المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - طوابع عقلية دقيقة - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٣

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الأول

- ‌الفصل الأوّلالحياة السياسية

- ‌1 - الثورة العباسية

- ‌2 - بناء بغداد ثم سامرّاء

- ‌3 - النظم السياسية والإدارية

- ‌4 - العلويون والخوارج

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثانىالحياة الاجتماعية

- ‌1 - الحضارة والثراء والترف

- ‌2 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌3 - المجون

- ‌4 - الشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد

- ‌الفصل الثالثالحياة العقلية

- ‌1 - الامتزاج الجنسى واللغوى والثقافى

- ‌2 - الحركة العلمية

- ‌3 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة

- ‌4 - العلوم اللغوية والتاريخ

- ‌5 - العلوم الدينية وعلم الكلام والاعتزال

- ‌الفصل الرابعازدهار الشعر

- ‌1 - ملكات الشعراء اللغوية

- ‌2 - طوابع عقلية دقيقة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - موضوعات جديدة

- ‌[5 - ]التجديد فى الأوزان والقوافى

- ‌الفصل الخامسأعلام الشعراء

- ‌1 - بشار

- ‌2 - أبو نواس

- ‌3 - أبو العتاهية

- ‌5 - أبو تمام

- ‌الفصل السادسشعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الدعوة العباسية

- ‌ أبو دلامة

- ‌[2 - ]شعراء الشيعة

- ‌ السيد الحميرى

- ‌دعبل

- ‌ ديك الجن

- ‌3 - شعراء البرامكة

- ‌ أبان بن عبد الحميد اللاحقى

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌أبو الشيّص

- ‌ على بن جبلة

- ‌الخريمىّ

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ أبو عيينة المهلّبى

- ‌الفصل السّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ العباس بن الأحنف

- ‌ربيعة الرّقى

- ‌2 - شعراء المجون والزندقة

- ‌ حماد عجرد

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌ عبد الله بن المبارك

- ‌4 - شعراء الاعتزال

- ‌ العتابى

- ‌ بشر بن المعتمر

- ‌النظام

- ‌5 - شعراء النزعات الشعبية

- ‌ أبو الشمقمق

- ‌الفصل الثامنتطور النثر وفنونه

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطب والوعظ والقصص

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية والعهود والوصايا والتوقيعات

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التاسعأعلام الكتّاب

- ‌خاتمة

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار

الفصل: ‌2 - طوابع عقلية دقيقة

الشعراء توزّعوا بين من يؤثرون الجزالة والفخامة وقوة البناء وضخامته مثل مسلم بن الوليد، ومن يؤثرون الليونة والسهولة مثل أبى العتاهية الذى عمّم ذلك فى الشعر الرسمى: شعر المديح، والشعر الشخصى: شعر الخمر والغزل، وشعر الزهد والوعظ، وكان معاصره أبو نواس يحتفظ بكل ما يمكن من جزالة فى الشعر الرسمى، وفى بعض شعره الشخصى، وكثيرا ما يعمد فى الضرب الأخير إلى السهولة المفرطة.

على أن الشعراء سرعان ما انصرفوا عن طريق أبى العتاهية مؤثرين طريق بشار وما انتهى إليه هذا الطريق عند مسلم من المتانة وقوة البناء والرصانة، وخلفه أبو تمام فأوفى بهذا الأسلوب الجزل الرصين على غايته من الفخامة والروعة. وبذلك ردّ الأسلوب المولد إلى قوة السبك وضخامة البناء. وحقّا جمد بعض الشعراء وأسرفوا فى الاقتداء بأساليب القدماء من الرجاز وأضرابهم، ولكنهم سقطوا صرعى فى الميدان الفنى، إذ ازورّ عنهم جمهور الشعراء منضوين تحت لواء بشار ومسلم وأبى تمام. أو تحت لواء أبى العتاهية وأبى نواس، بحيث ينتخب الشاعر أنصع الألفاظ وأجزلها وأرشقها وأعذبها مكوّنا أصداف شعره وجواهره المتألقة.

‌2 - طوابع عقلية دقيقة

رأينا فى الفصل السابق كيف رقيت الحياة العقلية فى هذا العصر رقيّا بعيدا.

