المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الأصلُ الثالثُ: في الاستعارة إِنَّما عَنْوَنَ باب الاستعارةِ بـ (الأَصل) لا - تحقيق الفوائد الغياثية - جـ ٢

[الكرماني، شمس الدين]

فهرس الكتاب

- ‌النوعُ الثَّاني (*): في الإيجاز والإطناب

- ‌ الإيجازُ

- ‌الإطنابُ

- ‌النوعُ الثّالثُ (*): في جعلِ إِحدى الجُملتين حالًا

- ‌القانونُ الثاني (*): في الطّلبِ

- ‌تنبيهٌ:

- ‌ التمنِّي

- ‌الاستفهام

- ‌ الأمرُ

- ‌ النَّهيُ

- ‌ النِّداءُ

- ‌الفصلُ الّثاني: في علمِ البيانِ

- ‌الأصلُ الأَوَّل: في التَّشْبيه

- ‌النَّوعُ الأَوَّل: في طرفيه

- ‌النُّوعُ الثَّاني: في وجهِ التَّشبيه

- ‌النَّوعُ الثالثُ: في غرض التَّشبيه

- ‌النَّوعُ الرَّابعُ: في حالِ التَّشبيهِ

- ‌الأَصلُ الثاني: في المجاز

- ‌ وجوهُ التصرُّفِ في اللّفظِ

- ‌ وجوهُ التَّصرّفِ في المعنى

- ‌الأصلُ الثالثُ: في الاستعارة

- ‌المُقدِّمة:

- ‌التَّقسيماتُ

- ‌تنبيهٌ:

- ‌تَنبيه:

- ‌الخاتمة

- ‌الأَصل الرَّابعُ: في الكناية

- ‌تذنيباتٌ:

- ‌تذييلٌ لِلْعِلْمَيْنِ:

- ‌ المطابَقة

- ‌المقابلةُ:

- ‌المُشاكلةُ:

- ‌مُراعاةُ النَّظير:

- ‌المُزاوجة:

- ‌اللَّفُّ والنَّشْرُ:

- ‌الجَمْعُ:

- ‌الفرقُ

- ‌التَّقْسِيم:

- ‌الجمعُ مع التَّفريقِ:

- ‌الجمعُ مع التَّقسيم:

- ‌التَّقسيمُ مع الجمع:

- ‌الجمعُ مع التَّفريق والتَّقسيم

- ‌الإيهامُ:

- ‌التَّوجيه:

- ‌الاعتراض

- ‌التَّجاهُل

- ‌الاستتباع

- ‌التَّجنيسُ:

- ‌القلبُ:

- ‌السَّجْعُ

- ‌التَّرصِيعُ

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌ ‌الأصلُ الثالثُ: في الاستعارة إِنَّما عَنْوَنَ باب الاستعارةِ بـ (الأَصل) لا

‌الأصلُ الثالثُ: في الاستعارة

إِنَّما عَنْوَنَ باب الاستعارةِ بـ (الأَصل) لا بـ الفَصْل) -كما في المفتاح- (1) بناءً على ما عنده من كونها أصلًا مُستقلا من الأصولِ، وركنًا مُعتبرًا من الأَركان البَيانِيَّة -كما عُلِم منَ التَّقْسيم (2) صدر الفصل البيانيِّ- (3).

وفيه مقدِّمة، وتقسيماتٌ، وخاتمةٌ؛ أي: هذا الأصلُ مُنكسرٌ عَلَى هذه.

‌المُقدِّمة:

وإنّما جعل لهذه المباحا مقدِّمةً؛ لتوقّفِ الأبحاثِ الآتيةِ عليها.

قيل والمرادُ به: قول السَّلفِ؛ لأَنّها عند السَّكاكيِّ: عبارةٌ عن (4)"أن تذكر أحدَ طرفي التَّشبيه وتُريد به الطرف الآَخر؛ مُدَّعيًا دخولَ المُشبَّه في جنسِ المشبَّهِ به؛ دالًّا على ذلك بإِثباتك للمُشَبّهِ ما يَخُصُّ المشبّه به"-: الاستعارةُ: جعلُ (5) الشَّيءِ الشيءَ، أَوْ للشيء؛ مبالغةً

(1) ينظر: ص (369).

