الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله:
كنت زين الأحياء إذ كنت فيهم
…
ثم قد صرت زين أهل القبور
وقوله:
قمر أنا استخرجته من دجنه
…
لبليّتى وجلوته من خدره
عهدى به ميتا كأحسن نائم
…
والحزن يسفح عبرتى فى نحره
وكان يتعلّق غلاما وينظم فيه بعض أشعاره، فجمعت الكتب المتأخرة بين الزوجة والغلام، وجعلته مصدر شكه واتهامه، ثم توسعت فى القصة، فجعلته يراهما فجأة فى بعض الأيام متعانقين تحت إزار واحد، فقتلهما وأحرق جسديهما وصنع من رماد كل منهما كوزا يحتسى به الخمر، وتزعم القصة أنه كان إذا أخذ فى الشرب تناول هذا تارة وذاك تارة ثانية، مقبّلا لهما، ثم أخذ يصبّ الخمر وهو يصبّ دموعه منشدا مراثيه فيهما وقلبه يتقطع حزنا وكمدا.
وواضح مما أنشدناه له أنه كان يعنى بشعره ويروّى فيه، ويقول أبو الفرج إنه يذهب مذهب الشاميين فى أشعاره، وكأنه يريد أن يقرنه بأبى تمام والبحترى ومن كانوا يعنون فى شعرهم بالبديع. وليس من شك فى أن أروع أشعاره ما نظمه فى بكاء صاحبته، متفجعا متحسرا نادما كما لم يندم أحد، وما زال يردّد ذلك حتى توفّى سنة 235 للهجرة.
3 - شعراء البرامكة
مرّ بنا فى الفصل الأول أن البرامكة يتحدرون من أسرة كانت تضطلع بسدانة معبد النوبهار البوذى فى بلخ، وقد تألق اسم خالد بن برمك فى قيادته لبعض الجيوش الخراسانية التى قوّضت حكم بنى أمية. ونرى السفاح يتخذه وزيرا له ويقيمه على بعض الدواوين، كما نرى المنصور وابنه المهدى يقربانه منهما ويوليّانه الولايات والأعمال الجليلة. . وما زال عندهما فى حظوة حتى توفّى سنة 166 الهجرة. وعرف
المنصور فضل ابنه يحيى، فولاه ولايات مختلفة فى إيران وأذربيجان. ويظهر أن علاقة وثيقة مبكرة انعقدت بين زوجة يحيى والخيزران زوجة المهدى، فإن زوجة يحيى حين ولدت ابنها الفضل فى ذى الحجة لسنة 147 وولدت الخيزران ابنها الرشيد فى شهر المحرم التالى أرضعت كل منهما ابن صاحبتها، فكانا أخوين فى الرضاع. ولا تكاد توافى السنة الثالثة من خلافة المهدى أى سنة 161 حتى يتخذ يحيى مؤدّبا لابنه الرشيد، ويصبح منذ سنة 163 القيم على ديوان رسائله، فكان يلزمه ويدبر شئونه، حتى إذا توفى المهدى وخلفه الهادى وفكر فى تنحية الرشيد عن ولاية العهد عرف كيف يصرفه عن عزمه، فعظمت منزلته عند صاحبه، وتطورت الأمور سريعا، فتوفى الهادى وخلفه الرشيد لسنة 170 فاتخذ يحيى وزيرا له، وأطلق يده فى جميع شئون الدولة وسلّمه خاتم الخلافة، فأصبح كأنه الحاكم الحقيقى، وقد أقام ابنه الفضل على المشرق كله من النهروان إلى بلاد الترك وأقام ابنه جعفرا على المغرب كله من الأنبار إلى أقاصى إفريقية.
وكان يحيى عاقلا حصيفا يحسن السياسة وتدبير الحكم والنهوض بشئون الثقافة، فمضى كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع يصبغ نظم الدولة السياسية والإدارية بالصبغة الساسانية كما مضى يعنى بشئون الطب والترجمة، فأنشأ المارستان واستدعى له غير طبيب من الهنود وغيرهم، وشجع على الترجمة لكنوز الثقافات الهندية واليونانية والفارسية، وبعث نهضة فكرية واسعة. وفتح أبوابه للشعراء والمغنين وأسبغ عليهم هو وابناه الفضل وجعفر العطايا الجزيلة، حتى لتروى فى ذلك روايات تشبه الأقاصيص، وهى تدل على أنهم كانوا بحورا فياضة وغيوثا منهلّة. جود سيال توارثوه عن أبيهم خالد ممدوح بشار، وهو جود جعل صلاتهم لا تنقطع عن الشعراء، فإذا كثيرون منهم ينقطعون لهم، وإذا هم يشركون الرشيد فى جميع شعرائه، وقلما وجد شاعر لعصرهم فى بغداد إلا ودبّج فيهم بعض مدائحه، ومرت بنا أطراف من ذلك عند سلم الخاسر ومروان بن أبى حفصة ومسلم بن الوليد، وممن كان يختص بهم نصيب الأصغر، وله فى يحيى كلمة طارت أبياتها فى الآفاق من مثل قوله (1):
عند الملوك مضرّة ومنافع
…
وأرى البرامك لا تضرّ، وتنفع
(1) أغانى (ساسى) 20/ 34 والجهشيارى ص 203.