وهو رقى هيأت له الكتب الكثيرة التى ترجمت عن الهنود والفرس واليونان، كما هيأت له المحاورات والمناظرات بين أصحاب الملل والنحل والأهواء، وهى مناظرات ومحاورات دفعت الشعراء كما دفعت غيرهم إلى التفكير المتصل، الذى ما بنى صاحبه يحاور ويناظر، متناولا كل شئ، حتى يصقل عقله، وحتى يبلغ أقصى ما يريد من العلم والمعرفة. وما لم يعرفه ولم يعلمه سأل عنه العلماء، ليصوروه له، وليزيلوا الشبهة فيه عن نفسه، وفى ذلك يقول بشار (1):

(1) عيون الأخبار 2/ 123 وأدب الدنيا والدين للماوردى (طبعة الحلبى) ص 50.

ص: 147

شفاء العمى طول السؤال وإنما

دوام العمى طول السكوت على الجهل

فكن سائلا عما عناك فإنما

دعيت أخا عقل لتبحث بالعقل

ولم يكن الشاعر العباسى يلتمس المعرفة عند العلماء ولقائهم وسعيه لسؤالهم وإلحاحه فى السؤال فحسب، بل كان يلتمسها أيضا فى الكتب المترجمة من كل صنف، ومن خير ما يصور ذلك أبيات لمحمد بن يسير، يشرح فيها أنه فى بيت كتبه، وكنوز الآداب من حوله، يغذى بها نفسه وعقله غذاء ممتعا، يقول (1):

هم مؤنسون وألاّف غنيت بهم

فليس لى فى أنيس غيرهم أرب

فأيما أدب منهم مددت يدى

إليه فهو قريب من يدى كثب (2)

حتى كأنى قد شاهدت عصرهم

وقد مضت دونهم من دهرهم حقب

وابن يسير إنما يعبر عن نزوع الشعراء عامة فى عصره للتزود بجميع ألوان المعرفة وما كانوا يجدون فى ذلك من لذة عقلية لا تعد لها لذة. وقد مضوا يتمثلون كثيرا من هذه الألوان ويحيلونها غذاء شعريّا بديعا، سواء منها الهندى والفارسى واليونانى، وما لم يحيلوه تأثروا به من قريب أو من بعيد. ولنقف قليلا عند الثقافة الهندية، فقد لا حظ ابن قتيبة أن أبا نواس كان يتأثر بعض أفكارها فى أشعاره، من ذلك قوله فى الخمر:

تخيّرت والنجوم وقف

لم يتمكّن بها المدار

يقول ابن قتيبة: «يريد أن الخمر تخيّرت حين خلق الله الفلك، وأصحاب الحساب يذكرون أن الله تعالى حين خلق النجوم جعلها مجتمعة واقفة فى برج ثم سيّرها من هناك، وأنها لا تزال جارية حتى تجتمع فى ذلك البرج الذى ابتدأها فيه، وإذا عادت إليه قامت القيامة وبطل العالم، والهند تقول إنها فى زمان نوح اجتمعت فى الحوت إلا يسيرا منها، فهلك الخلق بالطوفان، وبقى منهم بقدر ما بقى منها خارج الحوت (3)» . وينشد ابن قتيبة قول أبى نواس فى بعض المغنين هاجيا:

(1) الحيوان 1/ 95.

(2)

كتب: قريب.

(3)

الشعر والشعراء ص 774.

ص: 148

قل لزهير إذا حدا رشدا

أقلل أو أكثر فأنت مهذار

سخنت من شدة البرودة ح

تّى صرت عندى كأنك النار

لا يعجب السامعون من صفتى

كذلك الثّلج بارد حار

ويعلق بقوله: «هذا الشعر يدلّ على نظر أبى نواس فى علم الطبائع، لأن الهند تزعم أن الشئ إذا أفرط فى البرد عاد حارّا مؤذيا، ووجدت فى بعض كتبهم:

لا ينبغى للعاقل أن يغترّ باحتمال السلطان وإمساكه، فإنه إما شرس الطبع بمنزلة الحية إن وطئت فلم تلسع لم يغتر بها فيعاد لوطئها، أو سمح الطبع بمنزلة الصّندل الأبيض البارد إن أفرط فى حكّه عاد حارّا مؤذيا (1)». وأكبر الظن أن ابن قتيبة يريد ببعض كتبهم كتاب كليلة ودمنة الذى ترجمه الفرس عن الهندية، ثم نقله ابن المقفع إلى العربية، على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، وخلفه أبان بن عبد الحميد فنظمه شعرا بكل ما فيه من قصص وحكم. وكان أثره عميقا فيما صاغه العباسيون من حكم وأمثال، ونرى ابن عبد ربه فى العقد الفريد يتمثل بحكمة منه هى:«إن الحازم يكره القتال ما وجد بدّا منه، لأن النفقة فيه من النفس والنفقة فى غيره من المال» ولاحظ أن أبا تمام نقل هذا المعنى إلى شعره فقال (2):

كم بين قوم إنما نفقاتهم

مال وقوم ينفقون نفوسا

وكان تأثير الثقافة الفارسية فى الشعر والشعراء أشد وأقوى من تأثير الثقافة الهندية، إذ كان كثير من الشعراء يتقنون اللغة الفهلوية، لا من يرجعون إلى أصول فارسية فحسب مثل أبى نواس، بل أيضا بعض من يرجعون إلى أصول عربية مثل العتّابى، وكان يعكف على قراءة كتبها، ورآه شخص يوما ينسخ بعض صحفها، فسأله متعجبا: لم تكتب كتب العجم؟ فأجابه منكرا سؤاله: وهل المعانى والبلاغة إلا فى كتب العجم؟ اللغة لنا والمعانى لهم (3). وقد مضى الشعراء منذ ظهور كتابى الأدب الكبير والأدب الصغير لابن المقفع يتأثرون بما نقله فيهما من تجارب الفرس

(1) الشعر والشعراء ص 777.

(2)

العقد الفريد (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) 1/ 142.

(3)

كتاب بغداد لطيفور ص 87.

ص: 149

وحكمهم ووصاياهم فى الصداقة والمشورة وآداب السلوك والسياسة، ومن يرجع إلى بشار يجده يفرد للمشورة قطعة طويلة فى إحدى مدائحه، يقول فيها (1):

إذا بلغ الرّأى المشورة فاستعن

برأى نصيح أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشّورى عليك غضاضة

مكان الخوافى نافع للقوادم (2)

وقد نقلت أمثال بزرجمهر الوزير الفارسى إلى العربية ودارت فى كتب الأدب، وتمثل الشعراء كثيرا من معانيها البديعة، من مثل قوله:«إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك فأنفق فإنها لا تبقى» وقد أخذه بعض الشعراء وزاد عليه قائلا (3):

فأنفق إذا أنفقت إن كنت موسرا

وأنفق-على ما خيّلت (4) -حين تعسر

فلا الجود يفنى المال والجدّ مقبل

ولا البخل يبقى المال والجدّ مدبر (5)

ويقال إنه كان فى ديوان صالح بن عبد القدوس ألف مثل للعجم (6).

ولا ريب فى أن الثقافة اليونانية كان تأثيرها فى الشعر والشعراء أعمق وأبعد غورا، بما فتحت أمامهم من أبواب الفكر الفلسفى وأبواب المنطق ومقاييسه وأدلته، وما بعثت فيهم من محاولة استكشاف دفائن المعانى واستخراج دقائقها. وقد مضى كثير من الشعراء يزيدون محصولهم من تلك الثقافة، بل كان منهم من ألف فى المنطق (7)، حتى يشحذ ذهنه وأذهان الشعراء من حوله. وكان مما ترجم لهم من تلك الثقافة مراثى فلاسفة اليونان للإسكندر المقدونى عند وفاته، وقد نقل منها أبو العتاهية أطرافا إلى مراثيه (8) فى صديقه على بن ثابت، من ذلك أن أحدهم وقف عند رأسه، وقال: سكنت حركة الملك فى لذّاته وقد حرّكنا اليوم فى سكونه جزعا لفقده، فأخذ هذا المعنى أبو العتاهية قائلا:

(1) أغانى 3/ 156 وانظر ص 214.

