الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقصور نظرهم، فالقبيح لا يكون حسنًا أبدًا.
والجملة تعليل لما قبلها مع ما تضمنه من الوعيد الشديد. واعلم أنّ الكافر يتوهم أن عمله حسن، كما قال تعالى:{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} ، ثمّ الراغب في الدنيا يجمع حلالها وحرامها، ولا يتفكّر في زوالها، ولا في ارتحاله عنها قبل كمالها، فقد زيّن له سوء عمله.
والمعنى: أي فلا تأسف على عدم إيمانهم وعدم إجابتهم دعوتك، فإنّ الله حكيم في قدره، فهو يضل من يضل من عباده، ويهدي من يشاء، لما في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التام باستعداد النفوس؛ إما بإخباتها لربها، وإنابتها إليه، وميلها إلى صالح العمل، وإما بتدسيتها وحبها لاجتراح السيئات، وارتكاب الموبقات، ونحو الآية قوله:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} ، ثمّ هدّد الكافرين على قبيح أعمالهم، فقال:{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ؛ أي: إن الله عليم بما يصنعون من القبائح، فيجازيهم عليه بما يستحقون، وفي هذا وعيد تهد منه الجبال، وتدك منه الأرض دكًا.
وقرأ الجمهور (1): {فمن زين} مبنيًا للمفعول {سُوءُ} بالرفع، وقرأ عبيد بن عمير:{زين له سوء} مبنيًا للفاعل، ونصب {سوء} ، وعنه أيضًا:{أسوأ} على وزن أفعل منصوبًا، وأسوأ عمله هو الشرك، وقرأ طلحة:{أمن زين له سوء عمله} بغير فاء. قال صاحب "اللوامح": للاستخبار بمعنى العامة للتقرير، ويجوز أن يكون بمعنى: حرف النداء، فحذف التمام كما حذف من المشهور الجواب انتهى، ومعنى بالجواب: خبر المبتدأ، وبالتمام: ما يؤدي لأجله؛ أي: يا من زين له سوء عمله تفكر وارجع إلى الله، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقرأ الجمهور:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ} مبنيًا للفاعل من ذهب، و {نَفْسُكَ} فاعل. وقرأ أبو جعفر وقتادة وعيسى والأشهب وشيبة وأبو حيوة وحميد والأعمش وابن محيصن:{تُذْهِبْ} من أذهب مسندًا لضمير المخاطب {نَفْسُكَ} بالنصب، ورويت عن نافع.
9
- ثم أخبر سبحانه عن نوع من أنواع بديع صنعه، وعظيم قدرته؛ ليتفكّروا في
(1) البحر المحيط.
ذلك وليعتبروا به فقال: {وَاللَّهُ} وحده، مبتدأ خبره قوله:{الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} قرأ الجمهور (1): {الرِّيَاحَ} بالجمع، وقرأ ابن كثير وابن محيصن والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي:{الرِّيَاحَ} بالإفراد؛ أي: والإله الذي يستحق منكم العبادة هو الذي أوجد الرياح، وأنشأها من العدم، فهبو بها دليل ظاهر على الفاعل المختار، وذلك لأنّ الهواء قد يسكن وقد يتحرك، وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين، وقد يتحرك إلى الشمال، وفي حركاته المختلفة قد ينشىء السحاب، وقد لا ينشىء، فهذه الاختلافات دليل على تسخير مدبّر ومؤثر مقدّر.
والمراد بالرياح هنا (2): الجنوب والشمال والصبا، فإنها رياح الرحمة لا الدّبور، فإنها رياح العذاب، أما الجنوب فريح تخالف الشمال، مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا، وأما الشمال بالفتح ويكسر مهبها بين مطلع الشمس وبنات النعش، أو من مطلع الشمس إلى مسقط النسر الطائر، ولا تكاد تهب ليلًا، وأمّا الصبا: فمهبها من جانب المشرق إذا استوى الليل والنهار، سميت بها لأنها تصبو إليها النفوس؛ أي: تميل، ويقال لها: القبول أيضًا بالفتح؛ لأنها تقابل الدبور، أو لأنها تقابل باب الكعبة، أو لأن النفس تقبلها. {فَتُثِيرُ سَحَابًا}؛ أي: تهيّجه وتحركه من حيث هو، وتنشره وترفعه بين السماء والأرض لإنزال المطر؛ لأنه مزيد ثار الغبار إذا هاج وانتشر ساطعًا، والسحاب جسم يملأه الله ماء كما شاء.
