الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
أعلام الشعراء
1 - بشار
(1)
ولد بشار بن برد بن يرجوح (2) بالبصرة لأوائل العقد العاشر من القرن الأول للهجرة. وجدّه يرجوخ من طخارستان ممن سباهم المهلب بن أبى صفرة والى خراسان (79 - 81 هـ). ومن أجل ذلك نشأ ابنه برد على الرقّ. وكان أولا فى عداد رقيق خيرة القشيرية امرأة المهلب، ثم وهبته لامرأة من بنى عقيل، وفى ملكها ولد له بشار على الرق، ولم تلبث العقيلية أن أعتقت بردا. وبذلك عدّ هو وابنه فى موالى بنى عقيل. وقد نسب نفسه من جهة أمه إلى الروم، إذ يقول (3):
وقيصر خالى إذا
…
عددت يوما نسبى
وإن صح ذلك كان فارسى الأب رومى الأم، وقد ذكرها حماد عجرد فى بعض أهاجيه لبشار باسم غزالة (4)، وقد ولدته أعمى فما نظر إلى الدنيا قط، وفى ذلك يقول (5):
(1) انظر فى بشار وترجمته الأغانى (طبعة دار الكتب) 3/ 135، 6/ 242 والشعر والشعراء ص 733 وابن المعتز ص 21 وتاريخ بغداد 7/ 112 والمختار من شعر بشار للخالديين (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) والموشح للمرزبانى ص 246 ونكت الهميان (طبعة المطبعة الجمالية بالقاهرة) ص 125 ومرآة الجنان لليافعى 1/ 354 وشذرات الذهب 1/ 264 وابن خلكان ومراجعات فى الآداب والفنون للعقاد ص 119 وحديث الأربعاء لطه حسين 2/ 232 وكتابنا الفن ومذاهبه فى الشعر العربى (طبع دار المعارف) ص 148 وكتاب بشار بن برد المازنى (طبع عيسى الحلبى) وبشار ابن برد لعمر فروخ (طبعة عيسى الحلبى) وبشار ابن برد لعمر فروخ (طبعة بيروت) وبشار بن برد لطه الحاجرى (طبع دار المعارف). وقد طبع من ديوانه ثلاثة أجزاء بمطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
(2)
ذهب بعض الرواة إلى أن اسم جده بهمن. انظر الأغانى 3/ 135.
(3)
الديوان 1/ 377.
(4)
الحيوان 1/ 354، 4/ 453.
(5)
أغانى 3/ 142.
عميت جنينا والذكاء من العمى
…
فجئت عجيب الظّنّ للعلم موئلا
وكان أبوه طيّانا يعيش من ضرب اللّبن معيشة تقوم على الشظف، ويقال إنه كان له أخوان: بشر وبشير، وكانا قصّابين يبيعان اللحم، ولم يكونا سويّين إذ كان أحدهما أعرج والآخر أبتر اليد.
وحدّدت آفة بشار حياته منذ نعومة أظفاره، فاتجه إلى المساجد وإلى مربد البصرة ينهل من حلقات العلم والشعر، وأعانته نشأته فى بنى عقيل على أن يتمثل السليقة العربية. ولم يكد يبلغ العاشرة حتى أخذ ينبوع الشعر يسيل على لسانه.
وكان الهجاء حينئذ يضطرم فى موطنه اضطراما لا بين جرير والفرزدق فقط، بل بين جميع الشعراء، فكان طبيعيّا أن يكون أول موضوع ينظم فيه الغلام. ويقال إن أباه كان يضربه بسببه ضربا مبرحا لكثرة ما يشكو الناس منه، وكانت أمه لا تزال تستعطفه عليه، فيقول: إنى لأرحمه، ولكنه يتعرض للناس، فقال له بشار: قل لهم: أليس الله يقول: (ليس على الأعمى حرج). وعادوا إلى برد يرددون شكواهم، فتلا عليهم الآية الكريمة، فانصرفوا وهم يقولون: فقه برد أغيظ لنا من شعر بشار. واشتد ببشار طموحه إلى إتقان العربية، فيمّم نحو البادية، فأقام فيها فترة مكّنت له فى عربية لسانه وفقهه الدقيق باللغة وشئون البادية.
وعاد إلى البصرة يكثر من الاختلاف إلى حلقات المتكلمين ومجالسهم، كما يكثر من النظم فى المديح وغير المديح، ومن أقدم مدائحه ما نظمه فى عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والى العراق لسنة 126 للهجرة (1). ولما خطب واصل بن عطاء رأس المعتزلة بين يدى هذا الوالى مع بعض الخطباء البلغاء أشاد به وببيانه طويلا (2)، مما يدل على أن صلة وثيقة كانت منعقدة بينهما، وفى الأغانى أنه كان يحضر مجالسه ويستمع إلى محاوراته مع من يعتنقون مذاهب الثّنويّة المجوسية والدهرية الهندية (3)، وأكبر الظن أنه تسرب إليه من هذه المجالس وما يماثلها من مجالس المتكلمين شئ من الفلسفة والمنطق، على أن الأمور لم تلبث أن فسدت بينه وبين
(1) الديوان 3/ 172.
(2)
البيان والتبيين 1/ 24.
(3)
أغانى 3/ 146.
واصل إذ عرف فيه أنه يدين بالرّجعة أو عودة الإمام المختفى ويكفّر جميع الأمة، وتتابع منه ما يشهد على إلحاده من مثل قوله يشيد بعبادة النار وأنها أفضل من الأرض والطين (1):
الأرض مظلمة والنار مشرقة
…
والنار معبودة مذ كانت النار
وتمادى يفضّل إبليس المخلوق من النار على آدم المخلوق من الطين، قائلا (2):
إبليس أفضل من أبيكم آدم
…
فتنبّهوا يا معشر الفجّار
النار عنصره وآدم طينة
…
والطين لا يسمو سموّ النار
وتصدّى له صفوان الأنصارى شاعر المعتزلة يردّ عليه وعلى ما رمى إليه من تصويب رأى إبليس فى عدم سجوده لآدم وعصيانه لأمر ربه حين طلب إليه هذا السجود، لأن النار، فى رأيه هو وأضرابه من الزنادقة الذين كانوا يقدسونها، خير من الأرض. وأطال صفوان فى تفضيل الأرض وذكر له العلة التى بعثته على تفضيل النار وأنها ليست إلا حقده وموجدته على الدين الحنيف، قائلا (3):
كأنك غضبان على الدين كلّه
…
وطالب ذحل لا يبيت على حقد (4)
غير أن بشارا مضى يعلن زندقته لا يزدجر مصرحا بأنه لا يؤمن إلا بالعيان وما شهده الحسن (5). فهو لا يؤمن بجنة ولا نار ولا ببعث ولا حساب، ويحاول أن يثير الغبار فى وجه واصل وغيره من المعتزلة، فيعلن أنه يعارض ما يذهبون إليه من أن الإنسان يخلق أفعاله، ويقول إنه جبرىّ، بل لا شئ سوى الجبر وتعطيل الإرادة الإنسانية (6).