(2)

القوادم: الريش الطويل فى جناح الطائر والخوافى: الريش القصير.

(3)

عيون الأخبار 3/ 179.

(4)

على ما خيلت: على أى حال.

(5)

الجد: الحظ.

(6)

التحفة البهية ص 217.

(7)

معجم الأدباء (طبعة القاهرة) 17/ 27.

(8)

أغانى (طبع دار الكتب) 4/ 44 والبيان والتبيين (1/ 407 وزهر الآداب للحصرى 3/ 91.

ص: 150

يا علىّ بن ثابت بان منّى

صاحب جلّ فقده يوم بنتا

قد لعمرى حكيت لى غصص المو

ت وحرّكتنى لها وسكنتا

وقال فيلسوف آخر: «الإسكندر كان أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس» . فتمثّله أبو العتاهية فى مرثية أخرى لصديقه على هذا النمط:

بكيتك يا علىّ بدمع عينى

فما أغنى البكاء عليك شيّا

كفى حزنا بدفنك ثم أنى

نفضت تراب قبرك عن يديّا

وكانت فى حياتك لى عظات

وأنت اليوم أوعظ منك حيّا

وقد ذكرنا فى الفصل السابق أن كثيرا من أقوال المسيح فى الأناجيل نقل إلى العربية وتداوله الوعاظ فى وعظهم كما تداوله شعراء الزهد، واستوحوه فى كثير من أشعارهم، من ذلك ما يروى عن المسيح من أن قومه عيّروه بالفقر، فقال: من الغنى أتيتم، واستوحى محمود الوراق هذا المعنى وزاد عليه إيضاحا وتبيينا بقوله (1):

يا عائب الفقر ألا تزدجر

عيب الغنى أكثر لو تعتبر

من شرف الفقر ومن فضله

على الغنى إن صحّ منك النّظر

أنك تعصى كى تنال الغنى

وليس تعصى الله كى تفتقر

وسنعرض فى ترجمتنا لأبى العتاهية وصالح بن عبد القدوس بعض ما دخل على الزهد من عناصر غريبة بوذية أو مانوية.

ولعل أكبر بيئة عنيت بهذه الثقافات المتنوعة، وكان لعنايتها بها أثر واسع فى الشعر والشعراء، بيئة المعتزلة إذ كانت تقوم من الفكر العباسى فى هذا العصر مقام السكان والمجداف من السفينة، فهى تثبرد وتدفعه إلى أن يزيد محصوله من جميع المعارف والمعتقدات، وأن يتمثلها إلى أبعد حد ممكن. وبدءوا بأنفسهم فتثقفوا أروع ما يكون التثقف بكل ما ترجم عن الهنود والفرس واليونان، وعكفوا على الفلسفة اليونانية عكوفا جعلهم يقفون على كل شعبها وكل مناحيها فى الفكر الدقيق، ولم يلبثوا أن استكشفوا لأنفسهم عالمهم العقلى الذى يموج بطرائف الذهن فى جميع

(1) العقد الفريد 3/ 209.

ص: 151

المعانى الحسية والعقلية. وكانوا ما يزالون يحاورون أصحاب الملل والنحل فى المساجد الجامعة، ومن حين إلى حين يحاور بعضهم بعضا فى غوامض الفلسفة، مجللين مستنبطين كأروع ما يكون التحليل والاستنباط، وكثيرا ما ردوا على فلاسفة اليونان واشتقوا لهم آراء جديدة، يدعمها العقل الذى شغفوا به وبأدلته وبراهينه، وهو شغف صوره منهم بشر بن المعتمر تصويرا طريفا، إذ يقول (1):

لله درّ العقل من رائد

وصاحب فى العسر واليسر

وحاكم يقضى على غائب

قضية الشاهد للأمر

وإن شيئا بعض أفعاله

أن يفصل الخير من الشّرّ

لذو قوى قد خصّه ربّه

بخالص التقديس والطّهر

وقد سخّر بشر عقله فى الرد على أصحاب المقالات والنّحل وفى نظم قصائد تدخل فى التاريخ الطبيعى يتحدث فيها عن مشاهد الطبيعة ودلالتها على قدرة الصانع الأكبر. وكان وراءه من المعتزلة شعراء لم يبعدوا بشعرهم عن دوائر الشعر المألوفة من المديح والغزل والهجاء والرثاء والوصف، ولكنهم طبعوا ما نظموه بطوابع جديدة من دقة المعانى ومن غرائب الأخيلة والصور، على نحو ما يلقانا عند العتّابى والنظّام، وسنخص كلاّ منهما بحديث مستقل فى الفصل السابع.