(2)

في الأَصل: "بالتَّقْسيم" والمثبت من أ، ب.

(3)

راجع التقسيم المشار إليه ص (627) قسم التحقيق.

(4)

المفتاح: (369).

(5)

جعل هنا بمعنى (صيَّر) يقول الإمام عبد القاهر (دلائل الإعجاز: 438): "وحكمُ (جعل) إذا تعدَّى إلى مفعولين حكمُ (صيَّر)؛ فكما لا تقول: (صيَّرته أميرًا) إلّا على معنى أنك أثبتَّ له صفة الامارة، كذلك لا يصح أن تقول:(جعلته أسدًا) إلّا على معنى أنك أثبتّ له معاني الأسد.

ص: 722

في التشبيه؛ كأنه من ذلك الجنسِ.

وقوله: (مبالغةً) يتعلقُ بالقسمين؛ نحو: (في الحمام أسدٌ)؛ مثالٌ للأوّلِ (1)؛ فإنّه جعل الشُّجاعَ نفسَ الأسد.

و (إِذَا المنيّةُ أنشَبَتْ أَظْفارَها)

أَلْفَيْتَ كُل تَمِيمة لَا تَنْفَعُ (2).

مثالٌ للثاني (3)؛ فإنَّه جعلَ الأَظفارَ والأَنْشابَ للمنيَّة.

يقالُ: قرأَ الحسن (4) بن علي رضي الله عنهما البيتَ حين عادَ معاوية (5)؛

(1) أي: قول المصنِّفِ: "جعل الشَّيء الشَّيء"، ومرادة الاستعارة التَّصريحيّة.

(2)

البيتُ من الكامل، وقائده أبو ذؤيب؛ خويلد بن خالد الهذلي. قاله ضمن قصيدة طويلة يرثي بها بنيه.

والبيت في ديوانه: (2)، وفي ديوان الهذليّين:(1/ 3)، والمفضليات:(422)، وجمهرة أشعار العرب:(242).

واستشهد به في الإيضاح: (5/ 147)، والتّبيان:(383)، وهو في المعاهد:(2/ 163).

(3)

أي: قول المصنّف: "أوْ للشَّيء" ومراده الاستعارة المكنيّة.

(4)

هو أبو محمّد؛ الحسن بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ القرشي؛ سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته. ولد في المدينة سنة ثلاث من الهجرة، وشبّ فصيحًا عاقلًا حليمًا محبًّا للخير. بويع بالخلافة بعد موت أبيه؛ فخلعَ نفسَه وبايع معاوية حقنًا لدماء المسلمين. توفّي بالمدينة سنة 50 هـ.

ينظر: الاستيعاب: (383)، أسد الغابة:(2/ 15 - 22)، طبقات خليفة:(5)، وفيات الأعيان:(2/ 53 - 56).

(5)

هو أبو عبد الرّحمن؛ معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب الأمويّ القرشيّ.

صحابيّ جليل؛ قيل أنه أسلم قبل الفتح سرا. حدًث عن الرَّسول صلَّى الله عليه =

ص: 723

فتجلَّدَ، وقرأ (1):(2)

وَتَجَلُّدِي للشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ

أنِّي لِرَيْبِ الدَّهْر لا أَتَضَعْضَعُ.

وظاهرُ اللَّفظِ أن المرادَ بالأَوَّل: الاستعارةُ المُصرّحةُ، وبالثاني: الاستعارةُ بالكنايةِ؛ لكنَّ شارحَ المفتاح عَكَسَ القضيَّة (3).

= وسلم، وكتب له مرَّاتٍ يسيرة. استخلف على المسلمين سنة 41 هـ، وبقي في الخلافة حتَّى مات سنة 60 هـ.

ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد: (3/ 32)، طبقات خليفة:(10)، والاستيعاب:(1416)، وسير أعلام النبلاء:(3/ 119).

(1)

يوحي ظاهر سياق هذا الخبر -كما أورده الشَّارح- بأن مبتدئَ الحديث هو الحسنُ وأَن المجيب عليه هو معاوية رضي الله عنهما غير أَن ما في شرح المفتاح؛ الّذي ياُخذ عنه الشَّارح- عكس ذلك.

