الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا كان أبو نواس شغل فى زهدياته بمصير الإنسان فإن ابن حازم، وغيره كثيرون، شغلوا بالدعوة إلى القناعة بالكفاف والرضا بالحظ المقسوم والغنى عما فى أيدى الناس والحكام من مثل قوله (1):
اضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس
…
واقنع بيأس فإن العزّ فى الياس
واستغن عن كل ذى قربى وذى رحم
…
إن الغنىّ من استغنى عن الناس
وأخذت تظهر حينئذ تباشير التصوف، غير أنه لا يزدهر فى هذا العصر، إنما يزدهر فى تاليه، وسنعرض لتلك التباشير فى الفصل السادس، وأيضا سنعود إلى الحديث عن الزهد حديثا أكثر تفصيلا.
4 - موضوعات جديدة
رأينا موضوعات الشعر القديمة تتجدد تجددا واسعا فى معانيها، فقد أخذت تعرض بصورة أدق وأعمق، وأخذت تدخل عليها إضافات كثيرة. ولم يقف الشاعر العباسى عند ذلك فقد أخذ ينمّى بعض جوانب هذا الشعر حتى لتخرج منه فروع جديدة كثيرة. ونحن نعرضها بترتيب الموضوعات التى تحدثنا عنها، وأولها مثالية الشيم العربية الرفيعة التى كان يصف بها الشعراء ممدوحيهم، فقد تناولوا هذه الشيم شيمة شيمة، وأخذوا يفردونها بمقطوعات أو قصائد، يجردونها لها محللين، ومفكرين ملاحظين، فقطعة فى تصوير الكرم، وقطعة فى تصوير الحلم، وقطعة فى تصوير الحياء، وقطعة فى تصوير العفة، وقطعة فى تصوير الصبر والتنفير من اليأس من مثل قول محمد بن يسير:(2)
لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة
…
إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
إن الأمور إذا انسدّت مسالكها
…
فالصبر يفتح منها كلّ ما ارتتجا (3)
(1) العقد الفريد 3/ 207.
(2)
أغانى 14/ 42 وقد نسبها ابن المعتز لابن حازم. انظر ص 309.
(3)
ارتتج: أغلق.
أخلق بذى الصبر أن يحظى بحاجته
…
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا (1)
فاطلب لرجلك قبل الخطو موضعها
…
فمن علا زلقا عن غرّة زلجا (2)
وهيأ ذلك لفتح باب واسع من تحليل الأخلاق المحمودة. وأيضا فإنهم وسعوا معانى الهجاء وما فيه من أخلاق مذمومة، فتناولوها هى الأخرى بالبسط والتفصيل منفضلة عن أشعار الهجاء. وبذلك أتاحوا للمربين والمعلمين مادة طريفة لتأديب الناشئة وحثهم على الأخلاق الفاضلة وصدهم عن الأخلاق المذمومة. وقد وقفوا طويلا عند واجبات الأخوة والصداقة واختيار الإخوان والأصدقاء وسبر أخلاقهم قبل اصطفائهم فهم على طبقات منهم من يشبه الدواء ومنهم من يشبه الداء، ومنهم المتصنع الملق الذى يشبه الثمرة المرّة حسنة المنظر، فإن نزل بك سوء فر منك وازورّ عنك، وفى ذلك بقول حماد عجرد (3):
كم من أخ لك لست تنكره
…
ما دمت من دنياك فى يسر
متصنّع لك فى مودّته
…
يلقاك بالترحيب والبشر
يطرى الوفاء وذا الوفاء ويل
…
حى الغدر مجتهدا وذا الغدر (4)
فإذا عدا-والدّهر ذو غير-
…
دهر عليك عدا مع الدّهر (5)
فارفض بإجمال مودّة من
…
يقلى المقلّ ويعشق المثرى (6)
وعليك من حالاه واحدة
…
فى العسر إما كنت واليسر
لا تخلطنّهم بغيرهم
…
من يخلط العقيان بالصّفر (7)
وحماد يجعل مقياس الأخوة الصادقة المواصلة فى العسر، ويعرض علينا صورة الإخاء الكاذب الذى لا يعرف الأخ فيه أخاه إلا فى السراء، أما فى الضراء فيزورّ عنه ازورارا. وجعلهم تفكيرهم فى الأخوة ينهون عن صحبة الحمقى لما تجرّ من بلاء كثير،
(1) يلج: يدخل.
