المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - ملكات الشعراء اللغوية - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٣

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الأول

- ‌الفصل الأوّلالحياة السياسية

- ‌1 - الثورة العباسية

- ‌2 - بناء بغداد ثم سامرّاء

- ‌3 - النظم السياسية والإدارية

- ‌4 - العلويون والخوارج

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثانىالحياة الاجتماعية

- ‌1 - الحضارة والثراء والترف

- ‌2 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌3 - المجون

- ‌4 - الشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد

- ‌الفصل الثالثالحياة العقلية

- ‌1 - الامتزاج الجنسى واللغوى والثقافى

- ‌2 - الحركة العلمية

- ‌3 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة

- ‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ

- ‌5 - العلوم الدينية وعلم الكلام والاعتزال

- ‌الفصل الرابعازدهار الشعر

- ‌1 - ملكات الشعراء اللغوية

- ‌2 - طوابع عقلية دقيقة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - موضوعات جديدة

- ‌[5 - ]التجديد فى الأوزان والقوافى

- ‌الفصل الخامسأعلام الشعراء

- ‌1 - بشار

- ‌2 - أبو نواس

- ‌3 - أبو العتاهية

- ‌5 - أبو تمام

- ‌الفصل السادسشعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الدعوة العباسية

- ‌ أبو دلامة

- ‌[2 - ]شعراء الشيعة

- ‌ السيد الحميرى

- ‌دعبل

- ‌ ديك الجن

- ‌3 - شعراء البرامكة

- ‌ أبان بن عبد الحميد اللاحقى

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌أبو الشيّص

- ‌ على بن جبلة

- ‌الخريمىّ

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ أبو عيينة المهلّبى

- ‌الفصل السّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ العباس بن الأحنف

- ‌ربيعة الرّقى

- ‌2 - شعراء المجون والزندقة

- ‌ حماد عجرد

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌ عبد الله بن المبارك

- ‌4 - شعراء الاعتزال

- ‌ العتابى

- ‌ بشر بن المعتمر

- ‌النظام

- ‌5 - شعراء النزعات الشعبية

- ‌ أبو الشمقمق

- ‌الفصل الثامنتطور النثر وفنونه

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطب والوعظ والقصص

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية والعهود والوصايا والتوقيعات

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التاسعأعلام الكتّاب

- ‌خاتمة

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار

الفصل: ‌1 - ملكات الشعراء اللغوية

‌الفصل الرابع

ازدهار الشعر

‌1 - ملكات الشعراء اللغوية

كانت البادية فى هذا العصر لا تزال تمد الحاضرة بكثير من الشعراء ذوى السليقة العربية السليمة من مثل أبى البيداء وابن الدّمينة وابن ميّادة وأبى حيّة النّميرىّ وأبى ضمضم الكلابى وابن عمه أبى زياد والعمانى وشبيل بن عزرة الضّبعىّ وأبى العميشل وعمارة بن عقيل حفيد جرير. وقد تحول كثير من هؤلاء الشعراء إلى معلمين يعلمون الناشئة اللغة ورواية الشعر القديم (1). وكان يقابلهم فى المدن شعراء لم ينشأوا فى البادية، ولكن السليقة العربية تحولت إليهم وتمثلت فى دخائلهم، حتى أصبحوا لا يقلون عن شعراء البادية فصاحة وبيانا.

ولعلماء اللغة الذين تحدثنا عنهم فى الفصل السابق الفضل فى تحول هذه السليقة إلى شعراء الحضر، فقد جمعوا لهم اللغة والشعر الجاهلى والإسلامى، ووضعوا لهم مقاييسهما وضعا دقيقا، وظلوا طوال العصر يبعثون فيهم الإيمان بأن الشعر القديم هو القدوة المثلى. وكان من هؤلاء اللغويين شعراء بارعون بادروا إلى الاحتذاء على هذه القدوة، نذكر من بينهم حمادا الرواية والخليل بن أحمد وخلفا الأحمر والأصمعى.