ينظر: مفتاح المفتاح: (956).

وقد تعرَّض بعضُ المؤرخين لهذه القِصة بعيدًا عن الحسن رضي الله عنه؛ حيث ذكروا أن المتمثل بالبيتين كليهما هو أميرُ المؤمنين معاوية رضي الله عنه؛ وذلك حينما ثقل عليه المرض.

ينظر: تاريخ الطبريّ: (5/ 326 - 327)، تاريخ ابن الأثير:(3/ 369)، تاريخ ابن كثير (8/ 135).

(2)

البيت لأبي ذؤيب الهذليّ -أيضًا-، وقد ورد ضمن القصيدة الّتي ورد فيها بيته السّابق.

ينظر في توثيقه: مصادر البيت السّابق.

(3)

ينظر: مفتاح المفتاح: (955).

ص: 724

ويُسَمّى هذا الجَعل (1): استعارةً؛ لمكان المُناسبة؛ أي: لوجودها وثُبُوتها بينها وبَيْن معنى الاستعارةِ اللغويَّة، إذْ (2) كان المشبِّهُ استعارَ حقيقةَ المشبَّه به للمشبَّه؛ حيثُ أدخلَ المشبِّهُ المشبَّه فيه، في جنسِ المشبَّهِ به وحقيقته، ادِّعاءً بأنَّه فردٌ من أَفْراده؛ كما يُستعارُ الثوبُ فإن المستعيرَ يُدخِل نَفْسَه في زِيِّ المستعار منه، لا يتفاوتان إلا في أن أحدهما -إذا فُتّش عنه- (3) مالكٌ، والآخر ليس كذلك.

ولذلك؛ أي: ولما (4) أنَّ الاستعارةَ إدخالٌ للمُشبَّه في جنس المُشَبَّه به وحقيقتِه وجعله فردًا من أفراده لا يَتَأتَّى؛ لا يصحُّ فِي العلمِ؛ لأنَّه لَمْ يوضع لمعنًى جنْسيّ، إلا بتضْمِين لفْظِ العَلَم وصفيّة؛ حتَّى يُتصوّرَ الإدخال والجعل؛ كـ (حاتِم)(5)، لتضمين لفظ حاتم معنى الجُودِ، ولَفْظ (مَادِر)(6)

(1) أي: جعل الشّيء الشّيءَ، أوْ جعل الشّيء للشيّءِ.

(2)

هكذا في الأَصل. وفي أ،:"إذ لو". وفي ب: "وإذ". أنها ما ورد في ف فهو: "إذا".

(3)

في الأَصل، ب:"عنها"، والصَّواب من: أ.

(4)

في أ، ب:"لما" بدون الواو.

(5)

هو أبو عديّ، حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي القحطانيّ. جاهليّ، شاعر، فارس، يضرب به المثل في الجود. له ديوان شعر مطبوع، توفّي في السَّنة الثامنة بعد مَوْلد النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ينظر في ترجمته: الشعر والشّعراء: (70)، تهذيب ابن عساكر:(3/ 420)، خزانة الأدب:(1/ 494).

(6)

هو رجل من بن هلال بن عامر بن صَعصَعَة، ضرب به المثل في البخل. ينظر:=

ص: 725

معنى: البخلِ.

ثُمَّ قيلَ (1): هذا مجازٌ لُغويٌّ، لأن الأسدَ موضوعٌ للحيوانِ المُفْترسِ دُونَ الشجاع، وإلَّا؛ أَيْ: وإن لم يكن هذا؛ أي لفظ الأَسدِ المستعملِ في الشُّجاع مجازًا لُغويًّا كان صفةً لا اسمًا. وكان حقيقةً لا مجازًا، كاستعمالِ الألفاظِ المُتواطئةِ في الأَفراد. ولم يُفِد (2) تشبيهًا، لأَن استعماله فيه حينئذٍ من جهة التّحقيق، فَلَم يكن استعارة لابتنائِها على التَّشْبِيه. ولا احتاج إلى قرينةٍ، لعدمِ احتياج الحقيقةِ إليها.