وقد سرت هذه الطوابع فى شعر الشعراء، وخاصة من التحموا منهم بالمعتزلة ومباحث المتكلمين، ويكفى أن نصور ذلك عند ثلاثة من الشعراء النابهين هم:

بشار وأبو نواس وأبو تمام. فأما بشار فكان يعدّ من أصحاب الكلام، وكان يكثر من الاختلاف إلى مجالس واصل بن عطاء رأس المعتزلة، ويستمع إلى ما يجرى فيها من حوار بين أصحاب الملل والنحل سماوية وغير سماوية، وتشوّش عقله، فإذا هو يصبح زنديقا، مما سنعرض له فى ترجمته. وكان من أهم المشاكل التى يحاور فيها واصل خصومه مشكلة الجبر والاختيار، وكان يرفض فكرة الجبر وتعطيل إرادة الإنسان أمام إرادة الله المطلقة، لما يؤدى إليه ذلك من فقدان الإنسان لحريته فى أعماله وأنه كتبها عليه القضاء المحتوم، وأيضا لما يؤدى إليه ذلك من

(1) الحيوان 6/ 292.

ص: 152

ظلم الله للناس فهو يكتب عليهم الشقاء ويأخذهم به، والله لا يظلم الناس مثقال ذرة، وما يأتون من أفعال وأقوال إنما يأتونه بإرادتهم وحريتهم، وهم لذلك مسئولون عنه ومحاسبون. وقد مضى بشار فى أشعاره يعارض واصلا فى هذه المشكلة الإنسانية الكبرى، مصرّا على أن الإنسان مسيّر فى رحلته الدنيوية بقضاء يخطّ له غده ومستقبله، وفى ذلك يقول (1):

طبعت على ما فىّ غير مخيّر

هواى ولو خيّرت كنت المهذّبا

أريد فلا أعطى وأعطى ولم أرد

ويقصر علمى أن أنال المغيّبا

فأصرف عن قصدى وعلمى مقصّر

وأمسى وما أعقبت إلا التعجّبا

وربما كان لفقده بصره أثر فى اعتناق هذا المذهب. وأهم من هذه المشكلة وأدخل فيما نحن بصدد الحديث عنه من الطوابع العقلية الدقيقة التى تغلغلت فى الشعراء العباسيين وأشعارهم أننا نجد عنده استدلالات عقلية كثيرة على نحو ما مرّ بنا فى أبيات الصداقة والصديق، كما نجد عنده توليدات وتشعيبات للمعانى التى طرقها القدماء لا تكاد تحصى، مع محاولة الإطراف والإتيان بالمعنى المبتكر والصورة البديعة. ولنقف قليلا عند معنى طول الليل الذى وقف عنده امرؤ القيس، فى معلقته، إذ يقول:

فيا لك من ليل كأن نجومه

بكل مغار الفتل شدّت بيذبل (2)

فهو يتصور نجوم الليل لطوله الشديد كأنما سمّرت، فهى لا تريم. وقد مضى الجاهليون والإسلاميون بعده يتناولون هذا المعنى، وقلما أضافوا إليه إضافة جديدة، حتى إذا كان بشار أخذ يتناوله بطرق مختلفة تدل دلالة بينة على دقة العقل العباسى وقدرته على التعليل والتحليل وأنه يستطيع أن يؤدى المعنى القديم فى معارض جديدة شديدة الروعة، من ذلك قوله (3):

خليلى ما بال الدّجى ليس يبرح

وما بال ضوء الصبح لا يتوضّح

أضلّ الصّباح المستنير طريقه

أم الدّهر ليل كلّه ليس يبرح

(1) أغانى (دار الكتب) 3/ 227.

(2)

مغار: محكم. يذبل: جبل.

(3)

الديوان 2/ 104.