وكل ذلك جعل واصل بن عطاء يثور عليه ثورة شديدة، وكان مما زاد هذه الثورة فى نفسه اضطراما أن رآه يكثر من غزل مادىّ آثم يعدّ خطرا أى خطر على شباب البصرة ونسائها (7)، فهتف به فى بعض خطبه الواعظة داعيا إلى قتله
(1) البيان والتبيين 1/ 16 والأغانى 3/ 145.
(2)
رسالة الغفران لأبى العلاء (نشر كامل كيلانى) 2/ 137.
(3)
البيان والتبيين 1/ 29.
(4)
ذحل: ثأر.
(5)
أغانى 3/ 227.
(6)
نفس المصدر والصفحة.
(7)
أغانى 3/ 182.
بمثل قوله: «أما لهذا الأعمى الملح المشنّف (1) المكنّى بأبى معاذ من يقتله (2)؟ ! » وتعاون واصل وأتباعه من معتزلة البصرة أمثال عمرو بن عبيد على طرده عن مدينتهم، وكان الخوف قد بلغ من نفس بشار، فبارحها وظل غائبا عنها حتى توفى عمرو (3) ابن عبيد خليفة واصل سنة 144 للهجرة. ونراه يقصد إلى حرّان فى سنة 127 فيمدح سليمان (4) بن هشام بن عبد الملك إلا أنه لا ينبله ما كان يؤمله (5)، فيتجه إلى واسط، حيث يزيد بن عمر بن هبيرة والى العراق لعهد مروان بن محمد وزعيم قيس، فيستقبله استقبالا حافلا، ويغدق عليه من برّه وصلاته السنية (6)، ويغدق عليه بشار من شعره، وكان يزيد يتعصب لقومه من قيس تعصبا قويّا، وصادف ذلك هوى فى نفس بشار إذ كان ولاؤه لبنى عقيل القيسيين، وكان مروان بن محمد يؤثر قيسا على بقية القبائل العربية ويعتمد عليها فى حروبه مع الثوار من بنى عمه وغيرهم، فاندفع بشار يمدح ابن هبيرة ويفخر بقيس ومواليه القيسيين فخرا عارما.
ولم تلبث رايات العباسيين السوداء أن أقبلت فى سنة 131 للهجرة من خراسان، وطوّحت جيوشهم ببنى أمية وواليهم يزيد، وانعقد لسان بشار شاعر خصومهم فلم يستطع أن يفد على السفاح ولا على المنصور، وكان نجم خالد بن برمك آخذا فى التألق إذ استوزره المنصور ثم ولاه ولاية فارس، وكأنما رأى فيه بشار لحمة نسب تصله به إذ كان إيرانيّا مثله، فوفد عليه يمدحه، وخالد يجزل له فى العطاء والإكراام (7). ويحس بشار فى عمق بإقبال الدنيا عليه، فيتغنّى بشعوبيته ويفخر بقومه الفرس فخرا مسرفا.
ويعود إلى البصرة بعد وفاة عمرو بن عبيد، ولا يكاد العام يستدير حتى يثور العلويون بزعامة إبراهيم بن عبد الله سنة 145 للهجرة، ويخيل إليه أن الانتصار من إبراهيم وثورته قاب قوسين أو أدنى فيمدحه بقصيدة ميمية رائعة، وسرعان
(1) المشنف: ذو القرط، يقال إنه كان يلبس قرطا وهو صغير فلقب بالمرعث من الرعاث هو القرط. وإلى ذلك يشير واصل. انظر الأغانى 3/ 140.
(2)
البيان والتبيين 1/ 16 والأغانى 3/ 146.
(3)
البيان والتبيين 1/ 25.
(4)
الديوان 1/ 291 والأغانى 3/ 217.
(5)
أغانى 3/ 218.
(6)
أغانى 3/ 236 - 237.
(7)
أغانى 3/ 192.
ما يخيب فأله، إذ قمع المنصور الثورة، ويمارع بشار فيحدث تغييرات فى القصيدة، ويجعلها فى مديحه (1)، غير أنه لا يستطيع الوفود عليه. ويأخذ منذ هذا التاريخ فى مديح ولاة البصرة، وخاصة سلم (2) بن قتيبة الباهلى الذى وليها لخمسة أشهر فى سنتى 145 و 146 وعقبة (3) بن سلم الهنائى الأزدى الذى وليها لأربع سنوات من سنة 147 إلى سنة 151.
ويمضى بشار فى غزله الفاجر، وكان كل شئ فيه ينفّر المرأة، إذ كان قبيح المنظر مجدور الوجه جاحظ العينين قد تغشّاهما لحم أحمر، ولعل هذا القبح ونفور النساء منه هو الذى كان يستثير عنده الغريزة النوعية ويدفعه إلى الإفراط من غزله المكشوف. على أن هذا الغزل نفسه جعل بعض بنات الهوى اللائى كانت تكتظ بهن دور القيان يقبلن عليه ويتغنين فى شعره. وفى هذه الأثناء يصطدم بجماد عجرد وتنشب بينهما معركة هجاء حامية الوطيس.
ويتوفّى المنصور سنة 158 للهجرة ويخلفه المهدى فتطمح نفسه إلى الوفادة عليه والحصول على جوائزه، ويقدم بغداد ويلجأ إلى يزيد بن مزيد الشيبانى القائد الممدّح المشهور كى يذكره للمهدى ويدخله عليه، ويظهر أن يزيد كان يعرف سيرته فأخذ يسوّفه، غير أن قائدا آخر هو روح بن حاتم بلغه خبره وكأنما كان يود لو يصبح من ممدوحيه، فتبرّع بذكره للمهدى متلطفا، فأمر بإحضاره، ولم يكد يفرغ من إنشاده مدحته التى أعدّها حتى وصله بعشرة آلاف درهم ووهب له عبدا وقينة وخلع عليه خلعا كثيرة (4)، وجعله من سمّاره ومن يحضرون مجالسه (5).