والتَّالِيانِ الثاني (3) والرَّابع (4)، لم يُذْكرا في المفتاح (5).

وقيلَ: لا، أي: ليس مَجَازًا لُغَويًّا، بل هو مجازٌ عَقليٌّ وإِلَّا، أي: لو كان مجازًا لغويًّا، لم يكن ذلك -ادّعاءَ الأَسديّة- له (6) للمُشَبَّه؛ إذ مع ادّعاء الأَسديّة، ودُخُوله في جِنْس الأسود يَمتَنع إطلاق اسم الأَسدِ مع

= مجمع الأمثال 1/ 196.

(1)

هكذا -أيضًا- ورد قوله: "ثم قيل" في ف. وفي ب أورد ضمن الشَّرح.

(2)

هكذا -أيضًا- في ف. وفي أ: "وإن لم يفد" وهو خطأ؛ إذ المراد نفي التَّشبيه.

(3)

أي: قول المصنِّف: "وكان حقيقة لا مجازًا".

(4)

أي: قول المصنِّف: "ولا احتاج إلى قرينة".

(5)

ينظر ص: (370).

وعلى هذا القول المتقدِّم جمهور البلاغيين. ينظر: المطوّل: (360).

(6)

هكذا -أيضًا- وردت: "له" في ف. وسقطت في أ.

ص: 726

الاعترافِ بأنَّه رَجُلٌ. ولم يكن ذلكَ في قوَّة قولنا: إِنَّه ليس بآدميّ، إِنَّما هو أسدٌ، لكنَّه في قوَّته بالاتِّفاقِ.

ولم يكن (1) للتَّعجُّب في قوله (2):

قَامَتْ تُظَلِّلُنِي مِنَ الشَّمس

نَفْسٌ أَعَزُّ عَليَّ مِنْ نَفْسي!

قَامَتْ تُظَلِّلُنِي، وَمِنْ عَجَبٍ

شَمسٌ تُظَلِّلُنِي مِنَ الشَّمسِ!

ولا لإِنكاره، ولم يكن لإنكارِ التَّعجّب (3)، أَوْ إِنكارِ الشَّاعر في قوله:(فكيف)(4)؛ في قوله (5):

(1) في الأَصل زيد بعد هذا: "ذلك في قوَّة قولنا" ولا وجه له. ولعله من انتقال النّظر مع ما قبله.

(2)

البيتان من الكامل. وهما لابن العميد؛ محمّد بن الحسين. وقد وردا في لطائف اللّطف للثعالبيّ: (149) برواية: "فوا عجبًا" مكان "ومن عجب"، وفي يتيمة الدَّهر:(3/ 178) برواية: "ظلّت" مكان: "قامت" الأولى. و: "فأقول وا عجبًا" مكان: "قامت تظلّلني".

واستُشهد بهما -بنفس رواية المتن- في أسرار البلاغة: (303)، والمفتاح:(371)، والمصباح:(128)، والإيضاح:(5/ 54)، والتِّبيان:(378). وهما في المعاهد: (2/ 113).

(3)

في الأَصل: "المتعجّب"، والصَّواب من: أ، ب.

(4)

قوله: "في قوله: فكيف" ساقط من ب.

(5)

البيتان من البسيط، وقائلهما: أَبو المطاوع، ناصر الدَّولة بن حمدان التَّغلبيّ.

وهما في يتيمة الدَّهر: (1/ 92) برواية: "أرى" مكان: "ترى"، و:"ضوء" مكان: "نور"، و:"حين" مكان: "وقت". =

ص: 727

تَرَى الثيابَ مِنَ الكتّان يَلْمَحُها

نُورٌ مِنَ البدرِ أَحيانًا فيُبْلِيها

فَكَيفَ تَعجب أَن تَبْلَى مَعَاجِرها

[وهو جمع: المعجر؛ وهي: المقنعة](1)

والْبَدرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ طالع فِيها

وَجْهٌ؛ وهو اسم لم يكن، وذلك للاعترافِ بأَنه غيرُ جِنسِ المشبَّه به خارج عنه على ذلك التَّقدير.

