الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
الحياة العقلية
1 - الامتزاج الجنسى واللغوى والثقافى
كانت الدولة العباسية تمتد من حدود الصين وأواسط الهند شرقا إلى المحيط الأطلسى غربا ومن المحيط الهندى والسودان جنوبا إلى بلاد الترك والخزر والروم والصقالبة شمالا، وبذلك كانت تضم بين جناحيها بلاد السند وخراسان وما وراء النهر وإيران والعراق والجزيرة العربية والشام ومصر والمغرب. وهى أوطان كثيرة، وكان يعيش فيها منذ القدم شعوب متباينة فى الجنس واللغة والثقافة، غير أنها لم تكد تدخل فى نطاق العروبة حتى أخذت عناصرها المختلفة تمتزج بالعنصر العربى امتزاجا قويّا، فإذا بنا إزاء أمة عربية تتألف من أجناس مختلفة، وقد مضت هذه الأجناس تنصهر فى الوعاء العربى حتى غدت كأنها جنس واحد.
ومن أهم الأسباب التى هيّأت لذلك نزول القبائل العربية فى الأمم المفتوحة وامتزاجها بشعوبها فى السكنى وعن طريق المصاهرة وتسرّى الإماء، بحيث غدت بيوت العرب تزخر بالجوارى من كل جنس: سنديات وحبشيات وفارسيات وخراسانيات وتركيات وروميات وصقلبيات، وبحيث أصبح العربى خالص الدم فى بغداد نادرا، فالكثرة الكثيرة من أبناء العرب أمهاتهم من الجوارى والإماء، وكذلك الشأن فى الخلفاء أنفسهم على نحو ما أشرنا إلى ذلك فى الفصل السابق.
وكان وراء هذا المزج الدموى بين العنصر العربى والعناصر الأجنبية مزج روحى عن طريق الولاء الذى شرعه الإسلام والذى اتخذ شكل رابطة تشبه رابطة الدم، فالشخص يكون فارسيّا أو هنديّا أو روميّا أو قبطيّا ويكون عربيّا ولاء، وحتى الرقيق كانوا بمجرد تحريرهم يصبحون موالى لأصحابهم وينسبون إلى قبائلهم مثلهم مثل أبنائها الأصليين، وقد دعا الإسلام إلى هذا التحرير دعرة واسعة،
وجعله كفارة عن كل ذنب كبير أو صغير، وكان كثير منهم حين يحرّرون يجدّون ويعتلون المناصب الكبرى فى الدولة.
وهذا الرقيق إنما كان قلة قليلة بالقياس إلى أحرار الموالى الذى كانت تتكون منهم الشعوب المفتوحة، وقد دخلت كثرتهم فى الإسلام، وامتزجوا بأهله من العرب ونعموا بما يكفل للناس من عدل ومساواة، وحقّا تعسف معهم الأمويون ولكن العباسيين ردوا الأمر إلى نصابه، بل لقد فسحوا للفرس كى يغلبوا على العرب فى تصريف شئون الدولة. وحتى من لم يسلم من الموالى: من المجوس والصابئة والنصارى أخذ يندمج فى المحيط العربى بفضل ما شرعه الإسلام لهم من حقوق اجتماعية وحرية دينية. وبذلك فتحت بينهم وبين المسلمين أبواب التعاون الوثيق-على مصاريعها- فى جميع شئون الحياة، وحقّا دخل جمهورهم الضخم فى الإسلام ولكن دون إكراه أو عنف أو عسف.
وبذلك استطاع الإسلام-بتعاليمه السمحة-أن يحدث امتزاجا قويّا بين العناصر المختلفة التى كانت تتألف منها الدولة العربية، وهو امتزاج لم يبلغه بامتلاك الأرض المفتوحة، إنما بلغه بامتلاك القلوب، فإذا الكثرة الكثيرة من الشعوب التى انبسط عليها سلطانه تسلم وإذا من بقوا على دينهم يشعرون تلقاء المسلمين وحكامهم بضرب من الأخوة الكريمة.
وقد أسرع من أسلموا من الشعوب المفتوحة جميعا إلى تعلم لغة القرآن الكريم والحديث النبوى، فلم يمض نحو قرن حتى أخذت العربية تسود فى كل أنحاء العالم الإسلامى لا بين المسلمين وحدهم، بل أيضا بين غيرهم ممن بقى على دينه القديم لا فى البيئات التى كانت قد أخذت تستعرب فى العصر الجاهلى: بيئات العراق والجزيرة والشام فحسب، بل أيضا فى البيئات النائية: فى إيران وخراسان ومصر وبلاد المغرب، وهى بيئات لم يكن لها بالعروبة عهد من قبل، فإذا هى تتعرّب وتتعرّب معها الأطراف الغربية للقارة الأوربية فى الأندلس.
وكان سكّان هذه البيئات يتكلمون لغات مختلفة، ففى إيران كانوا يتكلمون الفهلوية، وفى العراق والجزيرة كانوا يتكلمون الآرامية وما انبثق منها من النبطية والسريانية، وفى الشام كانوا يتكلمون اللغة الأخيرة ولغات سامية مختلفة، وفى مصر
كانوا يتكلمون القبطية وفى بلاد المغرب كانوا يتكلمون البربرية. وكانت اللغة اليونانية قد أخذت تشيع-منذ غزو الإسكندر-فى الأوساط الثقافية بالشرق كله: فى إيران والعراق والجزيرة والشام ومصر، بينما كانت اللاتينية تشيع فى تلك الأوساط بشمالى إفريقية والأندلس.
ولا نكاد نتقدم فى كل هذه البيئات بعد فتحها بنحو قرن حتى نجد العربية قد ملكت ألسنة الناس وقلوبهم فى جميع أنحائها القريبة والبعيدة، وكان هذا تطورا خطيرا حدث فيها، إذ أصبحت شعوبها جميعا عربية اللغة والتفكير والشعور والثقافة والأدب والحضارة. وقد اختلف إسراعها إلى هذا التعرب باختلاف مواقعها من الجزيرة العربية، فكان أسرعها تعربا العراق والجزيرة والشام، وكان تعربها جميعا قد بدأ فى الجاهلية، فأتمته الفتوح العربية سريعا، فإذا اللغات السامية التى كانت تنتشر فى تلك البيئات وعلى رأسها السريانية تترك مكانها من ألسنة الناس وتنحاز إلى الأديرة وإلى بيئة الصابئة فى حران وبعض المراكز الثقافية القديمة كمدرسة جنديسابور. وتتعرب مصر وبلاد المغرب تدريجا.
وقد أقبل الفرس على التعرب إقبالا منقطع النظير، فقد أكبوا على تعلم العربية حتى أتقنوها واتخذوها سريعا للتعبير عن عقولهم ووجداناتهم بحيث لا نكاد نتقدم فى العصر العباسى حتى يصبح جمهور العلماء والكتاب والشعراء منهم، فهم يقبلون على درس الشريعة الإسلامية ويتألق فيها نجم أبى حنيفة وتلاميذه، وهم يقبلون على جمع العربية وتدوين أصولها النحوية على نحو ما هو معروف عن سيبويه وهم يقبلون على إحسان صناعة الكتابة على نحو ما هو معروف عن ابن المقفع، وهم يقبلون على الشعر بحيث يصبح أعلامه النابهون منهم على نحو ما هو معروف عن بشار وأبى نواس.
وليس معنى ذلك أن جميع أصحاب اللغات القديمة هجروا لغاتهم تماما، فقد ظلت من ذلك بقايا حتى فى أكثر البيئات تعربا أى فى العراق والشام، مما نشأ عنه سقوط بعض كلمات نبطية وآرامية إلى العربية (1). ولعل أهم لغة قديمة
(1) انظر الأغانى (طبع دار الكتب) 5/ 176 وقد اشتهر فى أواخر عصر بنى أمية شاعر عربى بكثرة ما كان يدخل فى أشعاره من ألفاظ نبطية هو الطرماح: انظر الموشح للمرزبانى ص 208.
