الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله، وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب، فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته، حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمرت به شهرا في روحته وشهرا في غدوته إلى حيث أراد.
وكانت تمر بعسكره الريح الرخاء وبالمزرعة فما تحركها ولا تثير ترابا ولا تؤذي طائرا. قال وهب: ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتبه بعض صحابة سليمان إما من الإنس أو من الجن نحن نزلناه وما بنيناه ومبنيا وجدناه غدونا من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء الله فنازلون بالشام وقال مقاتل: نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم وكان يوضع له منبر من ذهب وسط البساط فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، تقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظلله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه شمس، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح، وقال الحسن: لما شغلت نبي الله سليمان الخيل حتى فاتته، صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل فأبدله الله مكانها خيرا منها وأسرع الريح تجري بأمره كيف شاء فكان يغدو من إيلياء فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحه ببابل. وروي أن سليمان سار من أرض العراق فقال بمدينة بلخ متخللا بلاد الترك، ثم جاوزهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثل ذلك ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى أرض السند وجاوزها وخرج منها إلى مكران وكرمان، ثم جاوزها حتى أتى أرض فارس فنزلها أياما، وغدا منها فقال بكسكر، ثم راح إلى الشام. وكان مستقره بمدينة تدمر وكان أمر الشياطين قبل شخوصه إلى العراق فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأصفر والأبيض، وفي ذلك يقول النابغة:
إلا سليمان إذ قال المليك له
…
قم في البرية فاحددها عن الفند
وجيش الجن إني قد أذنت لهم
…
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
[سورة الأنبياء (21): الآيات 82 الى 83]
وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
قوله عز وجل وَمِنَ الشَّياطِينِ أي وسخرنا له من الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي يدخلون تحت الماء فيخرجون له من قعر البحر الجواهر وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي دون الغوص وهو اختراع الصنائع العجيبة كما قال يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ الآية، ويتجاوزون في ذلك إلى أعمال المدن والقصور والصناعات كاتخاذ النورة والقوارير والصابون وغير ذلك وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ يعني حتى لا يخرجوا عن أمره، وقيل: حفظناهم من أن يفسدوا ما عملوا وذلك أنهم كانوا إذا عملوا عملا في النهار وفرغ قبل الليل أفسدوه وخربوه. قيل: إن سليمان كان إذا بعث شيطانا مع إنسان ليعمل له عملا قال له إذا فرغ من عمله قبل الليل اشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل ويخربه. قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ يعني دعا ربه.
ذكر قصة أيوب عليه السلام
قال وهب بن منبه: كان أيوب رجلا من الروم وهو أيوب بن أموص بن تارخ بن روم ابن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمه من ولد لوط بن هاران، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط له الدنيا، وكانت له البثنية من أرض البلقاء من أعمال خوارزم مع أرض الشام كلها سهلها وجبلها وكان له فيها من أصناف المال كله
من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدد والكثرة، وكان له خمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل له آلة كل فدان أتان لكل أتان من الولد اثنان أو ثلاثة أو أربع أو خمس وفوق ذلك، وكان الله تعالى قد أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء وكان برا تقيا رحيما بالمساكين يطعمهم ويكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل وكان شاكرا لأنعم الله، مؤديا لحق الله قد امتنع عن عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرة والغفلة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من أمر الدنيا، وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه: رجل من أهل اليمن يقال له النغر وقيل نغير، ورجلان من أهل بلده يقال لأحدهما تلدد والآخر صافر وكان لهؤلاء مال، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات، وكان يقف فيهن حيثما أراد حتى رفع الله عيسى فحجب عن أربع. فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حجب عن السموات كلها إلا من استرق السمع، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه، فأدرك إبليس الحسد والبغي، فصعد سريعا حتى وقف من السماء حيث كان يقف وقال: إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك، ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ولخرج عن طاعتك، قال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله. فانقض عدو الله إبليس حتى وقع على الأرض فجمع عفاريت الجن ومردة الشياطين وقال لهم: ماذا عندكم من القوة فقد سلطت على مال أيوب وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا تصبر عليها الرجال.