والجوابُ عن القائلين بأنه ليس مجازًا لغويًّا: إِن الموضوعَ له، للفظِ الأسد هو الأسدُ حقيقةً، أي: الأسد الحقيقيّ، لا ادّعاء؛ وهما غيران، فلا يلزمُ من استِعماله في غير الموضوع له الحقيقيِّ اسْتعماله في غير الموضوع له الادّعائيّ.

وكلُّ ما ذكرتم من التَّوالي (2) الأربع فهو للادّعاءِ، فلا يلزم عدمُ ادِّعاء الأسديّة له؛ لأنه (أسدٌ) ادّعاءً؛ ولا عدمُ كونه في قُوَّة إِنَّه ليس بآدميّ إِنَّما هو أَسَدٌ؛ لأنَّه (أسدٌ) ادِّعاءً، و [لا](3) أن لا يكوَنَ للتعجُّب

= واستُشهد بهما -برواية "تنكر" مكان "تعجب"- في أسرار البلاغة: (306 - 307)، والمفتاح:(371)، والمصباح:(130)، والإيضاح:(5/ 55)، وهما في المعاهد -عرضًا-:(2/ 130).

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من الأَصل، ب. ومثبتٌ من: أ.

(2)

في ب: "البواقي".

(3)

ما بين المعقوفين ساقط من الأَصل. ومثبت من أ، ب. ويدلّ عليه المشابه بعده.

ص: 728

وجهٌ؛ لأنه (شمسٌ) ادّعاءً، فيكون للتعجُّبِ وجهٌ. ولا أن لا يكون للإنكار وجه؛ لأنَّه (بدرٌ) ادّعاءً فيكون له وجهٌ.

وقد تردَّد الإمامُ الباهرُ الشَّيخُ عبد القاهر فيهما في المذهبين؛ فقال: تارةً بكونه لغويًّا، وأخرى بكونه عقليًّا (1).

فإن قلتَ: فكيفَ الجمعُ بين ادّعاء الأسديّة للرَّجل، وبينَ نصب القرينة على عدمِ إرادتها؛ أي: إرادة الأسديّة؛ وما هذا إلا تناقضٌ؟.

قَلتُ: إنه يدّعي أن للأسد صورتين، متعارفةً، وهي التي لها جرأةُ الإقدام، ونهاية قوّةُ البَطْش مع الصُّورة المخصوصة، وغيرها؛ غير متعارفةٍ، وهي التي لها تلك الجرأة وتلك القُوَّة، ولكن (2) لا مع تلكَ الصُّورة المَخْصُوصةِ؛ بل مع صُورة أخرى؛ كما قال المتنبِّي (3):

نحنُ قَوْمٌ ملْجِنِّ (4)؛ أي: من الجِنّ؛ نحذفَ النُّونَ لالتقاءِ

السّاكنين، في زيِّ (5) ناسٍ

فَوْقَ طيرٍ لها شُخُوص الجِمَالِ.

(1) ينظر: دلائل الإعجاز ص: (432 - 440).

(2)

في أ، ب:"لكن" بدون الواو.

(3)

والبيتُ من الخفيف. وهو في ديوان الشَّاعر بشرح العكبريّ: (3/ 194) برواية: "نحن ركب" ضمن قصيدة طويلة مدحَ بها عبد الرَّحمن بن المبارك الأنطاكي.

وقد استُشهد به -برواية الدِّيوان- في دلائل الإعجاز: (434)، و -برواية المتن- في المفتاح:(372)، والإيضاح:(5/ 57).

(4)

هكذا اتّفقت النّسخ المخطوطة على كتابتها، وكذا في الدّيوان. ويرى أبو فهر؛ محمود شاكر محقق الدّلائل:(434): أن الأجود أن تكتب هكذا: (مِ الجنّ).

(5)

الزي: اللِّباسُ والهيئة. اللّسان (زيي): (14/ 366).

ص: 729

مُرتكبًا هذا الادّعاء؛ في عدِّ نَفْسِه وجماعتِهِ من جِنْس الجنِّ، وعدِّ جِمَاله من جنسِ الطير (1).