(2)
زلقا: مكانا زلقا. غرة غفلة زلج: زلق وزل.
(3)
ابن المعتز ص 68 وأغانى 14/ 359.
(4)
يطرى: يمدح. يلحى: يذم.
(5)
عدا الأولى من العداء والثانية من العدو أى الجرى.
(6)
بإجمال: بأدب. يقلى: يكره.
(7)
العقيان: الذهب. الصفر: النحاس.
وفى ذلك يقول أبو العتاهية: (1)
احذر الأحمق أن تصحبه
…
إنما الأحمق كالثوب الخلق (2)
كلما رقّعته من جانب
…
زعزعته الريح يوما فانخرق
أو كصدع-فى زجاج-فاحش
…
هل ترى صدع زجاج يلتصق
فإذا عاتبته كى يرعوى
…
زاد شرّا وتمادى فى الحمق
وكان الشاعر القد: كما أسلفنا يقدم لمدحته بوصف الأطلال معبرا عن حنين قوى لملاعب حبه فى صباه وشبابه، مستطردا من ذلك إلى وصف الصحراء، وقد صورنا ما حدث من إضافات فى هذه المقدمات، والمسألة تتسع، فإذا هى توحى للشاعر العباسى بمقطوعات أو قصائد مستقلة وكأنه اتخذ منها نوافذ لموضوعات جديدة، وهى موضوعات نجد بذورها فى مدائحه، فقد ذكرنا أنه عدل أحيانا عن وصف الأطلال إلى وصف القصور، ولكن الذى نسجله هنا أنه ترك أطلال نجد إلى أطلال بعض القصور فى الحاضرة وخصها بمقطوعات مفردة من مثل قول محمد ابن يسير فى قصر خرب (3):
ألا يا قصر قصر النّوشجانى
…
أرى بك بعد أهلك ما شجانى (4)
فلو أعفى البلاء ديار قوم
…
لفضل منهم ولعظم شانى
لما كانت ترى بك بيّنات
…
تلوح عليك آثار الزمان
وهذا الموضوع الجديد هو الذى ألهم البحترى فيما بعد سينيته المشهورة فى إيوان كسرى. وقد دفع الحنين الذى صحب وصف الأطلال الشاعر العباسى فى بعض مدائحه إلى بثّ حنين مقابل لوطنه وبلده حين ينأى عنه وتظل روحه ملتصقة به، ولكن الجديد أنه أفرد لهذا الحنين قطعا بديعة من مثل قول دعبل (5):
ألم يأن للسّفر الذين تحمّلوا
…
إلى وطن قبل الممات رجوع (6)
(1) العقد الفريد 6/ 357.
(2)
الخلق: البالى.
(3)
أغانى (طبع دار الكتب) 14/ 39.
(4)
شجانى: أحزننى.
(5)
أغانى (ساسى) 18/ 44.
(6)
يأن: يحق. تحملوا: ارتحلوا.
فقلت ولم أملك سوابق عبرة
…
نطقن بما ضمّت عليه ضلوع
تبيّن، فكم دار تفرّق شملها
…
وشمل شتيت عاد وهو جميع
كذاك الليالى صرفهنّ كما ترى
…
لكل أناس جدبة وربيع (1)
ومرّ بنا أن الشاعر العباسى كان يحتفظ أحيانا فى مقدمات مدائحه بوصف الصحراء وأحيانا يتركها إلى وصف الطبيعة فى الحاضرة ببساتينها ورياحينها، وقد أخذ يخص هذه الطبيعة بمقطوعات وقصائد كثيرة، بحيث أصبحت موضوعا جديدا واسعا، وكان يمزج نشوته بها فى بعض الأحيان بنشوة الحب أو نشوة الخمر وسماع القيان، وفى كثير من الأحيان كان يقف عند تصوير فتنته بها وبورودها ورياحينها من مثل قول إبراهيم بن المهدى فى النرجس (2):
ثلاث عيون من النّرجس
…
على قائم أخضر أملس
يذكّرننى طيب ريّا الحبيب
…
فيمنعننى لذّة المجلس (3)
وقد أكثروا من وصف الأمطار والسحب، كما أكثروا من وصف الرياض وخاصة فى الربيع حين تتبرج الطبيعة بمناظرها الفاتنة. وعبروا عن أحاسيسهم ومشاعرهم أحيانا خلال هذا الوصف، مما جعلهم يخاطبون بعض عناصرها، وكأنها أناسىّ تحمل عواطف الإنسان ويصيبها ما يصيبه من ريب الزمان، ومن خير ما يصور ذلك مخاطبة مطيع بن إياس لنخلتى حلوان على هذه الشاكلة (4):
أسعدانى يا نخلتى حلوان
…
وابكيالى من ريب هذا الزمان (5)
واعلما أن ريبه لم يزل يف
…
رق بين الألاّف والجيران
ولعمرى لو ذقتما ألم الفر
…
قة أبكاكما الذى أبكانى
أسعدانى وأيقنا أنّ نحسا
…
سوف يلقاكما فتفترقان
كم رمتنى صروف هذى الليالى
…
بفراق الأحباب والخلاّن
(1) جدبة: المرة من الجدب وهو القحط.
(2)
أغانى (طبع دار الكتب) 10/ 115
(3)
الريا: الرائحة الجميلة.
(4)
أغانى (طبع دار الكتب) 13/ 331.
(5)
حلوان: من بلاد العراق فى طرفه الشمالى ممايلى إيران. أسعدانى أعينانى بالدموع.
ونرى شعراء كثيرين يعنون بوصف مظاهر الحضارة العباسية المادية وما يتصل بها من الترف فى الطعام والتأنق فى الملابس والثياب، ووصف القصور وما حولها من البساتين وما يجرى فيها من الظباء والغزلان من مثل قول أبى عيينة المهلبى فى وصف قصر ابن عمه عمر بن حفص المهلبى (1):
فيا طيب ذاك القصر قصرا ومنزلا
…
بأفيح (2) سهل غير وعر ولا ضنك
بغرس كأبكار الجوارى وتربة
…
كأن ثراها ماء ورد على مسك
وسرب من الغزلان يرتعن حوله
…
كما استلّ منظوم من الدّرّ من سلك
وأكثروا من وصف الحيوان والطير والحشرات، واشتهر بذلك خلف (3) الأحمر وجهم (4) بن خلف، وفى كتاب الحيوان للجاحظ من ذلك مادة وافرة.
وعلى هذا النحو نفذ الشاعر العباسى من وصف الشاعر القديم للصحراء وحيوانها الأليف والوحشى إلى وصف بيئته بجميع مظاهرها وعناصرها الصامتة والمتحركة، وقد وصف وصفا دقيقا الأمراض والآفات التى انتابته، ويصور ذلك من بعض الوجوه قصيدة لعبد الصمد بن المعذّل يصف فيها حمى اعترته، وفيها يقول (5):
وبنت المنية تنتابنى
…
هدوّا (6) وتطرقنى سحره
كأن لها ضرما فى الحشا
…
وفى كل عضو لها جمره
لها قدرة فى جسوم الأنام
…
حباها بها الله ذو القدره
وطورا ألقّبها سخنة
…
وطورا ألقّبها فتره
وصرت إذا جعت يوما ظللت
…
كأنّ على كبدى شفره (7)
ويربو الطحال إذا ما شبعت
…
فتعلو التّرائب والصّدره (8)
(1) الشعر والشعراء ص 853 والأغانى (طبعة الساسى) 18/ 14.
(2)
أفيح: أوسع، أرلعله من فائحة الرائحة.
(3)
الحيوان 4/ 279.
(4)
الحيوان 3/ 242 وانظر الهامش.
(5)
الوساطة بين المتبى وخصومه (طبعة الحلبنى) ص 121.
(6)
الهدو: أوائل الليل. سحرة: وقت السحر.
(7)
الشفرة: حد السيف وجانب النصل.
(8)
الصدرة: الصدر.
وأمسى كأنى من معدتى
…
لبست الثياب على زكره (1)
إذا ما رأيت امرءا مطلقا
…
له الأكل تخنقنى العبره (2)
كأنى فى منزلى مخصبا
…
ببلقعة جدبة قفره
وهو وصف دقيق لأثر الحمى فى الجسم وأوقاتها التى تفد فيها وآلامه مع الجوع والأكل وما يحس به فى جوفه من مرارة وحدة. وقد صور شعوره بالحرمان وغبطته الأصحاء على ما يطعمون، وبيته حافل بألوان الغذاء، ولكنه يشعر كأنما هو فى فلاة مجدبة.
وقد رأينا أبا تمام يخلط بعض مقدمات مدائحه بالشكوى من الزمن ونوازله، وقد نظم هو نفسه قصائد خصها ببث شكواه من الدهر وهمومه (3)، وشركه فى ذلك بعض الشعراء، مما جعل هذا الباب يتسع منذ هذا العصر ويصبح أحد الموضوعات الأساسية فى دواوين الشعراء، وخاصة دواوين العصر التالى، إذ ساءت أحوال المجتمع وانعكست أصداء ذلك على نفسيات الشعراء وبالتالى على أشعارهم.
ومرّ بنا اتساع الشعراء بمراثيهم حتى شملوا بها الطير والحيوان والبساتين والمدن، وكان منهم من يبكى فى مقدمات مدائحه أحيانا الشباب فى بيت أو أبيات قليلة.
وسرعان ما رأينا القصائد تستقل بهذا الموضوع، ومن أروعها قصيدة محمد بن حازم، وفيها يقول (4):
سقيا ورعيا لأيام الشباب وإن
…
لم يبق منه له رسم ولا طلل
ليت المنايا أصابتنى بأسهمها
…
فكنّ يبكين عهدى قبل أكتهل
عهد الشباب لقد أبقيت لى حزنا
…
ما جدّ ذكرك إلا جدّ لى ثكل (5)
ومما استحدثوه من المراثى محللين لمشاعرهم تحليلا دقيقا بكاؤهم حين يخبو نور البصر، وممن أكثروا من تصوير هذه المشاعر أبو يعقوب الخريمى، وكان قد أصبح ضريرا، حين طعن فى السن، فتحول يصور أحاسيسه، متفجعا على عينيه
(1) الزكرة: زق الخل.
(2)
البلقعة: الفلاة.
(3)
الديوان (طبعة بيروت) ص 375، 380.
(4)
أغانى (طبع دار الكتب) 14/ 94.
(5)
الثكل: الحزن على فقد الولد.
تفجعا يبعث الأسى فى النفس من مثل قوله (1):
أصغى إلى قائدى ليخبرنى
…
إذا التقينا عمّن يحيّينى
أريد أن أعدل السّلام وأن
…
أفصل بين الشريف والدّون
أسمع مالا أرى فأكره أن
…
أخطىّ والسمع غير مأمون
لله عينى التى فجعت بها
…
لو أن دهرا بها يواتينى
لو كنت خيّرت ما أخذت بها
…
تعمير نوح فى ملك قارون
وقد صوروا كثيرا من العواطف الدقيقة، من ذلك التعاطف الرقيق بين الأب وبنيه وبناته وما يطوى فيه من الرحمة والبر والحنان، على نحو ما يلقانا عند ابن يسير مصورا عطفه على بنيّة له وكيف يستأثر به ويجشمه اقتحام المصاعب من أجل سعادتها، وكيف يحبّبه فى الحياة خوفا عليها من ذل اليتم وجفوة الأهل، وإنه ليشفق عليها حتى من الدموع التى سترسلها حين يتأهب لمفارقة الحياة، يقول (2):
لولا البنيّة لم أجزع من العدم
…
ولم أجب فى الليالى حندس الظلم (3)
وزادنى رغبة فى العيش معرفتى
…
ذلّ اليتيمة يجفوها ذوو الرّحم
أخشى فظاظة عمّ أو جفاء أخ
…
وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
إذا تذكرت بنتى حين تندبنى
…
جرت لعبرة بنتى عبرتى بدم
وحلّلوا كثيرا من المشاعر، من ذلك شعور الزوج بالغيرة الشديدة على زوجته وما يجر ذلك عليهما من البلاء، وللخريمى فى ذلك مقطوعة بديعة يفرق فيها بين الغيرة المطلوبة فى حينها وبين الغيرة التى تتحول إلى ما يشبه مرضا يعزّ دواؤه، فإذا الزوج يشك فى زوجته، حتى ليعصف بها شكه، فإذا هى توشك أن تتردى فى مسالك الريبة. وينصحه أن يمنحها ثقته وأن لا يشوب سلوكه بريبة، فتسير سيرته المعوجة ويفسد عليه كل شئ، وفى ذلك كله يقول (4):
(1) الحيوان 3/ 113 والشعر والشعراء ص 830.
(2)
ابن المعتز ص 281.
(3)
العدم هنا: الموت. الحندس شدة الظلمة
(4)
عيون الأخبار: 4/ 79 والشعر والشعراء ص 834.
ما أحسن الغيرة فى حينها
…
وأقبح الغيرة فى كلّ حين
من لم يزل متّهما عرسه
…
متّبعا فيها لقول الظّنون (1)
يوشك أن يغريها بالذى
…
يخاف أن يبرزها للعيون
حسبك من تحصينها وضعها
…
منك إلى عرض صحيح ودين
لا تطّلع منك على ريبة
…
فيتبع المقرون حبل القرين
وقد صوروا تصويرا دقيقا حياة البؤس والمسغبة التى كان يرزح تحت أثقالها جماهير الشعب، ومن خير ما يمثل ذلك مقطوعة لأبى فرعون الساسى يصور فيها جوع عياله وكيف يبيتون فى الشتاء القارص عراة لا يجدون ما يحميهم من هول البرد وزمهريره، وهى تجرى على هذا النمط (2):
وصبية مثل صغار الذّرّ
…
سود الوجوه كسواد القدر (3)
جاءهم البرد وهم بشر
…
بغير قمص وبغير أزر
تراهم بعد صلاة العصر
…
وبعضهم ملتصق بصدرى
وبعضهم ملتصق بظهرى
…
وبعضهم منحجر بحجرى
إذا بكوا علّلتهم بالفجر
…
حتى إذا لاح عمود الفجر
ولاحت الشمس خرجت أسرى
…
عنهم وحلّوا بأصول الجدر
كأنّهم خنافس فى جحر
وقد أسلفنا فى حديثنا عن الحياة الاجتماعية ولع الخلفاء بالصيد، وكيف كانوا يخرجون إليه فى مواكب حافلة، ومعهم البزاة والصقور والكلاب، وتبعهم فى هذا الصنيع الوزراء وعلية القوم. وقد نظم الشعراء فى هذه المتعة الرياضية أراجيز كثيرة سموها الطرديات، وأكثر من النظم فيها أبو نواس، وأحسن غاية الإحسان فى وصف الكلاب «لأنه كان قد لعب بها زمانا وعرف منها ما لا تعرفه الأعراب» .
وحقا سبقه فى هذا الموضوع بعض شعراء العصر الأموى من مثل الشمردل
(1) الظنون: سئ الظن.
(2)
ابن المعتز ص 377 وانظر كتاب الورقة لابن الجراح (طبع دار المعارف) ص 54.
(3)
الذر: النمل.
وأبى نخيلة، ولكنه هو الذى مدّ طنبه وفتح أبوابه، لا من حيث كثرة ما نظمه فيه فحسب، بل أيضا من حيث دقة وصفه لأدواته وجوارحه مما جعل الجاحظ ينوّه بطردياته طويلا فى الجزء الثانى من كتابه «الحيوان» وقد أنشد منها طائفة معجّبا ببراعته وحذقه، من مثل قوله فى إحداها (1):
ما البرق فى ذى عارض لمّاح
…
ولا انقضاض الكوكب المنصاح (2)
ولا انبتات الدّلو بالمتّاح
…
أجدّ فى السّرعة من سرياح (3)
يطير فى الجوّ بلا جناح
…
يفترّ عن مثل شبا الرّماح (4)
فكم وكم ذى جدّة لياح
…
ونازب أعفر ذى طماح (5)
غادره مضرّج الصّفاح (6)
…
وكانت مجالس الخلفاء والوزراء والأمراء تعنى بالنوادر والفكاهات، كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، وهيّأ ذلك لشيوع روح الهزل فى بعض المقطوعات والقصائد، وكانوا أحيانا يختارون لذلك بعض القصائد التى اشتهرت بقوتها الحماسية مثلا، فيقلبونها فى الدعوة إلى اللهو والتواصى بشرب الخمر (7)، وأحيانا يختارون موضوعا جادّا، كقصة العشق العذرى الذى كان يفضى بأصحابه-كما يقول القصاص-إلى الجنون أو الموت، فيجرونه على لسان حمار أحب ومات عشقا، مما نلقاه عند بشار، فقد ذكر الرواة أنه مات له حمار، فانتظر حتى اجتمع إليه رفاقه، فأظهر لهم أنه مغموم محزون، وألحوا عليه يريدون أن يعرفوا سبب حزنه وغمه، فقال لهم: إننى رأيت حلما مزعجا: رأيت حمارى فى النوم فقلت له: ويلك! ما لك متّ؟ قال: إنك ركبتنى يوم كذا فمررنا على باب
(1) الحيوان 2/ 68
(2)
العارض. السحاب. المنصاح: المضئ.