ظلت حية هى الفارسية، لا بين سكان إيران فحسب، بل أيضا بين سكان الأمصار فى العراق، إذ زحفت إليها منذ عصر بنى أمية جموع كبيرة منهم، وازداد زحفهم فى هذا العصر الذى علا فيه سلطانهم. ويدل على ذلك من بعض الوجوه ما يرويه الجاحظ عن قاصّ من قصّاص البصرة ووعاظها هو موسى الأسوارى إذ يقول:
«كان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية فى وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس فى مجلسه المشهور به، فتقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحوّل وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية فلا يدرى بأى لسان هو أبين» (1). وكان كثير من العرب أنفسهم يتعلم الفارسية ويحسنها، حتى لنراها تدور فى مجالسهم (2)، وحتى لنرى الأصمعى العربى القحّ يفهم ما يجرى منها على لسان بعض الفرس (3). ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنها كانت تشيع على ألسنة كثيرين فى الحياة اليومية لبغداد والكوفة والبصرة، وبسبب من ذلك ولأنها كانت لغة الحضارة الفارسية دخل منها إلى العربية ألفاظ كثيرة، وخاصة ما اتصل بأسماء الأطعمة والأشربة والأدوية والملابس.
ودخل العربية فى هذا العصر بعض ألفاظ هندية وخاصة فى أسماء النباتات والحيوانات من مثل الآبنوس والببغاء والفلفل كما دخل بعض ألفاظ يونانية وخاصة ما اتصل بأسماء المقاييس والموازين والأمراض والأدوية من مثل القيراط والأوقية والقولنج.
ولم تفسد هذه الكلمات الدخيلة العربية فقد كانت تأتى على هامشها، وكثيرا ما كانت تعرّب بحيث تتفق واللسان العربى، وقد ألف العرب فيها مصنفات كثيرة تمييزا لها وتعريفا بها. ولم يكونوا يعمدون دائما إلى استعارة الأسماء الأجنبية لمدلولاتها التى لم يكونوا يعرفونها، بل كانوا يحاولون فى أحوال كثيرة أن يضعوا لتلك المدلولات أسماء عربية خالصة إما عن طريق الاشتقاق وإما عن طريق التوسع فى مدلولاتها ومعانيها القديمة. وبذلك اتسعت العربية وتحولت من لغة البدو القديمة إلى لغة حضارية مع المحافظة الشديدة على مقوّماتها ومشخصاتها وأوضاعها وأصولها الاشتقاقية والصرفية والنحوية.
(1) البيان والتبيين 1/ 368.
(2)
أغانى (طبعة الساسى) 17/ 19.
(3)
أغانى (طبع دار الكتب) 5/ 7.
وحقّا أخذ يفشو اللحن ولكن علماء اللغة كانوا بالمرصاد لكل من يلحن، حتى لكأنهم كانوا يعدّون اللحن إحدى الكبائر، وقد مضوا يسجّلون على كل عالم وكل كاتب وكل شاعر ما تعثر فيه أحيانا من بعض اللحن. وجمع من ذلك «يوهان فك» فى كتابه «العربية» مادة واسعة، ومن ينعم النظر فيها يعرف أن اللحن لم يكن متفشيا فى أوساط المثقفين بل كان محدودا جدّا، إذ مبلغ ما يضاف إلى أى شخص لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة إلا فى النادر. وقد وقف يوهان فك طويلا عندما ساقه الجاحظ فى كتابه «البيان والتبيين» من لكنات بعض الأعاجم، وهى لكنات مردها إلى ما كان يجده نفر منهم من صعوبة فى التكيف العضوى لمخارج الحروف العربية التى لا توجد فى لغاتهم، إذ كان منهم من يبدل الراء غينا والزاى والتاء والشين سينا والعين همزة والقاف كافا أو طاء والجيم زايا أو ذالا والحاء هاء والصاد سينا والظاء زايا واللام ياء. وهذه اللكنات إنما كانت تشيع على ألسنة العامة وقلما سقط منها شئ إلى ألسنة الفصحاء من العرب والموالى.