ص: 153

وهو خيال زاخر بالحركة. وفيه تعميم، فقد تحول الدهر ليلا مظلما لا آخر له. ويعود إلى التفكير فى نفس المعنى. وما يزال يلحّ فى التفكير والتخيّل حتى تتكوّن له صورتان جديدتان لا تقلان طرافة عن الصورتين السابقتين، إذ يقول عن نفسه وقد بات ليلة مسهّدة إثر فراقه لإحدى صواحبه (1):

كأنّ جفونه سملت بشوك

فليس لو سنة فيها قرار

أقول وليلتى تزداد طولا

أما لليل بعدهم نهار

جفت عينى عن التغميض حتى

كأن جفونها عنها قصار

ولكن أيكفيه أن يعلل لمعنى طول الليل القديم وما يطوى فيه من السهر بهذه العلل البارعة؟ أو لا ينبغى أن يسلك مسالك المتكلمين والمعتزلة لا فى الإتيان بالعلل الخفية المستورة وإنما فى الإتيان بما ينقض المعنى نقضا من أساسه على شاكلتهم فى محاوراتهم ومداوراتهم؟ وإذن فلينقض ما يقال من طول الليل، إنما هو السهر والسهاد الطويل الذى يخيّل إليه كأن الليل يطول. والليل مظلوم، وفى ذلك يقول:(2)

لم يطل ليلى ولكن لم أنم

ونفى عنى الكرى طيف ألم

وتشيع هذه القدرة على التعليل الطريف فى جميع جوانب شعر بشار، كما تشيع معها قدرته على تقليب المعانى والاحتيال للتوليد فيها والتفريع. على شاكلة قوله (3):

وعىّ الفعال كعىّ المقال

وفى الصّمت عىّ كعىّ الكلم

فقد جعل العىّ أقساما، فهو لا يكون فى الكلام فحسب بل يكون أيضا فى الصمت حين يكون واجبا ويكون الكلام ثرثرة بل إنه يكون أيضا فى الفعال السقيمة.

ولعل فى ذلك ما يوضح من بعض الوجوه كيف منح المعتزلة ومباحثهم بشارا هذه الطوابع العقلية التى جعلته يمتاز فى شعره بشخصية قوية. ولم يكن ما منحه أبو نواس من تلك البيئة أقل حظّا وقدرا، بل لعله ظفر منها بأكثر مما ظفر بشار،

(1) الديوان 3/ 249.

(2)

أغانى 3/ 151.

(3)

البيان والتبيين 1/ 4.

ص: 154

إذ كان يغدو ويروح فى نشأته على مجالس المتكلمين والمعتزلة. وفى أشعاره سيول من ألفاظهم وأفكارهم، من ذلك فكرة التولد، وهى الفعل الذى ينشأ عن فعل آخر دون قصد، فقد صدر عنها فى قوله متغزّلا بجنان (1):

وذات خدّ مورّد

فتّانة المتجرّد

تأمّل العين منها

محاسنا ليس تنفد

فبعضها قد تناهى

وبعضها يتولّد

ومن ذلك فكرة الجزء الذى لا يتجزّأ أو فكرة الجوهر الفرد، وكان النظّام ينكره، وتجادل فيه طويلا مع نظرائه من المعتزلة، وقد ألمّ بها أبو نواس فى قوله متغزلا (2):

يا عاقد القلب عنى

هلا تذكرت حلاّ

تركت منى قليلا

من القليل أقلاّ

يكاد لا يتجزّا

أقلّ فى اللفظ من لا

ويقال إن النظام سمع منه هذه الأبيات، فقال له:«أنت أشعر الناس فى فى هذا المعنى، والجزء الذى لا يتجزأ-منذ دهرنا الأطول-نخوض فيه ما خرج لنا فيه من القول ما جمعت أنت فى بيت واحد (3)» . ومن ذلك قوله فى شخص كان يبغضه (4):

كمن الشّنآن فيه لنا

ككمون النار فى حجره

ونظرية الكمون إحدى النظريات التى تحاور فيها النظّام مع بعض معاصريه طويلا، إذ كان يرى أن الله جل جلاله خلق الموجودات دفعة واحدة، ثم أكمن بعضها فى بعض على نحو ما أكمن فى آدم أبناءه. ومما كان يحاوره فيه أبو نواس فكرة صدق الوعد والوعيد على الله وهى إحدى الأفكار الأساسية فى عقيدة المعتزلة،

(1) البيان والتبيين 1/ 141.