ولم يغرض هؤلاء اللغويون على شعراء الحاضرة نماذج الشعر القديم السهلة فحسب، بل لقد كان همهم الأول أن يعرضوا عليهم نماذجه العويصة المليئة بالحوشىّ والألفاظ الغريبة، ومضوا فجعلوها مدار إملاءاتهم ومحاضراتهم حتى ليقول الجاحظ:«لم أر غاية النحويين إلا كل شعر فيه إغراب، ولم أر غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج (2)» .

ومعروف أن أهم مجموعتين للشعر القديم ألّفتا فى العصر هما المفضليات للمفضّل

(1) الفهرست لابن النديم (طبعة القاهرة) ص 65.

(2)

البيان والتبيين 4/ 24.

ص: 138

الضبى الكوفى والأصمعيات للأصمعى البصرى، وهما تزخران بالغريب. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن اللغويين لم يكادوا يتركون قصيدة ولا مقطوعة جيدة لشاعر جاهلى أو إسلامى إلا سجلوها ودوّنوها، وفسروها وشرحوها. وبذلك انقادت اللغة وسلست لمعاصريهم من الشعراء وغير الشعراء.

وكان من أهم ما حفزهم إلى ذلك القرآن الكريم والحديث النبوى، حتى لا تستغلق دلالتهما على أفهام الناس وأفهام العلماء أنفسهم، مما جعل الجاحظ يقول:

«للعرب أمثال واشتقاقات وأبنية وموضع كلام يدلّ عندهم على معانيهم وإرادتهم.

فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة والشاهد والمثل. فإذا نظر فى الكلام وفى ضروب من العلم وليس هو من أهل هذا الشأن هلك وأهلك الناس (1)». وانضم إلى ذلك باعث سياسى، فإن خلفاء بنى العباس أظهروا محافظة شديدة على لغة القرآن الكريم وبعثوا العلماء على مدارستها والتعمق فيها ورواية كل ما يتصل بها من أنساب وأيام وأخبار وأشعار. وقد جعلوا مقياس وظائفهم الكبيرة التفوق فيها، فكانوا لا يستوزرون ولا يستكتبون إلا من حذقها وبرع فى أدائها. وأخذوا أبناءهم بتعلمها، بل بإتقانها، فأحضروا لهم كبار اللغويين ليحفظوهم كثيرا من نماذجها الشعرية وكى يقفوهم على صياغاتها وأساليبها، وتأليف المفضل الضبى للمهدى كتاب المفضليات، وهو لا يزال ناشئا فى عهد أبيه، ذائع مشهور. وبذلك سرى فى القصر العباسى ذوق محافظ كان له أثره فى الشعراء، إذ كانوا يمثلون بين أيدى الخلفاء مادحين لهم. وكانوا يقيسون جودتهم بهذا الذوق، فكان لا بد لهم أن يتلاءموا معه حتى يظفروا بما يبتغون من جوائز كبيرة. وكانت مجالس الخلفاء تكتظ باللغويين من مثل الكسائى والأصمعى، فكان لا بد للشعراء أن يروقوهم حتى ينالوا استحسانهم، ويرى ذلك الخلفاء منهم فيجزلوا لهم فى العطاء.

وبذلك أصبح اللغويون سدنة الشعر فى هذا العصر وحرّاسه، فمن نوّهوا به طار اسمه، ومن لوّحوا فى وجهه خمل وغدا نسيا منسيّا. ويلقانا كثير من الشعراء يعرضون عليهم أشعارهم قبل إنشادها فى المحافل العظام، فإن استحسنوها مضوا فأنشدوها، وإن لم يستحسنوها ذهبوا يعاودون الكرّة بصنع قصائد جديدة آملين أن تظفر باستحسانهم، فمن ذلك ما يروى عن مروان بن أبى حفصة

(1) الحيوان 1/ 153.

ص: 139

من أنه لما نظم قصيدته: (طرقتك زائرة فحىّ خيالها)

وهى إحدى روائعه فى المهدى ذهب إلى حلقة يونس النحوى فقال له: قد قلت شعرا أعرضه عليك، فإن كان جيدا أظهرته، وإن كان رديئا سترته. وأنشده القصيدة، فأعجب بها يونس وقال له إنها بريئة من العيوب (1). حينئذ مضى فأنشدها المهدى، فزحف من صدر مصلاّه حتى صار على البساط إعجابا بما سمع، ثم قال لمروان:

كم هى؟ قال مروان: مائة بيت، فأمر له بمائة ألف درهم، فكانت أول مائة ألف درهم أعطيت لشاعر فى أيام بنى العباس (2). ويسوق المرزبانى فى كتابه الموشح فصلا طويلا (3)، يصور فيه كيف كان الشعراء يعرضون أشعارهم على اللغويين ليجيزوها لهم، فهم قضاة الشعر وصيارفته، وفى ذلك يقول الخليل بن أحمد لابن مناذر:«إنما أنتم-معشر الشعراء-تبع لى، وأنا سكّان السفينة إن قرّظتكم ورضيت قولكم نفقتم وإلا كسدتم (4)» .

وعلى هذا النحو سيطر اللغويون على سوق الشعر العباسى، وقد مضوا يتمسكون بالمثل الشعرى القديم تمسكا شديدا، وهو تمسك جعل كثيرين منهم يسقطون الشعراء العباسيين إسقاطا حتى لنرى أبا عمرو بن العلاء يختم الشعر بذى الرّمّة والرّجز برؤبة قائلا فى المحدثين:«إنهم كلّ (5) على غيرهم، إن قالوا حسنا فقد سبقوا إليه، وإن قالوا قبيحا فمن عندهم (6)» . وكان الأصمعى يختم الشعر بابن ميّادة وابن هرمة وأضرابهما من شعراء نجد والحجاز الذين أدركوا الدولة العباسية (7). وأنشده إسحق الموصلى بيتين من شعره دون أن يسمى قائلهما، فلما أظهر إعجابه بهما قال له إسحق: إنهما من نظمه، فبادره قائلا: أفسدت الشعر، إن التوليد فيهما لبيّن (8). ويروى الرواة أن ابن مناذر كان يقول لأبى عبيدة:«اتّق الله واحكم بين شعرى وشعر عدىّ بن زيد، ولا تقل ذاك جاهلى وهذا عباسى، وذاك قديم وهذا محدث، فتحكم بين العصرين ولكن احكم بين الشعرين، ودع العصبية (9)» . وكان ابن الأعرابى يقول: إنما أشعار هؤلاء

(1) أغانى (طبع دار الكتب) 10/ 82.

(2)

أغانى 10/ 88.

(3)

الموشح ص 358 وما بعدها.

(4)

أغانى (طبعة الساسى) 17/ 16.

(5)

كل: عالة.

(6)

أغانى (ساسى) 16/ 109.

(7)

أغانى (دار الكتب) 4/ 273.

(8)

أغانى 5/ 318.

(9)

أغانى (ساسى) 17/ 12.

ص: 140

المحدثين-مثل أبى نواس وغيره-مثل الرّيحان يشمّ يوما ويذوى فيرمى به، وأشعار القدماء مثل المسك والعنبر كلما حرّكته ازداد طيبا (1)».

ولا شك فى أن إهدار اللغويين لشعر العباسيين بسبب حداثته خطأ فى التقويم، إذ الجودة الفنية لا تقاس بالقدم والحداثة، والشعر الجيد جيد فى كل زمان ومكان.

ولكن من الحق أنهم-بهذا الموقف-جعلوا نماذج الشعر القديم، بالقياس إلى العباسيين، تصبح كالأمهات الغاذية، فكلهم نهلوا من أئدائها وتغذوا بها غذاء سرى فى قلوبهم وتمكن من نفوسهم. ويأخذنا العجب حين نقرأ لهؤلاء الشعراء، فنراهم عربا تامين وكأنهم فصلوا توّا من الجزيرة. ومع هذه العروبة اللغوية القوية فيهم كان اللغويون لا يستشهدون بأشعارهم مخافة أن يحدث اضطراب فى النموذج الشعرى القديم، وحتى يحتفظوا له بكل ما يمكن من صحة وسلامة ودقة. وقد مضوا يعدّون عليهم سقطاتهم، وهى ليست سقطات بالمعنى الصحيح، إذ هى فى كثرتها إما ضرورات رآها الشعراء العباسيون فى الشعر القديم، فقاسوا عليها، وإما لغات شاذة رأوها أيضا فى هذا الشعر وظنوا أن من حقهم مجاراتها، وإما اشتقاقات وأبنية استحدثوها على ضوء المقاييس اللغوية التى تلقنوها. واقرأ فى كل ما نثره المرزبانى فى «الموشح» من هذه السقطات فستراه قلما يعد وهذه الوجوه الثلاثة.

ونضرب مثلا لذلك: ما كان يأخذه الأخفش على بشار من اشتقاقه فى بعض أشعاره كلمتى «الوجلى، والغزلى» من الوجل والغزل ظنّا منه أن هذا من حقه وإن لم يسمع عن العرب، وكذلك جمعه لفظة «نون» بمعنى البحر على «نينان» ظنّا منه أن الكلمة تدخل فى قياس هذا الجمع (2). وأبو نواس هو أكثر العباسيين مآخذ (3)، وهى تردّ عنده إما إلى ضرورات شعرية وإما إلى بعض لهجات عربية، وفى ذلك يقول ابن قتيبة: «وقد كان أبو نواس يلحّن فى أشياء من شعره لا أراه فيها إلا على حجّة من الشعر المتقدم وعلى علّة بيّنة من علل النحو، منها قوله:

فليت ما أنت واط

من الثّرى لى رمسا (4)

(1) الموشح ص 246.

(2)

الموشح ص 246 وما بعدها.

(3)

الموشح ص 272 وما بعدها.

(4)

رمسا: قبرا.

ص: 141

أما تركه الهمز فى «واطى» فحجته فيه أن أكثر العرب تترك الهمز وأن قريشا تتركه وتبدل منه وأما نصبه «رمسا» فعلى التمييز. . ألا تراه قال: (فليت ما أنت واط من الثرى لى) فتمّ الكلام وصار جواب ليت فى «الى» ثم بيّن من أى وجه يكون ذلك، فقال «رمسا» كما تقول فى الكلام:«ليت ثوبك هذا لى» ثم تقول «إزارا» لأن جواب ليت صار فى قولك «لى» وصار الإزار تمييزا (1)».

ومضى ابن قتيبة يوجّه له أبياتا أخرى وقف اللغويون والنحاة عند حروف منها.

ولعل من الغريب أن يقف يوهان فك فى كتابه «العربية» عند هذه الأبيات (2) وما يماثلها مما أخذ على أبى نواس وعند أخرى تشبهها لشعراء آخرين متخذا منها دليلا على مخالفة العباسيين لقواعد العربية، وكأنه لم يقرأ ما نقلناه عن ابن قتيبة.

ولو أنه أنعم النظر فيما سجّله الموشح على شعراء الجاهلية والإسلام من مثل هذه الأحرف لعرف أن العباسيين لم يخرجوا على قواعد الفصحى فى الصورة التى رسمها لهم اللغويون، وأن كل ما هناك أنهم قاسوا أشعارهم على أشعار الأقدمين، فأجازوا لأنفسهم ما كان يجيزه أسلافهم من بعض الضرورات وبعض الشواذ، وهم فى ذلك يتابعونهم ويصوغون على إرث منهم.

ووقف يوهان فك عند استخدام نفر من الشعراء العباسيين لبعض الألفاظ والصيغ الفارسية فى أشعاره معتمدا على ما كتبه الجاحظ فى «البيان والتبيين» عن بعض الأعراب مثل العمانى والعذافر الكندى ذاكرا أنهما كانا يتملحان بإدخال بعض الألفاظ الفارسية فى أشعارهما، وتمثّل للعمانى بلفظتين، وساق لشاعر يسمّى أسود بن أبى كريمة قطعة اختلطت فيها الألفاظ الفارسية بالألفاظ العربية (3).

وقد جعل ذلك يوهان فك يزعم أن الفارسية أدخلت فى هذا العصر ضيما على العربية، مبالغا فى تصور هذا الضيم (4)، وهى مبالغة لا تسندها نفس النصوص التى رواها الجاحظ، إذ كان الشعراء يسوقون فى أشعارهم أحيانا بعض الألفاظ الفارسية تملحا وتظرفا كما يلاحظ الجاحظ نفسه، أما بعد ذلك فإنهم كانوا يحافظون على ما استقر فى ملكاتهم من قوانين الصياغة العربية، وربما كان أكثرهم استخداما

(1) الشعر والشعراء لابن قتيبة (طبع دار المعارف) ص 794.

(2)

كتاب العربية ص 91 وما بعدها.

(3)

البيان والتبيين 1/ 141 وما بعدها.

(4)

كتاب العربية ص 112 وما بعدها.

ص: 142

للألفاظ الفارسية فى شعره أبا نواس إذ كان يأتى بها فى بعض خمرياته تعابثا ومجانة، وخاصة حين يوجه كلامه إلى بعض غلمان المجوس مقسما عليهم بآلهتهم وشعائرهم الدينية وأعيادهم المجوسية، على شاكلة قوله (1):

والمهرجان المدار

لوقته الكرّار (2)

والنوكروز الكبار (3)

وجشن جاهنبار (4)

وآبنسال الوهار (5)

وخرّه إيران شار (6)

ولم يكن يصنع ذلك دائما إنما كان يصنعه فى الحين بعد الحين تملحا وتندرا.

وقد تسقط على لسان بعض الشعراء لفظة نبطية، من مثل قول إبراهيم الموصلى واصفا وداعه لخمّار نبطىّ (7):

فقال: إزل بشين، حين حدّثنى

وقد-لعمرك-زلنا عنه بالشّين

وكلمة «إزل بشين» نبطية، ومعناها: امض بسلام. غير أن ما قدمنا ومثله لم يتحول إلى ظاهرة عامة، فقد كان يأتى على ألسنة الشعراء فى الندرة، وكثرتهم-على الرغم من أصولهم الفارسية-لم يتورطوا فى شئ منه. ومن أجل ذلك كان ينبغى أن لا يندفع باحث إلى القول بأن السليقة العربية انتقصت فى نفوس العباسيين، فقد كانت أقوى قوة من أن تنتقص، حتى لدى من كانوا يحسنون الفارسية مثل أبى نواس. وقد كانت اللغة العربية تتعمق جوهر نفسه بفضل من زوّدوه بها من اللغويين أمثال خلف الأحمر أستاذه، ومضى ينهلها من ينابيعها الصافية فى البادية، فأقام بها حولا كاملا (8)، يعبّ منها ويرتوى.

وأكبّ على دواوين الجاهليين والإسلاميين من أصحاب القصيد والرجز يستظهرها، حتى قالوا إنه كان يحفظ دواوين ستين امرأة فضلا عن الرجال (9)، وإنه حفظ

(1) انظر أشعارا مماثلة فى كتابنا «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى» (طبع دار المعارف) ص 123.

(2)

المهرجان: من أعياد الفرس.

(3)

النوكروز: عيد النيروز.

(4)

جشن: من أعياد الفرس. جاهنبار: الدورة العامة.

(5)

آبسال: ابتداء الربيع. الوهار: المشرق.

(6)

خره: موضع الشرب، أو عيد، إيران شار: إيران العزيزة.

(7)

أغانى (طبع دار الكتب) 5/ 176.

(8)

أخبار أبى نواس لابن منظور (طبع مصر) ص 12.

(9)

طبقات الشعراء لابن المعتز (طبع دار المعارف) ص 194.

ص: 143

سبعمائة أرجوزة غير ما كان يحفظه من قصائد الجاهليين والمخضرمين والأموييين (1)، وفيه يقول الجاحظ:«ما رأيت أحدا كان أعلم باللغة من أبى نواس ولا أفصح لهجة مع حلاوة ومجانبة لاستكراه (2)» ويقول أبو عمرو الشّيبانى العالم اللغوى المشهور: «لولا ما أخذ فيه أبو نواس من الرّفث لا حتججنا بشعره، لأنه محكم القول (3)» .