وهذا نفسه يلاحظ فى اللحن فإنه إنما كان يشيع فى أوساط العامة، وكان علماء اللغة يعنون بتنقية العربية وتصفيتها من الشوائب، وفى ذلك ألف الكسائى كتابه فى لحن العامة، وهو مطبوع
ومما لا ريب فيه أن الفصحى كانت المثل الأعلى للناس فى هذا العصر، وخاصة الطبقة المثقفة، وكان أهم ما دعمها وبسط سلطانها القرآن الكريم، وحتى الشعوبيون والزنادقة اتخذوها لسانهم وأداتهم فى التعبير ولم يحاولوا الخروج على قوالينها. وقد عاش علماء اللغة يحوطونها ويحرسونها حراسة حفظت لها كل مقوماتها الاشتقاقية والتعبيرية والنحوية ومكنتها من الثبات والجريان على الألسنة لا فى الأوساط الثقافية والأدبية فحسب، بل أيضا فى أوساط العامة وبين العناصر التى لم تدخل فى الإسلام مما أحالها وعاء كبيرا لكل ما لقيته من ثقافات فى البيئات التى ذكرناها ومن معارف مختلفة متباينة، وهى معارف امتزجت فيها منذ فتوح الإسكندر عناصر شرقية بعناصر إغريقية مكونة ما يسى باسم الثقافة الهيلينية، ومعروف أن فتوحه شملت مصر وليبيا والشام والعراق وإيران وخراسان وأفغانستان وشطرا من بلاد الهند، وقد عنى بنشر الثقافة الإغريقية فى كل البلدان التى افتتحها ومضى خلفاؤه الذين
ورثوا ملكه يستنون بعمله. وبذلك امتزجت هذه الثقافة بثقافات الأمم المفتوحة، وتكونت من هذا الامتزاج ثقافة جديدة فيها من فلسفة الإغريق المتشعبة وفيها من ديانات الشرق وروحانياته وأساطيره ومعارفه الفلكية وغير الفلكية. وكانت تقوم على هذه الثقافة الهيلينية قبل الإسلام مدارس مختلفة فى الإسكندرية وقيسارية وأنطاكية والرها ونصيبين وحرّان وجنديسابور، فاتصلت العربية بكل هذا التراث وأخذت تعمل على المزج بينه وبين معارف العرب وآدابهم، واتخذ هذا المزج صورا كثيرة، منها الترجمة ونقل علوم الأوائل وسنعرض لذلك فى موضع آخر.
ومنها تأثر العرب بالمعارف العملية التطبيقية عند الأجانب مما اضطروا إلى الوقوف عليه فى إنشاء المدن وضبط الدواوين وعمل الأساطيل وإعداد الجيوش والنهوض بالزراعة والتجارة. ومنها جدالهم لأصحاب الملل والنحل، فقد كانوا ناشرين للدين الإسلامى، فاضطرمت المجادلات والمناظرات بينهم وبين البوذيين والمجوس والصابئة والنصارى واليهود وغيرهم، وتعرفوا على عقائدهم ونحلهم. وأعمق من ذلك تحول أصحاب النحل والديانات المختلفة إلى الإسلام، فقد تحولوا إليه بتراثهم العقيدى، بل بكل تراث آبائهم الثقافى.
ولا نبالغ إذا قلنا إن كل ألوان الثقافات العامة التى كانت مبثوثة فى البلدان المفتوحة من أواسط آسيا إلى مشارف البرانس تحولت إلى العربية دون حاجة إلى ترجمة منظمة لسبب طبيعى وهو أن شعوب هذه الثقافات تحولوا عربا، فكان طبيعيّا أن تتحول معهم ثقافاتهم وأن لا تنتظر حتى ينظّم لها النقل والترجمة. وأهم هذه الثقافات حينئذ الثقافة الهندية والفارسية واليونانية. وكانت الثقافة الهندية تصل العرب حينئذ عن طريقين: طريق الفرس وما سقط إليهم منها من قديم وطريق من دخلوا منهم حديثا فى الإسلام واندمجوا فى عرب العراق، ومعروف أن جمهور الهنود وثنيون يدينون بالبوذية، ومنهم براهمة (1) ينكرون النبوات ودهريون لا يؤمنون بشئ سوى الدهر وسمنية لا يؤمنون بشئ سوى الحس وقد ناظرهم قديما جهم (2) ابن صفوان، وظل المعتزلة-على نحو ما يصورهم الجاحظ فى كتابه الحيوان-
(1) انظر فى نحل الهند الشهرستانى ص 444 ما بعدها.
(2)
المنية والأمل لابن المرتضى ص 21.
يردون عليهم ردّا عنيفا (1)، ونعجب أن نرى عربيّا أزديّا يعتنق عقيدة السّمنيّة (2).