(2)

نفس المصدر والصفحة، وانظر فى أشعار أخرى له تزخر بألفاظ المتكلمين أخبار أبى نواس لابن منظور ص 13.

(3)

أخبار أبى نواس لابن منظور ص 13.

(4)

الديوان (طبعة آصاف) ص 67.

ص: 155

كما مر بنا فى الفصل السابق، وقد جعلتهم يرفضون فكرة العفو التى قال بها المرجئة والتى تذهب إلى أن الله من حقه أن يترك وعيده لمن أجرم وارتكب الكبائر، فيدل عليه أستار عفوه، وكان أبو نواس يصدر عن فكرة المرجئة فى حواره للنظام بمثل قوله فى إحدى خمرياته (1):

فقل لمن يدّعى فى العلم فلسفة

حفظت شيئا وغابت عنك أشياء

لا تحظر العفو إن كنت امرءا حرجا

فإن حظركه بالدين إزراء

وقد فتقت مجالس المعتزلة والمتكلمين عقل أبى نواس، فإذا هو يتحول إلى ما يشبه كنزا سائلا بالمعانى المبتكرة والأخيلة المبتدعة من مثل قوله (2):

لا أذود الطير عن شجر

قد بلوت المرّ من ثمره

خفت مأثور الحديث غدا

وغد دان لمنتظره

وقوله (3):

وكأس كمصباح السماء شربتها

على زورة أو موعد بلقاء

أتت دونها الأيام حتى كأنّها

تساقط نور من فتوق سماء

وتلقانا فى كثير من جوانب شعره طوابع المعتزلة فى لغتهم وفى حجاجهم وفى تفكيرهم المجرد من مثل قوله يصف الخمر (4):

توهمتها فى كأسها فكأنما

توهمت شيئا ليس يدرك بالعقل

وصفراء أبقى الدهر مكنون روحها

وقد مات من مخبورها جوهر الكلّ

فما يرتقى التكييف منها إلى مدى

تحدّ به إلا ومن قبله قبل

وقوله (5):

وقد خفيت من لطفها فكأنها

بقايا يقين كاد يذهبه الشّكّ

(1) الديوان ص 35.

(2)

الوساطة بين المتنبى وخصومه (طبعة الحلبى) ص 58.

(3)

الوساطة ص 59.

(4)

الصناعتين (طبعة الحلبى) ص 364

(5)

خزانة الأدب للحموى (طبع المطبعة الخيرية) ص 183.

ص: 156

وواضح ما فى هذه الأبيات من ألفاظ المتكلمين ومصطلحاتهم وتجريداتهم التى تبلغ حد الوهم، فقد جعل الخمر لا تدرك بالعقل كأنها معنى خفى لا ينكشف، ودعاها:«جوهر الكل» وقال إنه لا يحيط بها كيف أو تكييف تحدّ به وتعرف، وعاد يصور خفاءها ببقايا يقين تسترها سحب الشك حتى لا تكاد تبين.

وكان أبو تمام-على شاكلة أبى نواس-يتعمق الاعتزال وعلم الكلام، بل يظهر أنه مدّ تعمقه إلى الفلسفة وما يتصل بها من المنطق، وقد ألمح إلى ذلك الآمدى فى فاتحة كتابه:«الموازنة بين الطائيين» فقال إن شعره إنما يعجب أصحاب الفلسفة. وتتراءى ألفاظها عنده من حين إلى حين كقوله فى هجاء بعض خصومه (1):

هب من له شئ يريد حجابه

ما بال لا شئ عليه حجاب

وكلمة لا شئ فى اصطلاح المتفلسفة تعنى العدم. ومن ذلك قوله (2):

لن ينال العلا خصوصا من الفت

يان من لم يكن نداه عموما (3)

والعموم والخصوص من كلام المناطقة. ومن ذلك قوله فى أحد ممدوحيه (4):

