الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ أي أنهى إليه الوسوسة فأسر إليه ثم بين تلك الوسوسة ما هي فقال قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أي على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلدا وَمُلْكٍ لا يَبْلى أي لا يبيد ولا يفنى رغبة في دوام الراحة، فكان الشيء الذي رغب الله فيه آدم رغبه إبليس فيه، إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراز عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها وآدم مع كمال علمه بأن الله تعالى هو خالقه وربه ومولاه وناصره، وإبليس هو عدوه أعرض عن قول الله تعالى ولم يرد المخالفة ومن تأمل هذا السر عرف أنه لا دفع لقضاء الله ولا مانع منه. وقوله تعالى فَأَكَلا مِنْها يعني أكل آدم وحواء من الشجرة فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي عريا من الثياب التي كانت عليهما حتى بدت فروجهما وظهرت عوراتهما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يلزقان بسوءاتهما من ورق التين وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ أي بأكل الشجرة فَغَوى أي فعل ما لم يكن له فعله وقيل أخطأ طريق الحق وضل حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عنه فخاب ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل ومن الراحة إلى التعب. قال ابن قتيبة: يجوز أن يقال عصى آدم ولا يجوز أن يقال آدم عاص، لأنه إنما يقال لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه يقال خاط ثوبه ولا يقال هو خياط حتى يعاود ذلك مرارا ويعتاده.
(ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن يخلقني بأربعين عاما فحج آدم موسى» .
(الكلام على معنى الحديث وشرحه)
قوله احتج آدم وموسى: المحاجة المجادلة والمخاصمة يقال حاججت فلانا فحججته أي جادلته فغلبته.
قال أبو سليمان الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر والقضاء من الله تعالى على معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، ويتوهم أن قوله فحج آدم وموسى من هذا الوجه وليس كذلك. وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وإكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها شرها.
والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر والقضاء في هذا معناه الخلق وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فهم أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقدم إرادة واختيار.
فالحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها وجماع القول في هذا أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء. فمن رام الفصل بينهما فقد رام هذا البناء ونقضه وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن الله تعالى كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعد ذلك. وإنما كان تناوله الشجرة سببا لنزوله إلى الأرض التي خلق لها وإنما أدلى آدم بالحجة على هذا المعنى ودفع لائمة موسى عن نفسه ولذلك قال أتلومني على أمر قدره الله علي من قبل أن يخلقني.
(فصل: في بيان عصمة الأنبياء وما قيل في ذلك)
قال الإمام فخر الدين الرازي: اختلف الناس في عصمة الأنبياء وضبط القول فيها يرجع إلى أقسام أربعة،
أحدها: ما يقع في باب الاعتقاد وهو اعتقاد الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عليهم. الثاني: ما يتعلق بالتبليغ فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب مواظبين على التبليغ والتحريض. وإلا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدا ولا سهوا ومن الناس من جوز ذلك سهوا قالوا لأن الاحتراز عنه غير ممكن. الثالث: ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيها على سبيل العمد وأجازه لبعضهم على سبيل السهو. الرابع: ما يقع في أفعالهم فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال. أحدها: قول من جوز عليهم الكبائر. الثاني: قول من منع من الكبائر وجوز الصغائر على جهة العمد وهو قول أكثر المعتزلة. الثالث:
لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا كبيرة البتة بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي. الرابع: أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ. الخامس: أنه لا يقع منهم لا كبيرة ولا صغيرة لا على سبيل العمد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل، وهو قول الشيعة. واختلفت الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال: أحدها:
قول من ذهب إلى أنهم معصومون من حين وقت الولادة وهو قول الشيعة. الثاني: قول من ذهب إلى عصمتهم من وقت بلوغهم وهو قول أكثر المعتزلة. الثالث قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز منهم بعد النبوة وهو قول أكثر أصحابنا وأبي الهزيل وأبي علي من المعتزلة.