فقال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من نار فأحرق كل شيء آتي عليه قال إبليس: اذهب فأت الإبل ورعاتها، فأتى الإبل حين وضعت رؤوسها ورعت فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار فأحرق الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها، ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قيم ممن كانوا عليها على قعود إلى أيوب فوجده قائما يصلي فقال يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك وأحرقتها ومن فيها غيري، فقال أيوب بعد أن فرغ من الصلاة: الحمد لله هو أعطانيها وهو أخذها، وإنها مال الله أعارنيها وهو أولى بها، إذا شاء نزعها. قال فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها، منهم من يقول: ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور، ومنهم من يقول: لو كان إله أيوب يقدر أن يمنع شيئا لمنع وليه، ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوه ويفجع صديقه، فقال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، عريانا خرجت من بطن أمي وعريانا أعود إلى التراب وعريانا أحشر إلى الله عز وجل، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته، الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيدا ولكنه علم منك شرا فأخرك. فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا فقال: ما عندكم من القوة فاني لم أكلم قلبه. قال عفريت من الجن عندي من القوة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه. قال إبليس: فأت الغنم ورعاتها فانطلق حتى توسطها ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتا من عند آخرها ومات رعاتها، فجاء إبليس متمثلا بقهرمان الرعاء إلى أيوب فوجده يصلي فقال له مثل القول الأول، فرد عليه أيوب مثل الرد الأول، فرجع إبليس إلى أصحابه فقال: ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب، فقال عفريت: عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحا عاصفة تنسف كل شيء تأتي عليه. قال: فأت الفدادين في الحرث والزرع فانطلق يؤمهم وذلك حين شرع الفدادون في الحرث والزرع فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصفة فنسفت كل شيء من ذلك، حتى كأنه لم يكن ثم جاء إبليس متمثلا بقهرمانهم إلى أيوب وهو قائم يصلي، فقال له مثل قوله الأول، فرد عليه أيوب مثل رده الأول، وجعل إبليس يصف ماله مالا مالا حتى مر على آخره كلما انتهى إلى هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن الثناء عليه، ورضي عنه بالقضاء، ووطن نفسه بالصبر والبلاء حتى لم يبق له مال.
فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعا حتى وقف في الموقف الذي يقف فيه وقال: إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال فهل أنت مسلطي على ولده فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال قال الله عز وجل: انطلق فقد سلطتك على ولده. فانقض عدو الله حتى أتى بني أيوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم القصر حتى تداعى من قواعده، وجعل جدره يضرب بعضها بعضا يرميهم بالخشب والحجارة، فلما مثل بهم كل مثلة رفع القصر وقلبه عليهم، وصاروا منكسين وانطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه فأخبره وقال: لو رأيت بنيك كيف عذبوا وكيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل دماؤهم وأدمغتهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لتقطع قلبك عليهم، فلم يزل يقول هذا ونحوه حتى رق قلب أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال: يا ليت أمي لم تلدني. فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر، فصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته فسبقت توبته إلى الله وهو أعلم، فوقف إبليس خاسئا ذليلا وقال: إلهي إنما هون على أيوب المال والولد أنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده فقال الله عز وجل: انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله، وكان الله أعلم به، ولم يسلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب
ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ورجاء الثواب. فانقض عدو الله إبليس سريعا إليه فوجد أيوب ساجدا فعجل قبل أن يرفع رأسه، فأتاه من قبل وجهه فنفخ في منخريه نفخة اشتعل منها جسده فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكة فحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة.