ولم يكن أبو نواس وحده الذى حذق العربية وبرع فيها، فقد كان من سبقوه وعاصروه من الشعراء لا يقلّون عنه براعة وحذقا بأساليبها، ويكفى أن نرجع إلى بشار الفارسى الأصيل زعيم المحدثين فسنراه يعلل لإتقانه العربية بنشأته فى بنى عقيل وتبدّيه أعواما طويلة، يقول:«ولدت ههنا (فى البصرة) ونشأت فى حجور ثمانين شيخا من فصحاء بنى عقيل، ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت على نسائهم فنساؤهم أفصح منهم، وأيفعت فأبديت (دخلت البادية) إلى أن أدركت (بلغت الحلم) فمن أين يأتينى الخطأ» (4). ولم تكن المسألة مسألة خلو كلامه من الخطأ، إنما كانت-فى حقيقتها اكتساب السليقة العربية، حتى غدا كأنه عربى أصيل، مما جعل اللغويين يشيدون به طويلا (5).

وبشار من خير الأمثلة على مدى استيعاب العباسيين ممن يرجعون إلى أصول غير عربية لصورة الشعر العربى بقصيده ورجزه، وتروى له فى ذلك طرائف كثيرة، منها ما رواه أبو الفرج من أنه استمع إلى عقبة بن رؤبة وهو ينشد عقبة ابن سلم والى البصرة أرجوزة يمدحه بها، فلما فرغ منها قال له: هذا طراز لا تحسنه يا أبا معاذ، فغضب بشار وقال له: ألى يقال مثل هذا الكلام؟ أنا والله أرجز منك ومن أبيك وجدك (يريد العجّاج). ومضى إلى منزله فألّف أرجوزة بديعة، وغدا فأنشدها عقبة بن سلم وعنده عقبة بن رؤبة، وهى التى يستهلها بقوله:

يا طلل الحىّ بنات الصّمد

بالله خبّر كيف كنت بعدى (6)

فطرب عقبة بن سلم وكأفاه مكافأة كبيرة، وانكسر عقبة بن رؤبة انكسارا

(1) ابن المعتز ص 201.

(2)

أخبار أبى نواس ص 6.

(3)

ابن المعتز ص 202.

(4)

أغانى (طبع دار الكتب) 3/ 149 وما بعدها.

(5)

أغانى 3/ 143 وما بعدها.

(6)

ذات الصمد: موضع.

ص: 144

شديدا (1)، ويروى أنه أنشد فى شعر الأعشى الكبير:

وأنكرتنى وما كان الذى نكرت

من الحوادث إلا الشّيب والصّلعا

فأنكره، وقال: هذا بيت مصنوع ما يشبه كلام الأعشى، ولم يلبث الرواة أن تحققوا من قوله (2). وذكر الرواة أنه أنشد خلفا الأحمر قصيدته فى سلم بن قتيبة:

بكّرا صاحبىّ قبل الهجير

إن ذاك النجاح فى التّبكير

فلاحظ فيها إكثاره من الغريب، وسأله عن سبب ذلك، فقال له: بلغنى أن سلما يتباصر بالغريب، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرفه. وقال له خلف:

لو قلت مكان (إن ذاك النجاح فى التبكير)(بكّرا فالنجاح فى التبكير) كان أحسن. فأجابه بشار: «إننى بنيتها أعرابية وحشية فقلت: (إن ذاك النجاح) كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت (بكرا فالنجاح) كان هذا من كلام المولّدين، ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل فى معنى القصيدة، فقام خلف، فقبّل بين عينيه (3)» .