ويُؤَيِّدُه؛ أي: المذكور من ادِّعاء: أنّ للأسدِ صورتين، المخيّلاتُ العُرفيةُ؛ أي: ما تخيّلَ في العرف بإخراج شيء من جِنْسٍ وإِدخاله في آخر؛ نحو: هذا ليس بأسدٍ؛ إنَّما هو هِرٌّ اكْتسى إهابَ أسدٍ، وهذا ليس بإنسان؛ كما هو أسد في صورة إنسانٍ.

وذُكِرَت القرينةُ الدّالةُ على أن المرادَ غيرُ المتعارفِ لئلّا يُحمل على المتعارفِ السّابقِ إلى الفهمِ لولا القرينة.

وعليه، أي: على جعل أفرادِ الجنس قِسْمين: متعارفًا، وغير متعارف، ورد قول الشّاعر (2):

(1) حَملُ المعنى على هذا الادّعاء هو الأَولى، وقد ذكر ابن سنان الخفاجيّ أنّ ابن جنّي حَمَل البيت على الكلام المقلوب؛ على تقدير نحن قوم من الإنس في زيّ الجن فوق جمال لها شخوص طير. وما من شكّ اُنّ هذا تعسّف يفسد المعنى؛ كما ذكر ابن سنان. ينظر: سرّ الفصاحة: (106).

وما وجدته في الخصائص لابن جنّي يناقض ما أورده ابن سنان عنه؛ إذ قال في باب من غلبة الفروع على الأصول (1/ 300): "هذا فصل من فصول العربيّة طريف تجده في معاني العرب

ولا تكاد تجد شيئًا من ذلك إلّا والغرض فيه المبالغة". ثم أوْرد بيت المتنبيّ وعلق عليه بقوله (1/ 303): "فجعل كونهم جنًّا أصلًا، وجعل كونهم ناسًا فرعًا، وجعل كون مطاياه طيرًا أصلًا، وكونها جمالًا فرعًا؛ فشبّه الحقيقة بالمجاز في المعنى الّذي منه أفاد المجاز من الحقيقة ما أفاد".

(2)

عجز بيت من الوافر، وسيأتي صدره. وقائله: عمرو بن معد يكرب. =

ص: 730

...........

تَحيَّةُ بَيْنِهم ضَربٌ وَجيعُ.

كأنَّه جعل بالادّعاءِ أَفرادَ (1) جنسِ التَّحيّةِ قسمين: متعارفًا؛ وهي المشهورةُ، وغير متعارف؛ وهو الضَّرب. وأوّله:

وَخيلٍ (2) قَدْ دَلَفْتُ (3) لَها بِخَيْلٍ.

وقوله -تعالى-: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (4)، كأنه جعل أَفراد جنسِ المال والبنينِ قسمين -على سبيل الادّعاءِ والتَّأويل-: مُتعارفًا؛ وهو المالُ والبنون المشهوران، وغير متعارفٍ؛ وهو سلامةُ القلب. ولا بُدَّ (5) في صحّةِ الكلامِ من تقديرها: مضافًا، محذوفًا (6)، مدلولًا عليها بالقرائن؛ أي: إلا سلامة من أتى الله بقلبٍ سليم.

= والبيت في ديوان الشاعر ص (130)، وكتاب سيبويه:(2/ 323)، والخصائص:(1/ 368)، ونوادر أبي زيد:(150)، وابن يعيش:(2/ 80)، والعمدة:(2/ 462).

واستُشهد به في المفتاح: (372)، والمصباح:(126)، والإيضاح:(5/ 57).

(1)

في ب: "جعل بالأفراد" بإسقاط جزء من كلمة "بالادّعاء" بينهما.

(2)

في الأصل: "دخيل"، وفي ب:"رحيل" وكلاهما تحريف، والصَّواب من أ، ومصادر البيت. ومراده بالخيل: الفرسان.

(3)

دلفت: تقدّمت. يقال: "دلفت الكتيبه إلى الكتيبة في الحرب؛ أي: تقدّمت".

اللِّسان: (دلف): (9/ 106).

(4)

سورة الشّعراء، الآيتان: 88 - 89.

(5)

في أ: "فلابدّ".

(6)

في الأَصل: "محذوفة"، والصواب من: أ، ب.

ص: 731