وكان ابن مناذر كثير المديح ليحيى، وله فيه قصيدة كانت فاكهة أهل الأدب لجودة ألفاظها ومعانيها، وفيها يقول مشيدا به وبابنيه الفضل وجعفر (1):
أتانا بنو الأملاك من آل برمك
…
فياطيب أخبار ويا حسن منظر
لهم رحلة فى كل عام إلى العدا
…
وأخرى إلى البيت العتيق المستّر
إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت
…
بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فما خلقت إلا لجود أكفّهم
…
وأقدامهم إلا لأعواد منبر
إذا رام يحيى الأمر ذلّت صعابه
…
وناهيك من داع له ومدبّر
وممن لهج بمديح يحيى وابنيه أبو قابوس الحيرى النصرانى، وفى يحيى يقول مصورا برّه وجوده ووفاءه بوعوده وعهوده (2):
رأيت يحيى أتمّ الله نعمته
…
عليه يأتى الذى لم يأته أحد
ينسى الذى كان من معروفه أبدا
…
إلى الرجال ولا ينسى الذى يعد
وكان الأصمعى يألف جعفر بن يحيى ويخصّ به، وله فيه مدائح كثيرة وتقريظ وتفضيل، ومن طريف ما له فيه (3):
إذا قيل: من للنّدى والعلا
…
من الناس قيل الفتى جعفر
وما إن مدحت فتى قبله
…
ولكن بنو برمك جوهر
وفيه تقول عنان جارية الناطفى (4):
بديهته وفكرته سواء
…
إذا التبست على الناس الأمور
وكان أخوه الفضل أكثر منه جودا وأندى راحة، فتكاثر الشعراء على بابه، وتكاثرت مدائحهم فيه، وصوّر ذلك بعض الشعراء فقال (5):
ما لقينا من جود فضل بن يحيى
…
ترك الناس كلّهم شعراء
(1) ابن المعتز ص 125.
(2)
الجهشيارى ص 179.
(3)
الجهشيارى ص 206.
(4)
الجهشيارى ص 204.
(5)
الجهشيارى ص 195.
علّم المفحمين أن ينظموا الأش
…
عار منّا والباحلين السّخاء
وممن أكثر من مديحه نصيب الأصغر وفيه يقول واصفا جوده الغدق (1):
جاد الربيع الذى كنّا نؤمّله
…
فكلّنا بربيع الفضل مرتبع
وفيه يقول سعيد بن وهب (2):
مدح الفضل نفسه بالفعال
…
فعلا عن مديحنا بالمقال
ويقول إسحق الموصلى من أبيات فيه عمل فيها لحنا وغنّاه بها، فطرب طربا شديدا (3):
لو كان بينى وبين الفضل معرفة
…
فضل بن يحيى لأعدانى على الزّمن
هو الفتى الماجد الميمون طائره
…
والمشترى الحمد بالغالى من الثمن
وكان أخوه جعفر يجفو أبا نواس فصبّ عليه شواظا من هجائه، أما هو فأدناه منه وعظم نائله إليه، مما جعله يلهج بالثناء عليه، وفيه يقول (4):
أوحده الله فما مثله
…
لطالب ذاك ولا ناشد
ليس على الله بمستنكر
…
أن يجمع العالم فى واحد
وممن كان ينقطع إليه أبو النّضير أحد الشعراء المغنين، وفيه وفى آله يقول (5):
إذا كنت من بغداد منقطع النّدى
…
وجدت نسيم الجود من آل برمك
وما زال الشعراء يتناشدون مدائح الفضل وأخيه وأبيه منذ أسلم الرشيد يحيى مقاليد الخلافة فى سنة 170 حتى أول صفر سنة 187 إذ نكبهم الرشيد نكبته المشهورة آمرا بقتل جعفر وصلب أجزاء جسده وحبس أبيه وأخيه، وظلا فى الحبس إلى أن ماتا، أما يحيى فمات فى سنة 190 ومات الفضل فى سنة 192.
وكان طبيعيّا أن يبكيهم الشعراء وأن يذرفوا عليهم الدموع مدرارا، لما أغدقوا عليهم من النعم والصلات السنية، ومن طرائف مراثيهم قول منصور النمرى (6):
(1) أغانى (ساسى) 20/ 31.
(2)
أغانى (ساسى) 21/ 71.
(3)
الجهشيارى ص 191.
(4)
الحيوان للجاحظ 3/ 63.
(5)
أغانى (طبع دار الكتب) 11/ 286.
(6)
مروج الذهب للمسعودى 3/ 496.