الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليته حين جاد لى
…
بالغنى جاد بالقفل
وأذن له مغدقا عليه من نواله. وعبد الله بن طاهر إنما أقام فى خراسان منذ سنة 214. وفى ذلك دليل على أن وفاة على بن جبلة تأخرت على الأقل إلى هذه السنة، وواضح أنه كان يجيد المديح إلى أبعد حد، وكان يعرف كيف يتصوف بمعانيه، مع الألفاظ الرشيقة العذبة، ومن طريف معانيه قوله:
يأسو الذى يجرح أعداؤه
…
وما لما يجرحه آس
وقوله:
كأنهم والرماح شابكة
…
أسد عليها أظلّت الأجم
وقوله فى مديح أبى دلف:
له همم لا منتهى لكبارها
…
وهمّته الصغرى أجلّ من الدهر
ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور براعته فى صنع الشعر وأنه كان يعمد إلى لغة سهلة عذبة مونقة، ودفعه مزاجه الفارسى الحاد إلى الإكثار من المبالغة فى نعت ممدوحيه، حتى ليفرط فى ذلك إفراطا شديدا.
الخريمىّ
(1)
هو أبو يعقوب إسحق بن حسان بن قوهى الخريمى، من صغد الترك من مرو وهو جزرى نزل بغداد، وكان له ولاء فى غطفان جعله يلزم عثمان بن خريم المرّى الغطفانى فى ولايته على أرمينية، وظلّ وفيّا له، فنسب إليه، وفيه يقول:
جزى الله عثمان الخريمّى خير ما
…
جزى صاحبا جزل المواهب مفضلا
(1) انظر فى الخريمى وأخباره وأشعاره ابن المعتز ص 293 وابن قتيبة ص 829 وتاريخ بغداد 6/ 376 وزهر الآداب 4/ 201 وفهارس الوزراء والكتاب للجهشيارى والبيان والتبيين والحيوان للجاحظ وكذلك الطبرى 6/ 458 و 7/ 52 والكامل للمبرد (طبعة ليبسك) ص 703 ومعجم البلدان 5/ 363 وكتاب الورقة لابن الجراح ص 102.
كفى جفوة الإخوان طول حياته
…
وأورث مما كان أعطى وخوّلا (1)
وفى أخباره ما يدل على أنه كان يكثر من الاختلاف فى بغداد إلى مجالس الأدب، ويظهر أيضا أنه كان يختلف إلى مجالس المتكلمين إذ يكثر الجاحظ فى بيانه من النقل عنه. وقد تألق نجمه فى عصر الرشيد والبرامكة، وفيه يقول ابن المعتز:«كان يمدح الخلفاء والوزراء والأشراف فيعطى الكثير» ، ومن شعره فى يحيى البرمكى:
يا راعى السلطان غير مفرّط
…
فى لين مختبط وطيب شمام (2)
حتى تنخنخ ضاربا بجرانه
…
ورست مراسيه بدار سلام (3)
وأكثر مدائحه فى صاحبه عثمان المرى وفى محمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة الملقب بفتى العسكر لقيامه على ديوان الجيش، وفيه يقول:
زاد معروفك عندى عظما
…
أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته
…
وهو عند الناس مشهور خطير
ويظهر أن صلة وثيقة انعقدت بينه وبين الحسن بن البحباح البلخى كاتب الفضل بن يحيى البرمكى، إذ نراه يكتب له قصيدة بديعة حين ولى مصر للرشيد سنة 193 يعبر فيها عن شدة شوقه إليه، ومدى ما كان يتوثق بينهما من مودة وصداقة، وفيها يقول:
إلى صاحب لا يخلق النّأى عهده
…
لناء ولا يشقى به من يصاقبه (4)
هو الشهد سلما والذّعاف عداوة
…
وبحر على الورّاد تجرى غواربه (5)
فيا حسن الحسن الذى عمّ فضله
…
وتمّت أياديه وجمّت مناقبه (6)
إليك على بعد المزار وصعبه
…
نوازع شوق ما تردّ عوازبه (7)
(1) خول: أنعم.
(2)
مختبط: من اختبطه إذا سأله بدون قرابة أو معرفة. شمام: دنو وقرب.
(3)
تنخنخ: من تنخنخ البعير إذا برك وجم على الأرض. الجران: عنقه. وضرب بجرانه: استقر واستقام.
(4)
يخلق: يبلى. يصاقبه: يجاوره.
(5)
غواربه: أعالى موجه.
(6)
جمت: كثرت.
(7)
عوازبه: جمع عازب وهو البعيد.
فهل يرجعن عيشى وعيشك مرة
…
ببغداد دهر منصف لا نعاتبه
عسى ولعل الله يجمع بيننا
…
كما لاءمت صدع الإناء مشاعبه
وممن مدحهم المأمون وأبو دلف قائده، وكان أبو دلف شاعرا بليغا محكم القول، ولعل ذلك ما جعله يصف شعره له فى بعض مديحه بقوله:
له كلم فيك معقولة
…
إزاء القلوب كركب وقوف
وهو تصوير دقيق. ولاحظ بعض معاصريه أن مدائحه التى دبّجها فى ممدوحيه أحسن من مراثيهم فيهم وأجود، وسأله فى ذلك، فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء وبينهما بون بعيد! ومن بديع رثائه قوله:
وأعددته ذخرا لكل مصيبة
…
وسهم المنايا بالذخائر مولع
ولو شئت أن أبكى دما لبكيته
…
عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
وله فى بغداد حين رماها طاهر بن الحسين بالمجانيق فى فتنة الأمين، فأحرق كثيرا من قصورها، وهدم بعض أحيائها، مرثية طويلة امتدت إلى مائة وخمسة وثلاثين بيتا، بكاها فيها، وندبها ندبا حارّا، موازنا ماضيها وحاضرها ومصورا ما كان فيها من مجون وإثم وما صارت إليه أحياؤها من هذا الدمار الذى صبه الله عليها جزاء طغيانها وفسوقها، وفيها يقول:
يا بوس بغداد دار مملكة
…
دارت على أهلها دوائرها
أمهلها الله ثم عاقبها
…
لما أحاطت بها كبائرها
رقّ بها الدّين واستخفّ بذى ال
…
فضل وعزّ النّسّاك فاجرها
وصار ربّ الجيران فاسقهم
…
وابتزّ أمر الدروب شاطرها
وهو فى القصيدة ينتصر للمأمون. ونراه يتعرض بالهجاء إلى أبى دلف العجلى ويظهر أنه لم يثبه بما كان يبتغيه منه، فتحول يهجوه بمثل قوله:
إنى وجدت أخى أبادلف
…
عند الفعال مولّد الشّرف
وممن تولع بهجائهم على بن الهيم أحد كتاب الدواوين، وكان يتقعر فى كلامه، حتى ليؤذى من يجالسونه بكثرة ما يورد عليهم من غريب، وله يقول:
لا تشادق إذا تكلمت واعلم
…
أن للناس كلّهم أشداقا
وحدث فى أثناء رفقته لعثمان بن خريم فى ولايته على أرمينية أن عقد له فى بعض حروبه للترك على أشراف ممن معه، فكرهوا ذلك، وما زالوا به، حتى عزله، وأثاره هذا الحادث، فنظم قصيدة فخر فيها بآبائه من الصّغد، وفيها يقول:
أبالصّغد بأس إذ تعيّرنى جمل
…
سفاها ومن أخلاق جارتى الجهل
فإن تفخرى يا جمل أو تتجمّلى
…
فلا فخر إلا فوقه الدين والعقل
أرى الناس شرعا فى الحياة ولا يرى
…
لقبر على قبر علاء ولا فضل (1)
وما ضرّنى أن لم تلدنى يحابر
…
ولم تستمل جرم علىّ ولا عكل (2)
وقد سلكه بعض الباحثين من العرب والمستشرقين فى أصحاب نظرية الشعوبية لجريان هذا الفخر على لسانه، وهو لا يستمد فيه من شعوبية، إنما يستمد من نظرية الإسلام التى تسوى بين الناس عربا وموالى، فلا فضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى. وفى أشعاره ما يدل على حسن تدينه وأنه لم ينغمس فيما انغمس فيه بعض معاصريه من مجون أو زندقة يقول داعيا إلى الزهد والتقوى والعمل الصالح:
تزوّد من الدنيا متاعا لغيرها
…
فقد شمّرت حذّاء وانصرم الحبل (3)
وهل أنت إلا هامة اليوم أو غد
…
لكل أناس من طوارقها الثّكل
وفى الأغانى بترجمة حماد الراوية خبر يدل على معاشرته للمجان، ولعله مكذوب، لتأخر عصره عن عصر حماد، وقد رويت له أشعار قليلة فى الغزل، وقيل إن أول ما نظمه قوله:
بقلبى سقام لست أحسن وصفه
…
على أنه ما كان فهو شديد
تمرّ به الأيام تسحب ذيلها
…
فتبلى به الأيام وهو جديد
(1) شرعا: متساوين لا فضل لأحدهم على الآخر.
(2)
يحابر وجرم وعكل: قبائل عربية
(3)
حذاء: سريعة الإدبار.
ونرى القدماء يلقبونه تارة بالأعور وتارة بالأعمى، ويظهر أنه فقد إحدى عينيه مبكرا، ثم فقد الأخرى بعد ما أسنّ، وله أشعار كثيرة، يبكى فيها عينه وبصره، أنشدنا منها قطعة فى الفصل الرابع، ومن طريف ما نسوقه له هنا قوله:
إذا ما مات بعضك فابك بعضا
…
فإن البعض من بعض قريب
يمنّينى الطبيب شفاء عينى
…
وهل غير الإله لها طبيب
وقوله:
كفى حزنا أن لا أزور أحبّتى
…
من القرب إلا بالتكلف والجهد
وأنى إذا حيّيت ناجيت قائدى
…
ليعدلنى قبل الإجابة فى الرّدّ
وفى أشعاره نزعة واضحة إلى التدقيق فى المعانى، وهو تدقيق أداه إلى الوقوف عند الطباع وتحليلها تسعفه فى ذلك ملاحظات نافذة وقدرة على النظرة الكلية فى الأشياء، ومن خير ما يمثل ذلك عنده قوله:
الناس أخلاقهم شتّى وإن جبلوا
…
على تشابه أرواح وأجساد
للخير والشر أهل وكّلوا بهما
…
كلّ له من دواعى نفسه هاد
وقوله:
ودون النّدى فى كلّ قلب ثنيّة
…
لها مصعد حزن ومنحدر سهل
وودّ الفتى فى كل نيل ينيله
…
إذا ما انقضى لو أن نائله جزل
ونراه يصور الكرم تصويرا بديعا، إذ يجعله فى بشر المضيف وحسن استقباله لا فى طعامه وكثرة ذبائحه، يقول:
أضاحك ضيفى قبل إنزال رحله
…
ويخصب عندى والمحلّ جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى
…
ولكنما وجه الكريم خصيب
ومما يجرى هذا المجرى من دقة التفكير وطرافته قوله السائر فى الآفاق:
ولست بنظّار إلى جانب الغنى
…
إذا كانت العلياء فى جانب الفقر