فلم يزل يحك حتى قرح لحمه وتقطع وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة لهم وجعلوا له عريشة، ورفضه خلق الله كلهم غير امرأته وهي رحمة بنت أفرائيم بن يوسف بن يعقوب، فكانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه، فلما رأى الثلاثة من أصحابه ما ابتلاه الله به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلق إليه أصحابه فبكتوه ولا موه وقالوا: تب إلى الله من الذنب الذي عوقبت به. قال: وحضر معهم فتى حديث السن قد آمن به وصدقه فقال لهم الفتى: إنكم تكلمتم أيها الكهول وأنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم ولكن تركتم من القول ما هو أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم، وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وصفوته وخيرته من أهل الأرض إلى يومكم هذا ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه سخط شيئا من أمره منذ آتاه الله ما آتاه إلى يومكم هذا ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه الله بها ولا أن أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا. فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم، ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله تعالى يبتلي المؤمنين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس بلاؤه لأولئك دليلا على سخطه عليهم، ولا لهوانهم عليه، ولكنها كرامة وخيرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحليم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكنه يرحمه ويبكي ويستغفر له ويحزن لحزنه ويدله على مراشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا فالله الله أيها الكهول، وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم ألم تعلموا أن لله عبادا أسكنتهم الخشية من غير عيّ ولا بكم وإنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم واقشعرت جلودهم وانكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظاما لأمر الله
وإجلالا، فإذا اشتاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم من الظالمين والخاطئين وإنهم لأبرار برآء ومع المقصرين المفرطين وإنهم لأكياس أقوياء.
قال أيوب عليه السلام: إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فإذا نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان وليست تكون الحكمة من قبل السن ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيما في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء، وهم يرون من الله سبحانه وتعالى عليه نور الكرامة، ثم أقبل أيوب على الثلاثة وقال:
أتيتموني غضابا رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، كيف بي لو قلت تصدقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا عني قربانا لعل الله أن يقبله ويرضى عني وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم، وظننتم أنكم قد عوفيتم بإحسانكم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله تعالى بالعافية التي ألبسكم. وقد كنتم فيما خلا توقرونني وأنا مسموع كلامي معروف حقي منتصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فأنتم كنتم أشد عليّ من مصيبتي. ثم أعرض عنهم أيوب، وأقبل على ربه مستغيثا به متضرعا إليه فقال: يا رب لأي شيء خلقتني؟ ليتني إذ كرهتني لم تخلقني، يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي، فالموت كان أجمل بي. ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليّا وللأرملة قيّما إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضا، وللفتنة نصيبا، وقد وقع عليّ من البلاء ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي. وإن قضاءك هو الذي أذلني، وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فيّ فأدلي بعذري وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه.
فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب، ثم نودي يا أيوب إن الله يقول ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا قم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد أزرك وقم مقام جبار يخاصم جبارا إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي. لقد منتك نفسك يا أيوب أمرا، ما يبلغ لمثله مثلك. أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها؟ هل كنت معي تمد بأطرافها؟ هل علمت أي مقدار قدرتها، أم على أي شيء وضعت أكنافها. أبطاعتك حمل الماء الأرض، أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها ولا يقلها دعم من تحتها؟ هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ أين كنت مني يوم أنبعت الأنهار وسكبت البحار؟ أبسلطانك حبست أمواج البحار على حدودها أم بقدرتك فتحت الأرحام حين بلغت ملتها؟ أين كنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال؟ هل تدري على أي شيء أرسيتها أم بأي مثقال وزنتها؟ أم هل لك من ذراع تطيق حملها؟ أم هل تدري من أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ أم هل تدري من أي شيء أنشأت السحاب؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج؟ أم أين جبال البرد؟ أم أين خزانة الليل بالنهار وخزانة النهار بالليل؟ وأين خزانة الريح؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار ومن جعل العقول في أجواف الرجال؟ وشق الأسماع والأبصار؟ ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته وقسم الأرزاق بحكمته؟ في كلام كثير يدل على آثار قدرته ذكرها لأيوب فقال أيوب: صغر شأني وكل لساني وعقلي ورأيي وضعفت قوتي عن هذا الأمر الذي يعرض عليّ إلهي. قد علمت أن كل الذي قد ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت ولا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية إلهي أوثقني البلاء فتكلمت ولم أملك نفسي فكان البلاء هو الذي أنطقني. ليت الأرض انشقت بي فذهبت فيها ولم أتكلم بشيء يسخطك. ربي وليتني مت بغمي في أشد بلائي قبل ذلك. إنما تكلمت حين تكلمت بعذري، وسكت حين سكت
لترحمني كلمة زلت مني فلن أعود، وقد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خدي، أعوذ بك اليوم منك وأستجير بك من جهد البلاء، فأجرني وأستغيث بك من عقابك فأغثني، وأستعينك عن أمري فأعني، وأتوكل عليك فاكفني، وأعتصم بك فاعصمني وأستغفرك فاغفر لي فلن أعود لشيء تكرهه مني.