وكانت فى المهدى شدة فى شئون الدين وانتهى إليه من غير وجه أن بشارا يفسد النساء والشباب بغزله الفاضح، فأمره أن يكفّ عن ذلك، وكفّ بشار على مضض، وأخذ يردد فى أشعاره أنه ترك الغزل والنسيب نزولا على إرادة الخليفة من مثل قوله (6):
(1) أغانى 3/ 156 - 158.
(2)
أغانى 3/ 190 والديوان 2/ 326 - 338، 3/ 203.
(3)
أغانى 3/ 174، 178، 189 والديوان 1/ 107، 140، 2/ 219.
(4)
أغانى 3/ 213.
(5)
ابن المعتز ص 21 وما بعدها.
(6)
أغانى 3/ 239 وانظر ص 241 وما بعدها.
يا منظرا حسنا رأيته
…
من وجه جارية فديته
بعثت إلىّ تسومنى
…
برد الشباب وقد طويته
والله ربّ محمّد
…
ما إن غدرت ولا نويته
أمسكت عنك وربما
…
عرض البلاء وما ابتغيته
إن الخليفة قد أبى
…
وإذا أبى شيئا أبيته
ونهانى الملك الهما
…
م عن النّسيب وما عصيته
وكان ذلك يؤذى الخليفة منه إذ كان يراه لا يكفّ عن الغزل، وترامت إليه زندقته وما يغرق فيه من مجون، فحرمه جائزته، ولا نصل إلى سنة 166 حتى يتعقب المهدى الزنادقة ويقتل منهم خلقا كثيرا، ويلزم بشار البصرة إشفاقا على نفسه، غير أنه لا يصمت، بل يأخذ فى رثاء أصدقائه الذين يقتلون على الزندقة (1)، ويهجو المهدى ووزيره يعقوب بن داود هجاء مقذعا (2) ويقدم المهدى إلى البصرة فى سنة 168 فيشهد أمامه شهود موثّقون بأن بشارا زنديق، حينئذ يأمر بضربه حتى التلف، فيضرب سبعين سوطا يموت على إثرها ويرمى به فى البطيحة، ويجئ بعض أهله فيحملونه ويدفنونه.
وأخبار بشار فى أسرته قليلة، ويدلّ هجاء حماد عجرد له أنه كان له امرأة تسمّى أمامة (3)، وهو يكثر فى أشعاره من ذكر أطفاله الصغار يستعطف بهم ممدوحيه حتى يضاعفوا له الجائزة (4)، وقد حزن حين اختطف منه القدر ابنه محمدا (5)، واختطف منه بنتا صغيرة (6). ومر بنا فى غير هذا الموضع أنه كانت له جارية تسمى ربابة، وكانت له جارية أخرى سوداء، وفيها يقول (7):
وغادة سوداء برأفة
…
كالماء فى طيب وفى لبن
(1) أغانى 3/ 234 والمختار من شعر بشار ص 35 وأمالى المرتضى 2/ 133.
(2)
أغانى 3/ 243.
(3)
أغانى 14/ 365.
(4)
الديوان 1/ 239.
(5)
أغانى 3/ 161، 220، وانظر الديوان 1/ 256.
(6)
أغانى 3/ 229.
(7)
أغانى 3/ 193.
كأنها صيغت لمن نالها
…
من عنبر بالمسك معجون
ولعلها السندية العجماء التى لم يتبع جنازته سواها (1). وذكر فى غزله كثيرات من القيان والجوارى، وفتن فتونا بعبدة، وقد أفرد صاحب الأغانى لأخباره معها فصلا خاصّا (2).
وواضح مما قدمنا أن طبيعة بشار لم تكن بسيطة ولا ساذجة، بل كانت معقدة، فقد كان فارسى الأصل، وورث عن الفرس حدة فى المزاج، ونشأ قنّا ابن قنّ، وولد أعمى لا يبصر. وكان لذلك يحسّ بغير قليل من المرارة، وضاعفها فى نفسه فقرأ سرته وتخلفها فى المجتمع. وقد ربى فى مهد عربى، فأتقن العربية وتمثّل سليقتها بكل مقوّماتها. وسرعان ما أخذ يختلف إلى حلقات المتكلمين بالمسجد الجامع يستمع إلى محاوراتهم لأصحاب الملل والنحل والأهواء المختلفة، وليس من ريب فى أنه اطلع على ما نقله ابن المقفع إلى العربية من الآداب الفارسية وغير الفارسية ومن الآراء المزدكية والمانوية. وكان ذلك كله سببا فى أن يحدث تشويش فى فكره وأن تمتلئ نفسه بالشك والحيرة، ولم يستطع الخلوص من ذلك فتحول زنديقا ببغض الدين الحنيف، حتّى إذا نجحت الثورة العباسية تحوّل شعوبيّا يبغض العرب والعروبة. وكانت بيئته تكتظ بالجوارى والقيان ممن لا يعصمهن من الغواية دين ولا عرف، فاختلط بهن، وتغزل فيهن غزلا حسيّا، وربما دفعه فقد بصره إلى ذلك من بعض الوجوه، إذ الضرير لا يرى الجمال ببصره، إنما يحسه بلمسه ويده، ويتسع جشعه الجسدى، حتى ليصبح غزله، فى بعض جوانبه ضربا من صياح الغريزة النوعية الذى ينبو عن الذوق.
وكل هذه العناصر السالفة أثرت فى طبيعة بشار وجعلتها شديدة التعقيد، ويجمع الرواة والنقاد على أنه زعيم الشعراء المحدثين، وهى زعامة تردّ إلى أنه استطاع أن ينهج لهم فى قوة السبيل التى ترسّمها الشعراء من حوله ومن بعده، وهى سبيل تقوم على التمسك بالأصول التقليدية للشعر العربى من جهة، ومن جهة ثانية تفسح لتجديد الشاعر العباسى بحكم رقيه العقلى ومعيشته الحضارية. وبذلك ازدهر الماضى فى الحاضر ونما الحاضر من خلاله هذا النمو الذى جعل الشعر العربى عنده يحتفظ
(1) أغانى 3/ 248.
(2)
أغانى 6/ 242 وما بعدها.
بشخصيته الخالدة، إذ ظلت أساليبه-مهما لانت ورقّت-مطبوعة بطوابع التصاعد والإيجاز والتركيز، تلك الطوابع التى تشيع فيه الدقة والوضوح والجمال، كما ظلت معانيه وأغراضه البدوية القديمة بجميع رواسبها الخيالية. وحقّا حدث فيه تجديد واسع ولكنه تجديد لا يفصله من تراثه، بل يتيح لهذا التراث أن يعاد خلقه بحسّ متحضر وذوق مرهف وعقل بصير يعرف كيف يفيد من كنوز الآداب والثقافات المترجمة وكيف يلائم بين ما يصوغه وبين بيئته المتحضرة. وقد أتاح ذلك لأغراض الشعر عند بشار أن تتطور تطورا قليلا أو كثيرا، بحيث يظل الاتصال قائما بين الشعر العباسى والشعر القديم.
وعجيب حقّا أن يستطيل بشار على العرب وعلى دينهم الحنيف وأن يقهره شعرهم، ويملك عليه ذات نفسه، ويسخره ليكون أداة من أدوات ازدهاره وبرهانا بيّنا على قوة شخصيته، تلك الشخصية التى يظل فيها الماضى الفنى ماثلا، مهما سقط على أصحابه من اختلافات فى الزمان والمكان ومهما وقع عليهم من مؤثرات حضارية وثقافية، ومهما ألحدوا فى العروبة والدين. وما من شك فى أن بشارا كان ملحدا زنديقا يكفر بالعرب، ومع ذلك اضطرّ اضطرارا حين عاش شعرهم أن يتمثّل أحاسيسهم ومشاعرهم وأفكارهم وخواطرهم مخترقا فى تمثله حجب الزمان والمكان مطأطئا من غروره. وليس معنى ذلك أنه انفصل عن عصره، فقد مضى يزاوج بين الماضى والحاضر، يتلقّى الماضى ويحياه، وأيضا يتلقّى الحاضر ويحياه، وبذلك وصل بين الحاضر والماضى برقيه العقلى وحياته الحضارية وصلا خصبا
وقد يكون من الغلو أن نزعم أن ذلك كان من عمل بشار وحده، فقد شركه فيه جميع شعراء عصره إلا نفرا قليلا، إذ مثل الشعر القديم أمامهم كالأم الغاذية، فكل شاعر يتغذى منه ما يقوّم به عمله، حتى إذا مرن عليه أخذ يوازن بين الغذاء القديم والغذاء الحديث. غذاء الثقافة والحضارة، وهى موازنة غدت كأنها طبيعة العصر، وكان مما أذكى جذوتها فى نفوس الشعراء أن شاعرا لم يكن يحظى بتقدير بين أقرانه إلا إذا حقق لنفسه حظّا من هذه الموازنة، ومما لا شك فيه أن حظ بشار منها كان موفورا، فإنه احتفظ للشعر بأصوله التقليدية، ومضى يطوّر فى أغراضه ومعانيه تطورا يختلف قلة وكثرة وسعة وعمقا.
والمديح أهم غرض وصل بشارا بالتراث القديم، فقد حافظ فيه محافظة شديدة على سننه الموروثة، سواء من حيث جزالة الصياغة ورصانتها ومتانتها، أو من حيث المنهج الذى سار عليه القدماء، إذ كانوا يقدّمون بين يديه وصف الأطلال والنسيب والغزل ووصف البعير أو الناقة ورحلتهم عليهما فى الصحراء مستطردين إلى وصف مشاهدها الطبيعية وما يجرى فيها من حيوان، ثم يخرجون من ذلك إلى المديح بمآثر الأفراد والقبائل ناثرين فى أطراف قصيدهم بعض الحكم. وكل ذلك احتذاه بشار فى كثير من مدائحه، بل لقد احتذى نفس المعانى والأخيلة، وبلغ من شدة هذا الاحتذاء عنده أن نظم بعض مدائحه على غرار أراجيز رؤبة مكثرا فيها من الغريب الوحشى على نحو ما هو معروف فى أرجوزته (1):(يا طلل الحىّ بذات الصّمد). ونراه يصرح فى بعض مدائحه بأنه بناها أعرابية وحشية حتى يرضى ممدوحه سلم بن قتيبة الذى كان يتباصر بالغريب (2).
وإذا تركنا إطار المديح ومقدماته إلى معانيه التى ساقها فى وصف الخلفاء والولاة وجدناه يخلع عليهم نفس الشّيم الرفيعة التى طالما خلعها الجاهليون والإسلاميون على ممدوحيهم من الكرم والمرءوة والشجاعة والنجدة وإباء الضيم، وكان الإسلاميون من أمثال جرير والفرزدق قد لاحظوا الفرق الحادث بين من يمدحونهم من الخلفاء والولاة وبين سادة القبائل فى الجاهلية، فأسبغوا عليهم كثيرا من الصفات الدينية والزمنية، ونرى بشارا يقتدى بهم وخاصة فى مديحه للمهدى (3)، وكأنه حتى فى هذا الجانب لا يزال موصولا بالتراث الفنى القديم. وكان طبيعيّا لذلك أن يستمد جمهور معانيه فى المديح من القدماء، وهذا نفسه يلاحظ على مقدماته الطللية والغزلية، وبذلك فتح الأبواب واسعة أمام النقاد كى يبحثوا فى سرقاته منهم، كما فتحها أمام الشعراء لكى يحتذوا على صيعه. على أنه ينبغى أن نعود فنقرر أنه كان يحاول النفوذ من خلال هذا الصنيع إلى معان وصور جديدة يستلهم فيها حسه المرهف وعقله الدقيق وذوقه الحضارى المترف حتى حين يعمد إلى المحاكاة المسرفة للقدماء على نحو ما يلقانا فى أرجوزته:«يا طلل الحىّ بذات الصّمد» . وحرى بنا أن نقف
(1) الديوان 2/ 219 والأغانى 3/ 174 وراجع فى أراجيز له أخرى الديوان 1/ 134، 1/ 140.
(2)
الأغانى 3/ 190 وما بعدها.
(3)
انظر الديوان 3/ 321، 2/ 277 وما بعدها، 2/ 297.
قليلا عند قصيدته البائية التى مدح بها يزيد بن عمر بن هبيرة وفى رواية أنه مدح بها مروان بن محمد، وهى تلك التى يستهلها بقوله:
جفا ودّه فازورّ أو ملّ صاحبه
…
وأزرى به أن لا يزال يعاتبه
فإننا نجده يستهلها بالنسيب ووصف سرى الليل على بعيره وسط الفيافى المقفرة، ويستطرد إلى وصف حمار الوحش وأتنه وما مرّ بها وبه من أيام الربيع المنعشة ثم ما سقط من أيام الصيف اللافحة التى أوقدت العطش فى صدور الأتن وحمارها، فإذا هى تطلب الماء تريد أن تشفى غلّتها منه، وما إن تريد أن تقع عليه حتى يرسل الصائد عليها سهامه. ويمضى إلى مديح يزيد فيوغل فى فخر شديد بقيس قبيلته التى كان لها ولاؤه، ويطيل فى وصف بلائها فى حروب مروان بن محمد وقمع الثائرين عليه. وبشار فى كل ذلك ينزع منزع القدماء حين كانوا يمدحون سادة عشائرهم فيفخرون بمآثر العشيرة ووقائعها الحربية، وكأنه يقصد إلى ذلك قصدا، ولكن لا تظن أنه طابق النموذج القديم تمام المطابقة، فقد أدخل فى نسيج قصيدته خيوطا جديدة، وتلقانا هذه الخيوط واضحة فى نسيبه إذ تحدث فيه عن الصداقة والصديق، وكأنه يستلهم ما كتبه فيهما ابن المقفع بكتابه «الأدب الكبير» كما يستلهم الكلاميين فى قوة البرهان والحجة، فإذا هو يقول (1):
إذا كنت فى كل الأمور معاتبا
…
صديقك لم تلق الذى لا تعاتبه
فعش واحدا أوصل أخاك فإنه
…
مقارف ذنب مرة ومجانبه (2)
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى
…
ظمئت وأىّ الناس تصفو مشاربه
ونمضى معه فى وصف مشاهد الصحراء وصفا حيّا، حتى إذا انتهى منه فخر بقيس مواليه وما يذيقون به أعداءهم من بأسهم الشديد حتى ليمحقونهم محقا، يقول:
إذا الملك الجبّار صعّر خدّه
…
مشينا إليه بالسيوف نعاتبه (3)
(1) أغانى 3/ 197 وانظر القصيدة فى الديوان 1/ 305.
(2)
مقارف: مرتكب.
(3)
صعر خده: تكبر وعتا وبغى.
وكنا إذا دبّ العدوّ لسخطنا
…
وراقبنا فى ظاهر لا نراقبه (1)
ركبنا له جهرا بكل مثقّف
…
وأبيض تستسقى الدّماء مضاربه (2)
وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى
…
وبالشّوك والخطّىّ حمر ثعالبه (3)
غدونا له والشمس فى خدر أمّها
…
تطالعنا والطّلّ لم يجر ذائبه
بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه
…
وتدرك من نجىّ الفرار مثالبه (4)
كأن مثار النّقع فوق رءوسنا
…
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (5)
بعثنا لهم موت الفجاءة إننا
…
بنو الملك خفّاق علينا سبائبه (6)
والفخر بالبلاء فى الحروب قديم، غير أن جديدا واضحا يداخل معانى هذه الأبيات، وهو يردّ من بعض الوجوه إلى مزاج بشار الفارسى الذى أدّى به إلى المبالغة ومجاوزة القصد الذى يعدّ من مميزات الطبع العربى الخالص، كما يردّ إلى محاولة الإبداع فى التصوير، ويروى أن الأصمعى وقف متعجبا إزاء البيت السابع وأنه قال:«ولد بشار أعمى فما نظر إلى الدنيا قط، وكان يشبّه الأشياء بعضها ببعض فى شعره فيأتى بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله» (7). وكان يعتمد فى ذلك على ذكاء حاد جعله يستغلّ ذاكرته من صور الأقدمين وأخيلتهم استغلالا فاق فيه المبصرين من حوله، مستعينا بحس دقيق. وكان مما دفعه إلى ذلك شعوره بفقده لبصره، وكأنه كان يريد أن يثبت أنه على الرغم من آفته يستطيع أن يؤلف الصور الحسية بل أن يبدع فى تأليفها. على أن من يمعن النظر فى تصاويره يلاحظ عجزه عن تمثل الدقائق التى لا ترى إلا بحاسّة البصر.
ومهما يكن فقد استطاع بشار فى مديحه أن يضيف إلى العناصر البدوية القديمة عناصر مستحدثة، وهى تبدو قليلة فى قصائده الأموية، وكلما أوغلنا معه فى العصر العباسى أحسسنا بنموها، فقد أخذ يتخفف من مشاهد الصحراء ومن
(1) دب: مشى فى استخفاء.
(2)
المثقف: الرمح المقوم. الأبيض: السيف.
(3)
يزحف: يهجم. بالحصى أى أنه كالحصى كثرة. الشوك هنا: السلاح. الخطى: الرمح. ثعالبه: أطرافه.
(4)
مثالبه: معايبه.
(5)
النقع: غبار الحرب.
(6)
سبائبه: أعلامه وراياته.
(7)
أغانى 3/ 142.
المقدمات الطللية مكتفيا بالغزل. ولما أمره المهدى بالكفّ عن الغزل الماجن أخذ يردد-كما أسلفنا-فى مطالع بعض مدائحه له أنه سيكفّ عن الغزل نزولا على مشيئته. وكان قد وصف السفينة فى إحدى (1) مدائحه لابن هبيرة، ونراه يعود إلى ذلك مرارا فى بعض مدائحه (2) للمهدى، وكأنه يريد أن يضيف إلى المقدمات الطللية القديمة مقدمة جديدة من بيئته. وقد عكف على معانى المديح القديمة يولّد فيها ويفرّع ويستنبط دقائق كثيرة من مثل قوله فى خالد بن برمك يصف سماحته ونائله الغمر (3):
إذا جئته للحمد أشرق وجهه
…
إليك وأعطاك الكرامة بالحمد
مفيد ومتلاف سبيل تراثه
…
إذا ما غدا أو راح كالجزر والمدّ (4)
وقوله فى عمر بن العلاء قائد المهدى الذى قضى على ثورة الخرّمية بجرجان (5) فتى لا ينام على دمنة
…
ولا يشرب الماء إلا بدم
يلذّ العطاء وسفك الدّماء
…
ويغدو على نعم أو نقم
ويقرن دائما فى مديحه للقواد والولاة الشجاعة إلى الكرم الفياض، ويستنبط منهما دقائق كثيرة مستلهما لطائف عقله ودقائق تصويره، من مثل قوله فى مديح عقبة بن سلم والى البصرة (6):
إنما لذّة الجواد بن سلم
…
فى عطاء ومركب للقاء
كخراج السماء سيب يديه
…
لقريب ونازح الدار نائى (7)
ليس يعطيك للرجاء ولا الخو
…
ف ولكن يلذّ طعم العطاء
يسقط الطير حيث ينتشر الح
…
بّ وتغشى مازل الكرماء
لا يهاب الوغى ولا يعبد الما
…
ل ولكن يهينه للثناء
(1) الديوان 1/ 147.
(2)
الديوان 2/ 283، 3/ 280.
(3)
أغانى 3/ 192 والديوان 3/ 125.
(4)
التراث هنا: المال مطلقا.
(5)
المختار من شعر بشار للخالديين ص 77.
(6)
الديوان 1/ 111 والأغانى 3/ 189.
(7)
خراج السماء: الغبث. السيب: العطاء.
أريحىّ له يد تمطر النّي
…
ل وأخرى سمّ على الأعداء (1)
وواضح أنه يجعل لذته فى الكرم والشجاعة، ويصور كرمه واسترساله فيه بالغيث الذى لا مفر من سقوطه على القريبين والنائين. ويجرّد عطاءه عن الغايات، فهو لا يعطى خوفا من هجاء ولا رجاء فى مديح، وإنما يعطى لأنه يجد لذة فى العطاء من حيث هو ويجد فيه استرواحا. ويتمثل عكوف السائلين على بابه بسقوط الطير على الحب. ويصف شجاعته ويقول إنه لا يهاب الموت، وإنه لا يزال يبذل ماله كأنه يريد أن يهينه لمن يثنون على صنيعه. ويصوره مرسلا نداه على السائلين وصواعق الموت على الأعداء الباغين. وتتضح فى هذه القطعة خصائصه، فهو يحاول أن يستقصى المعانى عارضا لها فى وجوه شتى تصور دقة فكره وطرافة أخيلته، مستعينا بالمقابلة والطباق وببعض الحكم كما فى البيت الرابع. وقد أفرد للحكم قصيدة خاصة (2).
ولم تؤثر لبشار مراث كثيرة، وربما رجع ذلك إلى أنه كان منغمسا فى اللهو وأن نفسه لم تكن مفطورة على الحزن، ومع ذلك فإننا نرى الموت يهز نفسه هزّا حين فقد ابنه محمدا، وفيه يقول (3):
أصيب بنىّ حين أورق غصنه
…
وألقى علىّ الهمّ كلّ قريب
وكان كريحان العروس تخاله
…
ذوى بعد إشراق الغصون وطيب
وما نحن إلا كالخليط الذى مضى
…
فرائس دهر مخطئ ومصيب
نؤمّل عيشا فى حياة ذميمة
…
أضرّت بأبدان لنا وقلوب
ونراه يحزن حزنا عميقا على أصدقائه من الزنادقة الذين فتك بهم المهدى فتكا ذريعا، وكأنما رأى فيهم مصيره الذى ينتظره، وقد مرت فى الفصل السابق قطعة يرثى بها صديقا منهم، وكأنه يرثيهم جميعا وقد ندبه بها أحرّ ندب وأشجاه.
وروى له أبو الفرج ميمية رثى بها خمسة من أصدقائه تقطر أسى وحزنا. ولا نشك
(1) أريحى: كريم يهتز للندى. النيل: العطاء.
(2)
الديوان 1/ 252.
(3)
الديوان 1/ 254 والأغانى 3/ 161.
فى أنهم جميعا قتلوا على الزندقة، إذ نراه فيها جزعا أشد الجزع، ملتاعا أشدّ الالتياع على شاكلة قوله (1):
كيف يصفو لى النعيم وحيدا
…
والأخلاّء فى المقابر هام (2)
نفستهم علىّ أم المنايا
…
فأنامتهم بعنف فناموا
لا يغيض انسجام عينى عليهم
…
إنما غاية الحزين السّجام (3)
والرثاء عنده-على كل حال فن طارئ، وكانت وراءه فنون أخرى عاش لها حياته، ونقصد فنون الفخر والهجاء والغزل والمجون. وقد بدأ حياته مفاخرا هاجيا، مستلهما ما شاع فى بيئة البصرة من الفخر والهجاء على لسان جرير والفرزدق ومن كان حولهما من الشعراء. وحاول أن يدخل فى معاركهما، وهو لا يزال غضّ العود، فهجا جريرا مؤملا أن يردّ عليه فيطير اسمه فى الناس، ولكن جريرا لم يحفل به لأنه كان لا يزال فتى ناشئا، ولم يردّه عدم احتفال جرير به عن الميدان، فقد أخد يصول ويجول فى هجاء الناس، ودخل فى الخصومات القبلية بين عشيرته من بنى عقيل القيسية وغيرها من العشائر. ولما تفاقم شره شكاه الناس إلى ابيه، ولكنه ازداد شرّا وإيذاء، كما مر بنا فى صدر ترجمته.
وعوامل مختلفة جعلت بشارا يسرف فى هجائه وفخره، من ذلك أنه كان يريد أن يشتهر فى هذين الفنين شهرة جرير والفرزدق، ومن ذلك أن نفسه كانت تنطوى كما أسلفنا على غير قليل من المرارة بسبب فقده لبصره، وهى مرارة زادها اضطراما فى نفسه أنه كان مولى، والموالى كانوا متخلفين فى المجتمع الأموى، وكان فقيرا بائسا، فاندلع ينفّس بفخره وهجائه عن قروحه النفسية ولكن بمن يفخر؟ أما فى العصر الأموى فقد مضى يفخر بعشيرته وأصولها من قيس، وكان مما أشعل هذا الفخر فى نفسه أن الخليفة حينئذ-وهو مروان بن محمد-كان قيسى الهوى، وأن والى العراق يزيد بن عمر بن هبيرة الفزارى كان يتعصب لأصوله من قيس تعصبا شديدا، وكان بشار يعيش فى كنفه، فمضى آنذاك يفتخر بقيس ومضر
(1) أغانى 3/ 236.
(2)
هام هنا: أموات.
(3)
يغيض: يجف. السجام: سيلان الدمع.
افتخارا يحاول به أن يبلغ عنان السماء على نحو ما رأينا فى قصيدته البائية وعلى شاكلة قوله (1):
إذا ما غضبنا غضبة مضريّة
…
هتكنا حجاب الشّمس أو تمطر الدّما
إذا ما أعرنا سيّدا من قبيلة
…
ذرى منبر صلّى علينا وسلّما
وإذا مضينا معه إلى العصر العباسى، عصر انتصار الفرس على العرب وجدنا شعوره بالعصبية القبلية يتحول إلى شعور جديد بالعصبية الجنسية، فإذا هو يفاخر العرب بماضى قومه التليد، وإذا هو يتحول شعوبيّا مارقا يتغنّى بأمجاد قومه الحضارية كافرا بالعرب والعروبة، وتصوّر هذه النزعة عنده أدق تصوير قصيدته (2):
هل من رسول مخبر
…
عنى جميع العرب
وهى صياح وضجيج بتصوير أبّهة الملك الفارسى وأيضا الملك الرومى، إذ زعم أن الروم أخواله، هاتفا هتافا مقذعا بالعرب ومعيشتهم البدوية الخشنة.
واصطدم بشار بكثير من الشعراء، وجرّ عليه هذا الاصطدام بلاء كثيرا وخاصة من حماد عجرد الذى سلقه بلسانه، وأصلاه بناره، مما جعل معارك هجائيه عنيفة تنشب بين الوعلين على نحو ما مر بنا فى الفصل السابق وهى معارك كانت تستخدم فيها غالبا مقطوعات قصيرة، تشبه أدقّ الشبه سهاما مسمومة، وقد اختلفت أنواع السموم التى كانا يغمسانها فيها، فتارة يعمدان إلى التهوين والتحقير، وتارة يعمدان إلى انتهاك العرض وقذف الزوجات والأخوات والأمهات، مع محاولة كل منهما تلطيخ صاحبه بتهمة الزندقة. ومما نسوقه من ذلك قول بشار فى أم حماد (3) إذا سئلت لم تكن كزّة
…
ولكن تذوب ولا تجمد
ووراء هذا البيت فى القصيدة أبيات يصرح فيها بفجرها وغوايتها تصريحا تتقزّز منه النفس الكريمة.
واشتهر بشار بالتفنن فى الغزل، ويتضح فيه عنده تمثله لكل ما نظم فى هذا الفن قديما من التشبيب والنسيب وبكاء الديار، ومن الغزل المادى عند عمر بن
(1) أغانى 3/ 162.
(2)
الديوان 1/ 377 وانظر 3/ 229.
(3)
الديوان 3/ 123.
أبى ربيعة وأضرابه من شعراء مكة والمدينة، ومن الغزل العذرى عند جميل وأمثاله من النجديين والنازلين بوادى الحجاز. وقد مضى فى ذلك كله يستلهم الرقى العقلى الحديث والحضارة المادية التى تنفّس فيها، ونراه أحيانا يقترب اقترابا شديدا من القدماء، حتى ليتحدث عن الأطلال والرسوم فى مثل قوله (1):
لعبدة دار ما تكلّمنا الدّار
…
تلوح مغانيها كما لاح أسطار (2)
أسائل أحجارا ونؤيا مهدّما
…
وكيف يجيب القول نؤى وأحجار (3)
وما كلّمتنى دارها إذ سألتها
…
وفى كبدى كالنّفط شبّت به النّار
وعند مغانى دارها لو تكلّمت
…
لمكتئب بادى الصبابة أخبار
ويقترب أيضا حين يستغل عناصر النسيب والغزل القديم وما يجرى فيه من وصف لوعة الحب والسهاد الطويل، وما صوّر عشاق العرب من إذعانهم لمعشوقاتهم وما يسكبن فى قلوبهم من سحر وفتنة، وما يبعث نسيم الصبا الحلو المار بديارهن فى أنفسهم من برد وأمن وغبطة وما ينصيون حولهن من شباك التصرع والتذلل والاستعطاف، حتى ليخيّلون إليهن أنهم قتلى حبهن وسهام عيونهن، يقول من قصيدة فى معشوقته عبدة (4):
أبيت أرمد ما لم أكتحل بكم
…
وفى اكتحالى بكم شاف من الرّمد
رقّت لكم كبدى حتى لو انكم
…
تهوون أن لا أريد العيش لم أرد
كأن قلبى إذا ذكراكم عرضت
…
من سحرها روت أو ما روت فى عقد (5)
ما هبّت الريح من تلقاء أرضكم
…
إلا وجدت لها بردا على كبدى
يرقّ قلبى وتزدادين لى غلظا
…
ما ذاك فيما أرجّى منك بالسّدد (6)
تحرّجى بالهوى إن كنت مومنة
…
بالله أن تقتلى نفسا بلا قود (7)
(1) أغانى 6/ 246.
(2)
مغانيها: منازلها المهجورة. أسطار: جمع سطر، يشبه المغانى بسطور الكتابة.
(3)
النؤى: حفرة يحفرونها حول الخيمة على شكل هلال تمنع عنها سيول الأمطار.
(4)
انظر الديوان 2/ 315 والمختار من شعر بشار ص 82.
(5)
العقد: ما ينفثه الساحر بزمزمته لغرض السحر.
(6)
السدد: السداد والصواب.
(7)
القود: القصاص.
وقد رققت الحضارة حسّه وفتحت له فى الغزل أبوابا من المعانى والصور التى تمّ عن أثر البيئة وما شاع فيها من ترف مادى وشعور رقيق حاد، ومما يمثل ذلك عنده من بعض الوجوه قوله (1):
يا ليلتى تزداد نكرا
…
من حبّ من أحببت بكرا
حوراء إن نظرت إلي
…
ك سقتك بالعينين خمرا
وكأنّ رجع حديثها
…
قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحت لسانها
…
هاروت ينفث فيه سحرا
وتخال ما جمعت علي
…
هـ ثيابها ذهبا وعطرا
وكأنها برد الشرا
…
ب صفا ووافق منك فطرا
جنّيّة إنسيّة
…
أو بين ذاك أجلّ أمرا
وواضح فى هذه القطعة أثر فقده لبصره، فإنه لا يكاد يرتفع عن نطاق الشم والسمع واللمس والحسّ، فهو يصف أنفاسها وما تنشره من طيب كطيب الرياض ويصف حديثها وما تذيع فيه من سحر، ويصور جسدها ذهبا وعطرا، أما ما ينعم به من جمالها فشراب بارد سلسبيل صادف صائما يتحرق عطشا. وقلما ارتفع فى غزله عن الحس والسمع والأذن، ونوّه بذلك كثيرا فى شعره، محاولا أن يعتذر عن فقده لمتعة الجمال متعة حقيقية بالبصر، ومن ثمّ مضى يردد فى أشعاره أن السمع يحلّ محل العين فى تقدير الجمال والإحساس التام به، من مثل قوله (2):
يا قوم أذنى لبعض الحىّ عاشقة
…
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذى؟ فقلت لهم
…
الأذن كالعين توفى القلب ما كانا
وكان لذلك أثر عميق فى غزله إذ طبعه بطوابع الحس، وليس ذلك فحسب، فقد أماله بشار-كما أسلفنا-نحو الإفصاح فى وضوح عن الغريزة النوعية إفصاحا بثّ فيه كل ما استطاع من فحش وإثم وفسق، لا يتحرّج ولا يرعى دينا ولا خلقا،
(1) أغانى 3/ 155.
(2)
أغانى 3/ 238.
حتى ليصور جانبه الحيوان الجشع، عامدا إلى التفصيل أحيانا (1)، وأحيانا إلى الإجمال بمثل قوله (2):
فبتنا معا لا يخلص الماء بيننا
…
إلى الصبح دونى حاجب وستور
وقد مضى يحضّ حضّا صريحا على الإثم ويغرى الناس بفتنة الجسد، وكأنما لم يعد لجمال المرأة عنده من معنى نفسى سام، فقد ردّ جمالها كله إلى جسدها وأصبحت فى رأيه أداة للغريزة الجنسية، أداة طيعة تنال مهما تأبّت واستعصت، إذ لا تلبث أن ترضى وأن تبلغ الرجل منها ما يريد، يقول (3):
لا يؤيسنّك من مخبّأة
…
قول تغلّظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرة
…
والصعب يمكن بعد ماجمحا
ويحاول أن يبرر المعصية، فيحلّ القبلة، ويغرى باجتناء زهرات الجسد واقتطاف ثمراته، بل خطيئاته، دون التفات إلى الناس وإلى عرفهم وألسنتهم، فالحياة فرص واستماع جسدى، بل هجوم على هذا الاستمتاع وما يطوى فيه من لذة وإثم، يقول (4):
قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم
…
ما فى التلاقى ولا فى قبلة حرج
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
…
وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج
ومن أجل ذلك كله ضاق به الوعاظ وأهل الصلاح وهتفوا به فى وعظهم وكلامهم، ولم يرعو فرفعوا أمره إلى السلطان، وتدخل المهدى ونهاه فانتهى، ولكن بعد فوات الأوان وبعد أن شاع غزله الفاجر على كل لسان، وكان مما هيأ لذلك تعلّق الجوارى والقيان بهذا الغزل وتغنيهن فيه، وكان جمهورهن مثل بشار لا يعصمهن خلق ولا عرف ولا دين، وكان قد انغمس بعض الناس فى اللذات. وقد يكون من المبالغة أن نجعل بشارا وحده المسئول عن شيوع هذا الغزل العاهر، فقد كان يشركه فيه المجان من حوله فى البصرة والكوفة وبغداد، ولكنه على كل حال يعد
(1) أغانى 3/ 183 وما بعدها.
(2)
المختار من شعر بشار ص 241.
(3)
أغانى 3/ 209.
(4)
أغانى 3/ 200.
فى طليعة من روّجوا له بحكم خصب ملكاته الشعرية. وقد مضى يكثر من وصف مجالس اللهو والغناء، وله مقطوعات بديعة يصور فيها غناء بعض القيان ومدى ما كنّ يخلبن به الألباب من غنائهن وضربهن على آلات الطرب (1)، وقد تغنى طويلا بالخمر وكئوسها ودنانها وندمانها وسقاتها من مثل قوله (2):
ربّ كأس كالسّلسبيل تعلّل
…
ت بها والعيون عنى نيام
حبست للشّراة فى بيت رأس
…
عتّقت عانسا عليها الختام (3)
نفحت نفحة فهزّت نديمى
…
بنسيم وانشقّ عنها الزّكام
وكأنّ المعلول منها إذارا
…
ح شج فى لسانه برسام (4)
صدمته الشّمول حتى بعيني
…
هـ انكسار وفى المفاصل خام (5)
وهو باقى الأطراف حيّت به الكأ
…
س وماتت أوصاله والكلام (6)
وهو يصور صفاءها وقدمها وشذاها الذى يشق الزكام، وتأثيرها الجسدى فى الشارب وما تصيبه به من هذيان ومن فتور فى العيون وارتخاء فى المفاصل، ثم ما تنزل به من هدوء وسكون وصمت حتى لكأنما ماتت أوصاله ومات الكلام. وهو يتصل فى وصفه للخمر بتراثها القديم عند الأعشى وأضرابه وما أضيف إليه عند الوليد بن يزيد ونظرائه، فى الوقت نفسه يعدّ مقدمة للماجنين من حوله ومن بعده لكى يزيدوا فى الطنبور ما شاءوا من أنغام وألحان.
ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور كيف أن بشارا تمسك بالتراث الفنى وأصوله التقليدية وكيف مضى ينميه ويلائم بينه وبين حياته العقلية الخصبة وما عاش فيه من حضارة مادية حفّ بها المجون. وقد حاول، كما مر بنا فى غير هذا الموضع، أن يجدد فى شكل القصيدة، فنظم فى الرباعيات وفى المزدوج والمسمطات، غير أنه ظل محتفظا للغة الشعر بأساليبها الجزلة الرصينة، وقد يرقّ ويلين، ولكن دون
(1) أغانى 3/ 165.
(2)
أغانى 3/ 235.
(3)
بيت رأس: من قرى فلسطين وتشتهر بالكروم والخمر.
(4)
البرسام: مرض يصحبه هذيان، وهو يريد الهذيان نفسه.
(5)
الشمول: الخمر. خام هنا: ارتخاه، وأصله طاقات الزرع الغضة.
(6)
حيت: حييت.