الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
…
وجاوزه إلى ما تستطيع
وقوله:
وتروض عرسك بعد ما هرمت
…
ومن العناء رياضة الهرم (1)
وواضح فيما أنشدناه من أشعاره أنه كان يعنى باللفظ الجزل الرصين والبناء القوى المحكم، كما كان يعنى بالتدليل والتعليل ودقة القياس.
3 - شعراء الزهد
هذه الصفحة التى صورناها من شعر المجون والزندقة كانت تقابلها صفحة رائعة من شعر الزهد، فقد كانت المساجد مكتظة بالوعاظ والنساك وأهل الحديث والفقه والورع، ومن حولهم العامة، وقد صدقت كثرتهم ربها مخافة وعيده، مؤمنة بأن القيامة موعدها وموقفها مع ذى الجلال وأن العمر وإن طال قصير وأن الدنيا ينبغى أن تكون دار زاد لدار المعاد. وما بنى الوعاظ والنساك من المحدثين يزجرونهم عن التعلق بمتاعها الزائل واضعين نصب أعينهم الموت وتبعات الحياة الموبقة وأن العاقل من عرف أن الناس سفر وعما قليل راحلون فإما عذاب مستديم وإما نعيم مقيم، فأسرع يغتنم بقية أجله بخير عمله مقدما كل ما يستطيع من الباقيات الصالحات.
ويبدو أن كثيرين من القصاص والوعاظ كانوا ما يزالون ينشدون فى وعظهم وقصصهم أبياتا وأشعارا كثيرة منها ما يروونه عن القدماء ممن سبقوهم، ومنها ما ينشئونه إنشاء، فمن ذلك ما يروى عن صالح المرى القاصّ العابد من أنه كان كثيرا ما ينشد فى قصصه ومواعظه:
(1) العرس: الزوجة.
فبات يروّى أصول الفسيل
…
فعاش الفسيل ومات الرّجل (1)
وكان مالك بن دينار المحدث الناسك لا يزال يتحدث فى مجالسه عن الموت، حتى لتكاد تخنقه العبرات، وله أشعار مختلفة يتحدث فيها عن القبور وأهلها وأنه أجل محدود ونفس معدود، وعما قليل يصبح الإنسان ترابا فى تراب، كمن سبقوه، فأولى له أن يتعظ ويعتبر، يقول (2):
أتيت القبور فناديته
…
نّ أين المعظّم والمحتقر
وأين المدلّ بسلطانه
…
وأين المزكّى إذا ما افتخر
تفانوا جميعا فما مخبر
…
وماتوا جميعا ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثّرى
…
فتمحو محاسن تلك الصّور
فيا سائلى عن أناس مضوا
…
أمالك فيما ترى معتبر
وممن كان يكثر من إنشاد الشعر فى مواعظه سفيان بن عيينة وسفيان الثورى.
وكأن الوعاظ بذلك قدموا مادة واسعة لمعاصريهم من الشعراء كى يصوغوا على نمطها مواعظ تذكى الزهد والعمل الصالح فى نفوس الناس، وقد أقبل كثيرون ينظمون دقائق الزهد، حتى بين المجان حين كانوا يثوبون إلى أنفسهم على نحو ما مر بنا عند أبى نواس، وكما يلقانا عند محمد بن يسير، وكان ماجنا هجاء خبيثا، فقد ألم يوما بمجلس أبى محمد الزاهد صاحب الفضيل بن عياض، فأنشد (3):
ويل لمن لم يرحم الله
…
ومن تكون النار مثواه
واغفلتا فى كل يوم مضى
…
يذكرنى الموت وأنساه
من طال فى الدنيا به عمره
…
وعاش فالموت قصاراه
كأنه قد قيل فى مجلس
…
قد كنت آتيه وأغشاه
محمد صار إلى ربّه
…
يرحمنا الله وإياه
وكان من الشعراء الخلعاء المجان من يقلع إقلاعا عن غيه، فيكثر من أشعار
(1) البيان والتبيين 1/ 119، والفسيل: صغار النخل.
(2)
عيون الأخبار 2/ 302.
(3)
الأغانى (طبعة دار الكتب) 14/ 39.
الزهد مكفّرا بها عما قدمت يداه من مجون وخلاعة، ومن خير من يمثل ذلك محمد ابن حازم، وكان ينغمس فى اللهو والمجون، حتى إذا بلغ الخمسين من سنّه آلى على نفسه أن لا يشرب كأسا ولا يسير فى طريق غواية، وأخذ يكثر من شعر الزهد حاضّا على القناعة وقطع الأسباب المتصلة بالقلوب من متاع الدنيا الفانى بمثل قوله (1):
ومنتظر للموت فى كل ساعة
…
يشيد ويبنى دائما ويحصّن
له حين تبلوه حقيقة موقن
…
وأفعاله أفعال من ليس يوقن
وقوله الذى مرّ بنا فى الفصل الرابع:
اضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس
…
واقنع بيأس فإن العزّ فى الياس
واستغن عن كل ذى قربى وذى رحم
…
إن الغنىّ من استغنى عن الناس
وكثيرون كانوا يأخذون أنفسهم بحياة زاهدة حقيقية، فهم لا يقفون على أبواب الخليفة ولا أبواب الوزراء والأمراء والقواد، بل يكتفون من العيش بالكفاف، وإن عرضت عليهم وظيفة أبوها حرصا على دينهم ورفضا لدنياهم، وممن اشتهروا فى هذا الباب الخليل بن أحمد واضع النحو والعروض، وله فى الزهد والعظة أبيات كثيرة من مثل قوله (2):
عش ما بدا لك، قصرك الموت
…
لا مهرب منه ولا فوت
بينا غنى بيت وبهجته
…
زال الغنى وتقوّض البيت
واشتهر بأنه كان يأبى أن يصحب الخلفاء والحكام وذوى الجاه لما فى أيديهم من الدنيا، ويروى أن سليمان بن قبيصة بن يزيد بن المهلب، وكان واليا على السّند، وجّه إليه يستزيره فكتب إليه (3):
أبلغ سليمان أنى عنه فى دعة
…
وفى غنى غير أنى لست ذا مال
سخّى بنفسى أنى لا أرى أحدا
…
يموت هزلا ولا يبقى على حال
(1) انظر فى هذين البيتين وتالييهما العقد الفريد 3/ 207.
(2)
البيان والتبيين 3/ 183.
(3)
إنباه الرواة 1/ 344.