قال الله تعالى: يا أيوب نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي، فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية وتكون عبرة لأهل البلاء وعزا للصابرين، فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، فمنه تناول وقرب عن أصحابك قربانا واستغفر لهم، فإنهم قد عصوني فيك. روي عن أنس يرفعه أن أيوب لبث ببلائه ثماني عشرة سنة، وقال وهب: ثلاث سنين لم يزد يوما، وقال كعب: سبع سنين، وقال الحسن: مكث أيوب مطروحا على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا يختلف فيه الدود، لا يقربه أحد غير رحمة صبرت معه بصدق، وكانت تأتيه بالطعام، وتحمد الله معه إذا حمد، وأيوب مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله تعالى والصبر على بلائه، فصرخ إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض، فلما اجتمعوا إليه قالوا:
ما أحزنك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي لم أدع له مالا ولا ولدا ولم يزدد إلا صبرا، ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة لا تقربه إلا امرأته، فاستعنت بكم لتعينوني عليه، فقالوا له: فأين مكرك الذي أهلكت به من مضى؟ قال: بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا عليّ قالوا: من أين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال: من قبل امرأته. قالوا فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها وليس يقربه أحد غيرها. قال: أصبتم فانطلق إبليس حتى أتى رحمة امرأة أيوب وهي تصدق فتمثل لها في صورة رجل وقال لها: أين بعلك يا أمة الله؟
قالت هو ذاك يحك قروحه ويتردد الديدان في جسده. فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع، فوسوس إليها وذكرها ما كانت فيه من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه وما هو فيه من الضر، وأن ذلك لا ينقطع عنه أبدا، فصرخت فعلم أنها قد جزعت فأتاها بسخلة وقال: ليذبح لي هذه أيوب ويبرأ فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال أين الولد أين الصديق أين لونك الحسن أين جسمك الحسن؟ اذبح هذه السخلة واسترح. قال أيوب: أتاك عدو الله فنفخ فيك؟ ويلك أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والصحة من أعطانيه؟
قالت الله قال كم متعنا به قالت ثمانين سنة.
قال فمنذ كم ابتلانا قالت منذ سبع سنين وأشهر قال ويلك ما أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة أمرتيني أن أذبح لغير الله. طعامك وشرابك الذي تأتيني به علي حرام أن أذوق منه شيئا اعزبي عني فلا أراك، فطردها، فذهبت. فلما نظر أيوب وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خر ساجدا لله وقارب أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فقيل له ارفع رأسك فقد استجبت لك اركض برجلك، فركض برجله فنبعت عين ماء، فاغتسل منها فلم يبق عليه من درنه ودائه شيء ظاهر إلا سقط، وعاد شبابه وجماله أحسن ما كان، ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج، فقام صحيحا وكسي حلة فجعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان عليه وما كان له. من أهل ومال إلا وقد ضعفه الله له وذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراد من ذهب فجعل يضمه بيده فأوحى الله إليه يا أيوب ألم أغنك؟ قال بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها؟ قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت: أرأيت إن كان طردني إلى من أكله؟ أدعه يموت جوعا؟ ويضيع فتأكله السباع؟ لأرجعن إليه. فرجعت إليه فلا الكناسة رأت، ولا تلك الحالة التي كانت تعرف، وإذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعيني أيوب، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عن أيوب، فدعاها وقال: ما تريدين يا أمة الله فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذا على الكناسة لا أدري