صاغهم ذو الجلال من جوهر المج

د وصاغ الأنام من عرضه

والجوهر عند الفلاسفة والمتكلمين أثبت من العرض. وفى أشعاره بعض إشارات إلى المذاهب الكلامية، وعلى رأسها مذهبا الاعتزال والجهمية، يقول فى أبى سعيد الثّغرى أحد القواد المشهورين فى عصره (5):

عمرىّ عظم الدين جهمىّ النّدى

ينفى القوى ويثبّت التكليفا

وهو فى أول البيت يجعله عمرى العقيدة، يريد أنه على مذهب عمرو بن عبيد إمام المعتزلة بعد واصل بن عطاء، فهو يأخذ-كما يأخذ عمرو وأصحابه-بفكرة

(1) ديوان أبى تمام (طبع المطبعة الأدبية ببيروت) ص 436.

(2)

نفس الديوان (طبعة دار المعارف) 3/ 225 وانظر الطبعة السابقة ص 259.

(3)

الندى: الكرم.

(4)

الديوان (طبع دار المعارف) 2/ 317 وطبعة بيروت ص 168.

(5)

الديوان (طبع دار المعارف) 2/ 387 وطبعة بيروت ص 185.

ص: 157

حرية الإرادة الإنسانية، وأن الإنسان يتصرف كما يشاء له عقله، ولا يلبث أن يجعله فى نداه وكرمه على مذهب جهم بن صفوان الذى كان يقول-كما يقول المعتزلة-بوجوب التكاليف الشرعية بينما كان يؤمن بالجبر وتعطيل الإرادة الإنسانية.

وكل ذلك ليبالغ فى مدح أبى سعيد بالكرم وأنه قدر مقدور عليه، لا يستطيع عنه حولا. ويعود إلى مذهب جهم، ولكن لا فى الجبر وإنما فى أسماء الله وصفاته، فقد كان يمتنع عن تسميته باسم، حتى لا يثبت عليه شيئا من التشبيه بالمخلوقات.

وقد استمد أبو تمام من هذه الفكرة الدقيقة فى نعته الخمر، إذ يقول (1):

جهميّة الأوصاف إلا أنهم

قد لقّبوها جوهر الأشياء

فالخمر فى رأيه رقّت حتى كادت لا تبين، بل حتى كادت لا تسمى -على مذهب جهم-باسم، ولكنها لعظم شأنها لقّبت جوهر الأشياء. ولعل ذلك ما يشهد بأن أبا تمام كان يتغلغل فى معرفة مذاهب المتكلمين، وهو تغلغل التحم بتغلغله فى قراءة الفلسفة، فإذا شعره يطبع بطوابع الفكر الدقيق، وهو فكر يجلّله الغموض فى كثير من جوانبه، ولكنه الغموض الزاهى الذى يلذ العقل والشعور، والذى ما تزال توليداته واستنباطاته الخفية فيه تروع قارئه روعة شديدة، وهى روعة جعلت القدماء يقولون إنه أكثر العباسيين اختراعا وابتكارا (2). ولا تقف المسألة فى شعره عند اختراع بعض المعانى وابتكار بعض الصور، فقد نشر فى صحف أشعاره التضاد الذى يقف عنده المناطقة واستخرج منه ما لا يحصى من المعانى والصور الجديدة، كقوله يصور جمال إحدى صواحبه:(3)

بيضاء تسرى فى الظلام فيكتسى

نورا وتسرب فى الضّياء فيظلم

فقد جعلها تكسف نور الشمس ببهائها، وكأنها القمر يكسف ضوء الكواكب حتى ليصبح ضياء النهار مظلما لشدة نورها. وهو تضاد بديع، فالضياء يظلم.

ويمكّن لهذا المعنى ويزيده عمقا فيقول واصفا إحدى صواحبه فى ساعة الوداع (4):

(1) الديوان (طبع دار المعارف) 1/ 34 وطبعة بيروت ص 12.

(2)

انظر العمدة لابن رشيق (طبعة أمين هنديه) 1/ 177، 2/ 189.

(3)

الديوان (طبع دار المعارف) 3/ 213 وطبعة بيروت ص 252.

(4)

الديوان (طبع دار المعارف) 3/ 249 وطبعة بيروت ص 277.

ص: 158