وصيغة المضارع مع مضيّ أرسل وسقنا؛ لحكاية الحال الماضية استحضارًا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة، ولأن المراد بيان أحداثها لتلك الخاصيّة، ولذلك أسند إليها. {فَسُقْنَاهُ}؛ أي: السحاب، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: فساقه؛ أي: ساق الله سبحانه ذلك السحاب وأجراه {إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} ؛ أي: إلى مكان لا نبات فيه؛ لأنه هو الذي يحتاج إلى الماء، وقال:{فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ} التفاتا من الغيبة إلى التكلم دلالة على زيادة اختصاصه به تعالى، وإنَّ الكل منه، والوسائط أسباب.
وقال أبو عبيدة: مقتضاه: فتسوقه؛ لأنه قال أولًا: فتثير سحابًا، قيل: النكتة في التعبير بالماضيين بعد المضارع الدلالة على التحقق. اهـ. وقال: {إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ}
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.
بالتنكير قصدًا به إلى بعض البلاد الميتة، وهي بلاد الذين تبعّدوا عن مظانّ الماء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص (1):{مَيِّتٍ} بتشديد الياء، والباقون بتخفيفها. قال المبرّد: ميْت وميّت واحد، وقال هذا قول البصريين وأنشد:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ
…
إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
{فَأَحْيَيْنَا} الفاءات (2) الثلاثة للسببية، فإن ما قبل كل واحدة منها سبب لمدخولها غير أن الأولى دخلت على السبب بخلاف الأخيرتين، فإنهما دخلتا على المسبَّب، {بِهِ}؛ أي: بالمطر النازل من السحاب المدلول عليه بالسحاب، فإنّ بينهما تلازمًا في الذهن، كما في الخارج، أو بالسحاب فإنه سبب السبب. {الْأَرْضَ} بإنبات ما ينبت فيها. {بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ أي: بعد يبسها؛ أي: صيَّرناها خضراء بالنبات بعد خلوّها منه، وأسند (3) الله تعالى الإرسال إلى الغائب والسوق، والإحياء إلى المتكلم؛ لأن في الأول تعريفًا بالفعل العجيب، وهو الإرسال والإثارة، وفي الثاني تذكيرًا بالنعمة، فإن كمال نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء.
والكاف في قوله: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} في حيّز الرفع على الخبريَّة؛ أي: مثل ذلك الإحياء الذي تشاهدونه إحياء الموتى، واخراجهم من القبور يوم الحشر في صحة المقدوريّة وسهولة التأتّي من غير تفاوت بينهما أصلًا سوى الإلف في الأوَّل دون الثاني، فالآية احتجاج على الكفرة في إنكارهم البعث حيث دلّهم على مثال يعاينونه غير ما مرّةٍ.
وقال بعضهم (4): معنى {كَذَلِكَ النُّشُورُ} : أي: في كيفية الإحياء، فكما أنَّ إحياء الأرض بالماء كذلك إحياء الموتى بالماء، كما روي أن الله تعالى يرسل من تحت العرش ماء كمنّي الرجال، فينبت به الأجساد كنبات البقل، ثم يأمر إسرافيل فيأخذ الصور فينفخ نفخة ثانية، فتخرج الأرواح من ثقب الصور كأمثال النحل، وقد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله: ليرجعنّ كل روح إلى جسده، فتدخل
(1) البيضاوي.
(2)
روح البيان.
(3)
المراح.
(4)
روح البيان.