(3)
انبتات الدلو: انقطاعها وهويها. المتاح: الذى يستقى بالدلاء. وسرياح: اسم الكلب الذى يصفه.
(4)
شبا الرمح: حده.
(5)
ذو الحدة: حمار الوحش، والجدة: الخطة السوداء فى ظهره. لياح: أبيض. النازب الظبى. الأعفر: ما يعلو بياضه حمرة طماح. جماح.
(6)
الصفاح: الجوانب. يريد أنه تركه مضرجا بدمائه.
(7)
ابن المعتز ص 227.
الأصبهانى فرأيت أتانا عند بابه، فعشقتها فمت. وزعم بشار أنه أنشده هذه المقطوعة:
سيّدى! مل بعنانى
…
نحو باب الأصبهانى
إنّ بالباب أتانا
…
فضلت كلّ أتان
تيّمتنى يوم رحنا
…
بثناياها الحسان
تيّمتنى ببنان
…
وبدلّ قد شجانى
وبحسن ودلال
…
سلّ جسمى وبرانى
ولها خدّ أسيل
…
مثل خدّ الشّيفران
فبها متّ ولو عش
…
ت إذن طال هوانى
فقال له أحد جلسائه: ما الشيفران؟ قال: ما يدرينى هذا من غريب الحمير! فإذا لقيتم حمارا فسلوه (1). ولعلهم لم يكثروا من التندير على شئ كما أكثروا من التندير على الّلحى، وكان كثير من أهل الوقار يطيلونها ويعرّضونها جدّا، فتندّر عليهم الشعراء طويلا من مثل قول مروان بن أبى حفصة فى لحية شيخ يسمى رباحا (2):
لقد كانت مجالسنا فساحا
…
فضيّقها بلحيته رباح
مبعثرة الأسافل والأعالى
…
لها فى كلّ زاوية جناح
ولم نتحدث حتى الآن عن فن استحدثه الشعراء العباسيون، ولم تكن له أى أصول قديمة، ونقصد فن الشعر التعليمى الذى دفع إليه رقى الحياة العقلية فى العصر، فإذا نفر من الشعراء ينظمون بعض القصص أو بعض المعارف أو بعض السير والأخبار. ومن أوائل ما يلقانا من ذلك تحدث صفوان الأنصارى فى أشعاره عن فضل الأرض وما تحمل من كنوز ومعادن كريمة (3). ولا ريب فى أن أبان ابن عبد الحميد هو الذى عمل على إشاعة هذا الفن الشعرى الجديد، فقد نظم فيه
(1) أغانى 3/ 231 والعقد الفريد 6/ 442.
(2)
عيون الأخبار 4/ 56.
(3)
البيان والتبيين 1/ 27 وما بعدها.