وكانوا يؤمنون بتناسخ الأرواح إيمانا شديدا حتى ليقول البيرونى: «كما أن الشهادة بكلمة الإخلاص شعار إيمان المسلمين والتثليث علامة النصرانية والإسبات علامة اليهودية كذلك التناسخ علم النحلة الهندية، فمن لم ينتحلها لم يك منها ولم يعد من جملتها» (3) إذ استقر بينهم أن الأرواح تنتقل من جسد إلى جسد تطلب بذلك الكمال، وما تزال تطلبه حتى تستوفى شرف ذاتها وتستغنى عن الاتصال بالأبدان، وحينئذ يتحد العقل والعاقل والمعقول ويصبحون جميعا شيئا واحدا. وقد سقطت هذه العقيدة-كما مر بنا فى غير هذا الموضع-إلى مانى والمانوية كما سقطت إلى بعض الشيعة القائلين بتناسخ النور الإلهى فى الأئمة، وأيضا فإنها سقطت فى هذا العصر إلى الخرمية، وكان يؤمن بها أحمد بن حائط المتكلم صاحب فرقة الحائطية ويدافع عنها دفاعا شديدا (4). وكان يشيع على ألسنة عامتهم بعض قصصهم كقصة السندباد. وقد تأثرت المانوية-على نحو ما أشرنا فى الفصل السابق- بزهد البوذيين وطرقهم فى النسك وتحريمهم لذبح الحيوان.
وكانت الثقافة الفارسية الشعبية أبعد تأثيرا فى المحيط العربى لهذا العصر، فقد دخل جمهور الفرس فى الإسلام واقتبس العرب كثيرا من صورة حياتهم فى المطعم والملبس وبناء القصور ونظام الخدم والحشم، وكانوا يحتفلون معهم بأعيادهم كما أسلفنا، ويحكون عنهم أقاصيصهم عن رستم وإسفنديار وأخبارهم عن ملوكهم وحكمائهم. وكانت المجوسية لا تزال حية بمعابد نيرانها ونحلها المختلفة من زرادشتية ومانوية ومزدكية وما كانت تجتمع عليه هذه النحل من ثنوية أو إيمان بأن للعالم إلهين: إلها للنور وإلها للظلمة. ونعجب إذ نجد بعض العرب يصبح ثنويّا مانويّا على نحو ما كان صالح بن عبد القدوس. وكان تأثير المزدكية فى المجتمع أشد عمقا، بما كانت تدعو إليه من التحلل الخلقى والعكوف على اللهو والمجون والاندفاع فى إباحية مسرفة.
ولم يختلط العرب باليونان والبيزنطيين إلا اختلاطا محدودا عن طريق الرقيق البيزنطى الذى كان يقع فى الأسر أو يباع فى أسواق النخاسة، وكان تأثيره فى
(1) انظر مثلا الحيوان 4/ 70 وما بعدها.
(2)
أغانى (طبع دار الكتب) 3/ 147.
(3)
تحقيق ما للهند من مقولة ص 24.
(4)
الشهرستانى ص 42.
المجال العربى محدودا، وحقا أن الثقافة اليونانية أهم ثقافة أثرت فى الفكر العباسى، ولكن عن طريق النقل والترجمة لا عن طريق اختلاط أصحابها بالعرب، وأيضا عن طريق ما ألقته من ظلال على الثقافة الهيلينية الشعبية العامة التى كانت سائدة فى المنطقة والتى حملت فى أطوائها معارف الكلدانيين والصابئة عن النجوم والكواكب ومعارف الشآميين والمصريين عن شئون الزراعة وما كان يتداول هنا وهناك من أقاصيص عن السحر والعرافة وما يجرى فى كل ذلك من إيمان بالغيبيات ومن نزعات روحية عميقة.
وكان يشارك فى الحياة اليومية أصحاب الديانتين النصرانية واليهودية، ويصور لنا الجاحظ فى رسالته «الرد (1) على النصارى» موقف العرب منهم حينئذ ومن اليهود فيقول إنهم كانوا أقرب من اليهود إلى العرب مودة وأسلم صدورا، فإن اليهود طووا قلوبهم على عداوة الإسلام ورسوله الكريم منذ مقامه بين ظهرانيهم فى يثرب، على حين آوى نصارى الحبشة من هاجروا إليهم من أصحاب الرسول فرارا من اضطهاد قريش ومدّوا إليهم يد البرّ والعون. ويقول إن نصارى بغداد كانوا ينهضون بالصناعات المربحة مندمجين فى حياة الخلفاء والرعية، بينما كان اليهود يحترفون الصناعات الرذيلة الحقيرة، فمن النصارى كتاب السلاطين وأطباء الأشراف والعطارون والصيارفة، أما اليهود فمنهم الصباغون والدباغون والقصّابون والشعّابون، وقد رسخ فى ذهن العرب أنهم أقذر الأمم. ونرى نفرا منهم يسلمون منذ عهد الإسلام الأول ويذيعون كثيرا من الإسرائيليات التى دخلت فى تفسير القرآن الكريم على نحو ما هو معروف عن كعب الأحبار ووهب بن منبه، وقد استغلها القصاص فى وعظهم للعامة استغلالا واسعا، وكان منهم من أسلم بلسانه ولم يسلم بقلبه، فمضى يسر عداوته للإسلام ويحاول أن يهدمه هدما بما يدخل عليه من عقائد منحرفة وبما يثير من الفتن بين أصحابه مثل عبد الله بن سبأ، وقد لعب دورا واسعا فى فتنة عثمان والتأليب عليه وإحداث أول فرقة فى الإسلام، حتى إذا حدثت أخذ يلقى فى روع بعض الضعفاء والعوامّ أن على بن أبى طالب فوق البشر وأن روح الرسول حلّت فيه، ولما مات قال إنه اختفى وسيعود. وبذلك وضع نواة
(1) انظر هذه الرسالة فى ثلاث رسائل للجاحظ نشر فنكل.
التشيع الباطن، بل وضع نواة غلاة الشيعة جميعا ورافضتهم الذين طالما حاجّهم وجادلهم المعتزلة فى هذا العصر. وكان له خلفاء كثيرون من جنسه مضوا يفسدون على شاكلة إفساده، بل لقد كان ممن ظلوا على يهوديتهم من يخالطون العرب فى مجالسهم (1) ويوردون عليهم بعض معتقداتهم الفاسدة من مثل التشبيه على الذات العلية (2)، حتى ليصبح هناك قوم معروفون باسم المشبهة من الرافضة وغيرهم. وقد عنى المعتزلة طويلا بتسفيه أحلامهم ونقض ما زعموه من التشبيه على الله نقضا. وكانوا يقولون إن التوراة محدثة ومخلوقة وأكبر الظن أن المعتزلة أو نفرا منهم نقلوا عنهم هذه الفكرة فقالوا إن القرآن مخلوق (3). وإنما يدفعنا إلى هذا الرأى أنه كان من رءوس القائلين بها ثمامة بن أشرس وبشر بن غياث المريسى المتكلم، وكان غياث يهوديّا يسكن بغداد وأسلم ابنه واشتغل بعلم الكلام والقول بخلق القرآن (4) وما زال هو وثمامة بالمأمون حتى اعتنق هذا القول وجعله محنة وبلاء على الفقهاء والعلماء. وهو بلاء جرّ إلى صدع متفاقم بين المعتزلة وأهل السنة حتى لقد قضى قضاء مبرما على ما كان للأولين من مجد فى العصر العباسى الأول.
وقد شكا الجاحظ-على نحو ما مر بنا فى الفصل السابق-من متكلمى النصارى وأطبائهم ومنجميهم لنقلهم إلى العربية كتب المنانية والديصانية والمرقيونة المارقة، مما أفسدوا به عقول العوام، ولكن من الحق أن النصارى لم يكونوا يبطنون للإسلام من العداوة ما أبطنه اليهود على نحو ما لا حظ ذلك الجاحظ نفسه، وكان المسلمون يبرّونهم ويعاملونهم معاملة كريمة، وقد دخل منهم جمهور غفير فى الإسلام وامتزج العرب بهم وأكثروا من تسرى جواريهم مما هيأ للقاح واسع بين العناصر الإسلامية والمسيحية فى المجتمع العباسى، ولا نقصد اللقاح الدموى فحسب، بل نقصد أيضا اللقاح الثقافى، إذ نشأ جيل كبير أمهاته من المسيحيات روميات وغير روميات، وطبيعى أن يحمل هذا اجيل عن أمهاته ثقافتهن وكثيرا
(1) النجوم الزاهرة 2/ 29.
(2)
انظر الشهرستانى ص 64 - 65، 77 حيث يقول إن التشبيه فى اليهود طباع حتى قالوا فى الله: اشتكت عيناه فعادته (فزارته) الملائكة
(3)
انظر ضحى الإسلام لأحمد أمين 1/ 334.
(4)
النجوم الزاهرة 2/ 228 وقارن ب 2/ 187.