما يشبه شخصية أسطورية، فإذا هو يدخل فى قصص ألف ليلة وليلة، وإذا هو توضع فى فحشه ونوادره كتب مستقلة، بدأها أبو هفان فى كتابه «أخبار أبى نواس» ومضت تتسع من بعده. وليس ذلك فحسب، فإن كثيرا من أشعار المجّان الذين عاصروه أضيفت إليه، وعرف ذلك القدماء، إذ نرى ابن قتيبة ينصّ على أن الخمرية المشهورة:«يا شقيق النفس من حكم» تنسب إليه وهى لوالبة (2)، ويقول أبو الفرج فى ترجمة الحسين بن الضحاك الخليع إنه «كان إذا شاع له شعر نادر فى الخمر نسبه الناس إلى أبى نواس» (3) ويقول ابن المعتز:«إن العامة الحمقى قد لهجت بأن تنسب كل شعر فى المجون إلى أبى نواس، وكذلك تصنع فى أمر مجنون بنى عامر، كلّ شعر فيه ذكر ليلى تنسبه إلى المجنون» (4) ولم تقف المسألة عند العامة، بل تعدتهم إلى الرواة، وأيضا لم تقف عند شعر الخمر والمجون

(1) الديوان ص 250.

(2)

الشعر والشعراء ص 771.

(3)

أغانى 7/ 146.

(4)

ابن المعتز ص 89.

ص: 235

فقد نسب إليه كثير من شعر معاصريه فى جميع الموضوعات، ويكفى أن نرجع إلى ترجمة النظام فى ابن المعتز، فسنراه ينشد له فى الخمر بيتين وردا فى ديوان أبى نواس (1)، وينشد له قطعة فى مديح الأمين جاءت أيضا فى ديوان أبى نواس (2)، وإذا تركنا ابن المعتز إلى أمالى المرتضى وجدناه ينسب قطعة دالية فى الغزل إلى النظام وهى مبثوثة فى الديوان (3) وكأن الرواة حملوا عليه شعر المتكلمين لما رأوا فيه من غوص على المعانى وبعد فى الخيال والوهم. وكان حملهم عليه لأشعار المجّان أوسع مدى، بل إنهم حملوا عليه كثيرا من زهديات أبى العتاهية (4)

ونحن لا نريد أن نبرئه من الفحش ولا من الغزل الماجن، إنما نزعم أنه حمل عليه كثير فى هذا الباب، ومن ثمّ ينبغى أن لا نتسع فى أحكامنا عليه، وربما كانت أسوأ رواية لديوانه رواية حمزة الأصفهانى، فإنها تمتلئ بالشعر الموضوع عليه، ولذلك لا يصح أن تتّخذ أساسا لدرسه وبحثه. وهو يعتدّ فى كثير من خمرياته وغزلياته باللفظ المونق والأسلوب الرّصين، وله فيها مقطوعات كثيرة تسيل عذوبة ونعومة، غير أن له أيضا وراء ذلك كثيرا من الشعر المهلهل، إذ «كان لا يقوم على شعره ويقوله على السكر كثيرا، فشعره متفاوت، لذلك يوجد فيه ما هو فى الثّريّا جودة وحسنا وقوة وما هو فى الحضيض ضعفا وركاكة» (5). وكان كثيرا ما يدخل ألفاظا فارسية فى خمرياته بحكم شيوع الفارسية فى الحياة اليومية وبين خلعاء الغلمان المجوس الذين كان يتغزل بهم، ودفعه ذلك إلى استخدام كثير من أساليب العامة الغثّة، مما جعل بعض اللغويين والنحاة يصطدمون به وجعله يكثر من هجائهم. وكان إذا خلص من هزله وعبثه وأفضى إلى حاسته الفنية أتى بالعجب العجاب من روائع الشعر ونادره، وكانت ترفده مواهب فنية أصيلة، جعلته يحكم تصاويره ويجرى فيها كثيرا من الطباقات والمقابلات والجناسات البديعة.

وحين علت سنّ أبى نواس ووخطه الشيب أخذ يفيق أحيانا من سكره مفكرا

(1) انظر ابن المعتز ص 272 والديوان ص 262.

(2)

ابن المعتز ص 272 والديوان ص 116

(3)

أمالى المرتضى 1/ 188 والديوان ص 111.

(4)

انظر الأغانى 4/ 11، 29، 70 والديوان على الترتيب ص 205، 194، 200.

(5)

ابن المعتز ص 195.

ص: 236