تاريخا وفقها وقصصا كثيرا (1)، فأما التاريخ فنظم فيه سيرتى أردشير وأنوشروان، وأما الفقه فنظم فيه الأحكام المتعلقة ببابى الصوم والزكاة، وصنع قصيدة فى مبدأ الخلق وضمنها شيئا من المنطق. وأهم من ذلك كله أنه نظم فى القصص كتاب كليلة ودمنة فى أربعة عشر ألف بيت. وفى كتاب الأوراق للصولى قطعة كبيرة من منظومته الفقهية وقطع أخرى من نظمه لكليلة ودمنة، ونراه يستهلها بقوله (2):
هذا كتاب أدب ومحنه
…
وهو الذى يدعى كليله دمنه
فيه دلالات وفيه رشد
…
وهو كتاب وضعته الهند
فوصفوا آداب كلّ عالم
…
حكاية عن ألسن البهائم
فالحكماء يعرفون فضله
…
والسخفاء يشتهون هزله
وهو على ذاك يسير الحفظ
…
لذّ على اللسان عند اللّفظ
ويتأثره ابنه حمدان فى هذا الضرب من الشعر التعليمى فينظم مزدوجة طويلة مسرفة فى الطول يصف فيها الحب وأهله وطبيعته وصوره المختلفة. وعلى قبس من عمل أبان ينظم أبو العتاهية مزدوجته التى سماها «ذات الأمثال» وهى-كما يتضح من اسمها-حكم وأمثال، ويقال إنها كانت تبلغ أربعة آلاف بيت. وقد أنشد أبو الفرج فى ترجمته قطعة منها، ومن قوله فى تضاعيفها (3):
حسبك مما تبتغيه القوت
…
ما أكثر القوت لمن يموت
لكل ما يؤذى-وإن قلّ-ألم
…
ما أطول الليل على من لم ينم
ما انتفع المرء بمثل عقله
…
وخير ذخر المرء حسن فعله
إن الفساد ضدّه الصلاح
…
وربّ جدّ جرّه المزاح
واقتفى محمد بن إبراهم الفزارى أثر أبان، فنظم فى علم النجوم مزدوجة طويلة، يقول ياقوت إنها كانت تدخل فى عشرة مجلدات، وقد بناها من ثلاثة أقفال أو
(1) انظر ترجمة أبان فى كتاب الأوراق للصولى (قسم أخبار الشعراء) وفى الأغانى (طبع الساسى) 20/ 73.
(2)
الأوراق للصولى (قسم أخبار الشعراء) ص 46.
(3)
أغانى (طبع دار الكتب) 4/ 36.
ثلاثة شطور، ثلاثة شطور، على هذا النمط (1):
الحمد لله العلىّ الأعظم
…
ذى الفضل والمجد الكبير الأكرم
الواحد الفرد الجواد المنعم
…
الخالق السّبع العلا طباقا
والشّمس يجلو ضوءها الإغساقا (2)
والبدر يملأ نوره الآفاقا
ودخلت شعاعات من هذا الفن التعليمى الجديد إلى بيئات الأخباريين، فإذا الأصمعى ينظم قصيدة طويلة فى ذكر الملوك والجبابرة الهالكين والأمم الخالية البائدة (3) وتتكاثر هذه الشعاعات فى بيئات المتكلمين، فإذا معدان الأعمى الشيعى الشميطىّ أحد متكلمى الشيعة الإمامية ينظم قصيدة طويلة فى أصناف الشيعة وعقائدهم، مقدما عليهم فرق الشميطية الغالية (4). ولعل متكلما لم ينظم فى هذا الفن كما نظم بشر بن المعتمر المعتزلى المشهور، فقد أكثر من النظم فى الردّ على أصحاب المقالات والنحل المختلفة، وقد ساق له الجاحظ فى الحيوان قصيدتين طويلتين (5) يمكن أن يدخلا من بعض الوجوه فى علم التاريخ الطبيعى إذ تحدث فيهما عن الحشرات وأصناف الحيوانات، وما يتجلّى فيها جميعا من حكمة الله البالغة فى خلقه العجيب. ومن نمطهما قصيدة الحكم بن عمرو البهرانى فى غرائب الخلق (6) وقصيدة هرون مولى الأزد فى وصف الفيل وصورة خلقه وتركيبه (7).
ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور النشاط العقلى والفنى للشاعر العباسى وكيف كان يحرص على التجديد، فهو يشتق من الشعر القديم موضوعات جديدة لمقطوعاته وقصائده، ولا يكتفى بها، بل ما زال يكتشف موضوعات أخرى، تلهمه بها بيئته الحضارية وحياته العقلية الراقية ولم؟ ؟ ؟ فسجّل فيه كثيرا من القصص والتاريخ و؟ ؟ ؟
(1) معجم الأدباء (طبعة القاهرة)؟ ؟ ؟
(2)
السبع: هى السماوات السبع؟ ؟ ؟ لمطابقة بعضها بعضا. الإغساق: الظلام.
(3)
الحيوان 6/ 149.
(4)
الحيوان 2/ 268 والبيان والتبيين 3/ 75؟ ؟ ؟ .
(5)
؟ ؟ ؟
(6)
الحيوان 8/ 80.
(7)
الحيوان 7/ 76.