وعلى هذا النحو كان الشاعر العباسى يحوّل إلى نفسه نماذج الشعر القديم بكل خصائصها وكل شاراتها، يعينه فى ذلك اللغويون بما يعرضون عليه منها تجاه سمعه وتحت بصره. وشركهم فى ذلك بعض الشعراء على نحو ما هو معروف عن أبى تمام، ومجموعاته الشعرية التى انتخبها بذوقه من أشعار القدماء والمحدثين، وفى مقدمتها ديوان الحماسة. ولم يكتف اللغويون بما عرضوا من القصيد والرجز، فقد وضعوا للشعراء أقيسة اللغة فى الاشتقاق والتصريف والنحو وموسيقى الشعر وعروضه. وبذلك وضعوا فى أيديهم جميع الآلات التى تعينهم لا على التثقف بالعربية والتدرب عليها فحسب، بل أيضا على أن يتقنوا التعبير بها والتصرف فيها حسب حاجاتهم الوجدانية والعقلية والحضارية.

ولعلنا لا نغلو إذا قلنا إن اللغويين هيئوا للشاعر العباسى من العلم بالشعر القديم

(1) أغانى 3/ 174 وانظر ابن المعتز ص 25 والموشح ص 366.

(2)

أغانى 3/ 143.

(3)

أغانى 3/ 190.

ص: 145

ما لم يكن يتهيأ لأصحابه أنفسهم، فقد جمعوه له وكشفوا مادته من جميع أطرافها، وأخذت تونق وتزدهر من جديد، وهو ازدهار نفذ منه العباسيون إلى أسلوب لهم حديث عرف باسم أسلوب المولدين، وهو أسلوب قام على عتاد من القديم وعدّة من الذوق الحضرى الجديد، أسلوب يحافظ على مادة اللغة ومقوماتها التصريفية والنحوية ويلائم بينها وبين حياة العباسيين المتحضرة بحيث تنفى عنه ألفاظ العامة المبتذلة كما تنفى عنه ألفاظ البدو الحوشيّة. وكان من الشعراء نفر يسرفون على أنفسهم فى النهج على أساليب الرّجّاز المحشوة بأوابد الألفاظ، ولكنهم كانوا يعدون نابين على ذوق العصر، ومن خير من يمثل ذلك ابن مناذر، وقد تعرّض له أبو العتاهية يوما قائلا:«إن كنت أردت بشعرك العجّاج ورؤبة فما صنعت شيئا، وإن كنت أردت أهل زمانك فما أخذت مآخذنا (1)» . وأبو العتاهية إنما يشير إلى ما حدث لأساليب اللغة فى عصره، فقد تناولها فى الحاضرة صنّاع مهرة لم يلبثوا أن اشتقوا لهم منها أسلوبا متميزا يبتعد عن خشونة البدو وألفاظهم الكزّة.

وليس ذلك فحسب فإنهم أشاعوا فى هذا الأسلوب الألفاظ المنتخبة مع العذوبة والرشاقة حينا والجزالة والرصانة حينا آخر، يهديهم فى ذلك ذوقهم المتحضر الدّمث الذى ينفر من كل لفظة غريبة وكلمة وعرة.

وعلى هذا النحو دفع التحضر شعراء العصر العباسى الأول إلى استحداث أسلوب مولّد جديد، وهو أسلوب كان يعتمد على الألفاظ الواسطة بين لغة البدو الزاخرة بالكلمات الوحشية ولغة العامة الزاخرة بالكلمات المبتذلة، أسلوب وسط بين الغرابة والابتذال، تختار الكلمات فيه، وكأنما هى جواهر تختار فى عقود، إذ تحوّل الشعراء إلى ما يشبه الصّاغة، وكل منهم يحاول أن يثبت مهارته فى صياغته وسبكه بما ينتخب من الكلمات التى يحسن وقعها فى السمع والتى تصنع فى القلوب صنيع الغيث فى التربة الكريمة.

وبشار فى طليعة من أرسوا هذا الأسلوب المولد الجديد، وفيه يقول ابن المعتز:

«كان شعره أنقى من الراحة، وأصفى من الزجاجة وأسلس على اللسان من الماء العذب (2)» . وأسلوبه يمتاز بالنصاعة والرصانة والصفاء والرونق. وتلاه جيل من

(1) أغانى (طبع دار الكتب) 4/ 90 والموشح ص 295.

(2)

ابن المعتز ص 28.

ص: 146