قال الإمام والمختار عندنا لم يصدر عنهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة من حين جاءتهم النبوة. ويدل عليه وجوه أحدها: لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من أحد الأمة وذلك غير جائز لأن درجة الأنبياء غاية في الرفعة والشرف. الثاني: لو صدر منه وجب أن لا يكون مقبول الشهادة فكان أقل حالا من عدول الأمة وذلك غير جائز أيضا لأن معنى النبوة والرسالة هو أنه يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم، وأيضا فإنه يوم القيامة شاهد على الكل. الثالث: لو صدر من النبي ذنب وجب الاقتداء به فيه وذلك محال. الرابع: ثبت ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح بمن رفع الله درجته وائتمنه على وحيه وجعله خليفته في عباده وبلاده يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ويفعله ترجيحا لغرضه. واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطيعوه لدخلوا تحت قوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وقال وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ. الخامس: قال الله تعالى إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ولفظه للعموم فيتناول الكل ويدل على فعل ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه، فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل خير وتاركين لكل منهي وذلك ينافي صدور الذنب عنهم. السادس: قال الله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ وقال تعالى في حق موسى:
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي وقال تعالى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ وغير ذلك من الآيات التي تدل على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيرة، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم، وذكر غير ذلك من الوجوه. قال وأما المخالف فقد تمسك بآيات منها قصة آدم هذه، والجواب عنها أن نقول إن كلامهم إنما يتم أن لو بينوا بالدلالة أن ذلك كان حال النبوة وذلك ممنوع ولم لا يجوز أن يقال إن آدم حال ما صدرت عنه هذه الأشياء ما كان نبيا وإن هذه الواقعة كانت قبل النبوة وإن الله تعالى قبل توبته وشرفه بالنبوة والرسالة. وقال القاضي عياض وأما قصة آدم وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى أي جهل وقيل أخطأ فقد أخبر الله تعالى بعذره في قوله:
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي نسي عداوة إبليس له وما عهد الله إليه. وقبل لم يقصد المخالفة استحلالا لها ولكنه اغتر بحلف إبليس له إني لكما لمن الناصحين وتوهم أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، وقيل نسي ولم ينو المخالفة فلذلك قال ولم نجد له عزما أي قصدا للمخالفة، وقيل بل أكل من الشجرة متأولا
وهو لا يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها لأنه تأول نهي الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس، ولهذا قيل إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة وقيل تأول أن الله تعالى لم ينه نهي تحريم.
فإن قلت إذا نفيت عنهم الذنوب والمعاصي فما معنى قوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى وما تكرر في القرآن والحديث من اعتراف الأنبياء بذنوبهم وتوبتهم واستغفارهم وإشفاقهم وبكائهم على ما سلف منهم وهل يتوب ويستغفر من لا شيء عليه. قلت إن درجة الأنبياء في الرفعة والعلو والمعرفة بالله وسنته في عباده وعظم سلطانه وقوة بطشه، مما يحملهم على الخوف منه جل جلاله والإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم، وإنهم في تصرفهم بأمور لم ينهوا عنها ولم يؤمروا، وآتوها على وجه التأويل أو السهو وتزيدوا من أمور الدنيا المباحة أو خذوا عليها وعوتبوا بسببها أو حذروا من المؤاخذة بها فهم خائفون وجلون، وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم ومعاص بالنسبة إلى كمال طاعتهم، لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاصيهم كان هذا أدنى أفعالهم وأسوأ ما يجري من أحوالهم كما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، أي يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات وسنذكر في كل موضع ما يليق به وما قيل فيه إن شاء الله تعالى. قوله عز وجل: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي اختاره واصطفاه فَتابَ عَلَيْهِ أي عاد بالعفو والمغفرة وَهَدى أي هداه لرشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً قيل الخطاب لآدم ومعه ذريته ولإبليس ومعه ذريته فصح قوله اهبطا لاشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة، وقيل الخطاب لآدم ومعه ذريته ولإبليس ومعه ذريته فصح قوله اهبطا لاشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة، وقيل الخطاب لآدم وحواء لأنهما أصل البشر فجعلا كأنهما البشر فخوطبا بلفظ الجمع بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وقيل في تقوية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء الناس، ويحتمل أن يكون بعض الفريقين لبعض عدوا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أي كتاب ورسول فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ أي الكتاب والرسول فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى قال ابن عباس: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة ووقاه يوم القيامة سوء الحساب وذلك لأن الله تعالى يقول فمن اتبع هداي فلا يضل أي في الدنيا ولا يشقى أي في الآخرة وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي يعني القرآن فلم يؤمن به ولم يتبعه فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً روي عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أنهم قالوا هو عذاب القبر. قال أبو سعيد يضغط في القبر حتى تختلف أضلاعه.
وفي بعض المسانيد مرفوعا يلتئم عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، فلا يزال يعذب حتى يبعث وقيل هو الزقوم والضريع والغسلين في النار، وقيل الحرام والكسب الخبيث. وقال ابن عباس الشقاء وعنه قال كل ما أعطي العبد قل أم كثر فلم يتق فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة. وإن قوما أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين منها فكانت معيشتهم وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف لهم فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله تعالى. وقيل يسلب القناعة حتى لا يشبع وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قال ابن عباس أعمى البصر وقيل أعمى عن الحجة قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً يعني بصيرا العين أو بصير بالحجة قالَ كَذلِكَ يعني كما أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها يعني فطردتها وأعرضت عنها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى يعني تترك في النار وقيل نسوا من الخير والرحمة ولم ينسوا من العذاب وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ يعني كما جزينا من أعرض عن القرآن كذلك نجزي من أسرف أي أشرك وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ يعني مما يعذبهم الله به في الدنيا والقبر وَأَبْقى يعني وأدوم قوله تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ يعني أفلم يبين القرآن لكفار مكة كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يعني في ديارهم ومنازلهم إذا سافروا وذلك أن قريشا كانوا يسافرون إلى الشام فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وهم ثمود وقريات قوم لوط إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي لذوي العقول وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى تقديره ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى وهو القيامة لكان العذاب لازما لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة.